الفصل الحادي والعشرون

تزوجت وكان كل اعتمادي في الزواج — كما ذكرت — على الخيال لا على الواقع. الخيال هو الذي رسم صورة زوجتي وأخلاقها وصفاتها معتمداً في رسمه على أحاديث النساء اللاتي شاهدنها، والخيال هو الذي رسم صورة لحياتي المستقبلية اعتماداً على ما سمعته من أحاديث عمن سعدوا في زواجهم ومن شقوا، وأسباب سعادتهم وأسباب شقائهم، واعتماداً على ما قرأته في الكتب الإنجليزية عن الحياة الزوجية.

ولكن شتان بين الواقع والخيال؛ فالخيال يرسم الصورة وهو حر طليق محلق في السماء، والواقع يلتصق بالأرض ويتقيد بالظروف والبيئة والمكان والزمان وغير ذلك. وقد أذكرني الفرق بين الواقع والخيال بحادث حدث لصديق لي سافرت معه إلى الإسكندرية لنستجم من متاعبنا، وكنت أعرف العوم ولم يكن يعرفه، فغاظه ذلك وصمم على أن يتعلم العوم، وصادف أن مر أمام مكتبة إنجليزية فرأى في ظاهرها كتاباً في العوم فاشتراه — وكان قوياً في اللغة الإنجليزية فسهر عليه ليلة حتى أتمه قراءة وفهما وعرف منه تمام المعرفة نظرية العوم وكيفيته وطرقه، وأيقن أنه بذلك يستطيع أن يغالب أكبر عوام، وحدثني بذلك في الصباح فضحكت من حديثه، فلما ذهبنا إلى حمام البحر تبخرت كل نظرياته وعلمه، ووضع «قرعتين» على ظهره، وأمسك بالحبل الممدود، وطمأن رجليه على الرمل، ولكن سرعان ما اصفر وجهه واضطرب جسمه وخاف أن يفارق الحبل ليسبح وفًقا لنظريات الكتاب.

قابلت زوجي فكنت كمن يفض «حلاوة البخت» أو كمشتري ورقة «اليانصيب» حين يقرأ جدول النمر الرابحة، وحمدت الله على ما وهب، وبقي لي أن أعرف صفاتها التي تظهر يوماً فيوماً كلما حدثت مناسبة أو جد جديد.

لقد عشنا زمًنا عيشة هادئة سعيد فيها لذة الاستكشاف: أتكشف أخلاقها وتصرفاتها وتتكشف أخلاقي وتصرفاتي، وفيها لذة تحقيق الشخصية فقد لبثت طويلا في كنف أبوي، وأنا الآن رئيس البيت حر التصرف إلى آخر ما هنالك.

ولكن صدم زوجي بعد قليل أن رأتني هادئًا غير مرح، قليل الكلام، وقد تربت في بيت مرح، مملوء بالضحك والبهجة، يكثر فيه الحديث في الفارغ والملآن، فظنت أني لا أقدرها أو نادم على الزواج بها. وأؤكد لها أن هذا طبعي كسبته في بيتي فلم تصدق ولم تطمئن إلا بعد طول العشرة ووثوقها من أني كذلك مع غيرها لا معها وحدها.

ومشكلة أخرى عرضت لي ولها. وهي أني رجل مدرس مضطر إلى تحضير دروسي في المساء لألقيها في الصباح. وفوق ذلك أحب القراءة في غير دروسي أيضا، فأنا فرح بتعلمي الإنجليزية مشغول أول عهدي بالزواج بإنهاء ترجمة كتاب «مبادئ الفلسفة» وزوجتي مثقفة ثقافة محدودة، تقرأ القصص والروايات الخفيفة من غير شغف، فهي تحتمل الصباح وحدها لإعداد ما نأكل وتنظيف ما ينظف، ولكن كيف تحتمل المساء أيضا وحدها وأنا في غرفة بجانبها أقرأ وأكتب والأيام هي الأيام الأولى لزواجنا؟ وحدث مرة أن أعدت العشاء وفتحت علي الباب وأخبرتني بأن العشاء معد، وكنت أمام جملة في مبادئ الفلسفة صعبة، أحاول ترجمتها وأحاور عبارتها وأتذوق صياغها، فلم أسمع النداء والإخبار، ولم أشعر بفتح الباب، فكان خصام وكان نزاع وكانت شكوى إلى أهلها لم تنته إلا بعناء ولم أستطع التحول عن طبعي وغرامي، ثم حلت المشكلة بعض الشيء بالولد الأول واشتغال أمه به ثم بما تتابع من أولاد، ثم باضطرارها إلى قبول الأمر الواقع والرضا بما قدر الله من عيش في شبه عزلة مما أقرأ وأكتب.

وكانت نظريتي في الأولاد تخالف نظريتها، فكان من رأيي الاقتصار على ولد أو ولدين، شعوراً بمسئولية التربية وتوفيراً للزمن الذي أحتاجه في التحصيل والدرس، وتمشياً مع النظرة التي أراها وهي أن الأمة المصرية مكتظة بالسكان وأن كثرتهم تحول دون العناية بتغذيتهم تغذية صحيحة، فلو قل عدد الأسرة كانت أقدر على أن ترفع مستواها في أمور الاقتصاد والتربية؛ ولكن زوجتي لا ترى هذا الرأي، وقد نصحتها بعض قريباتها بالمثل المشهور وهو «قصيه لئلا يطير» فالطائر إذا نزع ريشه أو قص لا يطير، والزوج إذا خف حمله لقلة الأولاد كان عرضة أن يطير ويتزوج ثانية وثالثة، وقد غلبت نظريتها نظريتي، ولم تعبأ بالمتاعب التي كانت تلاقيها في الولادة والتربية، فرزقت بعشرة أولاد — ولله الحمد — مات منهم اثنان في طفولتهما، وبقي لي ثمانية أسأل الله أن يمد في عمرهم ويسعدني بهم، ستة أبناء وبنتان. وإني لأعجب لنفسي ويعجب لي غيري كيف استطعت أن أؤلف ما ألفت وأكتب ما كتبت وأقرأ ما قرأت مع ما تتطلبه تربية الأولاد من جهود لا نهاية لها. ويرجع الفضل في ذلك إلى الأم وحملها عني الأعباء التي تستطيع القيام بها، واكتفائي بالإشراف على تربيتهم العلمية والخلقية، ثم تقصيري في إطالة الجلوس معهم ومسامرتهم وإطالة عزلتي على مكتبي.

على كل حال بعد أن عرفت زوجي أخلاقي وعرفت أخلاقها وتكشفت لها ميولي وتكشف لي ميولها، حدثت المصالحة والتفاهم فتنازلت عن بعض رغباتها لرغباتي، وتنازلت عن بعض رغباتي لرغباتها، فكانت عيشة هادئة سعيدة نرعى فيها أكثر ما نرعى مصلحة الأولاد وخلق الجو الصالح لتربيتهم.

وأحياًنا كان يعكر صفونا شيئان لعلهما لم يخل بيت منهما إلا في القليل النادر.

أحدهما مسألة الخدم، فالبيت لا يستغني عنهم ولا يرتاح بهم، وكانت مشكلتهم عندنا مزمنة وبخاصة في الخادمات. فزوجي غضوب، تريد أن تنفذ جميع أوامرها في دقة، والخادمة لا تعمل أو لا تستطيع أو تعاند فيكون الغضب، أو تريد أن تعاملها معاملة السيد للعبد، وتأبى هي إلا أن تعامل معاملة الند للند، أو تريد زوجي أن تكون الخادمة نظيفة والخادمة قذرة، أو مرتبة منظمة وهي لا تفهم ترتيباً ولا نظاما، وهكذا. كثيرا ما يكون للزوجة الحق وكثيرا ما يكون للخادمة الحق، فإذا تدخلت انقلب مركز النزاع من الخادمة إلي. وزوجي غيور، فهي لا تحب بطبيعتها أن يكون للخادمة أية مسحة من جمال، فإن كانت كذلك فالويل لها. والحديث يطول بيننا حول خادمة خرجت وخادمة جاءت وخادمة أساءت وخادمة سرقت. وأخيراً قررت إخلاء يدي من الخادمين والخادمات، وتركت لها مطلق الحرية أن تخرج من تشاء وتدخل من تشاء على شرط ألا تذكر لي شيئا من أخبارهم وأحوالهم.

والثاني مشكلة وسائل التفاهم، فقد كنت من غفلتي أعتقد أن العقل هو وحده الوسيلة الطبيعية للتفاهم، فإن حدثت مشكلة احتكمنا إليه وأدلى كل منا بحججه فإما أقتنع وإما أقنع وإما أصر، وإما أعدل ولكني بعد تجارب طويلة رأيت أن العقل أسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر من رأيت من السيدات؛ فأنت تتكلم في الشرق وهن يتكلمن في الغرب. وأنت تتكلم في السماء فيتكلمن في الأرض، وأنت تأتي بالحجج التي تعتقد أنها تقنع أي معاند، وتلزم أي مخاصم، فإذا هي ولا قيمة لها عندهن. تقول: إن الأوفق أن نتصرف في الأمر بكذا لكذا من الأسباب، فترد عليك بأقوال متأثرة بعواطف ساذجة. وتقول: هذا التصرف لا يصلح لما يترتب عليه من أضرار تعينها، فترد عليك بأن العرف والعادة غير ذلك. وتعاقب ابنك لتؤدبه فتفسد العقوبة بتدخلها لمجرد العطف الكاذب. وتتصرف التصرفات الحكيمة فتئولها بنظراتها العاطفية تأويلات غريبة. وهكذا أدركت أن من الواجب ألا ألتزم المنطق، وأني إذا أردت الراحة والهدوء فلأضح بالمنطق أحياًنا، وأتكلم الكلمة السخيفة إذا كان فيها الرضا، وألعب بالعواطف رغم المنطق إذا أردت السلامة.

وهكذا، كانت حياتنا كالبحر الهادئ، ولكن من حين لآخر تثور مشكلة من هذه المشاكل فيتكهرب الجو ويموج البحر ثم تنتهي العاصفة ويعود إلى البحر هدوؤه.

ولم تكن لنا مشكلة مالية مما تشقى به بعض العائلات، فقد وسع الله علي في الرزق، ولم يأت علي يوم اقتصرت فيه على مرتبي الحكومي، فعند تخرجي من مدرسة القضاء انتدبت مدرساً للأخلاق بمدارس الأوقاف الملكية بمرتب آخر؛ ولما عينت قاضياً في مصر انتدبت مدرساً بمدرسة القضاء، ثم در علي الرزق بما أربح من كتبي ومقالاتي؛ فمع ما يتطلبه الأولاد الكثيرون من نفقات كثيرة لم أشعر بحاجتي إلى الاستدانة ولا مرة، وإلى جانب ذلك فأنا رجل ليس لي كيف من الكيوف إلا الدخان، ثم معتدل الإنفاق، وأنا أميل إلى التبذير وزوجي أميل إلى التدبير، ولو ترك الأمر لي ما أبقيت على شيء، ولكن زوجي لكثرة الأولاد، وما يتطلبه ذلك من حساب المستقبل، احتاطت ودبرت وادخرت.

وكذلك حمانا الله من مشاكل أخرى أصيبت بها بعض الأسر لا داعي لذكرها لأنها لم تدخل في تجاربنا.

ورزقت بالولد الأول عقب زواجي، فأوليته كل عنايتي وطالعت من أجله بعض الكتب الإنجليزية والعربية في تربية الطفل، وكنت أشتري له اللعب الأجنبية الموضوعة للتسلية وتربية العقل، ولم أرتض له المدارس المصرية، فعلمته في المدارس الفرنسية — في الفرير — ثم حولته بعد السنة الثالثة الثانوية إلى مدرسة مصرية ليتقوى في اللغة العربية والإنجليزية، فلما نجح في البكالوريا، وكان ترتيبه متقدماً يسمح له أن يكون في الطب أو الهندسة، اختار الهندسة.

وعنيت بالولد الأول أكبر عناية، علماً بأنه سيكون نموذجاً لإخوته، وقد كنت قاسياً على أولادي الأولين، شديد المراقبة لهم في دروسهم وأخلاقهم، أعاقبهم على انحرافهم ولو قليلا، ولا أسمح لهم بالحرية إلا في حدود؛ حسب عقليتي إذ ذاك، ولكنها على كل حال قسوة لا تقاس بجانب قسوة أبي علي؛ وكلما تقدمت في السن واتسع تفكيري أقللت من تدخلي وأكثرت من القدر الذي يستمتعون فيه بحريتهم، فلم أجد كبير فرق بين الأولين والآخرين لشدة تأثر من لحق بمن سبق.

وما أكثر ما لقيت من متاعب الأولاد في صحتهم وفي دراستهم وفي سلوكهم، وكان لكل سن متاعبها، فأكثر متاعب الطفولة في الصحة والمرض، وأكثر متاعب المراهقة في الدراسة والسلوك، وأكثر متاعب الشباب في طرق الوقاية والمهارة في الإشراف من بعيد، وكثيرا ما كان عندي الأسنان كلها أحمل متاعبها المتنوعة جميعها. وأحمد الله فقد نجحت في تحمل أعبائهم، وحسن توجيههم إلى حد كبير: فالآن وأنا أكتب هذا زوجت بنتي زواجاً يعد بقدر الإمكان سعيداً، وأتم ثلاثة دراسة الهندسة والرابع في طريق إتمامها، ولما ضقت ذرعاً بالهندسة وكرهت سماع النغمة الواحدة تدخلت في الأمر بعد أن كنت أترك لهم الاختيار، فوجهت الخامس لدراسة الحقوق، وحاولت أن أوجه السادس للطب وقد كان أول البكالوريا في القطر فلم أفلح.

وكان حنوي وحنو أمهم عليهم بالغ الحد، حتى لكثيراً ما ضحينا بسعادتنا لسعادتهم، وتعبنا لراحتهم، وأنفقنا من صحتنا محافظة على صحتهم، ونحن نطمع أن يتولى الله وحده الجزاء، أما هم فقد يحاسبوننا على الكلمة الصغيرة يظنون أنها تجرح إحساسهم، وعلى التقصير القليل يظنونه مسا بحقوقهم، وعلى العمل يسيئون تفسيره، وقد يكون الغرض منه خيرهم؛ ولكن الموقف النبيل يقضي بأن تربية الأولاد ليست تجارة، تعطي لتأخذ وتبيع لتربح، إنما هي واجب يؤديه الآباء لأبنائهم وأمتهم، فإن قدره الأبناء فأدوا واجبهم نحو آبائهم فبها، وإلا فقد فعل الآباء ما عليهم، والمكافئ الله.

نعم رزقت الحنو عليهم حنواً شديداً حتى لينغص علي سفري إذ سافرت ورحلاتي إذا رحلت فلا أزال أذكرهم في سفري حتى أعود، ولا تهنأ لي راحة إلا إذا عدت إليهم؛ وإخواني المسافرون معي يستنكرون ذلك مني، ولا أراهم يحنون إلى أولادهم حنيني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤