الفصل السادس

أفكار محراب جل الأفغاني

للشاعر بالأفغان إعجاب؛ لقوتهم وبسالتهم، واعتزازهم بجبالهم، وحميتهم الإسلامية.

وقد تخيل أن شاعرًا منهم اسمه «محراب گل» أنشأ هذا الشعر الذي في الصفحات التالية، يبين عما في نفوس هؤلاء الناس وما في معيشتهم كما يريد إقبال …

١

يا جبالي أيَّانَ عنكِ المسيرُ
وترابُ الآباء هذي الصخورُ؟!
لا زهورٌ ولا صَدى عندَليبٍ
فيك منذ الآزال تأوي الصقور
جنَّتي فيك مَخرَم وشعاب
ماؤك النُّور، والترابُ العبير
لن يكون الشاهينُ عبد بُغاثٍ
ألحفظ الأبدان روحي أُبير
خلعة الإنكليز أم سُحْقُ ثَوْبٍ
إيه فقري الغيور! ماذا تشير؟

٢

تنافُرُ الناس دائم أبدًا
لستُ ولا أنت القضاء فصَّلَهُ
في الذات غُصْ، للزمان ذا أمَل
دواؤُه في الجروح أرسله
تبقى على الدهر واحدًا بطلًا
إن كان في القلب «لا شريك له»

٣

يجوز أن تُبدَل أنتَ، لا تَخَلْ
بدعوة أن القضاءَ يُبدل
إذا سرى في ذاتك انقلابها
فجائز أن الفضاء يُبْدَل
يبقى الشراب والغِناءُ إذ ترى
رسم «السُّقاةِ» والإناءَ يبدل
تدعو بتحقيق الرجاء جاهدًا
ودعوتي أن الرجاء يبدل

٤

وما فلك جائرٌ في السِّيَرْ
وماذا ذكاءُ وماذا القمرْ؟
أرى ركبها جاهدًا في المسير
وأقعدها طولُ هذا السفَر
سِكندَرُ زمْجَرَ كالرعد حينًا
وعندك يا موتُ صدقُ الخبر
وعاثت بدهلي يدا نادرٍ
بضربة سيف حكى فاختصر١
وتبقى الجبالُ وأفغانها
لك الملك والحكم ربَّ القُدَر!
تُذلُّ الحوائجُ صيدَ الرجال
ترى الليث كالثعلب المحتقر
إنِ الذاتُ أيَّدها فَقْرها
فعندي وعندك مُلك البَشرْ
قِوامُ الشعوب بحُرٍّ فقيرٍ
إلى سُدَّة المُلك ما إن نظر

٥

مدارسُ ثم ضوضاءٌ ولهوٌ
وغمٌّ دام في العيش الوفير
وسمُّ الحر هذا ليس علمًا
إذا كان الجَدَى كفَّ الشعير٢
وما أدب وفلسفة غناءٌ
قِوام الفنِّ في جَهد المسير٣
تحكمَ في الطبيعة ربُّ فنٍّ
يضيء الليل كالصبح المنير
فربُّ الفن مِن بركات فنٍّ
يطوعُ لحكمه كلُّ العسير
وذلك إن يشأ قطرت عليه
أياةُ الشمس كالطل النضير٤

٦

عالَم التجديد إن يظفرْ بحرٍّ
موجِدٍ من حوله طاف الزمانْ
لا تَدعْ ذاتَك بالتقليد لَغوًا
جوهرٌ فردٌ فحُطْه بصِوانْ
بارك التجديدُ قومًا ليس فيهم
غيرَ حفلِ الأمس، ذكرى وعِيان٥
خشيتي أنَّ وغى التجديد في الشر
ق على التقليد للغرب دِهان

٧

تبدَّل الأقوامُ في البُلدانِ
في الروم والشام وهندُسْتان
يا ابن الجبالِ هُبَّ للزمان
وأدركْن ذاتَك بالعرفانِ
ذاتَك بالعرفانِ
يا غافل الأفغانِ
ذا موسم وماؤه عُبابُ
وعَسجدًا يُنبتُ ذا الترابُ
من لم يروِّ زرعَه احتساب
فكيف يُدعَى الغِرُّ بالدهفان
ذاتَك بالعرفان
يا غافل الأفغان
ما لم يهج في موجه الزخَّارِ
فأيُّ بحر ذاك في البحار؟
ما ليس فيه ثورة الإعصار
فكيف يدعى عاصفَ الأكوان
ذاتك بالعرفان
يا غافل الأفغان
من اهتدى ونفسَه أصابا
مقلَّبًا في طِينه الترابا
فحرثُ ذا العبدِ الذي قد طابا
يُفدَى بكل الجاه والسلطان
ذاتك بالعرفان
يا غافل الأفغان
جهلك هذا ما به من عارِ
قد صيَّر الجهلَ من الفَخار
كم عالمٍ فاضلٍ مماري
متاجرٍ بالدين والإيمان
ذاتك بالعرفان
يا غافل الأفغان

٨

يدَّعي الزاغُ أن ريشَك قُبح
ويقول الخفاش: أعمى جهول
ما رُذال البُغاثِ يا صقرُ! تدري
في عَنان السماء كيف تصول
كيف تدري بحال طائرِ عزمٍ
كلُّه في المطار عينٌ تجول

٩

لا يسُفُّ العشقُ دأبَ الهوسِ
بذبابٍ بازيًا لا تَقِسِ
ربَّ روض حال حتى ليَرى
عندليبٌ عشَّه كالمَحبِس
مُزمعُ الأسفار لا يبغي صَدًى
من أذان برحيل الغلَس
أترى قافلة الموج لها
في مسير حاجةٌ بالجرَس
خدعَ العينَ فتى مدرسةٍ
فبدت فيه حياةُ الأنسِ
وهو مَيْتٌ ومن الغرب اجتدى
ما سرى في صدره من نفَس
إن تُرِد تربيةَ القلب فمِن
نظر المؤمن شَزْرًا فاقبِس

١٠

سوادُ عيون عِتْرتهِ فَتيٌّ
حليفُ طهارة وفَتى ضِرابِ
يُرى في السلم ظبيًا ذا جمال
وفي يوم الكريهة ليثَ غاب
به نار تُحرِّق كل شيء
وحَسبُ الغاب من شَرر الثِّقاب
حباه الله أبَّهة ومُلكًا
بفقرٍ حيدريٍّ واحتساب
سبيلُ التاج حسر الرأس منه
فلا تنظر إليه بارتياب٦

١١

في بارحاتك لألأت أنواره
يَسطِيع نُورًا ذا السراجُ الخابي٧
يشكو الضعيفُ من الزمان صُروفَه
والحرُّ فيه باسِمٌ لحِراب
من صوت طير الصبح يدهَش ذا الفتى
أتراه أهلَ تطاعنٍ وضِراب
حذري لأنك في طِباع طفولة
والغربُ تاجر سُكَّرٍ وجُلاب٨

١٢

بلا دينٍ ولاتينٍ
هوَتْ في الفخِّ رجلاه٩
دواء العاجز المغلوب
«لا غلَّابَ إلا هُو»
وصيَّادُ المعاني ما
رَجَتْ في الغَرب عيناه
فضاءٌ مونِقٌ لكن
غزالُ المِسك خَلَّاه١٠
يقوِّم ذاتَه سَحَرًا
بدَمع العين أوَّاهُ١١
فهذا الزَّهْر أحسَنُه
على الأمواه تلقاه
ودَير الكون، زُونُ الريـ
ـح والألوان معناه١٢
على الكُفار مُستَولٍ
وذو الإيمان مولاه
إمامَ المسجد! امنعه
أميرًا حين يغشاه
زوى المحراب حاجبه
ولم تُعجبْه تقواه١٣

١٣

دنياك في عينيَّ شَيءٌ آخرُ
أنَّى لعينك — ليت شعري — تَظْهر
ماذا التقلُّبُ في عقول شبابنا
في كل صدر قد تبدَّى مَحشَر
شيخَ المساجد! ما دُعاؤك سُحْرة
أبه الحياةُ بلا جهادٍ تَظفَر١٤
ما «الذات» يُرجى في رِباطٍ خَلقُها
هل للشرار من الرماد تَسعُّر١٥

١٤

كل عشق دون إقدام هوى
ويد الله بعشق مخطر
ويلتا من ترف! أين فتًى
تَخِذَ الأهوالَ زاد السفر
خَلوةُ الأطواد ليست وَحشةً
يعرف «النفس» بها ذو البصر

١٥

عِلمُ فقرٍ لسالكٍ غيرُ صعب
حدَّث الناسَ عن هُداه الضميرُ
لا يكون الفولاذُ جوهرَ سَيفٍ
إن يكن في الطباع منه حرير
إنَّ قَهر الإله فقرٌ ذليلٌ
وسبيل السلطان فقر غَيورُ
قد سباك الفرنجُ نفسًا ولكن
أنت يا مؤمن البشير النذير١٦

١٦

مَوتُ الشُعوب بُعدُها
عن جَذَبات المركزِ
والذات إما رُكزت
فللمعالي تُركزِ
فقر تراه شاكيًا
جور الزمان اللحز
باق عليه مسحة
من اجتداء الكَزِزِ
ولم يزل ميسِّرًا
للبَرِّ فعلُ المعجِز
أن يجعل الصخور كالذ
رَّات غَير مُعجَزِ١٧
فأين يا مؤمن أنت
اليوم لم تُبَرَّز
ما في جهاد لذةٌ
جَمْرُك فيه مُعوزي١٨
يا شُمس من سرادق الـ
ـمشرق هيَّا فابرُزي
واكسي جبالي حُلَّةً
تُزهَى بلون القرمز

١٧

إنْ يكن في الألوف ربُّ يقينٍ
نفَخَ النارَ في شَباب وشِيبِ
ربما تنشئ الصحاري فقيرًا
يخلقُ الدرَّ من حصًى في الجيوب١٩
بيراع لك اكتبَنْ لك حظًّا
لم يَخُطَّ الجبينَ ربُّ الغيوبِ٢٠
ذا الفضاء الذي يُسمَّى سماءً
ليس شيئًا لدى العُقاب النجيب
هو فوق الرءوس يدعى سماء
وهو أرض تحت الجناح الهَبوب

١٨

أي قولٍ لشيرشاه رشيد:
في اختلاف القبيل ذلُّ العبيد٢١
خلعوا ثوب أمة جَمعتْهم
وازدهوا بالوزير والمحسود٢٢
ذهب الدين في الجبال شعاعًا
كل حزب لبُده في سجود٢٣
حَرَمٌ فيه حُرمة اللات ترعى
فحباك المولى بضرب سديد٢٤

١٩

ليس الذي يُدرك الألوانَ بالبصرِ
بل مُغْتَنٍ عن ضياء الشمس والقمر٢٥
يا مؤمنًا قد شأى الإفرنج منزلَةً
تَقدَّمَنْ. ليس هذا مُنتَهى السفرِ
وحانةُ الغرب للصادي مفتَّحة
ما السكر فيها بعلم العصر بالنُّكُرِ
لك المماتُ بهذا السكر مُستتِرٌ
إن لم يكن فيك للتوحيد من شَرَرِ٢٦
هل يَسمعنَّ بنو الخانات موعظتي
في شملة لست ذا تاج ولا سُرُرِ؟٢٧

٢٠

مقاصد الفطرة العلياء يحفظها
مَن عاش في البيد أو في الطود إنسانا
يراقب السِّحرَ في التمدين يُبطله
في فقره أودع الخلاقُ سُلطانا
للحسن واللطف صاغَ الروضُ بلبلَه
وتُنشئ البيد للأقدام عِقبانا
يا شيخُ كم تُعجِبُ الأبصارَ مدرسةٌ
لكنَّ في البيد فاروقًا وسَلْمانا٢٨
هل يعرف الدهر للإسلام من شَبه
في نشوة تتحدَّى السيف غضبانا

هوامش

(١) نادر شاه ملك إيران وأفغانستان، فتح دهلي وتوفي سنة ١١٦٠ﻫ.
(٢) العلم الذي جدواه كف من شعير أي متاع قليل، ليس علمًا ولكن سمًّا للأحرار.
(٣) الفن بالجهد المستمر لا بالأدب والفلسفة.
(٤) رب الفن إن شاء قطرت عليه أياة الشمس (أي شعاعها) كالندى فجعلها مادة فنه …
(٥) التجديد بركة لقوم لا يذكرون ولا يرون إلا صور الماضي.
(٦) وهو حاسر الرأس ولكنه طموح إلى التاج، أو هو في همته وعزته كصاحب التاج فلا تحقره بأنه حاسر.
(٧) هذا السراج الخابي هو الذي أضاء لك البارحة فهو أهل لأن يضيء مرة أخرى، يعني الإسلام.
(٨) يخاف على المسلم أو الشرقي؛ لأن فيه طبع الطفل يحب السكر والجلاب، وأوروبا تحسن التجارة بهما، فهو يتهافت على تجارتها.
(٩) يشير إلى مصطفى كمال واتباعه سياسة لادينية، واتخاذه الحروف اللاتينية للغة التركية.
(١٠) لا يجد صياد المعاني في أوروبا غزالًا مسكيًّا يصيده، فإنما هي فضاء لا صيد فيه، أي لا يجد المعاني الجميلة التي يحبها.
(١١) الأواه: المتعبد الرقيق كثير الدعاء.
(١٢) هذا العالم الذي هو معرض لأصنام من الألوان والروائح، يستعبد الكفار ولكنه مسخر للمؤمن.
(١٣) تخيل زاوية المحراب تقطيبًا لصلاة أمير ليس فيها معنى الصلاة.
(١٤) في الأصل شيخ الحرم، والمراد به المساجد عامة.
(١٥) الرباط مقام الصوفية، وفي الأصل خانقاه.
(١٦) جاء هذا المصراع في الأصل بالفارسية.
(١٧) لا يحول دون همة الحر شيء من عالم المادة؛ فهو يحيل الصخور ذرات فلا تكون في طريقه عقبات.
(١٨) ليس في الجهاد لذة ما لم تكن فيه حرارة الإيمان، وجمر المؤمن يفتقد اليوم في الجهاد.
(١٩) الجيوب وجه الأرض، وهو يشير إلى الرسول صلوات الله عليه وسلامه.
(٢٠) اكتب حظك بقلمك فالله تعالى لم يكتب على جبينك مستقبلك كما تزعم.
(٢١) شيرشاه أحد أمراء الأفغان.
(٢٢) الوزيري والمحسود من قبائل الأفغان في إقليم الحدود من باكستان.
(٢٣) البد: الصنم.
(٢٤) هذا حرم ولكن فيه أصنام، فالله يوفقك لضرب تكسر فيه الأصنام كما كسر الرسول أصنام الكعبة.
(٢٥) ليس بمبصر الذي يرى الألوان، بل ما أدرك الحقائق والأسرار التي لا يحتاج في رؤيتها إلى الشمس والقمر.
(٢٦) لا ضير في أن تأخذ علوم العصر وتنتشي بها ولكن الهلاك فيها أن تغفل بها عن الإيمان والتوحيد.
(٢٧) الخانات جمع خان، ومعناه الأمير، يعني يسمع هؤلاء الأمراء قولي وأنا في ثياب خشنة لست ملكًا ولا أميرًا.
(٢٨) يعني الأصحاب الكرام مثل عمر الفاروق وسلمان الفارسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤