الفصل السادس عشر

لم يعبأ ناظر مدرسة القضاء بالترتيب فعينني مع الثلاثة الأول — وإن كنت السادس — مدرساً في المدرسة بعد شهرين من تخرجي، وابتدع في المدرسة نظاماً لم يكن معروًفا في مصر؛ وهو نظام المعيدين، فأتبع كل معيد بأستاذ كبير يحضر معه الموضوع ويدخل معه في الدروس، ووزع المعيدين على الأساتذة بحسب كفايتهم وميولهم، فهذا معيد مع أستاذ الفقه وهذا معيد مع أستاذ الأدب، واختارني معيداً معه في دروس الأخلاق، وهذا كان سبباً في شدة اتصالي به واستفادتي منه، فكنت أذهب إلى بيته في كثير من الأيام عند تحضير درس، وكان يحضره من كتب الأخلاق الإنجليزية، فكان يقرأ بالإنجليزية ويمليني بالعربية، وأحياًنا ينفرد هو بالترجمة ويسمعني ما ترجم، وكنا نتناقش في الدروس قبل إلقائها، وأحياًنا يجرنا الحديث من موضوع الدرس إلى موضوع آخر اجتماعي أو ديني أو سياسي، فيعرض آراءه ويستمع إلى موضوع آخر اجتماعي أو ديني أو سياسي، فيعرض آراءه ويستمع إلى مجادلتي، وقد أثر في أثراً كبيراً من ناحية تحكيم العقل في الدين، فقد كنت إلى هذا العهد أحكم العواطف لا العقل، ولا أسمح لنفسي بالجدل العقلي في مثل هذه الموضوعات، فالدين فوق العقل، فإن جاء فيه ما لا يدركه العقل آمنا به، لأن علم الله فوق علمنا، وهو أعلم بما يصلحنا وما يضرنا، وهو يأبى إلا تحكيم العقل والبحث عما لا نفهم حتى نفهم، وكان له غرام بالبحث، وصبر على الجدل، وطول نفس في المناقشة حتى ليفضل من يناقشه أن يسكت أخيراً وإن لم يقتنع، من طول ما أدركه من التعب والعناء، كان من أثر هذا الجدل الديني أني أعملت عقلي في تفاصيل الدين وجزئياته، أما جوهر الدين من إيمان بالله وجلاله وعظيم قدرته فظل ساكنا في أعماق قلبي لم ينل منه أي جدل ولم يتأثر بأي قراءة، وكل ما في الأمر أني صرت أكثر تسامحاً مع المخالفين، وأوسع صدراً للمعارضين.

واستفدت منه سعة في الأفق، فقد كان — بحكم تربيته في الأزهر وفي دار العلوم وفي إنجلترا، وبحكم بيئته التي يعيش فيها، ومجالسه التي يجلس إليها ومخالطته أمثال سعد زغلول وفتحي زغلول وقاسم أمين — مطلعاً على كثير من الشئون — معتنًقا لكثير من الآراء القيمة بعد البحث والدرس واستعراض الآراء المختلفة. كما قبست قبساً من خلقه، فقد كان صريحاً صراحة قد تجرح، صادًَقا في قوله ولو آلم، مشتداً في العدل ولو على نفسه، ملتزماً النظام ولو ضايق نفسه وضايق من حوله — أذكر مرة أن طلب للشيخ محمد المهدي أعلى درجة مالية في المدرسة، وأوصى الخديوي بمنحها له، وكان عاطف بك يرى أن غيره أحق منه، فاجتمع مجلس الإدارة برئاسة شيخ الجامع الأزهر، وعضوية عبد الخالق باشا ثروت وغيره وكلهم يرى أن المسألة صغيرة لا تستحق مغاضبة الخديوي من أجلها، فوافقوا على إعطائه وصمم عاطف على رأيه، فلما لم تنجح حجته طلب أن تدون في المحضر معارضته، ومنح الشيخ المهدي الدرجة بالأغلبية فذهب الشيخ مهدي ليشكره، فقال عاطف لا تشكرني يا أستاذ فقد كنت معارضاً، قال الشيخ مهدي: إذن فلأشكر الله.. وهو لا يقبل الرجاء يمس به العدل ولو خاصم في ذلك أكبر كبير.

ولما كان وكيلا للمعارف تقدم طالب إلى مدرسة هو ابن حمد باشا الباسل وسنه تزيد عن السن القانونية فأبى، وألح سعد باشا في قبوله فأبى إلا أن يعدل القانون ويقبل جميع من كانوا في مثل سنه.

لازمت عاطف بك في دروس الأخلاق هذه سنين، وكنت كلما تقدمت في تحضير الدروس معه حملني عبء تدريس هذا العلم تدريجياً، هذا إلى دروس أخرى كنت أستقل بتدريسها من فقه أحياًنا، وتاريخ إسلامي أحياًنا وغير ذلك، وكان عنائي بالدرس أيام كنت مدرساً لا يقل عن عناء الدرس أيام كنت طالباً، فقد كنت أقضي الساعات الطويلة في تحضير الدرس الواحد من مصادره المختلفة، وأكتب المذكرات للطلبة في كل مادة أدرسها.

واتصلت بصديقي وأستاذي أحمد بك أمين. فقد درس لنا بعض المواد القانونية أيام كنت طالباً، فلما تخرجت انقلبت الأستاذية إلى صداقة، ففي إجازة من الإجازات الصيفية اتفقنا على أن نقرأ كتاباً في أصول الفقه ليقارن بينه وبين أصول القوانين في التشريع المدني. فكنا نجتمع كل يوم صباحاً ونقرأ نحو ساعتين في كتاب «الموافقات» للشاطبي، وبعد أيام من قراءتنا في هذا الكتاب اقترح علي اقتراحاً غريباً، وهو أن نقضي إلى قراءتنا في أصول الفقه ساعة في دراسة الآثار الإسلامية، فأحضرنا خطط علي باشا مبارك نقرأ فيها كل يوم الآثار الموجودة في شارع من شوارع القاهرة، من مساجد وتكايا وأسبله وبيوت أثرية ونحو ذلك، فإذا جاء العصر التقينا في أول هذا الشارع، ومررنا على كل مسجد، ندخله ونطبق ما كتبه على باشا مبارك في خططه. ونعرف تاريخه ومن بناه، ونقرأ اللوحات الرخامية التي تمدنا بهذه المعلومات. واستمررنا على ذلك نحو ثلاثة أشهر أتممنا فيها كل شوارع القاهرة، وألممنا فيها بكل آثارها، فكان درساً غريباً مفيداً.

وإلى جانب ذلك اشتقت جداً إلى أن أعرف لغة أجنبية. فهؤلاء أساتذتي العصريون يدلون بمعرفتهم لغة أجنبية — هذا يدل بلغته الفرنسية، وهذا يدل بلغته الإنجليزية، وكل يعتمد عليها في تحضير دروسه، ويذكر لنا أنها تساير الزمان، حتى إن الكتاب المؤلف في علم منذ عشر سنوات لا يصلح أن يكون مرجعاً اليوم إلا بعد التعديل، كالكتب الأزهرية التي يدعى أنها تصلح لكل زمان ومكان، ولأن هؤلاء الأساتذة كانوا يقولون دائماً إن من اقتصر على اللغة العربية يرى الدنيا بعين واحدة، فإذا عرف لغة أخرى رأى الدنيا بعينين. وكان من البواعث على هذا أن أحمد بك أمين قال لي يوماً، إن علي باشا مبارك أهمل في خططه إهمالا كبيراً، إذ لم يذكر شيئًا عن بيت شاهبندر التجار في «حوش قدم»، مع أنه بيت أثري عظيم، يمثل الحياة الجماعية في القرن الذي بنى فيه، وقد اكتشفته في كتاب إنجليزي في الآثار، ألفه بديسكو بالألمانية، وترجم إلى الإنجليزية. لهذا فكرت أن أتعلم لغة أجنبية، وحرت بين الإنجليزية والفرنسية ثم فضلت الفرنسية اعتماداً على أني تعلمت مبادئها في صغري وأتممت دروسها إلى السنة الرابعة يوم كنت في مدرسة والدة عباس باشا، فاستذكار القديم والبناء عليه أهون من الابتداء في تعلم لغة جديدة، وبحثت عن مدرس واتفقت معه على أن يدرس لي أربعة دروس في الأسبوع، واشتريت الكتب، وبدأت أذاكر الدرس الأول، ولكن — للأسف — وقع اختياري على مدرس خائب، فهو لا يحتفظ بموعد، ولا يهتم بدرس، وصبرت عليه صبراً طويلا حتى مللت وانصرفت عن الدرس إلى حين.

وفي هذه المدة اتصلت بحزب الأمة الذي تكون بجانب الحزب الوطني، وحزب «الإصلاح على المبادئ الدستورية»، وعلى الأصح اتصلت بجريدته المسماة «بالجريدة» التي كان يرأس تحريرها الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكانت حجرته في الجريدة منتدى لجمهرة من الشبان المثقفين، ومن حين لآخر كانت تلقى في فناء الدار محاضرات سياسية يدور حولها الجدل. ولست أنسى يوماً كان يحاضر فيه الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكان يحضر الحفل عدد كبير من رجال السياسة منهم الشيخ علي يوسف وإبراهيم الهلباوي، فما نشعر إلا وقد أطار جماعة من طالبة الحقوق حماماً أعدوه معهم لهذا الوقت تنكيلا بإبراهيم الهلباوي إذ كان محامياً عن الإنجليز في حادثة دنشواي التي كان سببها الحمام، وساد الهرج والمرج، وخيف على الشيخ علي يوسف وإبراهيم الهلباوي من الاعتداء. فحضر البوليس ومكنهم من الخروج آمنين. وقد استفدت من هذا الاتصال شيئًا من الثقافة السياسة والاجتماعية بفضل أحاديث أستاذنا لطفي، ومحاضرات المحاضرين والاتصال بنخبة من خيرة المثقفين.

استمررت مدرساً في مدرسة القضاء سنتين. وكانت هناك مشكلة هي أني لم أنجح في الكشف الطبي لقصر النظر، فعينت (ظهورات) حسب اصطلاح المستخدمين، ومعنى هذه الكلمة أن الموظف الذي يعين على هذا الشكل ليس له حق في المعاش عند بلوغه السن. وليست له ضمانات في بقائه في الوظيفة، إذ يكفي إشارة من الرئيس بالاستغناء عنه فيستغنى، أما الموظف الثابت أو على حد تعبيرهم (المثبت) فله الحق في المعاش، ولا يخرج من الخدمة إلا بمجلس تأديب يقرر فصله، وهي ميزات لا يستهان بها، وأنا من طبعي تفضيل التدريس على القضاء ولكن أود لو كنت مدرساً (مثبًتا) ففكر عاطف بك حرصاً على مصلحتي أن أعين قاضياً لمدة قصيرة — والقاضي يعين بمرسوم، ولا يحتاج من يعين بمرسوم إلى كشف طبي — فإذا عينت قاضياً كنت مثبًتا، فإذا انتقلت إلى مدرسة القضاء نقلت (مثبًتا) وكذلك كان، ولكن أتت مشكلة أخرى وهي أن مدير المحاكم الشرعية أبي إلا أن يعينني قاضياً في الواحات الخارجة، وهي بلد بعيد يشق انتقالي إليها على أبي وأمي اللذين أصبحاً لا يجدان عزاء من فقد أخوي إلا بقائي بينهما، فحاولت ما استطعت وحاول عاطف بك ما استطاع أن يغير الواحات بأي بلد آخر فلم يستطع، فتوكلت على الله وقبلت الوظيفة واستعددت للسفر إلى الواحات.

وقد قضيت فيها ثلاثة أشهر، ولا أدري ما الذي بعثني على أن أدون مذكرات يومية لهذه الرحلة فلأنقل هنا بعضها:

الأربعاء ٢٣ إبريل سنة ١٩١٣

اعتزمت السفر إلى الواحات الخارجة، وذهبت إلى المحطة وودعني عدد كبير من طلبة المدرسة ومدرسيها، واعتذر الناظر لارتباطه بموعد آخر، وكان وداعاً مؤثراً حًقا اختلط فيه شعور الفرح الشديد بالحزن الشديد — فرحت لما رأيت من مظاهر الوفاء والإخلاص، حتى جرى الطلبة مع القطار في بدء تحركه وآثار الحزن بادية على وجوههم، وحزنت لحالة أبي وأمي لفراقهما من غير عائل يعولهما، ووصلت إلى أسيوط في الساعة الثالثة بعد نصف الليل وذهبت إلى أقرب فندق، وفي الصباح سألت عن المحكمة الشرعية فوجدتها في بناء جميل فرش فرشاً جميلا، واستقبلني رئيس المحكمة١ استقبالا حسًنا ودعاني للغداء معه، وعرض على في المساء أن يزيرني بعض بيوت الكبراء، وتقابلنا وأزارني بيت الهلالي، وبيت خشبة، وعندما زرنا البيت الثاني وجدنا مدير أسيوط هناك، يحف به كثير من الأعيان، فاستقبلنا استقبالا فاتراً، ثم جلس يتحدث والقوم منصتون كأن على رءوسهم الطير، يؤمنون على كل ما يقول ولا يجرؤ أحد أن يخالفه في قوله، وكان موضوع حديثه المقارنة بين أقباط أسيوط ومسلميها، وأن الأقباط أكثر جداً في الحياة وسعيًا في طلب الرزق وحرصاً على ما يدخل في يدهم من مال وأكثر تعليماً لأولادهم، وأكثر قبولا للمدنية الحديثة، وأن المسلمين يجب أن يسيروا سيرهم ويعنوا بأمورهم وهم أولى بذلك.

٢٦ إبريل

بعد أن قضيت يومين في أسيوط رأيت فيهما المدينة ومبانيها ومتاجرها ومساجدها وخزانها، ركبت قطار الصعيد في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، فوصلت مواصلة الواحات في الساعة السابعة صباحاً، ثم انتقلت إلى قطار الواحات فسار القطار سيرا بطيئًا وبدت لي الصحراء متسعة الأرجاء، طوراً يمد الناظر نظره فلا يرى إلا أرضاً منبسطة كلها رمال، وطوراً يرى هضبات مرتفعة، ومررت على أرض يسمونها «غيط البطيخ»، لأنها أرض رملية واسعة بعثرت فيها أحجار مكورة كأنها البطيخ، وكان لون الرمال يختلف كلما سرنا فتارة أحمر وتارة أصفر وتارة غيرهما؛ وظل هذا منظر الصحراء حتى وصلت بلدة المحاريق في الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان يقيم فيها المنفيون، ثم وصلت الخارجة في الساعة الرابعة، فكانت مدة الطريق نحو تسع ساعات، ولو أسرع القطار لقطعها في ثلاث أو أقل، وكان يحزنني أثناء الطريق ذكرى أبوي الشيخين وحنيني إلى وطني وألمي من غربتي. فلما قاربت الوصول إلى الخارجة، مررت على مركز لشركة إنجليزية أنشئت لتستغل أرض الواحات، فرأيت إنجليزيين يقفان في الشمس يشرفان على العمال، فقلت في نفسي أيأتون من إنجلترا الباردة إلى الواحات المحرقة طمعاً في الكسب وأملا في النجاح، ويعيشون عيشة فرحة مستبشرة، وتأتي أنت من بلدة في مصر إلى بلدة أخرى في مصر ليس بينهما إلا أقل من يوم وتبكي؟ — خجلت من نفسي وتبين لي سبب من أسباب نجاحهم وإخفاقنا وغناهم وفقرنا. وعاهدت الله ألا أحزن بعد ذلك ولا أبكي.

٢٩ أبريل

نزلت يومين ضيًفا على معاون الإدارة، إذ لم يكن للواحة مأمور وإنما يقوم مقامه معاون، وبحثت عن بيت أسكنه، وأخيراً اهتديت إلى بيت هو خير ما رأيت، أجرته ثمانون قرشاً في الشهر، دوران بنيا بالطوب النيئ، وسقفا بجذوع النخل. إذا فتحت شبابيكه أسندت بقطع حجرية، أحسن ما فيه أنه بسيط خلا من كل مظاهر المدنية والحضارة، يطل من ناحيته البحرية على بساتين زرعت نخيلا ومشمشاً وبرتقالا، ويطل من ناحيته الجنوبية على الصحراء الرملية، وبعد أن استرحت فيه قليلا سمعت الباب يدق، فجاءني الخادم يقول إن أخا المأذون بالباب، فأذنت له، فدخل ووراءه غلام يحمل صحفتين في يديه، في إحداهما لحم نيئ، وفي الأخرى أرز غير مطبوخ. قلت: ما هذا؟ قال هي هدية من أخي المأذون، فاعتذرت في رفق. فأخذ يتلو علي الأحاديث الكثيرة في فضل الهدية وقبولها، فاضطررت أن أعتذر في عنف، وبعد ساعة أو ساعتين دق الباب ثانية، فإذا بخادم العمدة يحمل معه عشر برتقالات، وهي في نظرهم هدية ثمينة، لأن زمن البرتقال قد انقضى من الواحات وأصبح فيها تحفة ثمينة، فاعتذرت أيضاً.

٣٠ إبريل

زرت الخارجة، وقد علمت أن عدد سكان بلدانها كلها ٨٣٨٣ نفساً، وأكبر بلادها الخارجة، فهي تزيد عن خمسة آلاف، ثم باريس فهي ألف وبضع مئات، ثم بولاق وهي تزيد عن الألف، ثم جناح وهي تزيد عن أربعمائة. أكثر كسبهم من النخيل في موسم البلح، وهم يزرعون القمح والأرز والشعير والفول السوداني والمشمش والزيتون والبرتقال وقليلا من البطيخ، وحب القمح والأرز ضئيل كأهلها وحيواناتها، وقد أخبرت أنهم إذا أرادوا أن يزرعوا قمحاً فلابد أن يأتوا بالتقاوي من الصعيد، ولا يبذرون قمحهم لأنهم إن فعلوا ذلك خرج المحصول في غاية الضعف والصغر، وبيوتها كبيوت قرى الريف المصري الحقيرة. مبنية بالطين مسقوفة بجريد النخل. وبعض شوارعها مسقوف وبعض أجزاء هذا السقف وطيء حتى يضطر السائر أن ينحني وهو يسير انحناء يقرب من الركوع، وترى الرجال والأطفال إذا مروا في هذه الشوارع مساء يحملون أعواداً من الخشب يشعلونها ليهتدوا بها ويتقوا العقارب.

فيها طائفة من العميان يعملون سقائين وهم يسيرون جماعات وعلى ظهورهم القرب، يحملون الماء من العيون إلى البيوت، وليس بها سقاء إلا أعمى. وأغرب مناظرها منظر العيون تنبع من الأرض وتجري في الجدول، وبعضها طبيعي وبعضها مصنوع، وبعضها كبير وبعضها صغير، وبعضها قد بذل في عمله جهد كبير، وبعضها يدل مظهره على أنه من أثر الرومان. والناس يملكون ماء العين بالساعات، قسم الأسبوع إلى ساعات، فمنهم من يملك العين ساعتين أو ثلاًثا أو أكثر في الأسبوع، يسقي فيها أرضه وزرعه.

٧ مايو

زرت ُ كتَّاباً في الخارجة، وهو أسطواني الشكل بني على صخرة وليس فيه منفذ للضوء إلا الباب، أرضه طين جاف ليس مفروشاً بشيء إلا بعض أبراش في جوانب الحجرة يجلس عليها الأطفال، وسألت عن الفقيه فلم أجده، ورأيت الأطفال يقرءون في ألواح من الصفيح طليت بالطفل وهم يطلونها كلما مسحوا اللوح وحددوا الكتابة، ولفت نظري طفل كبير، أخذت لوحه فوجدته قد كتب فيه المعوذتين وبعدهما: «وقد تم طبع هذا المصحف الشريف في مطبعة كذا». وهو يحفظه على أنه من القرآن الكريم.

٩ مايو

صليت الجمعة في مسجد البلدة، وأغرب ما سمعت أن الخطبة كلها كانت حثا على الزهد وتحذيراً من السفر إلى أوروبة لقضاء الصيف مع أن أهل الواحات زهاد بطبعهم لا يجدون ما يأكلون إلا بعد العناء، وما سمعوا قط باسم أوروبة إلا من الخطيب. وما حدثتهم أنفسهم حتى ولا بالسفر إلى الصعيد، ولكن لا عجب فالخطيب يحفظ خطبته من ديوان مطبوع من غير نظر إلى ما يلائم وما لا يلائم. وطلب مني أن أقرأ درساً بعد الجمعة فقرأت درساً موضوعه «الحث على العمل ومضار الكسل» واعتقادي أن لا قيمة لهذا الحديث وهذا الدرس، فهم لا يصلحون إلا بإصلاح بيئتهم.

١٠ مايو

اليوم جلست أول مرة في مجلس القضاء فتهيبته؛ لأني مع دراستي الفقه بأكمله دراسة واسعة عميقة، وأصول الفقه بأكملها دراسة واسعة عميقة كذلك، ونظام القضاء والإدارة سواء في ذلك القضاء الشرعي والأهلي والمختلط، ونظام المرافعات وما إليها، وعرضت علينا نماذج كثيرة من القضايا وحيثياتها وأحكامها، وزرنا بعض المحاكم واستمعنا لبعض قضاياها، ودرسنا بعض القضايا العويصة ذات المبادئ؛ مع كل هذا تهيبت هذا المجلس وخجلت من نفسي، وخجلت ممن حولي ولم أدر ماذا أفعل، وكان موضوع القضية طلب امرأة نفقة من زوجها الغائب، وجلس الكاتب عن يميني ونادى الحاجب المدعية فحضرت، ونادى المدعى عليه فلم يحضر، وإلى هنا ارتبكت ولم أدر ماذا أملي على الكاتب، فهربت من الإملاء عليه وحكمت في القضية حيثما اتفق، وأمرت الكاتب أن ينتظر، ورفعت الجلسة، ثم عدت إلى سجل القضايا أبحث عن قضية مثلها لأتعرف كيف كتب فيها، ثم أمليت على الكاتب على نمط ما في السجل مع تغيير أسماء الأشخاص ومقدار النفقة، وكان موقًفا مخجلا حًقا يدل على أن العلم غير العمل.

١٣ مايو

كتب إلي صديقي وأستاذي أحمد بك أمين كتاباً طريًفا مفيداً، ومما جاء فيه: «إن كلمة واحة مصرية قديمة، وإن الواحات الخارجة هذه كان اسمها «واحت رست» أي الواحات الجنوبية، وإن كلمة واحة كان معناها في الأصل الكفن أو المومياء ثم صارت تطلق على مقر الأبرار من الأموات، لأن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن الواحات الخارجة هي مقر الأبرار، وأن الواحات الداخلة مقر الأرواح، وقد قرأت فيما قرأت أن عندكم بلداً اسمه «تادروه» به ثلاثة معابد، منها معبد من عهد البطالسة ومنها معبد من عهد الرومان، وقرأت أيضاً أن الواحات الخارجة كانت في أول عصر المسيحية مقراً للزهاد من المسيحيين الذين انقطعوا عن العالم للعبادة، ولهم من الآثار بتلك الجهة مقبرة كبيرة تسمى البجوات بها نحو مائتي قبر، ولا يزال ببعض هذه القبور نقوش حسنة» وقد أثر في هذا الخطاب فعزمت أن أزور الآثار القديمة الموجودة في الخارجة، كما فعلت مع صديقي هذا في زيارة الآثار الإسلامية.

١٤ مايو

بعض موظفي الحكومة هنا يتزوجون زواجاً يشبه زواج المتعة، فالموظف يختار فتاة يستجملها ويتزوج بها، فإذا حلت في عينه فتاة أخرى طلق الأولى وتزوج الثانية، وتبقى معه الزوجة إلى أن يصدر الأمر بنقله من الواحات فيطلقها ويرضيها بقليل من المال. وقد تأتي منه بولد أو أكثر، فبعضهم يترك الزوجة وأولادها، وبعضهم يأخذ أولاده معه، ويترك زوجته بعد أن يطلقها، ولكن أكثرهم يتحرجون من الإنسال، ويتخيرون الفتاة العاقر أو المرأة المرضعة حتى لا تنسل.

وعرفت هنا ستة موظفين تزوج منهم هذا الزواج ثلاثة، وقد عرض علي مثل هذا الزواج فأبيت لاعتقادي أنه مناف للمروءة وأنا قادر على ضبط نفسي ولله الحمد.

٢٦ مايو

أنا هنا في جماعة من الموظفين أستغيث بالله منهم. كلما اجتمع بعضهم ذكروا الغائبين بالسوء في سيرتهم وبيوتهم، ويظهر أن سبب ذلك أن الحكومة تجعل من بين عقوباتها نقل الموظف الذي أساء السيرة إلى الواحات أو إلى أقصى الصعيد، فكأن سكان هذه البلاد قد حكم عليهم ألا يروا موظًفا صالحاً، ولم ينطبق علي هذا القول لأن القضاة الشرعيين كانوا إذا نقلوا إلى هذه البلاد البعيدة أتوا بشهادات طبية تثبت أن جو هذه البلاد لا يلائمهم. فلما ضاق مدير الإدارة الشرعية ذرعاً بذلك عزم أن يعين في الواحات الجدد الذين يقدمون عند تعيينهم شهادات صحية تثبت لياقتهم، وقلما اجتمع هؤلاء الموظفون من غير أن يتسابوا أو يتضاربوا، وقد وضعت لنفسي خطة ألا أسايرهم في القول ولا العمل وأن أتحاشى الاجتماع بهم إلا عند الضرورة.

٢٨ مايو

عملي في المحكمة قليل جداً، فكثير من الأيام يمر من غير عمل، أو بإمضاء ورقة أو ورقتين، وعدد القضايا قليل، وأكثر المنازعات يفصل فيها العمدة أو الرجال المعروفون بينهم، ومن عادتي أن أذهب إلى المحكمة كل يوم في الساعة التاسعة والنصف صباحاً، وكثيرا ما يأتي زائرون من موظفين وأهال فأجالسهم إلى الساعة الثانية عشرة ثم أعود إلى منزلي وأتغدى وأنام قليلا فأقرأ في بعض الكتب إلى الساعة السادسة، فأجلس أمام الباب وأقابل زائراً أو أرد زيارة أو أخرج إلى الصحراء، ثم أعود إلى بيتي فأتعشى وأقرأ في الكتب إلى الساعة العاشرة فأنام، وأصحو قبل طلوع الشمس فأقرأ جزءاً من القرآن ثم أقرأ في بعض الكتب حتى يأتي ميعاد المحكمة وهكذا، والحياة يوم واحد متكرر، ويوم الثلاثاء هو اليوم الذي تحوطه هالة كبيرة. فهو اليوم الذي أرقبه طول الأسبوع: فاليوم يوم السبت، إًذا بقي على يوم الثلاثاء يومان، واليوم يوم الأحد إذا بعد غد يوم الثلاثاء، فمتى يكون عصره؟ إنه الوقت الذي يحضر فيه البريد من القاهرة كل أسبوع.

٣١ مايو

شاهدت أمس أوروبيا في الخارجة ومعه رجل من أهلها، وقد علمت أنه يأتي كل سنة للتجارة في نوع من النبات ينبت حول الخارجة وفي بعض جبالها واسمه «السكران» يجمعه له بعض الناس ويبيعونه له كل قنطار بعشرين قرشاً. وهو يصدره إلى الخارج لاستعماله في بعض الأدوية٢ والله أعلم بكم يبيع القنطار، وهكذا يستغفلنا الأجنبي دائماً، ونقنع بالربح القليل دائماً، ويعيش هو من مجهودنا في القصور الفخمة والثروة الضخمة.

ليس في الواحات بق، إنما يكثر فيها الذباب والناموس في موسم البلح، وفي الأسبوع الأول من سكني في بيتي رأيت فيها عقرباً فقتلتها، ومساء أمس وجدت بقرب بيتنا حية يبلغ طولها نحو خمسين سنتيمتراً، وقطرها نحو سنتي ونصف، سمعها الخادم وهي تنفخ في الظلماء، فأتى بمصباح وتتبعها وقتلها، ورأيتها بعد قتلها وهي تتلوى، فنغص ذلك علي وربى لي الوسواس، فأنا كل ساعة أتخيل عقرباً أو حية.

عجبت للإسلام واللغة العربية وقوتهما وانتشارهما، فليس في الواحات إلا مسلم، وليس فيها إلا من يتكلم العربية وحدها.

•••

لا أطيل على القارئ بهذه اليوميات التي استمرت ثلاثة أشهر، وقد أحسست فيها بفراغ طويل، عريض، لأن القضايا التي عرضت في هذه الأشهر الثلاثة كانت تسعاً فقط من أبسط الأنواع، ويكفي في الفصل فيها ساعة من الزمن، فملأت فراغي بشيئين: الرحلات إلى الآثار الموجودة في الخارجة، وقراءة الكتب. فأما شغفي بالآثار فكان عجيباً حًقا، لأن الآثار الموجودة آثار قديمة وثقافتي فيها محدودة أو معدومة، وربما كان السبب في شغفي بها ما تولد عندي من حب الآثار والإعجاب بها يوم كنت أزور الآثار الإسلامية مع صديقي أحمد بك أمين، وقد كنت في كثير من الأحيان أصحب مفتش الآثار ليدلي إلي بمعلوماته عنها، وقد كنت أدون في يوميات وصف كل أثر رأيته وما تركه في نفسي من أثر، وكانت هذه الآثار بعضها فارسية من عهد احتلال الفرس لمصر وبعضها من آثار قدماء المصريين وبعضها رومانية، وبعضها مقابر مسيحية لا تزال تحتفظ بجثث الموتى وأكفانها، بل لا يزال بعضها محتفظاً بشعر الرأس والذقن من جودة التحنيط، وبعضها أسود الوجه غائر الجبهة بارز الأسنان، وبعضها — وهو الأكثر — أبيض الوجه منفرج زاوية الوجه.

وكانت أمتع رحلة من هذا القبيل رحلتي إلى باريس، وهي بلدة حقيرة تحمل اسما كبيرا، وبدائية بدوية تحمل اسم أكبر مدينة مدنية، ولا أدري كيف أطلق عليها هذا الاسم، وهي تبعد عن الخارجة نحو مائة وعشرين كيلو متراً.

أعددنا العدة لهذه الرحلة من ماء وزاد، وخرجنا على ثلاثة من الإبل من نوع الهجين، طبيب الواحات وملاحظها وأنا. وكنا نسير عصراً وبعض الليل، وصبحاً وبعض النهار، وننصب خيمة في الظهيرة نأوي إليها عند اشتداد الحر.

ولست أنسى مرة ونحن في الطريق يوماً اشتد حره وجف هواؤه، وقد أكلنا أكلة ثقيلة لا تناسب السفر، ثم ركبنا واشتد بي العطش، وكلما شربت تقلقل الماء في بطني من هزة الهجين؛ ثم أعطش فأشرب، فلما مللت الشرب أخرجت ليمونة من جيبي وقطعتها، وأخذت أمصها من حين إلى آخر، فما هو إلا أن رأيتني وقد انقبضت حنجرتي ولم أستطع أن آخذ نفسي من فعل الليمون مع جفاف الهواء، فالتفت إلى الطبيب أستنجده بالإشارة، فأسرع إلى الزمزمية وصب الماء في حلقي.. ولو تأخر ذلك بضع ثوان لهلكت، ولكن الله سلم!

ورأينا في الطريق بعض آثار قديمة وعيوًنا رومانية وشجر الدوم الكثير. وقد وصلنا البلدة ثاني يوم مساء، ورأينا أرضها المحيطة بها من أجود أنواع الأرض، مساحات واسعة ليس ينقصها إلا الماء لتنتج أحسن الزرع. ورأينا البلدة مملوءة بالأطفال الذين لا عائل لهم عن أثر حمى تيفودية اكتسحت آباءهم في العام الماضي.

وفي قومها كرم عربي ولهجة عربية جميلة، كنت أتلذذ من سماعها وخصوصا من النساء اللائي كن يترافعن إلي في شكوى أزواجهن، ورأيت أهلها في نزاع طويل شديد، حتى علمت أنهم في السنة الماضية لم يزرعوا أرضهم عناداً فيما بينهم. ورأيت بها آثارا قيمة زرتها وأعجبت بها.

ولأهلها بعض عادات غريبة، فإذا مات منهم كبير لبست النساء أحسن لباس عندهن وأجده، وإذا كان له سيف أو بندقية أمسكتها زوجته أو قريبته بيدها ووقفت تندب الميت وقد تصاب بجروح مما في يدها.

وفي عودتي من باريس رأيت السراب وما كنت رأيته، كنت أرى بحراً متسعاً زرعت عليه أشجار، ولا بحر ولا أشجار. ولاتساع الصحراء وتلاعب الرياح فيها كنت أتخيل أحياًنا أن أحداً وراءنا يجري ويتكلم، ثم ألتفت فلا أرى شيئًا، فظننت أن هذا هو ما كانت تزعم العرب أن الجن حدثتها أو هتفت بها.

وفي الطريق دروب، وهي خطوط صنعتها أقدام السائرين، وإذا وصلنا إلى أرض حجرية ضاع الأثر، وكان السائر عرضة أن يضل الطريق. وقد سمعت وأنا بالخارجة حديث قوم ضلوا الطريق فماتوا عطشاً. وقد انحرفنا نحن في سيرنا مرة انحراًفا قليلا سرنا من أجله ساعة حتى وصلنا إلى الطريق السوي.

أما الأمر الثاني الذي كنت أقضي فيه وقتي فمطالعة الكتب. ومن أحسن ما قرأت في هذه الفترة كتب ثلاثة مختلفة الأنواع والألوان، كتاب تاريخ الفلك عن العرب للأستاذ نللينو، قرأته بإمعان واستفدت منه كيف يبحث كبار المستشرقين، وكيف يصبرون على البحث، وكيف يعيشون في المادة التي تخصصوا فيها، وكيف يسيرون في بحثهم من البسيط إلى المركب في حذر وأناة فإذا قلت إنني استفدت منهج البحث من هذا الكتاب لم أبعد عن الصواب.

والكتاب الثاني أصول الفقه للشيخ الخضري، كنت قرأت بعضه وأنا طالب، فأعدت قراءته على شكل آخر أطبق في قراءته ما استفدته من عاطف بك بركات من حرية في النقد وإعمال العقل فيما يقرأ، فكنت أقرأ الفصل وأديره في ذهني وأتساءل: هل هذا حق أو باطل وخطأ أو صواب؟ فإن كان خطأ فما وجه الصواب؛ وأكتب في آخر كل فصل رأيي فيه ونقدي له.

وأما الكتاب الثالث ففي الأدب وهو ديوان الحماسة وشرحه. أقرأ القصيدة أو المقطوعة وأعرف معنى ألفاظها اللغوية ومعنى البيت في الجملة، ثم أعيد قراءته، وما استحسنته من الديوان حفظته.

وفي هذين الأمرين كانت سلواي.

وبعد ثلاثة أشهر بينها إجازة شهر جاءني كتاب من محكمة أسيوط الشرعية، يخبرني بنقلي من القضاء إلى مدرس بمدرسة القضاء.

١  وهو فضيلة الشيخ أحمد هدايب.
٢  لعلاج الربو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤