الفصل الثلاثون

وماتت أمي وأنا أستاذ بكلية الآداب سنة ١٩٣٦ وقد ناهزت الثمانين، وكانت من أسرة من «تلا» بالمنوفية انتقلت إلى القاهرة لأسباب لا أدريها، واشتغل رجالها بالتجارة، فكان خالاي تاجري «عطارة» في الغورية.

وكانت أمي طيبة القلب أقرب إلى السذاجة، وكانت — كأكثر نساء وقتها أمية لا تقرأ ولا تكتب، وكانت محبوبة من أهل حارتها لطيب قلبها، وكنت شديد الحب لها والإشفاق عليها، لأنها تألمت كثيرا في حياتها، فقد مات من أولادها وهم في شبابهم، وعاملها أبي معاملة شديدة قاسية، سلبها كل سلطتها وكبت شخصيتها وحرمها دائرة نفوذها، وطغى بشخصيته على شخصيتها، فعاشت كسيرة القلب منقبضة النفس، لا يحملها على البقاء في البيت إلا حبها لأولادها، فكانت تحتمل ذلك كله وتطيل الاحتمال، وتصبر وتطيل الصبر، وتحن علينا، وإذا غضب علينا أبونا احتمينا بحنوها وأنسنا بعطفها.

ولهذا لما كان لي من الأمر شيء جهدت أن أريحها وأسعدها وأقضي دينها، وكم كنت أتمنى أن تعيش معي بعد وفاة أبي لأطالع وجهها وأتلقى دعواتها صباح مساء، ولكن صممت أن تكون في حيها بين جيرانها، وخشيت أن ينالها أذى ولو قليل من العداء الطبيعي بين الزوجة والأم، فجاريتها على رأيها وخضعت لمشورتها.

فقدتها وأنا كبير ولي زوجة وأولاد، ومع هذا أحسست بفقدها فراغا لم يملأه شيء، وبذلت جهدي في إراحتها، حتى لما هرمت كنت لا أستريح إلى سفري إلى الإسكندرية للتصييف إلا إذا كانت معي، أستبشر كل يوم برؤيتها والجلوس إليها، ومع هذا لا أرى أني قضيت لها بعض دينها، وكانت تبشرني من صغري بأني سأكون أسعد أولادها، لأنها رأت ليلة في منامها أني كنت بجانبها أسير معها، فدخلنا بيتا فتح لنا فيه كنز، وإذا غرف مملوءة ذهبا، فأمرتني أن أملأ حجري منه على عجل فقال لها الملك الموكل بالكنز: لا تعجلي فكل هذا لابنك هذا، ففرحت بهذا الحلم واعتقدت صحته واستبشرت به، وصارت تعيده علي في كل مناسبة وفي جميع أدوار عمري إلى أن ماتت.

سخية اليد على قلة ما تملك، لا تعبأ بالمال إلا ما يضمن معيشتها، فلما ركنت إلي ووثقت بي تنازلت عن مالها لأولادها. لم أسمع منها يوما تفكيرا في تدبير مال، ولا شكوى حال، ولا حسدا لغنى ولا اعتراضا على قدر، شأنها في ذلك شأن أخوالي، فليس منهم إلا من عاش عيشة طيبة وكسب كثيرا ومات فقيرا.

ساذجة في تفكيرها وفي حديثها وفي تصرفها وفي تصديق كل ما يقال لها.

فإن كان لي شيء من عناد وقوة إرادة وجلد على العمل وصبر على الدرس وسرعة غضب وميل إلى الحزن وكثرة تفكير في العواقب، فذلك كله من أبي رحمه الله.

وإن كان في شيء من سذاجة، وعدم حرص على مال، وحزن على أني حزين، وحسن ظن بالناس فيما يقولون ويفعلون، وندم على غضب، وسرعة تحول من غضب إلى هدوء ومن سخط إلى رضا، فذلك كله من أمي، رحمها الله.

وهل نحن إلا صور جديدة لآبائنا، يعيشون فينا، ويحلون في جسومنا ونفوسنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤