المقدِّمة

قد صارت مصر أولًا بعد أن فتحها المسلمون جزءًا من الدولة العربية؛ دولة الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين؛ أعني ولايةً يرسلون إليها عمالًا من طرفهم، ثم استقلَّت تحت حكم ثلاث عائلات مستقلة؛ وهي الدولة الفاطمية والدولة الأيوبية ودولة المماليك، ثم دخلت في حوزة الترك حين تغلَّب عليها السلطان سليم، فصارت إيالة عثمانية، ولم تزل كذلك إلى الآن، وإن كانت مستقلة استقلالًا إداريًّا من عهد الهُمَام الأكبر محمد علي باشا، وقبل أن نشرع في التكلم على هذه الدول نذكر أولًا كيف نشأت الدولة العربية بظهور النبي فنقول:

إن أمة العرب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عاربة ومتعربة ومستعربة؛ فالعرب العاربة، ويقال لهم: البائدة، هم العرب الأُوَل الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم لتقادُم عهدهم، وهم قوم عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم الأولى. والعرب المتعربة هم بنو قحطان ولد سام بن نوح عليهما السلام، وكانوا يسكنون أولًا جنوب بلاد العرب بجهة اليمن وعُمان، ثم انتشرت قبائلهم في جميع أنحاء الجزيرة سيما بعد سيل العرم؛ فقد كان منهم قبيلة جرهم الثانية الذين نزلوا بمكة من عهد إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام واتحدوا به، فرُبِّيَ في أحيائهم وتزوَّج منهم، وكانت لهم سدانة البيت مدةً من الزمن بعد بنيه وقبيلة خزاعة الذين نزلوا بمكة أيضًا بعد سيل العرم، وأخذوا سدانة البيت من جرهم وأقاموا فيها نحوًا من ثلاثمائة سنة حتى رجعت لبني إسماعيل، حيث أخذها قصيٌّ القرشي من أبي غبشان الخزاعي سنة ٥٠٧م، ثم قبيلتا الأوس والخزرج اللتان سكنتا يثرب ودُعيتا بالأنصار في عهد النبي وغيرهم، وقد كان هؤلاء العرب من بني قحطان يغلب عليهم الميل إلى الحضارة فسكنوا المدن وأسسوا الممالك، فكان منهم التبابعة ملوك اليمن، والمناذرة ملوك الحيرة والأنبار، والغساسنة ملوك الشام، وقد خضعوا بعضًا من الزمن للسلطة الأجنبية؛ فقد كان الغساسنة عمالًا للرومانيين، والمناذرة كذلك عمالًا للعجم الذين تسلَّطوا أيضًا على اليمن مدةً من الزمن بعد طردهم الحبشة منها. وأما العرب المستعربة فهم بنو إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وكانوا يسكنون نجد والحجاز؛ أي أواسط جزيرة العرب، وكان أكثر ميلهم إلى البداوة، فعاشوا قبائل متفرقة في تلك النواحي، ولم يخضعوا قطُّ لسلطة أجنبية، وكانت أشهر قبائلهم قبيلة قريش، فقد بلغت في القرن السادس من الميلاد مبلغًا عظيمًا من الشرف وعلو الكلمة حيث آلت إليهم سدانة البيت الحرام بعد خزاعة حتى صار لهم نوع من السلطة والمشورة على جميع قبائل العرب، وفيهم نشأ النبي من بني هاشم؛ فقد ولد عليه الصلاة والسلام بمكة سنة ٥٧٠ ميلادية، وكانت ولادته يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول، وقد مات أبوه عبد الله بن عبد المطلب بيثرب، وله من العمر شهران، وقيل قبل ولادته بشهرين، فحضنته أمه آمنة بنت وهب سيد بني زهرة، حتى بلغ من العمر ست سنوات، ثم كفله بعد أن ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة جدَّه عبد المطلب بن هاشم سيد بني هاشم وأمير قريش حتى بلغ من العمر ثمان سنوات، فتُوفِّيَ جدُّه عبد المطلب وقام بكفالته عمه أبو طالب شقيق أبيه، فخرج به في تجارة له إلى الشام وعمره ثلاث عشرة سنة، فلما نزلوا بُصْرَى خرج إليهم راهب اسمه بَحِيرَا من صومعته وأخذ النبي من يده وقال لعمه: «سيكون لهذا الصبيِّ شأنٌ عظيم؛ ينتشر ذِكْره في مشارق الأرض ومغاربها.»

ولما كمُل له من العمر خمس وعشرون سنة صار اسمه في قومه الأمين؛ لما جُمِع فيه من الأمور الصالحة، فعرضت عليه خديجة بنت خويلد وكانت ذات شرف ويسار أن يخرج بمالها تاجرًا إلى الشام، فأجابها إلى ذلك وخرج، ثم رغبت فيه وعرضت نفسها عليه فتزوجها وعمرها يومئذٍ أربعون سنة، وأقامت معه إلى أن تُوفِّيت بمكة اثنتين وعشرين سنة، ولم يتزوج عليها في حياتها، وأولاده منها القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وقد ماتوا صغارًا، وفاطمة زوج علي بن أبي طالب، وزينب زوج أبي العاص، ورُقَيَّة وأم كلثوم تزوج بهما عثمان بن عفان واحدةً بعد الأخرى، وأما إبراهيم فمن مارية القبطية وقد مات صغيرًا أيضًا، ولما كمُل له أربعون سنة أرسله الله تعالى للناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وأيده بجميع المعجزات التي أيد بها المرسلين قبله، وخصَّه بالقرآن الكريم الذي هو أعظم المعجزات، المحفوظ من كل طارئ ما دامت الأرضون والسموات، فأظهر الدعوة، فكان أولَّ مَن آمن به خديجةُ زوجته وعليٌّ ابن عمه وزيدٌ مولاه وأبو بكر صديقه، ثم دعا أبو بكر بعضًا من أشراف قريش منهم عثمان بن عفان إلى الإسلام فأسلموا، وجاء بهم إلى النبي فآمنوا به، ثم صار يزداد عدد المؤمنين يومًا فيومًا؛ فأسلم عمه حمزة، وأسلم عمر بن الخطاب وكان من أشد المعارضين له ، فازداد غيظ قريش وصارت كل قبيلة تُعذِّب مَن آمن منها، فأَذِنَ النبي لمن ليس له عشيرةٌ تحميه في الهجرة إلى الحبشة، وأما هو عليه الصلاة والسلام، فقد منع عنه عمُّه أبو طالب إيذاء قريش، فلما مات أبو طالب عمُّه (٦١٩م)، وماتت خديجة زوجته (٦٢٠م)، أصابته قريش بعظيم من أذًى، فعزم على أن يترك مكة للقرشيين، فذهب أولًا إلى الطائف، ثم عاد إلى مكة ومنها هاجر إلى المدينة وهي يثرب بعد أن بايع أهلها بيعتَي العقبة على منعه من أعدائه، فأمر المؤمنين بالمهاجَرة إليها، وخرج هو مع أبي بكر فأقاما ثلاثة أيام بغارٍ في جبل ثور على بعد ثلاثة أميال من مكة جنوبًا، ثم وصلا إلى المدينة بعد ستة أيام، ولحِقَهما بها علي بن أبي طالب؛ ولذا دُعِيَ أهل المدينة بالأنصار وأهل مكة بالمهاجرين، وكانت الهجرة في ٨ ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة من بعثته (١٦ يوليو سنة ٦٢٢م).

وفي السنة الثانية منها كانت غزوة بدر، وفي الثالثة حصلت وقعة أُحُد، وفي الثامنة أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وفُتحت مكة، فأمر النبي المسلمين أن لا يقتلوا فيها إلا مَن قاتلهم، وأمَّن مَن دخل المسجد ومن أغلق على نفسه بابه وكفَّ يده ومَن تعلَّق بأستار الكعبة سوى قوم يؤذونه، وأسلم أبو سفيان، وهو عظيم مكة، من تحت السيف، وفي السنة العاشرة حجَّ عليه الصلاة والسلام حجة الوداع، ثم وُعِكَ ومَرِضَ، وتُوفِّي يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلةً خلت من ربيع الأول سنة ١١ من الهجرة بعد أن نصح الأنامَ، وبلَّغ الرسالةَ إلى جميع العالم، وكاتَبَ بها الملوك وكان عمرُهُ ثلاثًا وستين سنة.

وقد تُوفِّيَ عن تسعٍ من الزوجات غير مارية سُرِّيَّته، أشهرهن عائشة بنت أبي بكر، وجملةُ زوجاته خمس عشرة، جمع بين إحدى عشرة منهن، ولما تُوفِّيَ أراد أهل مكة من المهاجرين ردَّه إليها لأنها مسقط رأسه، وأراد أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته ومدار نصرته، ثم دفنوه بالمدينة في حجرته حيث قُبِضَ، ثم اجتمع المهاجرون والأنصار للمبايعة بالخلافة فبايعوا أبا بكر الصديق، وكان أول من بايعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤