ابنة السيناتور

(١) الصندوق الذهبي الصغير

في مساء الرابع من مارس، عام ألف وتسعمائة وسبعة وثلاثين ميلاديًّا، كرَّس السيد دانيال ويبستر وانلي ساعات عدة للانتهاء من تزيُّنه المُتقَن، وما إن انتهى من مهمَّته هذه حتى وقف أمام المرآة وألقى نظرة متفحصة على نتيجة عمله الفني الصبور.

بدا راضيًا عما يراه؛ ففي زجاج المرآة رأى شابًّا وسيمًا يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، طوله أقل قليلًا من المتوسط، يرتدي زي سهرة مثاليًّا. كان وجهه بيضاويًّا، وبشرته ناعمة، وملامحه دقيقة. وكانت عظام وجنته البارزة، والارتفاع الطفيف في ركني عينيه الخارجيين، وشفته العليا الرفيعة التي يعلوها شارب رفيع لكنْ ذو سَمت أرستقراطي، وأصابع يديه المُستدقَّة الأطراف، وقدماه الصغيرتان بشكل ملحوظ، والموضوعتان الليلة داخل حذاء جلدي أحمر مصقول؛ كانت هذه كلها موروثات لا تخطئها عين لأصله المنغولي الخالص. وقد تدلَّى شعر أسود كثيف طويل، مُمَشَّطٌ إلى الوراء من جبهته، في غزارة على رقبته وكتفيه. والْتمع عددٌ من الأوسمة الأنيقة على صدر معطفه الأسود المصنوع من الجوخ، وكانت أطراف البنطال القصير مربوطة إلى الركبتين بشرائط قرمزية اللون، بينما كانت الجوارب مصنوعة من الحرير المشجر. كان وجه السيد وانلي يشع بالحصافة والذكاء، وقد وقف أمام المرآة برشاقة.

جذب حديث خافِت مميَّز، يملأ الغرفة لكنه بدا وكأنه لا يصدر عن بقعة محددة منها، انتباه السيد وانلي. وعلى الفور تعرَّف على صوت صديقه السيد والسينجهام براون.

«ما أخبار موعدنا يا صديقي العزيز؟»

«الوقت يداهمنا.» هكذا رد السيد وانلي من دون أن يدير وجهه عن المرآة، وأضاف: «حريٌّ بك أن تأتي إليَّ مباشرة.»

وفي غضون دقائق قليلة انفتحت الستائر الموضوعة عند مدخل شقة السيد وانلي على نحو مباغت، ودلف السيد والسينجهام براون. وتصافح الصديقان في حرارة.

«كيف حال النائب المبجَّل عن مقاطعة لوس أنجلوس؟» هكذا تساءل الوافد في مرح، مُضيفًا: «وما الجديد في حفل واشنطن؟ أرى أنك جاهز للانتصار الليلة، ما هذا كله؟ شرائط قرمزية وجورب حريري مشجر! آهٍ يا وانلي، كنت أظن أنك كبرت على هذا الطيش!»

ظهر قدر يسير للغاية من حُمرة الخجل على خدَّي السيد دانيال ويبستر وانلي، الذي تساءل مُغيرًا الموضوع: «هل الجو بارد الليلة؟»

رد صديقه: «شديد البرودة. أتعجب كيف أن الثلج لم يتساقط لديكم هنا؛ فهي تمطر ثلجًا في نيويورك، وكان ارتفاع الثلج منذ لحظاتٍ ثلاثَ بوصاتٍ على الأقل حين ركبتُ الأنبوب الهوائي.»

قال المنغولي: «اسحب مقعدًا مريحًا إلى جوار المدفأة الكهربائية. يجب أن تطرد مناخ نيويورك من مفاصلك لو كنت تريد أن ترقص الفالس جيدًا. إن نساء واشنطن قاسيات في الحُكم على هذا الأمر.»

دفع السيد والسينجهام براون مقعدًا مريحًا نحو كرة من البلاتين اللامع موضوعة فوق قاعدة بلورية في منتصف الغرفة. ضغط زرًّا فضيًّا في أسفل القاعدة، وبدأت الكرة المعدنية تتوهج على نحو ساطع، وتسلل دفء لطيف إلى أرجاء الغرفة. قال السيد والسينجهام براون: «هذا شعور طيب.» وهو يمد كلتا ذراعيه كي يلتقط الحرارة من المدفأة الكهربائية.

ثم واصل حديثه قائلًا: «بالمناسبة، أنت لم تفسِّر لي بعدُ موضوع الشرائط القرمزية. ما الذي سيقوله ناخبوك لو رأوك على هذه الصورة — وأنت الخطيب الحماسي المفوَّه في منطقة منحدر المحيط الهادئ، والطالب المُراعي لأصول إدارة الدولة التقدمية، ودعامة أقصى اليسار وأملهم، والشوكة المغروزة في خاصرة المحافظين النباتيين، والشخص المبغوض من طرف الزمرة الهندوأوروبية كلها — وأنت ترتدي شرائط على الركبتين وجوارب مشجرة، وكأنك رجل كهف بدائي في حفلٍ راقٍ بهارلم، أو …»

قاطع السيد براون نفسه مُصدرًا ضحكة صافية ودودة.

بدا السيد وانلي منزعجًا؛ فلم يردَّ على سخرية صديقه، وألقى نظرة خاطفة على ركبتيه في المرآة، ثم ذهب إلى أحد جوانب الغرفة، حيث أخذ شريطًا لا نهائيًّا من الورق، يبلغ عرضه ثلاث أقدام، يتدفق ببطء من بين بكرتين عديمتي الصوت ويسقط في طيات أنيقة داخل سلة من الخيزران موضوعة على الأرضية كي تتلقاه. أحنى السيد وانلي رأسه على شريط الورق العريض وراح يقرأ باهتمام.

قال رفيقه: «أظن أنك تقرأ صحيفة ذا كونتِمبورانيوس نيوز؟»

رد السيد وانلي: «كلا، أفضِّل قراءة ذا إنترمينابل إنتليجنسر؛ فصحيفة ذا كونتِمبورانيوس نيوز موافقة لأسلوب تفكيري بدرجة كبيرة. وما الذي يدفع رجلًا حصيفًا إلى أن يقرأ ما يكتبه أعضاء حزبه؟ من الأحكم أن تظل مطَّلعًا على ما يفكر فيه خصومك السياسيون ويقولونه.»

«هل وجدت أي شيء عن حدث الليلة؟»

قال السيد وانلي: «لقد بدأ الحفل، وصار مبنى الكابيتول مزدحمًا بالفعل. دعني لأرى.» ثم واصل الحديث وهو يقرأ بصوت مرتفع: «أثرياء الأمة وجميلاتها وفرسانها وأذكى عقولها، مجتمعون جميعًا كي يُضفوا بريقًا غير مسبوق على حفل الافتتاح، والنجاحُ الساحقُ للإدارة الجديدة مضمون بما لا يدع مجالًا للشك.»

قال السيد براون: «ذلك منطق مشجع.»

«لقد دخل الرئيس تريمبلي توًّا إلى القاعة المقببة، ترافقه زوجته الجميلة الأنيقة، ويصحبه نائب الرئيس السابق رايلي، والسيدة حرمه، وابنته الآنسة نورا رايلي، وهذه المجموعة الشهيرة هي بالطبع محط أنظار الجميع. تسود أعلى درجات المودة بين رجال الدولة من شتى الأطياف. ولمرة واحدة تبدو الخصومة السياسية وكأنها نُحِّيَت جانبًا مع الملابس التي يرتديها الجميع في حياتهم اليومية. يبدو جليًّا بين الضيوف بعضٌ من أبرز رجال المعارضة. بل إن الجنرال كونج، مرشح الحزب النباتي المنغولي المهزوم، يشق طريقه الآن عبر القاعة، مستندًا إلى ذراع السفير الصيني، عاقدًا العزم على تقديم أطيب الأمنيات إلى خصمه الفائز. لا وجود لأي مشاعر استياء أو عداوة على ملامحه ذات الطابع الآسيوي القوي.»

علَّق السيد وانلي وهو يرفع عينيه عن الصحيفة: «يستطيع بطل معركة شايان أن يتحلى برحابة الصدر.»

قال السيد براون في دفء: «هذا حقيقي. لقد حسم المقاتل العجوز النبيل إلى الأبد مسألة المساواة بين الأعراق. ما كانت الرئاسة لتضيف شيئًا إليه.»

واصل السيد وانلي القراءة: «إن زينة النساء ساحرة. وأبرز ما يجذب أنظار المراسلين ذلك الذيل المصنوع من ريش الطاوس الذي تضعه الأميرة هوشيدا، بلونه البنفسجي الزاهي …»

قال السيد براون: «كفاك؛ فسنذهب ونرى بأنفسنا بعد لحظات. هلَّا تكرمت بإعطائي بعض الطعام؟ أشعر وكأنني لم أتناول شيئًا منذ أسبوعين.»

أخرج السيد وانلي المبجَّل من جيب معطفه صندوقًا ذهبيًّا صغيرًا، بيضاوي الشكل، ثم ضغط على زنبرك فانفتح الغطاء، ثم ناول الصندوق لصديقه. كان الصندوق يحوي عددًا من الأقراص الرمادية الصغيرة، لا يزيد حجمها على حجم حبة البازلاء. أمسك السيد براون بأحد الأقراص بين إصبعيه السبابة والإبهام، ثم وضعه في فمه. وقال: «هكذا أُشبع جوعي. أو إذا استعرْتُ لغة خطباء المعارضة فسأقول إنني هكذا أسلم نفسي إلى هذه الممارسة الدنيئة المنحطة، التي تخرِّب المجتمع بشكله الحالي، وتخالف قوانين الطبيعة عينها.»

لم يكن السيد وانلي يعيره أي انتباه؛ كان يحدق مرة أخرى بلهفة في أعمدة صحيفة ذا إنترمينابل إنتليجنسر. وعلى نحو بدا لا إراديًّا قرأ بصوت مرتفع: «الوزير كويمبي والسيدة حرمه، وكونت شنيك، والسفير النمساوي، والسيدة هويت والآنستان هويت من نيويورك، والسيناتور نيوتن من ماساتشوستس، الذي سبَّب وصوله برفقة ابنته الجميلة ضجة كبيرة …»

توقَّف للحظة، وتلعثم إذ أدرك أن صديقه كان يتفحصه باهتمام. تصنَّع عدم الاهتمام وشرع في استئناف القراءة: «السيناتور نيوتن من ماساتشوستس، الذي سبَّب وصوله برفقة ابنته الجميلة …»

قال السيد والسينجهام براون وهو يبتسم: «أعتقد يا صديقي العزيز أنه حان وقت ذهابنا إلى مبنى الكابيتول.»

(٢) حفل الكابيتول

شق السيد وانلي ورفيقه طريقهما عبر حشد متألق من الرجال السعداء والنساء الفاتنات، وصولًا إلى القاعة المقببة. ورغم أن هذين الشابَّين كانا معتادَين على الجهود الاستثنائية التي كانت الجمعية تنظم بها احتفالاتها، فقد شعرا بالذهول من سحر المشهد الماثل أمامهما. كانت البانوراما التاريخية القاتمة التي تطوق القاعة مختفية وراء حائط من الأزهار. لم تكن جوانب القبة مرئية؛ نظرًا لوجود قبة مؤقتة أسفلها من الورود الحمراء والزنابق البيضاء، يفوح من تجويفها تيار متواصل وغامر من الشذا. ومن مركز الأرضية ارتفع تيار واحد من الماء إلى أربعين أو خمسين قدمًا، وقد أضاءته بقوةٍ العمليةُ الكهرومائية المُكتشفة حديثًا، وغمر القاعة بضوء يفوق في شدته ضوء النهار عشر مرات، ومع ذلك فقد كان مريحًا ولطيفًا كضوء القمر. كانت الأجواء تنبض بالموسيقى، بينما كل زهرة في القبة بالأعلى تُصدِر النغمات التي كان راتيبوليال، في معهد الموسيقى بباريس، يبعثها عبر المحيط الأطلسي من الطرف المهتز لعصاه.

وما كاد الصديقان يصلان إلى منتصف القاعة، حيث كانت النافورة الكهرومائية تقذف تيار المياه المتَّقد، وحيث كان تياران متقابلان من الأشخاص الآتين من الجناحين الشمالي والجنوبي لمبنى الكابيتول قد تقابلا واختلطا في دوامة من التفاعل البشري المهذب، حتى أحاط بالسيد براون بعضٌ من أصدقائه من واشنطن وأخذوه بعيدًا.

واصل وانلي سيره للأمام، دون أن يلحظ تراجع صديقه إلا بالكاد. وجَّه خطواته إلى المواضع التي كان يتجمع فيها الحاضرون، مديرًا رأسه يمينًا ويسارًا مُلقيًا نظرات بحث سريعة، ومن حين إلى آخر يتبادل التحية مع مَن يعرفهم، غير أنه لم يتوقف من أجل الحديث إلا مرة واحدة، حين استوقفه الجنرال كونج، زعيم الحزب النباتي المنغولي والمرشح الرئاسي المهزوم في انتخابات عام ١٩٣٦. تحدث المحارب القديم في أُلفة مع عضو الكونجرس الشاب ولم يعطله إلا للحظات، وقال له في رفق: «أنت تبحث عن شخص ما يا وانلي، أرى هذا في عينيك؛ سأطلق سراحك.»

واصل السيد وانلي سيره عبر الرواق الطويل المُفضي إلى قاعة مجلس الشيوخ، وهناك واصل بحثه. بعد ذلك عاد مجددًا، شاعرًا بالإحباط، إلى القاعة المقببة، ثم ذهب إلى الطرف المقابل لمبنى الكابيتول. كانت قاعة مجلس النواب مخصصة للراقصين، ومن الساعة الكبيرة الموضوعة أعلى منصة المتحدث صدرت موسيقى الفالس، التي على أنغامها أخذ عدة مئات من أزواج الراقصين يدورون على الأرضية المصقولة.

وقف وانلي لدى الباب، مشاهدًا أزواج الراقصين وهم يتحركون أمامه في أرجاء القاعة. بدأت عيناه تلتمعان، واستقرتا على الوجه الجميل والجسد الرشيق لفتاة ترتدي الساتان الأبيض، أخذت ترقص الفالس بصورة مثالية مع شاب يبدو إيطاليًّا. تقدم وانلي خطوة أو خطوتين، وفي تلك اللحظة انتبهت الفتاة الشابة لوجوده. تحدثت بشيء لرفيقها، وعلى الفور أزاح يده من حول خصرها.

قالت الفتاة وهي تمد يدها نحو وانلي: «كنت أتوقع وصولك في هذا الوقت. أنا مسرورة لمجيئك.»

قال وانلي: «أشكرك يا آنسة نيوتن.»

واصلت الحديث مخاطبة الشاب الذي كان يراقصها: «يمكنك الذهاب الآن يا فرانشيسكو، لن أحتاجك ثانية.»

انحنى الشاب الذي خاطبته باسم فرانشيسكو في احترام ثم غادر دون أن ينبس ببنت شفة.

قالت الآنسة نيوتن وهي تضع يدها على كتف وانلي: «دعنا لا نضيع رقصة الفالس الجميلة هذه. ستكون رقصتي الأولى لهذه الليلة.»

قال وانلي بينما أخذا يتمايلان معًا: «ألم ترقصي إذًا؟»

قالت الآنسة نيوتن: «نعم يا دانيال، لم أرقص مع أي سيد مهذب.»

شكرها المنغولي بابتسامة.

واصلت حديثها قائلة: «غير أنني استفدت من وجود فرانشيسكو. أمر طيب أن يكون لديَّ هذا الشريك الكفء المُراعي! فكر فقط كيف كانت جداتنا، بل وأمهاتنا، مجبرات على الجلوس في حزن إلى جوار الحائط في انتظار تعطُّف السادة ذوي المقام الرفيع عليهن …»

ثم توقفت فجأة؛ إذ لاح الضيق على وجه رفيقها. همست ورأسها يكاد يلامس كتفه قائلة: «سامحني. سامحني لو جرحتُك. أنت تعلم يا حُبي أنني لم أكن ﻟ…»

قاطعها قائلًا: «أعلم هذا. أنتِ أطيب وأنبل من أن تسمحي لأمر كهذا أن يؤثر أدنى تأثير على تقييمك للرجل. أنتِ لا تتوقفين كي تفكري في أن أمي وجدتي لم تكونا معتادتين على مقابلة أمك وجدتك في الحفلات، وذلك لسبب وجيه …» ثم واصل وقد بدت المرارة في نبرة صوته: «هو أن يدَيْ أمي كانتا مشغولتين بغسل ملابس أبي في سان فرانسيسكو، بينما لم تكن فكرة جدتي عن التجمعات الاجتماعية تتجاوز حدود قمرات المراكب القديمة في نهر يانجتسي. أنت لا تأبهين لذلك، لكن الآخرين …»

واصلا رقص الفالس في صمت، وقد بدا عليه الاستغراق في التفكير والتجهم، بينما بدا عليها الاهتمام المتعاطف.

سألها وانلي أخيرًا: «ماذا عن السيناتور، أين هو الليلة؟»

«أبي!» هكذا ردت الفتاة، وهي تلقي نظرة وجلة من فوق كتفها. «آه! لقد جاء أبي إلى هنا كي يوصلني فقط، وكان هذا متوقعًا منه. لقد عاد إلى المنزل كي يعمل على إعداد خطبته العصماء المناهضة للنباتيين.»

«هل تعتقدين أن السيناتور يشك في شيء؟» هكذا سألها وانلي بعد بضع دقائق، وهو يهمس بكل كلمة ببطء وبصوت خفيض.

جاء الدور عليها كي تُظهِر الإحراج، فردت قائلة: «أنا واثقة أنه لا توجد لديه أدنى فكرة عن الأمر. وهذا ما يقلقني. إنني أشعر دائمًا أننا نسير معًا على حافة بركان. أعلم أننا على حق، وأن السماء تريد أن يسير الأمر على ما هو عليه تمامًا، ومع ذلك لا أستطيع أن أمنع نفسي من الارتجاف وأنا في سعادتي هذه. أنت تعلم مثلي تمامًا تلك الأفكار البالية السخيفة التي لا تزال سائدة في ماساتشوستس، وأن أبي من أكثر المحافظين تزمتًا. إنه يحترم قدراتك، أعلم هذا منذ وقت طويل. وكلما تحدثتَ في مجلس النواب كان يقرأ ملحوظاتك باهتمام شديد. وأعتقد أن الحجج التي تطرحها تضايقه كثيرًا.» وقالت عبارتها الأخيرة وهي تضحك ضحكة متكلَّفة.

قال الرجل الصيني، بينما انقطعت الموسيقى وتوقف رقص الفالس: «لا بد من أن ينتهي هذا الأمر يا كلارا. لا يسعني أن أسمح لكِ بالبقاء يومًا آخر في هذا الوضع المشبوه. إن شرفي وسلامكِ النفسي يحتمان تقديم تفسير لوالدك. هل لديكِ الشجاعة كي تراهني بكل سعادتنا على خطوة جريئة واحدة؟»

ردت الفتاة في صراحة: «لديَّ الشجاعة كي أذهب إلى والدي وأخبره.» ثم ضغطت على ذراعه برفق ونظرت إلى وجهه نظرة خجولة فاتنة وأكملت قائلة: «كما أن لديَّ الشجاعة كي أمضي إلى ما هو أبعد من هذا.»

رد عليها قائلًا: «أيتها المتزمتة الصغيرة المحبوبة.»

وبينما كانا يجتازان قاعة مجلس النواب قابلا السيد والسينجهام براون وبصحبته الآنسة هويت من نيويورك. تحدثت الفتاة النيويوركية في ود مع الآنسة نيوتن، لكنها حيَّت وانلي بانحناءة غير ودِّية قليلًا. بحثت عينا وانلي عن عينَيْ صديقه، وحين تقابلت عيناهما قال له في صوت خفيض: «ربما أحتاج مشورتك قبل الصباح.»

قال السيد براون: «لا بأس يا صديقي العزيز. يمكنك الاعتماد عليَّ.» ثم افترق الزوجان.

سار المنغولي ومحبوبته الآتية من ماساتشوستس مع تيار المدعوِّين صوب غرفة العشاء. كان كلٌّ منهما منشغلًا بأفكاره الخاصة. وبصورة شبه ميكانيكية قاد وانلي رفيقته إلى أحد أركان غرفة العشاء ووجد لها مقعدًا خلف جدار من النخل القصير، محجوبًا عن المنصة.

قالت الفتاة: «كم هو لطيف منك أن تأتي بي إلى هنا؛ فأنا أشعر بالجوع بعد رقصتنا.»

رغم العلاقة الحميمة التي تجمع بين روحيهما، فقد كانت المرة الأولى التي تطلب فيها منه أن يجلب لها طعامًا. كان مطلبًا بريئًا وطبيعيًّا، ومع هذا فقد ارتعد وانلي لدى سماعه، وعض على شفته العليا كي يسيطر على انفعاله. نظر من وراء جدار النخل القصير إلى الطاولات العامرة بالأطعمة والمحاطة بالرجال الذين يشقون طريقهم في حماس كي يأتي كل منهم بالطعام إلى رفيقته. ارتعد وانلي مجددًا من المشهد، ثم جلس إلى جوارها وأمسك بيدها وبدأ في الحديث في روية وجدِّية.

قال: «كلارا، سأطلب منك إثباتًا أخيرًا لحبك لي. لا تُظهري أي انزعاج واسمعيني بصبر. ثم بعد أن تفرغي من الاستماع إليَّ، إن بقيتْ رغبتكِ أن أجلب لك بعضًا من كبد الإوز أو جناح دجاجة أو بعض السلاطة أو حتى طبقًا من الفاكهة، فسأفعل ما تريدين، رغم أن هذا سيعتصر قلبي اعتصارًا. لكن فلتستمعي أولًا إلى ما أريد قوله.»

ردت قائلة: «بالتأكيد سأسمع كل ما تريد قوله.»

واصل حديثه وهو يتحسس في عصبيةٍ الخواتمَ التي تضعها في أصابعها الرقيقة: «أنت تعلمين ما يكفي عن النظريات السياسية التي تميز كل حزب عن الآخر، بحيث تعين أن ما أُومن به مُخلصًا يختلف بشدة عما تربيتِ على الإيمان به.»

قالت الآنسة نيوتن: «أعلم أنك نباتي وأنك لا توافق على تناول اللحم، وأعلم أنك تحدثت في فصاحة أمام مجلس النواب عن حق كل كائن حي في حماية حياته، وأن هذه هي النظرية التي يتبناها حزبك. يقول أبي إن هذه ديماجوجية؛ وإن المعارضة تروِّج نظرية سخيفة وسوفسطائية بغية كسب أصوات الناخبين واعتلاء سدة الحُكم. ومع هذا فأنا أدرك أن عددًا كبيرًا من الأشخاص المحترمين، ومنهم أصدقاء لنا في ماساتشوستس، صاروا يؤمنون بما تؤمن به، وبطبيعة الحال بفضل حبي لك أثق تمام الثقة في نزاهة قناعاتك؛ فأنت لست ديماجوجيًّا يا دانيال، وأنت أرقى من أن تستغل تطرُّف العامة والدهماء. ولن يستطيع والدي ولا العالم كله أن يحملني على تصديق العكس.»

ضغط السيد دانيال ويبستر وانلي على يدها أكثر وقال: «بسبب العيش وسط أكثر الدوائر تشددًا ومحافظةً كما في حالتك، عزيزتي كلارا، لم تُتَح لكِ فرصة فهم الأهمية والقوة البالغتين للحركة التي تكتسح الأرض اكتساحًا الآن، والتي أنا ممثِّلها المتواضع. الأمر أكبر بكثير من كونه محض خلاف سياسي؛ فهو اضطراب عارم يعيد تنظيم المجتمع على أساس العلم والحق المجرد. إنه أمر ملائم وصحيح لدرجة أنه ينبغي عليَّ، أنا الذي أنتمي إلى عرق حصل على حريته وحقوقه السياسية بعد أزمان من التفرقة العنصرية، أن أقف في طليعة ما آمُل أن تكون ثورة جديدة.»

كانت عيناه المتَّقدتان حماسًا تنظران مباشرة في عينيها الآن. ورغم شعورها بالانزعاج قليلًا من فرط جدِّيته فإنها لم تستطع أن تُخفي سعادتها العميقة بسلوكه الرجولي.

قال: «نحن نؤمن أن كل حيوان يولد حُرًّا وله حقوق مساوية لغيره، وأن أكثر العوالق البحرية تواضعًا وأقل الرخويات مكانة لها حق مساوٍ لحقي وحقكِ في الحياة والاستمتاع بسعادتها. ولمَ لا، ألسنا كلنا إخوة؟ ألسنا كلنا أبناء تطور مشترك؟ وماذا نكون نحن الحيوانات البشرية إلا الأفراد الأكثر تطورًا داخل عائلة كبيرة؟ هل المسافة الفاصلة من حيث الذكاء بين السيناتور نيوتن من ماساتشوستس والبوشمَن الأستراليين أكبر من تلك الفاصلة بين البوشمَن الأستراليين أو هنود محمية فلاتهيد وبين الثور الذي أمر السيناتور نيوتن بذبحه وتقديمه طعامًا لأسرته؟ هل لدينا الحق في سلب الحياة الزهيدة التي أوجدها التطور؟ أليس ذبح ثور أو دجاجة جريمة قتل — بل قتل لأشقائنا بالأحرى — في نظر العدالة المطلقة؟ أليس من قبيل أكل لحم أبناء جنسنا أن نلتهم لحم أشقائنا الحيوانات العديمة الحيلة، والتضحية بحياتها وحقها إرضاءً لشهية مصطنعة ليس لها أساس سوى عادات الأنانية الهمجية التي سادت منذ عصور طويلة؟»

قالت الآنسة كلارا ببطء: «لم أفكر في هذه الأمور من قبل قط. هل يمكنك منحها حق التصويت؛ أعني الثور والدجاجة وقرد الرباح؟»

صاح وانلي: «ها هي ابنة سيناتور ماساتشوستس تتحدث. كلا، لن نمنحها حق التصويت، على الأقل ليس في الوقت الحالي. إن الحق في العيش وفي الاستمتاع بالحياة حق طبيعي، لا يمكن التنازل عنه. أما الحق في التصويت فيعتمد على ظروف المجتمع وعلى ذكاء الفرد؛ فالثور والدجاجة وقرد الرباح ليست مستعدة بعد للتصويت، غير أنها لا تزال في بداية الطريق، وهي تجاهد مرورًا بالعملية ذاتها التي مر بها أسلافنا. وإنها لجريمة، وفعل بغيض مجافٍ للطبيعة، أن نسلبها حقها ومستقبلها، من أجل وجبة!»

قالت الآنسة نيوتن بقدر من الحماس: «أعترف بأن تلك مشاعر نبيلة.»

قال وانلي: «إنها مشاعر الحزب النباتي المنغولي. ستقود هذه المشاعر البلاد في عام ١٩٤٠، وتنتخب الرئيس القادم للولايات المتحدة.»

قالت الآنسة نيوتن بعد فترة من الصمت: «أنا معجبة بجديتك، ولن أضايقك بأن أطلب منك أن تأتيني ولو بجناح دجاجة. لا أظن أن بإمكاني تناوله الآن، بينما كلماتك لا تزال تتردد في أذني. كل ما أريد هو قليل من الفاكهة.»

قال وانلي وهو يمسك بيد الفتاة الطويلة مجددًا: «مرة أخرى، يجب أن أطلب منك التفكير في الأمر. فالمبادئ، يا محبوبتي، التي تلفظتُ بها بالفعل هي مبادئ السواد الأعظم من أبناء الحزب، بل ويعتنقها المصوتون المحترمون والمنفتحون وغير مفرطي الحساسية الذين يشكلون غالبية أعضاء كل منظمة سياسية. لكن ثمة قلة من بيننا يعتنقون آراءً أكثر تقدمًا. نحن لا نتوقع أن نضم الأشخاص المتقاعسين إلى صفوفنا إلا بعد سنوات، بل وربما عمر بأكمله؛ فنحن ببساطة نطبق النظرية المتفق عليها وصولًا إلى تبعاتها المنطقية وننتظر في هدوءٍ النتائجَ النهائية.»

استفسرت قائلة: «وما هي فرضيتك يا عزيزي؟ لا أستطيع أن أرى كيف لأي شيء أن يكون أكثر ثورية — أي أكثر إذهالًا وإزعاجًا للعامة من الوهلة الأولى — من الفرضية التي ذكرتها توًّا.»

«لو أن ما قلتُه صحيح، وأنا أُومن أنه كذلك، فكيف نستطيع حينها تجنب تضمين المملكة النباتية في إعلان التحرر من طغيان الإنسان؟ الشجر، والنباتات، بل وحتى الفطريات، أليست لها حياة فردية؟ أليس لها الحق في أن تعيش هي أيضًا؟»

«لكن كيف …»

واصل الصيني حديثه، دون أن يلاحظ مقاطعتها قائلًا: «وفي الحقيقة، من يستطيع تحديد أين تنتهي الحياة النباتية وتبدأ الحياة الحيوانية؟ لقد حاول العلم سُدًى أن يرسم الخط الفاصل. أومن أن اقتلاع ثمرة بطاطس من جذرها يعني تدمير وجودها بالتأكيد، رغم أنه لا يشبه وجودنا إلا من بعيد، كما أن قطف حبة عنب ما هو إلا تشويه للكرمة، وشُرب عصير ذلك العنب لهو انتهاك وقطع لصلة القرابة بيننا. ووفق هذه النظرة الواسعة السامية للأمر، يصير واجبًا علينا الامتناع عن تناول الأطعمة النباتية. إن مبدأ الحيوية ذاته يصير اختبارًا ورباطًا للأخوة بين كل الكائنات. «كل الكائنات الحية تولد حرة ومتساوية، ولها الحق في الوجود وفي الاستمتاع بوجودها.» أليست هذه فكرة جميلة؟»

قالت الفتاة: «إنها فكرة جميلة. لكن، وأعلم أنك ستعتقد أنني باردة ونفعية ومفتقرة إلى التعاطف، لكن كيف يُفترض بنا أن نعيش؟ أليس لنا حق، نحن أيضًا، في الوجود؟ هل علينا أن نجوع حتى الموت كي نثبت حق النباتات النظري في ألا تؤكَل؟»

قال وانلي: «محبوبتي، كان من شأن هذا السؤال أن يكون خطيرًا ومحيرًا لو لم تكن أحدث الاكتشافات العلمية قد حلَّته من أجلنا بالفعل.»

ثم أخرج من جيب معطفه القصير صندوقًا ذهبيًّا صغيرًا، لا يزيد حجمه كثيرًا على حجم ساعة اليد، ثم فتح الغطاء، ووضع في راحة يدها البيضاء أحد الأقراص الصغيرة.

وقال: «كُليه. سوف يسدُّ جوعَكِ.»

وضعت القرص الصغير في فمها وقالت: «سأفعل ما تطلبه مني، حتى لو كان هذا سُمًّا.»

رد قائلًا: «إنه ليس سُمًّا. إنه الطعام في أفضل صوره.»

«لكنه عديم الطعم، ويكاد يكون عديم القوام.»

«ومع هذا فسوف يُبقيكِ حية لمدة تتراوح بين ثمانية عشر وخمسة وعشرين يومًا. إن هذا الصندوق الذهبي الصغير يحمل طعامًا يكفي إعاشة كل أعضاء الكونجرس الستة والسبعين لمدة شهر.»

أخذَت الصندوق وتفحصتْ محتوياته في فضول.

«وكم من الوقت تظن أنه سيُبقيني على قيد الحياة، أكثر من عام على الأرجح أليس كذلك؟»

«بلى، أكثر من عشرة أعوام، أكثر من خمسة وعشرين عامًا.»

واصل وانلي حديثه قائلًا: «لن أضجرك بالحقائق الكيميائية والفسيولوجية، لكن يجب أن تعلمي أن الطعام الذي نتناوله، بأي صورة كان، يتحلل إلى ما نسميه المواد الأساسية؛ النشويات والسكر والأولئين والفلورين والزلال وما إلى ذلك. تختار أعضاء الجسم هذه المواد وتهضمها، ويجري استخدامها في بناء الأنسجة الضرورية. غير أن هذه المواد الأساسية كلها، بدورها، ما هي إلا توليفات لعناصر كيميائية جوهرية، وهي بالأساس الكربون والنيتروجين والهيدروجين والأكسجين. ونحن نعتمد على هذه العناصر في بقائنا. وفق الخطة القديمة كنا نحصل على هذه العناصر بصورة غير مباشرة؛ إذ إنها تمر من الأرض والهواء إلى العشب، ومن العشب إلى الأنسجة العضلية للثور، ومن اللحم إلى أجسامنا، وهي محملة ومصحوبة بالعديد من المواد عديمة النفع وغير الضرورية. اكتشف كيميائيون ألمان كيفية وضع العناصر الضرورية في صورة مضغوطة غير مخففة، وهي موضوعة هنا في هذا الصندوق الصغير. والآن سيتجه البشر مباشرة إلى منبع الطبيعة لشفاء عللهم، والآن ستَحلُّ نهايةُ الطريقة القديمة المنهكة وغير المباشرة وغير الإنسانية، والآن ستنتهي شرور الشَّرَه وما يصاحبه من موبقات، والآن سيتوقف القتل القاسي لأشقائنا الحيوانات والنباتات، والآن سيحدث كل هذا لأن القضية الجديدة المقدسة قد حظيت بمباركة الشفتين اللتين أحبهما!»

ثم انحنى وقبَّل هاتين الشفتين. ثم رفع رأسه فجأة ورأى السيد براون يقف إلى جواره.

قال السيد براون في عجالة: «أخشى أن أمركما قد افتُضح. ذلك الراقص الإيطالي الذي يعمل لديكِ، آنسة نيوتن، كان يتتبَّعك ككلب الصيد. وقد كنت أتابعه بالاهتمام عينِه. وقد غادر مبنى الكابيتول مُسرعًا، وأخشى أنه سيتسبب لكما في فضيحة.»

منحت الفتاة الشُّجاعة ذات العينين الصافيتين حبيبها المنغولي نظرةً تُعادِل عامًا من عُمره وقالت: «لن يكون هناك أي فضيحة، سنذهب على الفور إلى والدي يا دانيال ونزفُّ إليه بأنفسنا القصة التي يحملها إليه فرانشيسكو.»

غادر ثلاثتهم مبنى الكابيتول من دون تأخير. وفي بداية جادة بنسلفانيا دخلوا مبنًى كبيرًا، مُضاء في سطوع يضاهي مبنى الكابيتول نفسه. حملهم مصعد نحو أعماق الأرض، وفي المستوى الرابع خرجوا من المصعد إلى عربة صغيرة، ذات كسوة فاخرة. لمس السيد والسينجهام براون مقبضًا عاجيًّا في طرف العربة، وظهر رجل يرتدي زيًّا رسميًّا لدى الباب.

قال السيد والسينجهام براون: «إلى بوسطن.»

(٣) العروس المُجمَّدة

جلس السيناتور عن ولاية ماساتشوستس في مكتبة قصره في الشارع الشمالي في الثانية صباحًا، وقد علت تعبيرات الدهشة والغضب ملامح وجهه الشاحبة والباردة. كان القلم قد سقط من بين أصابعه، بعد أن خطَّ به آخر عباراتِ مخطوطةِ خطبته العظيمة؛ إذ كان سيناتور نيوتن لا يزال ملتزمًا بالطريقة العتيقة في تسجيل الأفكار. وكانت العبارات المكتوبة تقول:

إن منطق الأحداث يجبرنا على الإقرار بالمساواة السياسية لأولئك الغزاة الآسيويين — أم هل أقول الفاتحين؟ — في مؤسساتنا الهندوأوروبية؟ غير أن منطق الأحداث يتعارض عادةً مع المنطق السليم، وتتنافر نتائجه مع الوطنية والحق. لقد فتح السيف لهم الطريق إلى صناديق الاقتراع، لكنني يا سيادة الرئيس أقول عامدًا إنه ليس بوسع أي قوة أرضية أن تفتح أمام هؤلاء الغرباء الطرق المقدسة إلى منازلنا وقلوبنا!

وقف فرانشيسكو، الراقص المحترف، إلى جوار السيناتور، وقد علت وجهه ابتسامة نصر خبيثة.

قال السيناتور مدهوشًا: «مع الرجل الصيني؟ الآنسة نيوتن، ابنتي؟ لا أصدق هذا، إنها فرية.»

قال الإيطالي: «تعالَ إذًا يا سيدي إلى مبنى الكابيتول وسترى الأمر بعينيك.»

بعدها مباشرةً انفتح الباب ودخلت كلارا نيوتن إلى الغرفة، يتبعها السيد المبجل وانلي وصديقه.

قالت الفتاة: «لا حاجة إلى الذهاب بنفسك يا أبي، يمكنك أن ترى الأمر بعينيك هنا والآن. غادِرِ المنزل يا فرانشيسكو!»

انحنى السيناتور بأدب متكلَّف للسيد والسينجهام براون، بينما لم يصدر عنه أي بادرة تشير إلى أنه لاحظ وجود السيد وانلي.

حاول السيناتور نيوتن الضحك وقال: «مزحة طيبة يا كلارا. لقد دبرتِ أنت والسيد براون هذه الدعابة كي تسلياني في منتصف الليل، لكن وقتها غير ملائم قليلًا.»

ردت الفتاة في شجاعة: «إنها ليست مزحة.» ثم ذهبت إلى وانلي وأمسكت يده في يديها وأردفت: «أبي، هذا سيد محترم وأنت تعرف عنه بعض الأمور بالفعل. إنه مساوٍ لنا في المنزلة الاجتماعية والذكاء والمكانة الأخلاقية. وهو أهلٌ، بكل الطرق، لصداقتك واحترامك. هلَّا استمتعتَ إلى ما يريد قوله؟ هلا فعلت يا أبي؟»

ضحك السيناتور ضحكة قصيرة جامدة، ثم تحول إلى السيد والسينجهام براون وقال: «ليس لديَّ أي رغبة في التواصل مع عضو المجلس الأدنى، فلماذا لديه رغبة في التواصل معي؟»

وضعت الآنسة نيوتن ذراعها حول الرجل الصيني الشاب ودفعته في رفق إلى الوقوف أمام والدها مباشرةً وقالت في صوت حازم وواضح كقرع الجرس: «لأنني … لأنني أحبه.»

عند استعادة أحداث هذا اللقاء بعد وقت طويل، قال السيد براون: «توهجت للحظة كالبلاتين في مدفأتك الكهربائية.»

قال السيد نيوتن، دون أن يغير نبرة صوته، وهو لا يزال موجهًا حديثه إلى السيد براون: «لو كان عضو مجلس النواب عن كاليفورنيا قد استغل مشاعر هذه الطفلة الحمقاء فهذا من سوء حظها، وسوء حظي. لا يمكن الحول دون ذلك الآن، لكن لو كان عضو مجلس النواب عن كاليفورنيا يراوده أي أمل في التربح من وراء أعماله الخبيثة، أو الحصول على مزيد من الفرص لاستغلالها، فإن السيد العضو يخدع نفسه.»

وبعد أن قال هذا استدار في كرسيه واستأنف العمل على خطبته العظيمة.

قال وانلي ببطء، مُتحدثًا للمرة الأولى: «لقد أتيتُ كرجل محترم كي أطلب من السيناتور يد ابنته في زيجة موقرة. وقد حصلت على موافقتها بالفعل.»

قال السيناتور، موجهًا حديثه مجددًا إلى السيد براون: «ليس لديَّ ما أضيفه.» ثم توقف للحظات وأردف بنبرة لاذعة: «بلغني أن عضو مجلس النواب عن كاليفورنيا هو أحد دعاة ومبشري حقوق النباتات؛ فليسعَ إلى أن يتزوج نبتة صبار؛ فحريٌّ به أن يتزوج مَن هي في مقامه.»

كان وانلي على وشك مغادرة الغرفة، وقد امتُقع وجهه من تلك الإهانة القاسية. غير أن إشارة سريعة من الآنسة نيوتن جعلته يُحجم عن ذلك.

صاحت في حرارة: «لكن لديَّ ما أضيفه. اسمعني يا والدي، الأمر كالتالي: إذا غادر السيد وانلي المنزل من دون الحصول على موافقتك — موافقة يستحقها منك كسيد مهذب وبصفتك أبي — فسأذهب معه وأتزوجه قبل شروق الشمس!»

رد السيناتور في برود: «اذهبي معه إن شئتِ يا فتاة، لكن استشيري السيد والسينجهام براون أولًا، وهو محامٍ وسيد مهذب، بشأن فحوى وتبعات قانون تعليق الحياة.»

أخذت الآنسة نيوتن تقلب نظرها بين الوجوه وهي حائرة؛ إذ لم يكن لهذه الكلمات معنًى بالنسبة إليها. شحب وجه حبيبها فجأة وقبض على ظهر أحد المقاعد التماسًا للدعم. شحبت وجنتا السيد براون بالمثل، وتقدم خطوة إلى الأمام سريعًا وهو يمد يده كما لو كان يصد عن نفسه فاجعة مريعة.

ثم بدأ يتحدث قائلًا: «بالتأكيد أنت لا … لكن كلا! ذلك أمر وضيع وغير إنساني بالمرة، إنه قانون مشين لم يعد له وجود، شأنه شأن الحقد المتحزب الذي تسبب في وجوده من الأساس. ولربع قرن ظل هذا القانون حبيس كتب القانون دون تطبيق.»

قال السيناتور وهو يطْبق أسنانه في قوة: «على حد علمي فإن هذا القانون لم يُلغَ.»

ثم أخرج كتاب قانون من أحد الأرفف وفتحه، وقال: «سأقرأ نص القانون. سيمثل جزءًا ملائمًا من طقوس هذه الزيجة.» ثم شرع يقرأ كما يلي:

«المادة ٣٩١.٧: لا يحق لذكرٍ من أصل قوقازي، يقل عمره عن ٢٥ عامًا، أن يتزوج أنثى من أصل منغولي، أو يَعِدها بالزواج، أو يُلزِم نفسه بالزواج منها، من دون أن يحصل على موافقة كتابية كاملة من والده أو ولي أمره، على النحو الذي يقره القانون، ولا يحق لأنثى، آنسةً كانت أم أرملة، يقل عمرها عن ٣٠ عامًا، لأبوين قوقازيين، أن تتزوج أي ذكر ذي أصل منغولي، أو تَعِده بالزواج أو تُلزم نفسها بالزواج منه، من دون أن تحصل على موافقة كتابية كاملة وموثقة من والدها ووالدتها أو وليَّيْ أمرها، على النحو الذي يقره القانون. وأي زيجة تخالف هذا تكون هي والعدم سواءً، وسيُعَد الطرف القوقازي مذنبًا بجنحة وخاضعًا للعقوبة التي يراها والده، أو والدها، أو ولي الأمر، على النحو الذي يقره القانون.

المادة ٣٩٢.٧: يحق لهذا الأب أو ولي الأمر، حسبما يرى وعند طلب سلطات المحكمة الإقليمية للولايات المتحدة الخاصة بالمنطقة التي وقعت فيها الجريمة، أن يُسلم الشخص المذنب ذا الأصل القوقازي إلى الضباط المختصين، وأن يطلب تعليق وعيه وأنشطته الجسمانية ووظائفه الحيوية عن طريق عملية التجميد المعروفة باسم «عملية فيركومر»، لفترة تعادل تلك التي يجب انقضاؤها حتى يصل الشخص المذنب إلى سن الخامسة والعشرين، لو كان ذكرًا، أو ٣٠، لو كانت أنثى، أو لفترة أقصر من الوقت حسبما يرى الأب أو ولي الأمر، على أن تُحدَّد هذه الفترة الأقصر مُقدمًا.»

«ماذا يعني هذا؟» هكذا قالت الآنسة نيوتن وقد أربكتها لغة القانون المسهبة، وأقلقتها أمارات الجزع المرتسمة على وجه حبيبها.

هز السيد براون رأسه في أسًى وقال: «إنه يعني أن على الأبناء أن يتحملوا أشنع خطايا الآباء.»

وقال وانلي في جهد جهيد: «إنه يعني يا كلارا أن علينا الافتراق.»

قال السيناتور وهو يقف ويشير في صبر نافد بيده التي تحمل القلم، وكأنها إشارة إلى إنهاء الموضوع وطرد الحضور المتطفل: «فلتفهمني يا سيد براون. أنا لا أستخدم قانون الحياة المعلقة كأداة تخويف جوفاء كي أمنع فتاة سخيفة من هوسها الباعث على الأسى. وبكل تأكيد سأعمل على تنفيذ القانون بحذافيره.»

نظرت الآنسة نيوتن إلى والدها نظرة ثابتة طويلة لم يستطع وانلي ولا السيد براون تفسيرها ثم تقدمتهم خارجة في بطء إلى الردهة. أغلقت الباب. كانت الساعة على رف المدفأة تشير إلى الرابعة.

اعترى سلوك الفتاة تغيير كامل؛ فقد غادرتها روح التحدي، والمناشدة المنفعلة العاطفية، والعشق الصريح. وأضحت هادئة الآن، تضارع السيناتور في بروده وتَمالُكه لذاته. وطفقت تقول هامسة: «مجمَّدة! لقد جمَّدني بالفعل بقلبه القاسي.»

وسريعًا ما طلبت من السيد براون أن يوضح لها تبعات القانون الذي قرأ والدها نصه من الكتاب. وحين فعل هذا استفسرت قائلة: «ألا يوجد أيضًا قانون يتيح التعليق الطوعي للحياة؟»

رد المحامي: «يقر التعديل السابع والعشرون للدستور بحق أي فرد لا يشعر بالرضا عن ظروف حياته أن يعلق حياته لفترة من الوقت، طويلة أو قصيرة، حسب هواه. غير أن من النادر، كما تعلمين، أن يطبق أحدهم هذا على نفسه، بل لم يحدث هذا فعليًّا على الإطلاق، إلا كوسيلة لإيقاع الطلاق في الزيجات التعيسة.»

أصرت قائلة: «ومع هذا، فإن هذا الحق موجود ومُتاح؟» أومأ بالإيجاب. فتحولت صوب وانلي وقالت: «محبوبي، لا مفر من ذلك. يجب أن أتركك لبعض الوقت، لكن باعتباري زوجتك. سوف نرتب لعقد الزواج.» ثم ابتسمت في حزن وأردفت: «في غضون ساعة من الآن، سيأتي السيد براون معنا إلى القس، وبعد ذلك سنتجه إلى الملاذ، وستقودني أنت بنفسك إلى القُمرة التي ستُبقيني آمنة إلى أن يصير الوقت أفضل لكلٍّ منا. كلَّا، لا تفزع يا حبيبي! لقد أخذت القرار، ولن يسعك تغييره. لن يكون الوقت طويلًا يا عزيزي. فذات مرة، وأثناء ترتيب أوراق والدي عثرت بمحض الصدفة على وثيقة «احتمالات الحياة» الخاصة به، والتي أصدرها «مكتب معلومات الحياة» في واشنطن. إن لديه أقل من عشر سنوات ليعيشها. لم يخطر ببالي قط أنني سأحسب ببرودٍ احتمالات وفاة والدي، لكن يجب أن أفعل هذا. بعد عشر سنوات يا دانيال يمكنك أن تأتي إلى الملاذ مجددًا وأن تستعيد عروسك. وستجدني كما تركتني.»

حاول المنغولي جاهدًا، والدموع تغرق وجنتيه الشاحبتين، إثناء الفتاة القوقازية عما تريد. وانضم السيد براون، الذي يكاد لا يقل عنه تأثُّرًا، إلى محاولات التوسل والإقناع.

سألها: «هل سبق أن رأيتِ امرأة مرت بما تقترحين المرور به؟ ستذهب إلى الملاذ، كما ستذهبين، وهي نضِرة يانعة وجميلة، مفعمة بالحياة والطاقة. لكنها ستخرج منه وقد شاخت قبل أوانها، وجسدها ذابل وشاحب ومترهل، وكأنها جثة حية، هيكل عظمي، شبح لذاتها السابقة. فرغم كل ما يقولونه، من المستحيل أن يوجد تعليق مُطلَق للحياة؛ فالتعليق المُطلَق للحياة هو الموت. وحتى في حالة عملية التجميد المثالية سيظل هناك بعض النشاط للوظائف الحيوية، وهي تقضم وتفترس وجود الشخص غير الواعي.» ثم سألها بنبرة قوية مُستعينًا بأقوى حجة يمكن استخدامها مع امرأة: «ألا تخشين أن يؤثر فقدانك لجمالك على حُب وانلي لك بعد عشر سنوات من الفراق؟»

كانت كلارا نيوتن تبتسم الآن، فردت قائلة: «أما عن جمالي المسكين فلا أكترث البتة. لكن حتى هذا الجمال يمكن أن يظل محفوظًا.»

ثم أخرجت الصندوق الذهبي الصغير الذي أعطاها إياه وانلي في غرفة العشاء بمبنى الكابيتول، ثم ابتلعت بسرعة محتوياته كلها.

تحدث وانلي بنبرة تصميم قائلًا: «بما أنكِ عقدتِ العزم على التضحية بعشر سنوات من عمرك، فواجبي أن أفعل المثل، وسأشاركك التضحية وكذلك فرحة الاستفاقة.»

هزَّت رأسها نفيًا في رزانة وقالت: «ليس في الأمر تضحية من جانبي. لكن عليك أن تظل حيًّا. إن أمامك عملًا نبيلًا وعظيمًا يجب القيام به. وإلى أن تتحرر الطبقات الدُّنيا المُضطهَدة من جور الإنسان وقسوته، لن يسعك التخلي عن قضيتهم. أعتقد أن واجبك واضح.»

قال وهو مطرقٌ رأسه: «أنتِ محقة.»

وفي الضوء الشاحب لفجر اليوم الجديد دُهِشَ مسئولو ملاذ التجميد في كامبريدجبورت لوصول مجموعة العُرس. كانت ملامح العريس المُنهكة تتناقض على نحو غريب مع زينته المسائية الكاملة، وبدت الشرائط القرمزية الساطعة وكأنها استهزاء بحزنه. أما العروس، التي كانت ترتدي الساتان الأبيض، فظهرت على وجهها الجميل ابتسامة هادئة. بينما كان صديق العروسين مغمومًا وصامتًا.

ومن دون تأخير مُلئَت أوراق الدخول الرسمية ووُقِّعَت، وجرى توثيق الأمر رسميًّا في سجلات المُنشأة. لوهلة عابرة استكان الزوجان كلٌّ بين ذراعي الآخر، وبعد ذلك سارت الزوجة، وهي لا تزال محتفظة ببهجتها، خلف موظفي المُنشأة نحو الباب الداخلي، بينما أشاح زوجها بوجهه منتحبًا، وهو يضغط بكلتا يديه على عينيه اللتين جف منهما الدمع.

بعدها بلحظة غمرت البرودة الشديدة في قمرة التجميد العروس ودثَّرتها في حضنها الجليدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤