الفصل الرابع عشر

كنت وأنا مدرس في المدارس الابتدائية غير متفوق في الإنشاء، فانعكس الأمر في مدرسة القضاء، ففي الشهر الأول من دخولي المدرسة طلب إلينا أستاذ الأدب أن نكتب في موضوع «أثر القرآن الكريم في تدوين العلوم» وصادفني التوفيق في كتابة هذا الموضوع كما صادفني أن وقعت ورقتي في يد عاطف بك بركات فاستحسنه — وكان لا يعجبه العجب — وكان كلما أتى زائر للمدرسة طلب الورقة وقرأها عليه وسمع منه استحسانه، فوقر في نفس أستاذ الأدب تفوقي في الإنشاء، وحفزني ذلك على الإجادة فيما أكتب، فكان يعطيني أعلى درجة ولو لم أستحق، لأنه يقرأ ما في نفسه أكثر مما يقرأ ورقة الإجابة، واحتفظت بمكانتي هذه طول دراستي، ودفعني ذلك إلى الاتصال بالجرائد أريد أن أكتب فيها؛ وكان لي صديق١ طالب في المدرسة يتصل بالشيخ علي يوسف صاحب «المؤيد» ويفسح له في جريدته حتى لينشر مقالاته فكتبت مقالا عنوانه «خطأ العقلاء» موضوعه نقد سعد باشا على تركه نظارة المعارف وتقلده نظارة الحقانية، لأن نظارة المعارف تحتاج إلى جهاد مع الإنجليز عنيف في وضع أسس جديدة للتعليم، وقد بدأ في وضع هذه الأسس فمن الخطأ ألا يتمها، وأن ينتقل إلى نظارة وضعت أسسها ولا جديد فيها إلا السير وفًقا للتقاليد المعروفة، ولكن الشيخ علي يوسف لم ينشر المقالة إما لضعفها وإما لظروف سياسية تتعلق بالموضوع كان يراها ولا أراها. وعلى كل حال كانت المقالة الأولى والأخيرة أيام طلبي.

أما في غير الإنشاء فكنت راضياً عن نفسي في دروسي كلها. إلا ما يتصل بالحواشي الأزهرية والتدقيقات اللفظية فكنت أكرهها، وذلك داء قديم، ولكن لم تكن هذه تؤثر في الامتحان إلا ما كان من الامتحان النهائي للجنة الأزهر. وكنت متفوًقا على فصلي في الحساب والجبر والهندسة. آخذ مكافآتها كل عام.

وتعرضت مرة وأنا في السنة الثالثة لحادث خطير كاد يفصلني من المدرسة التي لم أدخلها إلا بعد عناء — ذلك أنه أقيم سنة ١٩١٠ احتفال في المدرسة لعيد رأس السنة الهجرية، وعهدت إلي لجنة الاحتفال اختيار موضوع، فاخترت «أسباب ضعف المسلمين» وبنيت محاضرتي على أن أسباب ضعفهم ترجع إلى شيئين رئيسين: الأول فساد نظام الحكم في البلاد الإسلامية وما جره ذلك من ظلم للرعية وعسف بحريتها، واستغلال الحكام لمالها وتسخيرهم قواها لملاذهم الشخصية، والثاني رجال الدين فقد شايعوا الحكومات الظالمة وأيدوها، وتآمروا معها وبثوا في نفوس الشعب الرضا بالقضاء والقدر والاعتماد على نعيم الآخرة إذ حرموا نعيم الدنيا — كل هذا أضعف من نفوس المسلمين وأذلهم وأنهك قواهم، ولا أمل في صلاحهم إلا بصلاح رجال الحكومة ورجال الدين إلخ.

فلما أتممت الخطبة دوي المكان بالتصفيق، ولكن راعني أن استدعاني عاطف بك إلى جانبه، وقال لي: هل جننت؟ أمثل هذا يقال؟ وطلب مني المحاضرة فسلمتها إليه ورأيته يسر إلى الشيخ الخضري كلاماً، فيقوم يعقب علي ويقول إن المحاضر — بالطبع — يقصد الحكومات الماضية ورجال الدين الماضيين، أما الحكومة الحاضرة فلا مأخذ عليها، وهي العادلة الحازمة، وهي التي رعت مدرسة القضاء وأنفقت عليها وعلمت طلبتها وغمرتهم بالخيرات، وأما رجال الدين اليوم فمثال للنزاهة والطهر والرقي.

فلما انتهى الحفل قال لي عاطف بك: إن بقاءك في المدرسة الآن بيد القدر، فإن ذكرت الجرائد ما قلت واستخدمته في الأعراض السياسية ضحيت بك حرصاً على المدرسة — وشاء الحظ ألا يكون ذلك، وأن أبقى في المدرسة.

وكان عاطف بك معذوراً؛ فالمدرسة يحاربها الخديو ويتربص بها الدوائر ويدس لها الدسائس، ورجال الأزهر لها كارهون، وإنما تعتمد المدرسة على الحكومة ورضا الإنجليز عنها، فإذا غضبت الحكومة وغضبوا هم أيضاً عليها لم يكن لها سند من أحد وقد كان الكلام في السياسة وما حولها في المدارس جميعها جريمة كبرى، حتى كان الكتاب لا يقرر في مدرسة من مدارس وزارة المعارف إلا بعد إقرار من المفتشين بأنه خال من السياسة، والمختارات من الشعر لا تعطي للتلاميذ حتى يقرها التفتيش، وهو لا يقرها إلا إذا خلت من السياسة بأوسع معانيها، فإذا قال المتنبي:

سادات كل أناس من نفوسهمو
وسادة المسلمين الأعبُدُ الُقزُم

أو قال بشار أبياته المشهورة في الشورى، أو قال شاعر أو ناثر شيئًا يتصل من قريب أو بعيد بالحكم ونظامه أو الحرية وقيمتها أو نحو ذلك فهذه سياسة محرمة يعاقب عليها المستر «دنلوب»، مستشار المعارف الإنجليزي، أشد أنواع العقاب، حتى ليرووا أن مدرسة اقترحت كتباً لمكتبتها وكان من بينها المصحف الشريف فاحتيج أيضاً إلى إقرار بأنه ليس فيه سياسة، وقد أعدى هذا جو مدرستنا فلم نسمع طول دراستنا كلمة واحدة من مدرسينا عن السياسة وشئونها والحكومة ونقدها، والإنجليز وتصرفاتهم — وكل علمنا بهذه الأمور كان عن طريق اتصالنا بالجرائد، فكنت أقرأ اللواء والمؤيد يومياً وأنفعل لهما وأتجاوب معهما.

ولم أر إضراباً في المدرسة إلا مرتين: مرة كان فيها الإضراب سهلا يسيراً يكاد يكون عاما، يوم خرجنا قبل انتهاء الدروس (١٠ فبراير سنة ١٩٠٨) نشيع جنازة المرحوم مصطفى كامل، وكان يوماً مشهوداً اشتركت فيه جميع طبقات الأمة ونبض فيه قلبها وتيقظ فيه شعورها، والمرة الثانية — بعد إتمامي الدراسة — يوم أضرب فصل من فصول المدرسة، لأن الناظر حتم عليه الألعاب الرياضية في مكان معين. وكان هذا المكان مشمساً والدنيا حارة، فاستأذن الطلبة أن يلعبوا في الظل، فأبى بحجة أن الطلبة يجب أن يتعودا الخشونة في العيش والصبر على الشدائد، ولكن الطلبة لم يعجبهم هذا القول فامتنعوا عن اللعب ووقفوا في الظل لا في الشمس. فلما علم الناظر بذلك رعب وامتقع لونه لأن هذه أول حادثة من نوعها. فحضر في حالة عصبية ولكنه كتم غيظه، وطلب من الطلبة أن يصعدوا إلى فصلهم فأبوا ثم كررها فأبوا، ففكر لحظة ماذا يفعل، ثم رأى أن مخاطبة الجموع غير مجدية، فنادى طالباً بعينه تفرس فيه الخوف والطاعة، وأمره أن يخرج أمام الصف فخرج، ثم قال له: إما أن تصعد إلى فصلك وإما تخرج من باب المدرسة إلى الأبد، وكل الطلبة كانوا يعلمون من الناظر جده وصدقه والتزامه تنفيذ وعده ووعيده، فإذا قال الكلمة ففداؤه رقبته، فتردد الطالب قليلا، ثم صعد إلى فصله، وتفرس أيضاً فنادى الثاني. وقال له ما قال للأول ففعل فعله ثم نظر إلى الجماعة نظر المنتظر الظافر، وقال لهم: أظن أن لا معنى بعد ذلك للإضراب، انصرفوا إلى فصلكم فانصرفوا وانكسر الإضراب.

وكان شعوري الديني، وأنا طالب بمدرسة القضاء لا يزال قوياً كشعوري الوطني بل أقوى منه، حتى كان طلبة فصلي يسمونني «السني»، بينما يسمون غيري الفيلسوف أو الزنديق. وأذكر مرة أن أحد أساتذتي كان ينكر معجزة نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم فحاججته، ثم انقلب الجدال إلى حدة مني فاحمر وجهي وغضبت على أستاذي غضباً شديداً، فتقبل غضبي بالحلم والابتسامة الهادئة — واتصلت بشيخ طريقة صوفية٢ وكان رجلا ظريًفا نظيًفا أنيًقا لا يظهر عليه أي مظهر من التصوف إلا إشراق في وجهه ورقة في قلبه تظهر في حركاته، وكان يعمل في الدنيا كما يعمل الناس. فهو صيدلاني يطلع على كتب الطب القديمة ويصنع منها بعض الأدوية الناجحة في الأمراض، كدواء للحصوة في الكلية ونحو ذلك، وكان أديباً يتذوق الشعر ويقول الزجل الظريف، ويستمع إلى شعر الغزل فيفهمه بذوقه الصوفي، ويتأوله على طريقة الصوفية. استنشدني مرة شعراً فأنشدته، حتى وصلت في إنشادي إلى قول أبي تمام:
وأنجدتمو من بعد اتهام داركم
فيا دمع أنجدني على ساكني نجد

استوقفني واستعادني فرأيت الدمع يترقرق في عينيه. وفي اليوم التالي أسمعني تخميساً لطيًفا لهذا البيت — طلبت منه أن يعلمني طريقة الصوفية؛ ويقبلني «مريداً» فوعد أن يكون ذلك يوم الجمعة في قبة الإمام الشافعي. وذهبت إلى هناك وانتحينا ناحية وجلسنا وقرأ علي العهد وتابعته ثم أعطاني الدرس الأول في الطريقة.

وكان يلطف من عناء الدرس في المدرسة مداعبات الطلبة. ففي الفصل طلبة مكرة مهرة عركوا الحياة وعركتهم، وعرفوا الدنيا وعرفتهم، ولهم لسان طلق ذلق هجاء، وقدرة فائقة على السخرية اللاذعة. وفيهم السذج وأشباه السذج. سلامة قلب وضعف حيلة وسوء تصرف. وفيهم من هو بين هؤلاء وهؤلاء — ولم يمض الأسبوع الأول من دخولنا المدرسة حتى تكشفت أخلاقنا وعرف بعضنا بعضا، وتبينت مواقع القوة ومواضع الضعف في كل منا سواء من الناحية الخلقية أو العقلية. فاستغل الأقوياء الضعفاء كما هو الشأن في الوجود، واتخذ بعضهم بعضاً سخرياً. لعب الماكر الماهر بالأبله الساذج لعب القراد بالقرود، ووقفوا لهم بالمرصاد يحصون غلطاتهم ويئولون تصرفاتهم بما يستخرج الضحك من أعماق القلب.

هذا مغفل نتضاحك من غفلته، وهذا بخيل نتنادر على بخله، وهذا سريع الغضب يهيج لأقل سبب، فإذا هاج أتى بحركات بهلوانية واندفع في السب والشتم، فكنا نثير غضبه ثم نضحك مما يصدر عنه. وهذا إذا مشي فكأنه الديك الرومي في انتفاشه، وهذا إذا ضحك تقطعت ضحكته وطالت فكأنما هي نهيق، ومن كل ذلك لهو طريف وضحك عميق، فكأن الطبيعة عوضتنا عن هذا الجد العابس والدرس القاسي والعناء الرتيب بهذه الفكاهات الحلوة والمرة تنفس عن نفوسنا، وتفرج من ضيقنا.

وراعني يوماً وأنا في مدرسة القضاء حادث لم يكن في الدراسة ولكن بجوارها أثر في أثر في أثرا بالغا فذكرته: ذلك أنه كان بجوار المدرسة بيت ثري كبير، له المزارع الواسعة والأملاك الكثيرة من مختلف الأنواع، وكان يعيش عيشة فخمة أنيقة، وفيه طيبة تحمله على الإنفاق على بعض الأعمال الخيرية، وفيه سذاجة تمكن شياطين المال من استغلاله وإغوائه.

وكان من عظمته وأبهته وفخفخته أنه لما مدت شركة الترام خطاً أمام بيته (هو خط الجماميز رقم ١٧) أبى عليها ذلك مدعياً أن الشارع في ملكه وتحت حكمه، فكانت عربته تنتظر أولاده صباحاً على الشريط أمام الباب، فتمنع الترام أن يسير، وتقف القطارات صًفا طويًلا حتى ينزل أولاد الباشا ويذهبوا بالعربة إلى مدارسهم. وكتب إذ ذاك الشيخ علي يوسف في جريدة المؤيد مقالا طريًفا في هذا الموضوع، والباشا وشركة الترام في نزاع طويل في المحاكم أيهما المحق.

والباشا يسرف ويسرف، ويبعثر الأموال يميًنا وشمالا. ولا تكفيه غلة أملاكه الواسعة؛ فيمد يده يقترض من شياطين المال، وأخيراً تستغرق أملاكه الديون، وأمر وأنا في طريقي إلى المدرسة فأرى حركة في السراي كبيرة، وأسمع الأجراس تدق إعلاًنا ببيع أثاث السراي بالمزاد بعد أن خرج أهلها منها.

ولا أنسى يوماً أخرج من مدرسة القضاء، فأرى الباشا الكبير يقف أمام محطة الترام ينتظر مجيئه لركوبه بعد أن كانت عربات الترام الكثيرة تنتظر عربة أبنائه حتى تتحرك بهم إلى مدارسهم.

١  هو المرحوم الشيخ محمد سليمان عنارة.
٢  هو المرحوم الشيخ جاد علوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤