الفصل التاسع

من أين أتت المادة؟

النجوم هي مصانع لإنتاج العناصر الثقيلة من الهيدروجين الخام. والكواركات هي البذور الأساسية التي ينتج منها الهيدروجين. ما الذي نعرفه عن سلوك الجسيمات في الحقب المبكرة من عمر الكون؟

***

إننا ندين بوجودنا لسلسلة من الصُّدَف السعيدة؛ حقيقة أن الشمس تحترق بالمعدل المناسب (فلو كانت تحترق بمعدل أسرع من هذا، لَنفد وقودها قبل أن تتيح فرصةَ ظهور الحياة الذكية على الأرض، ولو كانت تحترق أبطأ من هذا لربما كانت الطاقة غير كافية لدعم العمليات الكيميائية الحيوية والحياة على الإطلاق)، وحقيقة أن البروتونات — بذور الهيدروجين — جسيمات مستقرة، وهو ما يمكِّن النجوم من إنتاج العناصر الكيميائية اللازمة لبناء الحياة على الأرض، وحقيقة أن النيوترونات أثقلُ بمقدار طفيف من البروتونات، وهو ما يمكِّن حدوث نشاط بيتا الإشعاعي الذي يحوِّل الجسيمات على غرار بروتونات الهيدروجين إلى هليوم، وهو ما يمكِّن بدوره الشمس من السطوع. ولو أن أيًّا من هذه الحقائق — وغيرها الكثير — تغيَّرَ بقدر طفيف، لما كان لنا أي وجود.

البشر، وكل شيء آخَر في الكون، يتكوَّن من ذرات. من أين أتت هذه الذرات؟ في وقت حديث (وأعني بهذا منذ خمسة مليارات عام!) تكوَّنَتِ الذرات داخل النجوم الميتة منذ زمن، حيث تكوَّنت من البروتونات أنويةُ أبسط العناصر الذرية؛ الهيدروجين. تكوَّنت البروتونات في وقت مبكر للغاية من عمر الكون إلى جانب الجسيمات الأساسية المكونة لها؛ الكواركات. والأمر عينه ينطبق على الإلكترونات التي تكوَّنت في اللحظات الأولى من عمر الكون. هذا الفصل يصف الكيفية التي تكوَّنت بها المادة التي تتألَّف منها أجسادنا.

البروتونات هي المكوِّن الرئيس للشمس، وهي ما يزودها بالوقود اليوم. لنَصِفْ أولًا كيف تعمل الشمس وكيف توفِّر لنا الطاقة كي نعيش. الهيدروجين هو أبسط الذرات؛ إذ يتكوَّن من إلكترون وحيد سالب الشحنة يدور حول بروتون مركزي موجب الشحنة، قد يكون الهيدروجين شحيحَ الوجود نسبيًّا على الأرض (باستثناء حينما يكون حبيس جزيئات كجزيء الماء H2O)، بَيْدَ أنه أكثر العناصر الذرية شيوعًا في الكون إجمالًا. في درجات الحرارة المماثلة لحرارة الأرض، تستطيع الذرات البقاء، لكن في درجات الحرارة العالية — فوق بضعة آلاف درجة — لا تظل الإلكترونات حبيسة الذرات بل تجول في حرية، وهنا يقال إن الذرة في حالة تأيُّن. هذا هو الحال داخل الشمس؛ إذ تحتشد الإلكترونات والبروتونات على نحوٍ مستقل في حالة من حالات المادة تُعرَف بالبلازما.

قد تصطدم البروتونات بعضها ببعض بحيث تبدأ مجموعة من العمليات النووية في النهاية تحويل كل أربعة بروتونات إلى نواة ثاني أبسط العناصر: الهليوم. والطاقة الحبيسة داخل نواة الهليوم المنفردة (الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء) تكون أقل من تلك الحبيسة داخل البروتونات الأربعة الأصلية. هذه الطاقة «الفائضة» تُطلَق إلى الأجواء المحيطة، وبعض منها يوفِّر لنا الدفء هنا على الأرض.

لا بد للبروتونات أن تتلامس كي تندمج معًا وتكوِّن نواة الهليوم، وهذا أمر عسير؛ لأن شحناتها الموجبة تميل إلى التنافر، وهو ما يُبقِيها بعيدًا عن بعضها، إلا أن درجة الحرارة البالغة ١٠ ملايين درجة مئوية تمنحها من طاقة الحركة ما يكفي بحيث تتمكَّن من الاقتراب بعضها من بعض وتبدأ عملية الاندماج النووي. لكن هذه الحرارة كافية إلى هذا الحد وحسب؛ فبعد انقضاء خمسة مليارات عام على مولد البروتونات، أُتِيحت لكل بروتون منفرد فرصة قدرها ٥٠ بالمائة في أن يشارك في التفاعل. بعبارة أخرى، إلى وقتنا هذا، استهلكت الشمس نصف مخزونها من الوقود.

هذه أولى المصادفات السعيدة. فالبشر هم ذروة عملية التطور، وقد استغرق البشر نحو خمسة مليارات عام حتى يظهروا، ولو أن الشمس احترقت بمعدل أسرع، لفنيت قبل أن يظهر البشر.

لننظر إذن إلى ما يحدث ونتدبَّر السببَ وراء هذا التوازن الدقيق الملائم.

الخطوة الأولى هي حين يلتقي بروتونان ويتلامسان، يمر أحد البروتونين بنوع من التحلل الإشعاعي، بحيث يتحوَّل إلى نيوترون ويطلق بوزيترونًا (الجسيم المضاد للإلكترون) ونيوترينو. في الأحوال العادية النيوترون هو الذي يتحلل بسبب كتلته الأضخم — وما يصاحبها من عدم استقرار — إلى بروتون وإلكترون ونيوترينو، أما البروتون المنفرد فيكون مستقرًّا؛ وذلك لأنه أخف الباريونات. لكن حين يتلامس بروتونان، فإنهما يستشعران قوة التنافر الكهروستاتيكية، وهذا يضيف إلى طاقتهما الإجمالية ما يجعلها تتخطى طاقة الديوترون (نواة الديوتريوم المكوَّنة من بروتون ونيوترون مرتبطين معًا). نتيجة لذلك يستطيع أحد البروتونين التحوُّل إلى نيوترون، والذي يرتبط بعد ذلك ببروتون آخَر، وهو ما يزيد من الاستقرار. يؤدي تحلل البروتون هذا إلى وجود نيوترون ونيوترينو وبوزيترون، وهو الجسيم الموجب الشحنة المضاد للإلكترون.

وهكذا ينتِج الجزء الأول من دورة الاندماج النووي الشمسي مادة مضادة! تُدمَّر البوزيترونات على الفور تقريبًا حين تصطدم بالإلكترونات الموجودة في البلازما، بحيث ينتج عن تصادم كل إلكترون وبوزيترون فوتونان يتشتتان بعيدًا بفضل البلازما المشحونة كهربيًّا، حتى يصلا في النهاية إلى سطح الشمس (يستغرق هذا عدة آلاف من الأعوام)، وفي غضون هذا الوقت تقل طاقتاهما كثيرًا، ويساعد هذان الفوتونان في تكوين جزء من ضوء الشمس. أما النيوترينوات فتتدفق من قلب الشمس دون إعاقة وتصلنا في غضون دقائق معدودة.

ماذا يحدث إذن للنيوترون والبروتون؟ يلتصق الاثنان بعضهما ببعض التصاقًا وثيقًا، وذلك بفضل القوة النووية الشديدة، ويتحدان: وهذا الثنائي يشكِّل نواة الهيدروجين الثقيل؛ الديوترون. هذا الديوترون يجد نفسه وسط عدد كبير للغاية من البروتونات، التي لا تزال تشكِّل السواد الأعظم من كتلة الشمس. وسريعًا جدًّا يرتبط الديوتريوم ببروتون آخَر ليكوِّنا نواة الهليوم: الهليوم٣. يمكن لنواتين من أنوية الهليوم٣ أن تتحدا وتعيدا ترتيب أجزائهما بحيث يتكون الهليوم٤ (وهي الصورة المستقرة الشائعة للهليوم)، وتتخلصان من البروتونين الفائضين.

fig24
شكل ٩-١: تحويل الهيدروجين إلى هليوم داخل الشمس.

نتيجةُ كل هذا العمل إذن هي أن أربعة بروتونات أنتجت نواة هليوم وحيدة، واثنين من البوزيترونات واثنين من النيوترينوات. البروتونات هي الوقود، والهليوم هو الرماد المتخلف، والطاقة تتحرَّر على صورة أشعة جاما وبوزيترونات ونيوترينوات.

الخطوة الأخيرة — التي يكون فيها الديوترون وأحد البروتونات الهليوم٣ تمهيدًا لتكوين الهليوم٤ — تقع على نحو لحظي تقريبًا، فالتأخير في حدوث الخطوة الأولى، التي يتحد فيها بروتونات من أجل تكوين الديوترون والنيوترينو والبوزيترون، هي التي تحكم الاحتراق (البطيء) للشمس، وهو الأمر ذو الأهمية البالغة لنا.

يعتمد معدل الاحتراق على شدة القوة الضعيفة، التي تحوِّل البروتون إلى نيوترون (في تحويل بيتا عكسي)، وهذه القوة لها مكافئ في القوة الكهرومغناطيسية، كما وصفنا من قبلُ. والقوة الكهرومغناطيسية تنتقل بواسطة الفوتونات، التي يتم تبادلها بين جسيم مشحون كهربيًّا وآخَر. الفوتونات عديمة الكتلة، وهذا يمكِّنها من الانتشار إلى مسافات عظيمة دون قيود حفظ الطاقة، وهذا يمنح القوة الكهرومغناطيسية مدى بعيدًا. لكن القوة الضعيفة، على العكس من هذا، تدين بضعفها هذا (على الأقل على مستوى الطاقات المألوفة على الأرض والشمس) إلى الكتلة الكبيرة للبوزون وما يرتبط بها من مدى محدود.
إذن ما يتحكم في بطء الاحتراق الشمسي هو ضعف القوة النووية الضعيفة، والذي بدوره محكوم بالكتلة الضخمة للبوزون ، ولو كانت كتلة هذا الجسيم أصغر، لكان من شأن الشدة الفعلية للقوة «الضعيفة» أن تكون أكبر، وكان الاحتراق الشمسي سيسير بمعدل أسرع. لماذا يملك البوزون هذه الكتلة الملائمة؟ لا نعرف الجواب، بل إننا لا نعرف يقينًا من أين أتت هذه الكتلة، ولكن هناك فِكَرًا خرج بها بيتر هيجز من شأنها أن تتعرض للاختبار قريبًا جدًّا (في الفصل العاشر).

هناك أمثلة أخرى تلعب فيها الكتل دورًا حساسًا في تحديد مصيرنا؛ فكما ناقشنا سلفًا، يتضمن تحلُّل بيتا الإشعاعي تحوُّل النيوترون إلى بروتون مع انبعاث إلكترون ونيوترينو. هذا يستلزم أن يكون النيوترون أثقل من البروتون، وهذا هو الحال بالفعل، ومن ثَمَّ يكون البروتون هو البذرة المستقرة للذرات والكيمياء. (لو كانت كتلة النيوترون أخف مما هو عليه، لكانت النيوترونات هي الأجزاء المستقرة المتخلفة عن الانفجار العظيم، وهذه الجسيمات متعادلة الشحنة كانت ستعجز عن اجتذاب الإلكترونات من أجل تكوين الذرات، ومن ثَمَّ كانت الكيمياء لتختلف تمامًا عمَّا نعرفه، أو لم تكن لتوجد من الأساس.) النيوترون أثقل من البروتون بجزء واحد على الألف، لكن من حسن الحظ أن هذا المقدار كافٍ لإنتاج الإلكترون، أو بعبارة أخرى، كتلة الإلكترون صغيرة بما يكفي بحيث يمكن للإلكترون أن ينشأ بفعل هذه العملية. ولو كانت كتلة الإلكترون أكبر لَتجمَّد تحلُّل بيتا وانعدم التفاعل داخل الشمس، ولو كانت أصغر من ذلك لسار تحلُّل بيتا على نحو أسرع، ولَسارت العمليات الديناميكية داخل الشمس على نحو مختلف، ولصارت شدة الأشعة فوق البنفسجية أكبر، وهو الأمر غير الصحي لنا. (تساعد كتلة الإلكترون في تحديد حجم ذرات كالهيدروجين، فالكتلة الأصغر ترتبط بذرة أكبر، والعكس بالعكس؛ لذا فإن أحد الأسباب وراء امتلاك الأشياء للحجم الذي تملكه الآن، هو أن كتلة الإلكترون بالمقدار الحالي تمامًا.) ولا نعرف لهذا النمط الخاص بالكتل سببًا بعدُ.

إذن، تسطع الشمس بفضل الاندماج النووي، وبعد خمسة مليارات عام أخرى، سينفد مخزونها من الهيدروجين، ويتحوَّل إلى هليوم. بعض أنوية الهليوم تندمج بالفعل مع بروتونات وأنوية هليوم أخرى مكوِّنة البذور النووية للعناصر الأثقل. هذه العمليات تنتج النيوترينوات أيضًا، وبعض هذه النيوترينوات ذات طاقات أعلى من تلك المنتجة بفضل عملية اندماج البروتونات الأولية، وهكذا من خلال رصد النيوترينوات الآتية من الشمس، وقياس طيف طاقاتها، يمكننا الحصول على نظرة كمية أولى داخل الشمس؛ أقرب النجوم إلينا.

بعد خمسة مليارات عام ستكون هذه هي العمليات الأولية، إلى جانب عمليات الاندماج لبناء عناصر أثقل. في بعض النجوم (لكن ليس في شمسنا) تتواصَل هذه العملية، مكوِّنة أنوية العناصر وصولًا إلى الحديد أكثر العناصر استقرارًا (هناك عناصر أخرى بعد الحديد تُبنَى لكنها أكثر ندرة بكثير). وفي النهاية يعجز مثل هذا النجم عن مقاومة ثقله، وينهار على نحو كارثي. تتسبب موجات الصدمة في قذف المادة والإشعاع في الفضاء، وهنا يعرف النجم باسم المستعر الأعظم. إذن تبدأ النجوم بالهيدروجين، وبهذا المكوِّن تتمكَّن من إنتاج كل عناصر الجدول الدوري، والمستعرات العظمى هي السُّبُل التي تنتشر بها هذه البذور الكونية للعناصر الكيميائية في أرجاء الكون.

من أين إذن أتت مادة النجوم الأولية؟

الكون المبكر

ظهرت الكواركات، الأجزاء الأساسية للمادة النووية، نتيجة الانفجار العظيم، وذلك إلى جانب الإلكترونات، ثم برد الكون سريعًا بحيث تمكَّنَتِ الكواركات من التجمُّع معًا مكوِّنة البروتونات. وقد حدثت العمليات التالية:

إلكترون + بروتون نيوترون + نيوترينو

السهم المزدوج الموضوع هنا هدفه إيضاح أن هذه العملية تحدث في أي من الاتجاهين. النيوترون أثقل قليلًا من الكتلة المجتمعة للبروتون والإلكترون؛ لذا كان الاتجاه «الطبيعي» للعمليات هو من اليسار إلى اليمين، إذ إن النيوترون يميل بطبيعته إلى تقليل كتلته الإجمالية، مُطلِقًا الطاقة حسب المعادلة «الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء». لكن حرارة الكون كانت عالية للغاية لدرجة أن الإلكترونات والبروتونات كانت تتمتع بقدر كبير من طاقة الحركة يجعل طاقتها الإجمالية تتجاوز الطاقة الحبيسة داخل كتلة النيوترون (الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء). وهكذا في ظل هذه الظروف كان من الممكن أن تسير العملية في سهولة من اليسار إلى اليمين (أي أن يتحول الإلكترون والبروتون إلى نيوترون ونيوترينو)، مثلما كانت تسير في اتجاه تحويل النيوترون والنيوترينو إلى بروتون وإلكترون ذوي شحنة كهربية. في هذه الظروف نقول إن الكون كان في حالة من التوازن الحراري.

لكن الكون كان آخِذًا في البرودة بسرعة، وهو ما جعل من العسير استمرار عملية إنتاج النيوترونات، وبعد ميكروثانية كان الكون قد برد إلى نقطةٍ تجمَّدَ معها تفاعل إنتاج النيوترونات فعليًّا. أما التفاعل الذي استمر فهو كالتالي:

نيوترون بروتون + إلكترون + نيوترينو مضاد

إبَّان هذه الحقبة، فنيت كل النيوترونات التي قد أُنتِجت في الحرارة المبدئية للكون. وكل عشر دقائق كان يقل عددها إلى النصف (نقول إن لها «عمر نصف» قدره عشر دقائق). لم يَعُدْ هناك من الطاقة ما يكفي لإحلالها، لكن لم تفنَ كل النيوترونات؛ إذ اصطدمت بعض النيوترونات السعيدة الحظ ببروتونات، ومن ثَمَّ اندمجت معها كي تؤلِّف الديوترون (منظومة متحدة من بروتون وحيد ونيوترون وحيد، وهو أثقل من البروتون والنيوترون منفردين).

في هذه المرحلة، كان الكون بأسره يمر بما تمر به الشمس في وقتنا الحالي؛ إذ كانت البروتونات والديوترونات تبني ذرات الهليوم. ظل هذا يحدث إلى أن انتهت كل النيوترونات نهائيًّا، أو صارت الجسيمات الموجودة داخل الكون المتمدد بعيدة بعضها عن بعض، بحيث استحال عليها التفاعل معًا.

بعد انقضاء ميكروثانية واحد على الانفجار العظيم، كانت كل النيوترينوات التي أُنتِجت في هذه التفاعلات حرة؛ ومن ثَمَّ صارت هذه النيوترينوات أولى البقايا الحفرية للكون، وقد تحرَّكت بسرعة عالية وتسببت كتلتها، رغم ضآلتها، في قدر كافٍ من الجذب بين الهادرونات بحيث صارت تتكتل معًا، وهو ما أسهم في تكوُّن المجرات. يُنتَج نحو مليار نيوترينو مقابلَ كل ذرة يتم تكوينها، ولهذا تُعَدُّ النيوترينوات من أكثر الجسيمات وفرةً في الكون، ورغم أننا نعرف على الأقل أن بعض أنواع النيوترينوات له كتلة، فإننا لا نعرف بعدُ مقدارَ هذه الكتلة. فلو أن كتلة النيوترينو تزيد عن بضعة إلكترون فولت؛ أي ما يوازي واحدًا على المليار من كتلة البروتون، فستهيمن كتلة النيوترينوات على كثافة كتلة الكون المادي؛ لهذا يمكن أن يكون تحديد كتلة النيوترينوات مسألة مهمة في التنبؤ بالمستقبل البعيد للكون. هل سيتمدد الكون إلى الأبد، أم سينهار على نفسه بفعل ثِقَله؟ لا نعرف الجواب يقينًا.

يواصل الكون تمدُّده وفقدان الحرارة، ومبادئ الفيزياء التي تحكم تمدده مشابهة نوعًا ما لتلك التي تحكم سلوك الغاز الموضوع في وعاء حاوٍ. يعتمد معدل التمدد على الضغط، والذي يعتمد على حرارة الغاز وعدد النيوترينوات داخل الغاز (كثافته)، هذا بدوره يعتمد على عدد أنواع النيوترينوات.

بعد انقضاء ثلاث دقائق على الانفجار العظيم، كانت مادة الكون تتألف في الأساس من الآتي: ٧٥٪ بروتونات، ٢٤٪ هليوم، ونسبة طفيفة من الديوترونات، ومقادير ضئيلة من العناصر الخفيفة والإلكترونات الحرة.

اعتمدت وفرة الهليوم وغيره من العناصر الخفيفة على معدل تمدد الكون، والذي بدوره اعتمد على عدد أنواع النيوترينوات. المقدار المرصود من الهليوم يتماشى مع التنبؤات التي تقضي بوجود ثلاثة أنواع من النيوترينوات. إن حقيقة أن قياسات البوزونات في مختبر سيرن قد أكَّدت وجود ثلاثة أنواع من النيوترينوات الخفيفة، تُظهِر انسجامًا استثنائيًّا بين قياسات فيزياء الجسيمات — التي تستنسخ الظروف التي كانت سائدةً في الحقبة المبكرة من عمر الكون — وبين ما استنتجه علماء الكونيات مما سَبَق.
تعتمد وفرة الديوتريوم على كثافة المادة «العادية» في الكون (ونعني بالعادية هنا المادة المكونة من نيوترونات وبروتونات مقارنةً بالأشياء العجيبة التي قد يحلم بها المنظرون، لكن ما من دليل تجريبي مباشر إلى الآن على وجودها، على غرار التناظر الفائق. انظر الفصل العاشر). ثمة اتفاق بين الأرقام جميعها، لكن شريطة أن تكون كثافة المادة العادية أقل بكثير من الكثافة الإجمالية لمادة الكون، وهذا جزء من لغز المادة المظلمة؛ فهناك مادة موجودة بالكون، لكنها ليست ساطعة، بل يتم استشعارها من واقع جاذبيتها التي تسحب النجوم والمجرات. ويبدو أن أغلب هذه المادة المظلمة مكوَّنٌ من مادة عجيبة لم نكتشف هويتها بعدُ.

بعد الانفجار العظيم بنحو ٣٠٠ ألف عام، انخفضت حرارة الكون الإجمالية لما دون ١٠ آلاف درجة، وهذا مقارب لحرارة النطاقات الخارجية للشمس اليوم، أو أقل بقليل. في هذه الطاقات صارت الإلكترونات السالبة الشحنة الكهربية قادرة أخيرًا على الخضوع لقوة الجذب الكهربي لأنوية الذرات الموجبة الشحنة، ومن ثَمَّ فقد اتَّحَدت معها مكوِّنة الذرات المتعادلة الشحنة. تحرَّرَ الإشعاع الكهرومغناطيسي وصار الكون شفَّافًا، بينما انطلق الضوء دون عائق في أرجاء الفضاء.

إلى الآن، تمدَّد الكون وبردت حرارته لنحو ١٠ إلى ١٥ مليار عام، والإشعاع الكهرومغناطيسي الذي كان فيما مضى حارًّا صار يُكَوِّن الآن طيفَ جسم أسود ذا درجة حرارة قدرها نحو ٣ درجات فوق الصفر المطلق. ويُعَدُّ هذا الاكتشاف الذي قام به كلٌّ من بنزياس وويلسون منذ نحو نصف القرن أحدَ أعظم الاكتشافات التي تدعم نظرية الانفجار العظيم، واليوم تكشف قياسات الدقة التي تجرى على هذا الطيف بواسطة الأدوات المحمولة على أقمار صناعية، عن تفاوتات طفيفة في الإشعاع الميكروني الكوني، وهذه التفاوتات تشير إلى أوائل المجرات التي تكوَّنت في الحقبة المبكرة من عمر الكون.

وهكذا يكون لدينا فهم كمي، بل نوعي أيضًا، للكيفية التي انتهت بها بذور المادة الأساسية داخل أجسادنا، لكن يظل هناك لغز يكتنف ظهورها بصحبة المادة المضادة في ذلك الانفجار العظيم، وهو: أين ذهبت المادة المضادة كلها؟ في مطلع القرن الحادي والعشرين، لا يزال هذا أحد الأسئلة التي ننتظر لها جوابًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤