الفصل الثاني

نظر مرًة إلى رأسي أستاذ جامعي في علم الجغرافيا وحدق فيه ثم قال: هل أنت مصري صميم؟ قلت: فيما أعتقد، ولم هذا السؤال؟ قال: إن رأسك — كما يدل عليه علم السلالات — رأس كردي.

ولست أعلم من أين أتتني هذه الكردية، فأسرة أبي من بلدة «سمخراط» من أعمال البحيرة.. أسرة فلاحة مصرية. ومع هذا فمديرية البحيرة على الخصوص مأوى المهاجرين من الأقطار الأخرى. فقد يكون جدي الأعلى، كما يقول الأستاذ، كرديًا أو سوريًا أو حجازيًا أو غير ذلك. ولكن على العموم كان المهاجرون من آبائي ديمقراطيين من أفراد الشعب لا يؤبه بهم ولا بتاريخهم. ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وسطي. وهذه الأسرة كانت كسائر الفلاحين تعيش على الزرع، وحدثني أبي أنهم كانوا يملكون في بلدهم نحو اثني عشر فداًنا. ولكن توالى عليهم ظلم «السخرة» وظلم تحصيل الضرائب فهجروها.

وكانت السخرة أشكالا وألواًنا، فسخرة للمصالح العامة كالمحافظة على جسور النيل أيام الفيضان؛ فعمدة البلدة يسخر الفلاحين ليحافظوا على الجسور حتى لا يطغى النيل فيغرق البلد فإذا تخلف أحد ممن عيّن لهذه الحراسة عذب وضرب، وهو يعمل هذا العمل من غير أجر؛ وسخرة للمصالح الخاصة فالغني الكبير والعمدة ونحوهما لهم الحق أن يحشدوا من شاءوا من الفلاحين المساكين ليعملوا في أرضهم الأيام والليالي من غير أجر — ولما أبطل رياض باشا السخرة والضرب بالكرباج في عهد الخديوي توفيق نقم عليه الوجوه والأعيان صنعه، وعدوا ذلك من عيوبه، وقالوا إنه أفسد علينا الفلاحين، وهكذا كان في كل ناحية من نواحي القطر عدد قليل من الوجوه والأعيان هم السادة، وسواد الناس لهم عبيد، بل هؤلاء الوجوه والأعيان سادة على الفلاحين وعبيد للحكام.

وأما الضرائب فلم تكن منظمة ولا عادلة، فأحياًنا يستطيع أن يهرب الغنى الكبير من دفعها أو يدفع القليل مما يجب عليه منها ويتخلص من الباقي بالرشوة أو التقرب إلى الحكام. ثم يطالب الفقراء المساكين بأكثر مما يحتملون، فإن لم يدفعوا بيعت بهائمهم الهزيلة، وأثاث بيوتهم الحقيرة، ثم ضربوا بالكرباج وعذبوا عذابا أليما — فكان كثير منهم إذا أحس أنه سيقع في مثل هذا المأزق حمل أثاث منزله على بهائمه، وخرج هو وأسرته هائمين على وجوههم في ظلمة الليل، وتركوا أراضيهم، ونزلوا على بعض أقربائهم أو على البدو في الخيام أو حيثما اتفق — فعلت ذلك أسرة علي باشا مبارك وفعلته أسرتي وأسر كثير من الناس.

ففي ليلة من الليالي خرج أبي الصغير وعمي الكبير من سمخراط يحملان معهما القليل من الزاد والأثاث، تاركين الأطيان حلا مباحًا لمن يستولي عليها ويدفع ضرائبها، ونزلا في حي المنشية ( في قسم الخليفة) ولا قريب ولا مأوى. وقسم الخليفة كقسم بولاق أكثر أحياء القاهرة عددًا وأقلها مالا وأسوؤها حالا، يسكنها العمال والصناع والباعة الجوالون وكثير من الطبقة الوسطى وقليل من العليا، ولم تمسهما المدينة الحديثة إلا مسا خفيًفا، فمن شاء أن يدرس حياة سكان القاهرة كما كانوا في العصور الوسطى فليدرسها في هذين الحيين ولاسيما أيام ولادتي.

وهكذا ألاعيب القدر. ظلم صراف البلدة أخرج أبي من سمخراط وأسكنه القاهرة حيث ولدت وتعلمت، ولولا ذلك لنشأت فلاحًا مع الفلاحين أزرع وأقلع، ولكن تتوالد الأحداث توالدًا عجيبًا، فقد ينتج أعظم خير من أعظم شر كما ينتج أعظم شر من أعظم خير، ولا تستبين الأمور حتى يتم هذا التوالد ويظهر على مسرح الكون.

سكن الشريدان في بيت صغير في حارة متواضعة١ في حي المنشية، وعاشا على القليل مما ادخرا، ولابد أن يكونا قد لقيا كثيرًا من البؤس والعنت في أيامهما الأولى، ولكن سرعان ما شق الأخ الكبير طريقه في الحياة فكان صانعًا كسوبًا. وكان أكبر الظن يأخذ أخاه الأصغر معه «وهو أبي» ليكون صانعًا بجانبه، يعينه على الكسب أول أمره، ولكن نزعة طيبة غلبت عليه فوجَّهه نحو التعلم واحتمل نفقته، فهو يحفظ القرآن، ويلتحق بالأزهر، ويخجل من أخيه أن يرهقه بالإنفاق عليه فلا يطالبه إلا بالضروري، وإذا احتاج إلى كتاب يقرأ في الأزهر خطه بيمينه، وقد أحسن خطه فكان خطًا جميلا قل أن يكون له نظير بين طلاب الأزهر وعلمائه، يكتبه في أناقة ويشتري له ورًقا متيًنا صقيلا، ويسطره بمسطرة هي عبارة عن ورقة سميكة قد شد عليها خيط في مكان السطور وثبتت عليها بالصمغ، فإذا وضعت الورقة التي يراد الكتابة عليها وضغطت بانت الخيط، فكتب الكاتب عليها خطًا منتظمًا. وقد خلف أبي كتبًا كثيرة من هذا القبيل، فقد كان كلما عثر على كتاب مخطوطٍ جيدٍ نقله بخطه، ولا أدري أين وجد الزمن الذي قام فيه بمثل هذا العمل. وأكبر الظن أن الذي أعانه على ذلك أنه لم يتعود لعبًا قط، ولا جلس على مقهى قط، وإنما كانت حياته «جد في جد»، مما أرهقه وأتلف صحته. فلما توفي جمعتُ هذه الكتب في صناديق وأهديتها إلى مكتبة الأزهر باسمه. وكان أكثرها كتب نحو وفقه شافعي.
ويتقدم أبي في الدراسة فيبحث عن عمل يكسب منه بجانب دراسته فيكون مصححًا بالمطبعة الأميرية ببولاق أحياًنا، ومدرسًا في مدرسة حكومية٢ أحياًنا. وكانت الدراسة في الأزهر صعبة مملة طويلة لا يجتازها إلا من منح صبرًا طويلا، واحتمل عبئًا ثقيلا، يطلب هذه الدراسة كثيرون ولا يتمها إلا القليلون فيكونون كالماء يبتدئ نهرًا كبيرًا، ويمر أخيرًا في قناة. ويقضي الطالب في ذلك نحو عشرين سنة أو أكثر، ثم قد ينجح أو لا ينجح. وهكذا نجح أبي في دراسته بصبره وقوة احتماله، واستطاع أن يحمل عبئه ويرد الجميل لأخيه.

وأما أسرة أمي فأصلها على ما روي لي من «تلا» من أعمال المنوفية، ولا أدري أهجرتها كما هجرتها أسرة أبي فرارًا من الظلم أو لشيء آخر، وكل ما أعلمه أن أخوالي سكنوا في حي في وسط القاهرة قريب من باب الخلق، وكانوا يشتغلون في تجارة (العطارة)، وكانوا ناجحين في تجارتهم، وكانوا مع — مهنتهم التجارية — يحفظون القرآن، ويحسنون قراءته، ويلتزمون شعائر الدين. وكان أحد أخوالي سمحًا كريمًا، كثير الإحسان للفقراء، وقد منح بسطة في الرزق، وسعة في النفس. وأما خالي الآخر، فكان كزًا شحيحًا مضيًقا عليه في رزقه. ولست أدري: أكانت سماحة الأول سببًا في سعة رزقه، أم سعة رزقه سببًا في سماحته؟ كما أني لست أدري أكانت كزازة الثاني سببًا في ضيق رزقه، أم كان ضيق رزقه سببًا في كزازته.

١  اسمها حارة العيادية، مع أني لم أجد لأسرة عياد هذه أثرًا.
٢  تسمي «المدرسة الخطرية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤