سِن الأسد١
انغلق الباب خلفي. يحدث كثيرًا أن ينغلق الباب خلف أحدنا، ومن الممكن أن نتخيل أيضًا أن يُقفل. أبواب البيوت، مثلًا، توصد بالمفتاح، عندئذٍ يكون الشخص إما بالخارج أو بالداخل. أبواب البيوت أيضًا تتصف بصفة نهائية، ختامية، قاسية. وها هم الآن دفعوا الباب خلفي بقوة، نعم، دفعوا، فهذا الباب سميك للغاية لا يستطيع المرء أن يغلقه بخفة أو بهدوء. باب قبيح يحمل الرقم ٤٣٢. هذه هي السمة المميزة لهذا الباب، أنه يحمل رقمًا، وأنه مصفح بالحديد — هذا ما يمنحه كبرياء وفرادة؛ فهذا الباب لا يستجيب إلى شيء، ولا تؤثر فيه حتى أحر الصلوات.
والآن، ها هم تركوني وحدي مع هذا الكائن، كلا، لم يتركوني وحدي فحسب، بل لقد حبسوني مع هذا الكائن الذي لا أخاف مثله: مع نفسي.
أتعرف هذا الشعور؛ ألَّا تعتمد إلا على ذاتك، أن تُترك وحيدًا مع نفسك، أن تُسلَّم لذاتك؟ لا أستطيع القول إن ذلك شنيع، غير أنه إحدى أكثر المغامرات إثارة التي يمكن أن نمر بها في هذا العالم: أن تقابل نفسك. أن تقابلها كما يحدث هنا، في الزنزانة رقم ٤٣٢: عاريًا، لا حول لك ولا قوة، لا تفكر إلا في ذاتك؛ بلا صفة، دون تشتيت، ودون إمكانية فعل شيء. وهذا هو الأكثر إهانة للكرامة: أن تُسلب تمامًا من إمكانية الفعل. لا زجاجة للشرب أو للتحطيم، لا منشفة للشنق، لا سكين للهروب أو لقطع العروق، لا قلم للكتابة، لا شيء — إلا الذات.
ما أقلَّ ذلك في غرفة خاوية بأربعة جدران عارية. هذا أقل مما يحوزه العنكبوت الذي يفرز دعائم، ثم يخاطر بحياته فوقها، مغامرًا ما بين السقوط في الفراغ أو على الشبكة. أي خيط سيلتقطنا إنْ سقطنا نحن؟
قوتنا الذاتية؟ هل سيمد الرب يده ليلتقطنا؟ الرب — هل هو القوة التي تسمح للشجرة بالنمو وللطائر بالطيران — هل الرب هو الحياة؟ إذن، فهو يلتقطنا أحيانًا — إذا أردنا.
عندما سحبت الشمس أناملها من قضبان الشباك، وزحف الليل من الأركان، ظهر شيء من الظلام وسار في اتجاهي. اعتقدت أنه الرب. هل فتح أحدٌ الباب؟ هل لم أعُد وحدي؟ شعرت بوجود شيء ما، وأنه يتنفس وينمو. أمست الزنزانة ضيقة للغاية — وشعرت أن على الأسوار أن تفسح الطريق أمام ذلك الذي كان موجودًا، والذي أطلقت عليه «الرب».
أنت، يا رقم ٤٣٢، أيها الإنسان الصغير — إياك أن تنتشي من الليل! خوفك معك في الزنزانة، لا شيء غير ذلك! الخوف والليل، لكن الخوف مارد، والليل — إذا اختلى بنا — قد يكون مريعًا كشبح.
يسقط القمر فوق الأسطح ملقيًا ضوءه على الجدران. أيها القرد! الجدران ضيقة كما كانت دومًا، والزنزانة خاوية كقشرة برتقال. ليس للرب – الذي يدعونه حنونًا – وجود. لم يكن هناك، هذا الذي تحدث، لقد كان بداخلك. ربما انبثق الإله منك أنت — إنه أنت! فأنت أيضًا إله، الجميع آلهة، حتى العناكب والأسماك. الرب هو الحياة — هذا هو كل شيء، ولكن هذا كثير جدًّا؛ لهذا لا يمكن أن يكون أكثر من ذلك. لا شيء سوى ذلك، ولكن هذا اللاشيء كثيرًا ما يغلبنا على أمرنا.
باب الزنزانة كان مغلقًا مثل حبة جوز، وكأنه لم ينفتح من قبل أبدًا؛ مثل حبة جوز يعلم المرء أنها لن تنفتح من تلقاء نفسها، ولا بد من فتحها عنوة. هكذا كان الباب. وهكذا سقطتُ — بعد أن تُركتُ وحدي — في القاع اللانهائي. عندئذٍ صرخ العنكبوت في وجهي بنبرة عسكرية: جبان! مزقت الرياح شبكته، وهو، بدأب النمل، راح يغزل شبكة جديدة مصطادًا إياي، بوزني البالغ ١٢٣ رطلًا، بحباله الرقيقة كالحرير. توجهت إليه بالشكر، غير أنه — أبدًا — لم يلحظ ذلك.
وهكذا تعوَّدت تدريجيًّا عليَّ. يثقل الإنسان برعونةٍ على الآخرين، مع أن المرء لا يكاد يتحمَّل ذاته. ولكن شيئًا فشيئًا وجدتني مسليًا ومحتملًا؛ وهكذا رحت أكتشف نهارًا وليلًا أشياء عجيبة في نفسي.
غير أني فقدتُ خلال تلك الفترة الطويلة العلاقة مع كل شيء؛ مع الحياة، ومع العالم. تساقطت الأيام كقطرات وانفصلت عني في سرعة وانتظام. شعرت كيف أصبحت ببطءٍ خاويًا من العالم الحقيقي وممتلئًا بي أنا. وشعرت كيف رحت أبتعد عن هذا العالم الذي دخلته لتوِّي.
الجدران باردة وميتة حتى إني أصبحت مريضًا من اليأس والقنوط. بالتأكيد يصرخ المرء شاكيًا بؤسه طوال أيام، وعندما لا يجيب شيء يشعر المرء سريعًا بالإنهاك. طوال ساعات يضرب المرء بيدَيه على الجدران والأبواب، وعندما لا ينفتح شيء، فإن الأيدي سريعًا ما تدمى، وهذا الألم الصغير يغدو المتعة الوحيدة في هذا القفر.
لا شيء نهائيًّا في هذا العالم؛ فالباب المتوَهَّم انفتح، وأبواب أخرى كثيرة، وكل باب كان يدفع برجل خجول لم يحلق وجهه جيدًا إلى الخارج، ليقف في طابور طويل في فناء، يتوسطه عشب أخضر وتحيط به الجدران الرمادية.
ثم انفجر نباحٌ من حولنا وعلى رأسنا — نباح مبحوح صادر عن كلاب زرقاء تربط بطونَها أحزمة جلدية. جعلتنا الكلاب في حركة دائمة، كما كانت هي في حركة دائمة، وراحت تنبح في وجوهنا مثيرة خوفًا عظيمًا، ولكن عندما يتشبَّع المرء بالخوف وعندما يهدأ، يعرف المرء أن النباح صادر عن أناس يرتدون زيًّا أزرق باهتًا.
درنا في دائرة. عندما تتغلَّب العين على لقائها الأول بالسماء، هذا اللقاء الذي يهزُّ المرء من الأعماق، وعندما تعتاد العين الشمس، عندئذٍ يستطيع الواحد منا أن يلمح وهو يضيق عينَيه أن عديدين يسيرون على غير هدًى وهم يتنفسون بعمق، مثلما يفعل المرء نفسه — سبعين، ثمانين رجلًا ربما.
ودائمًا في دائرة — على إيقاع القباقيب الخشبية، خائفين، ضعفاء، ومع ذلك مبتهجين أكثر من المعتاد لمدة نصف ساعة. لولا الزي الأزرق وهذا النباح في الوجه، لكان باستطاعة المرء أن يمشي متسكعًا هكذا إلى أبد الآبدين — بلا ماضٍ ولا مستقبل، ليس إلا الحاضر المستمتع: التنفُّس والرؤية والمشي!
وهذا ما كان في البداية. إنه عيد تقريبًا، سعادة صغيرة، ولكن بمرور الوقت — عندما يستمتع الإنسان شهورًا بدون أن يخوض معركة — يبدأ الذهن في الشرود. لا تعود تكفيه السعادة الصغيرة، يشعر بالسأم، والقطرات العكرة في هذا العالم — الذي يتحتم علينا أن نعيش فيه — تتجمع وتسقط في كأسنا. ثم يأتي اليوم الذي يغدو فيه الدوران في دائرة عذابًا، عندئذٍ يشعر الإنسان أن السماء العالية تتهكم عليه، وعندما لا يعود الإنسان يشعر بالواقف أمامه والواقف خلفه كأخ وشريك في المعاناة، بل كجثة متحركة ليس لوجودها هدف سوى إثارة اشمئزازنا، وعندما يشعر المرء بأنه محشورٌ بين الآخرين، مثل قطعة من الخشب لا وجه لها، قطعة تجاور غيرها في سور لا ينتهي، آه، عندئذٍ يثيرون لدينا الغثيان أكثر من أي شيء آخر. هذا يحدث عندما يدور المرء طوال شهور في دائرة بين الأسوار الرمادية، وبين مرتدي الزي الأزرق الشاحب الذين يستنفدون قوى المرء بنباحهم.
الرجل الذي يسير أمامي مات منذ فترة طويلة. أو خرج من متحف الشمع بعد أن تلبَّسته روح شريرة غريبة تدفعه إلى أن يتصرف كأنه إنسان طبيعي — مع أنه مات منذ فترة طويلة. نعم! فصلعته — التي يحيط بها الشعر الأشعث الرمادي القذر كإكليل — ليس لها البريق الدهني الذي تتسم به صلعة الرجل الحي؛ حيث تنعكس الشمس والمطر عليها انعكاسًا طفيفًا — لا، لا بريق لهذه الصلعة، إنها منطفئة وذابلة كقطعة قماش. لو لم يكن يتحرك هذا السائر أمامي — الذي لا أستطيع وصفه بالإنسان، تقليد الإنسان هذا — لكان من الممكن اعتبار الصلعة باروكة ميتة. ليست باروكة عالِم أو سكير عظيم — كلا — إنها على أقصى تقدير باروكة موظف بيروقراطي أو مهرج في سيرك، لكنها متماسكة، هذه الباروكة، وربما لا تريد أن تسقط لأنها شريرة فحسب؛ لأنها تدرك أنني، أنا السائر خلفها، أكرهها. نعم، إني أكرهها. لماذا تسير باروكة — أريد أن أطلق على الإنسان كله الآن كلمة «باروكة»، هذا أسهل — لماذا تسير أمامي وتظل على قيد الحياة، بينما صغار العصافير التي لم تتعلم الطيران بعدُ تسقط من سقف البيوت إلى هاوية الموت؟ إني أكره الباروكة لأنها جبانة — وأي جبن! — إنها تشعر بكراهيتي بينما تواصل تسكعها الأبله أمامي، تدور دومًا في دائرة، في دائرة صغيرة للغاية، بين الأسوار الرمادية التي لا قلب لها؛ لو كان لها قلب لرحلت سرًّا ذات ليلة لتحيط بالقصر الذي يسكن فيه وزراؤنا.
منذ مدة طويلة وأنا أفكر في السؤال التالي: لماذا حبسوا الباروكة في السجن؟ أي فعلةٍ ارتكبتها هذه الباروكة التي تجبن عن أن تلتفت خلفها لتنظر ناحيتي، أنا الذي أعذبها طيلة الوقت؟ نعم، إني أعذبها؛ ألاحقها على الدوام، عمدًا بالطبع، وأصدر من فمي صوتًا كريهًا، وكأنني أبصق ربع رطل من البلغم على ظهرها. في كل مرة تصيبها رعدة. رغم ذلك لا تجرؤ أن تستدير استدارة كاملة لترى معذِّبها — لا، إن جبنها يمنعها من أن تفعل ذلك. إنها تستدير في اتجاهي قليلًا فحسب، برقبة متيبسة، لكنها لا تجرؤ على أن تستدير نصف استدارة إلى أن تلتقي عيوننا.
ترى، ماذا ارتكبتْ؟ هل اختلستْ أم سرقتْ؟ أم أنها خدشَت الحياء العام في نوبة هياج جنسي؟ نعم، ربما. نعم، ذات يوم انتشَت بعاشق أحدب، فهجرت جبنها مندفعة إلى حالة شبق سخيف، والآن، ها هي تتسكَّع أمامي، مستمتعة بصمت، ومرتعبة في الوقت نفسه؛ لأنها تجرأت وفعلت شيئًا.
لكني أعتقد أنها ترتعش الآن سرًّا لأنها تعرف أني أمشي خلفها، أنا، قاتلها! آه، من السهل عليَّ أن أقتلها، ومن الممكن أن يحدث ذلك دون لفت انتباه أي شخص. ما عليَّ إلا أن أضع ساقي في طريقها، عندئذٍ ستتعثر بساقَيها النحيلتَين للغاية، ولربما شُج رأسها — ثم يخرج الهواء منه بهدوء مميت وكأنه يخرج من إطار دراجة: بففف … سينفجر الرأس من المنتصف مثل الشمع الأبيض المائل للصفرة، أما قطرات الحبر الأحمر القليلة المتساقطة من الرأس، فستبدو زائفة وسخيفة وكأنها قطرات من عصير توت بري أحمر، فوق القميص الحريري الأزرق الذي يرتديه ممثل كوميدي مطعون بخنجر.
إلى هذا الحد كنت أكره الباروكة، كنت أكره الرجل الذي لم أرَ يومًا وجهه البغيض، والذي لم أسمع صوته أبدًا؛ الرجل الذي لم أكن أعرفه إلا من رائحته العطنة كرائحة مبيد العُث. صوته — هذا الرجل الباروكة — متعب وخافت بالتأكيد، لا يُظهر أية حماسة، صوت ضعيف مثل أصابعه النحيلة الشاحبة. عيناه جاحظتان بالتأكيد، مثل عين العجل، وشفته غليظة ومتهدلة تود أن تأكل طيلة الوقت قطع الشوكولاتة الفاخرة. الباروكة قناع رجل على قيد الحياة، يخلو من العَظَمَة، لا يتحلَّى إلا بشجاعة تاجر الورق الذي كثيرًا ما تظل يداه — الشبيهتان بيدَي القابلة — عاطلتَين عن العمل طوال النهار، إلا عندما تتناولان سبعة عشر «بفنك» مقابل كراسة، ثم تديران العملات بين الأصابع.
كفى، ولا كلمة أخرى عن الباروكة! إني أكرهها كراهية شديدة تدفع بي بسهولة إلى نوبة من نوبات الغضب التي قد تفضحني. كفى. خلاص. لا أريد أن أتحدَّث عنها بعد ذلك أبدًا، أبدًا.
لكن عندما يظل شخص — تود أنت ألَّا تذكره — يسير بركبة مكسورة دائمًا أمامك، على وقع أنغام ميلودرامية، فلن تستطيع أن تتجاهله؛ مثل تهيج جلدي يدفعك إلى أن تحكَّ مكانًا ما في الظهر لا تصل إليه يداك، هكذا تجد نفسك بين الحين والآخر مدفوعًا إلى التفكير فيه، والشعور به، وكرهه.
أعتقد أن عليَّ أن أقتله، ولكني أخشى أن يعمل الميت فيَّ مقلبًا مريعًا، ويتذكَّر فجأة وهو يضحك ضحكة وضيعة أنه كان فيما مضى مهرجًا في سيرك، ثم تدب فيه الحياة وينهض من وسط دمائه. ربما مضطربًا بعض الشيء، وكأنه لم يستطع أن يمنع تدفق الدم مثلما يمسك الآخرون أنفسهم ويحبسون البول. ماشيًا على رأسه سيتنقل في أنحاء حوش السجن، وربما يعتبر الحراسَ حميرًا غبية يستطيع إثارتها والوصول بها إلى حافة الجنون، وعندئذٍ — بعد أن يكون قد أثار الخوف — يقفز إلى أعلى فوق السور، وهناك سيبرز لسانه لنا ويحركه كخرقة تنظيف، ثم يختفي إلى الأبد.
لا يمكن استنفاد احتمالات ما قد يحدث لو فكر كلٌّ منا فجأة في ماهيته وجوهره.
لا تعتقد أن كراهيتي للسائر أمامي، كراهيتي للباروكة كراهية جوفاء ولا سبب لها — آخ، قد يواجه المرء مواقف يشعر فيها أن الكراهية تملأ نفسه، وتفيض حتى تجرف المرء خارج حدود نفسه، حتى إن الإنسان لا يعود يستطيع أن يجد ذاته إلا بالكاد — هكذا يخرِّب الكره النفس.
أعرف أن من الصعب أن تصغي إليَّ، وأن تشاركني مشاركة وجدانية، ولكن عليك أيضًا ألا تصغي إليَّ وكأنك تستمع إلى شخص يقرأ لك من أعمال غوتفريد كِلر أو تشارلز ديكنز. عليك أن تسير معي، تدور معي في الدائرة الصغيرة بين الأسوار القاسية. ليس عليك أن تسير جانبي بالفكر، كلا، بالجسد عليك أن تسير خلفي. عندئذٍ سترى بأي سرعة ستكرهني. إذا سرت معنا مترنحًا (أستخدم الآن ضمير الجمع لأننا نتشارك معًا في المصير نفسه) وسط دائرتنا المشلولة، فستكون فارغًا من الحب لدرجة أن الكراهية ستصعد في داخلك، مثل فقاعات الشمبانيا. وستتركها تصعد داخلك لكي تهرب من هذا الفراغ اللعين ولا تعود تشعر به. وإياك أن تعتقد أنك، بمعدتك الخاوية وقلبك الخالي، ستكون مهيَّأً لأن تأتي بأفعال مجيدة تمليها عليك محبة القريب!
ستترنح إذن خلفي كإنسان خاوٍ من كل ما هو خير، ولشهورٍ ستبقى مرتبطًا بي وحدي، لن ترى سوى ظهري النحيل، وقفاي الأنثوي وسروالي الخالي الذي يجب — حسب علم التشريح — أن يحتوي على شيء ما، ولكنك ستجد نفسك مرغمًا على النظر إلى ساقيَّ أغلب الوقت. كل السائرين في الخلف يحدقون في ساقَي مَن يسير أمامهم، مُجبرين على المشي على وقع خطواتهم وبالإيقاع نفسه، حتى لو كان غريبًا بالنسبة لهم وغير مريح. نعم، وعندئذٍ، عندما تلاحظ أنه ليست لي مشية تخصني، سيصيبك الكره مثل امرأة غيور. هناك بالفعل أشخاص ليست لهم مشية – إن لهم أساليب عديدة، غير أنهم يعجزون عن المواءمة بينها لإخراج نغمة واحدة. أنا واحد من هؤلاء. ستكرهني بسبب ذلك. ستكرهني بسبب وبلا سبب في آنٍ واحد، مثلما يتحتم عليَّ أن أكره الباروكة؛ لأني أسير خلفها. وعندما تتأقلم على خطوتي المرحة، غير الواثقة بعض الشيء، فستكتشف عندما تتوقف قليلًا أنني فجأةً أصبحت أسير بقوة ونشاط، ولكنك ما تكاد تلاحظ طريقة سيري الجديدة، حتى أبدأ بعد عدة خطوات في التسكع بلا رغبة أو همة. كلا، لن تشعر بالسرور ولا بالصداقة تجاهي. لا بد أن تكرهني. كل السائرين في الخلف يكرهون السائرين أمامهم.
ربما سيكون كل شيء مختلفًا لو التفت السائرون في الأمام إلى السائرين في الخلف حتى يتفاهموا، ولكن هذا هو الوضع: السائر في الخلف لا يرى سوى السائر أمامه، فيكرهه. غير أنه يتجاهل السائر خلفه؛ إذ إنه عندئذٍ يشعر بنفسه سائرًا في الأمام. هذا هو الحال في دائرتنا خلف الأسوار الرمادية، وهذا هو الحال، بالتأكيد، في أماكن أخرى أيضًا، ربما في كل مكان.
ربما كان عليَّ أن أقتل الباروكة. ذات مرة أثارت غضبي حتى إن دمي شرع في الغليان. حدث ذلك عندما قمت باكتشافي. ليس شيئًا عظيمًا. إنه اكتشاف صغير جدًّا.
هل سبق لي القول إننا في كل يوم اثنين ندور لمدة نصف ساعة، حول قطعة صغيرة من النجيل الأخضر القذر؟ وسط حوش هذا السيرك الغريب كانت هناك مجموعة شاحبة من عيدان الحشائش، شاحبة، وبلا وجه. مثلنا في داخل هذا السور الخشبي الذي لا يُحتمل. خلال بحثي عن شيء حي، ملون، مرت عيني بلا أمل كبير، بما يشبه المصادفة في الحقيقة، على تلك العيدان الصغيرة التي انكمشت رغمًا عنها وأومأت لي، عندما شعرت أني أتفرج عليها، عندئذٍ اكتشفت بينها نقطة صفراء لا تلفت الأنظار، وكأنها فتاة يابانية مصغرة من فتيات «الغيشا» ترقد على مرج فسيح. أصابتني رجفة بسبب اكتشافي، وأعتقد أن الجميع لاحظ أن عينَيَّ تسمرَّتا وهما تحدقان في هذا الشيء الأصفر، وهكذا نظرت بسرعة وباهتمام بالغ إلى القبقاب الذي يلبسه السائر أمامي، ولكن مثلما تحملق في شخص تتحدث معه، وتحدق في البقعة الموجودة على أنفه فتصيبه بقلق بالغ، هكذا كانت عيناي تطاردان النقطة الصفراء. وعندما مررتُ قريبًا منها، حاولت بقدر الإمكان ألَّا أبدو مهتمًّا بها. عندئذٍ أدركت أنها زهرة، زهرة صفراء. كانت زهرة سن الأسد — زهرة صفراء صغيرة. كانت على بعد نصف متر تقريبًا من الطريق الذي كنا نسير عليه، من الدائرة التي كنا في كل صباح نستنشق فيها الهواء. شعرت بالخوف الشديد، وتخيلت أن أحد لابسي الزي الأزرق سيتتبع مندهشًا نظرتي. ورغم أن كلاب الحراسة كانت مدربةً تدريبًا جيدًا، لكشف أي حركة فردية تحدث داخل السور الخشبي وذلك بالنباح الغاضب، فلم يشاركني أحد اكتشافي. زهرة سِن الأسد الصغيرة بقيت ملكًا لي وحدي.
لأيام قليلة فحسب كنت أشعر بالفرحة الحقيقية. إنها ملكي وحدي. كان عليَّ في كل مرة نُنهي فيها الجولة الدائرية أن أنتزع نفسي منها انتزاعًا. وددتُ لو استغنيت عن حصة الخبز اليومية (أتعرفون ما معنى هذا؟!) في مقابل أن أمتلكها. وتضخم في داخلي شوق يدفعني لأن أمتلك في زنزانتي شيئًا حيًّا، وهكذا سرعان ما أضحت هذه الزهرة، زهرة سن الأسد الصغيرة الخجول، مثل إنسان بالنسبة لي، مثل عشيقة أحبها في السر: لم أعد أستطيع العيش من غيرها — هناك، في الأعلى، بين الحيطان الميتة!
ثم حدث ذلك الشيء مع الباروكة. لقد بدأتُ الأمر بمكر بالغ. كل مرة أمر فيها بزهرتي، كنت أحيد — محاولًا قدر الإمكان ألا أثير الانتباه — عن الطريق بخطوة واحدة في اتجاه العشب. كنت أتكهن بأن غريزة القطيع مستيقظة داخل كلٍّ منا. ولم أكن مخطئًا. السائر خلفي، والسائر خلفه، والسائر خلفه — وهكذا دواليك — كلهم مشوا ورائي في طاعة عمياء. وهكذا نجحت طيلة أربعة أيام في أن أجعل طريقنا قريبًا للغاية من زهرتي البرية، حتى إنه كان بإمكاني أن ألمسها باليد لو انحنيت تجاهها. نعم، ستتسبب فعلتي في موت نحو عشرين عودًا من عيدان العشب الشاحبة موتًا مغبرًّا تحت القباقيب، ولكن من يفكر في بضعة عيدان مدهوسة من العشب عندما يريد أن يقطف زهرة!
اقتربت من تحقيق أمنيتي. على سبيل التجربة تركت جوربي الأيسر ينزلق عدة مرات، وانحنيت مغتاظًا وعلى نحو لا يثير الريبة ثم شددت الجورب لأعلى. لم يلفت ذلك نظر أي شخص. إذن، إلى الغد!
لا تضحكوا عليَّ عندما أقول إنني دخلت الحوش في اليوم التالي بقلب خافق وبيدَين منديتَين ومرتعشتَين. لقد بدا الأمل بعيد المنال، أنْ أجد فجأةً عشيقة في الزنزانة بعد شهور من الوحدة، وافتقاد مشاعر الحب.
كنا قد أوشكنا على الانتهاء من حصتنا اليومية من المشي الدائري على وقع القباقيب الرتيب — كان عليَّ أن أفعلها في الدورة قبل الأخيرة. في تلك اللحظة شرعت الباروكة في تنفيذ ما انتوته، على نحو هو الأكثر خبثًا ودناءة.
كنا — كما قلت — قد بدأنا دورتنا قبل الأخيرة، وكان الزُّرق يصلصلون بسلسلة مفاتيحهم الضخمة مدَّعين الأهمية. رحت أقترب من مكان الجريمة، ومن هناك راحت زهرتي ترسل إليَّ نظراتها خائفة. ربما لم أكن منفعلًا في حياتي مثلما كنت في تلك الثواني. لا يتبقَّى سوى عشرين خطوة. خمس عشرة خطوة، عشر خطوات، خمس …
عندئذٍ حدث ما لا يُعقل! فجأةً ألقت الباروكة — وكأنها ستشرع في الرقص — ذراعَيها النحيفتَين في الهواء، ثم رفعت الساق اليمنى برشاقة حتى لامست السُّرة، ثم دارت على الساق اليسرى إلى الخلف. لن أفهم أبدًا من أين أتت بتلك الشجاعة — رمقتني منتصرة، وكأنها تعرف كل شيء، ثم قلبت إلى أعلى عينَيها الواسعتَين مثل عينَي عجل، حتى بدأ بياضهما يلمع، ثم انهارت وسقطت مثل دمية. آخ، الآن أصبح الأمر مؤكدًا: لا بد أنه كان يعمل مهرجًا في سيرك؛ إذ إن الجميع انفجر في الضحك!
غير أن الأزياء الزرقاء سرعان ما نبحت، وانمحى الضحك وكأنه لم يكن. ثم سار أحدهم تجاه الراقد، وقال بنبرة بديهية تمامًا، مثلما يقول المرء: إنها تمطر — هكذا قال: لقد مات!
لا بد أن أعترف بشيء — بدافع من الأمانة تجاه نفسي. في اللحظة التي تلاقت نظراتي مع الرجل الذي أسميه الباروكة، عندما شعرت بأنه سقط صريعًا، ليس صريعي، لا، بل صريع الحياة — في تلك الثانية — انزاحت كراهيتي، وابتعدت عني كموجة على الشاطئ، ولم يبقَ داخلي سوى شعور بالخواء. انكسرت خشبة من السور، لقد مرق الموت بجانبي ولم تفصل بينه وبيني سوى شعرة. في تلك اللحظات يحاول المرء أن يكون طيبًا. وهكذا لم أضنَّ، لاحقًا، على الباروكة بالنصر المتوهم عليَّ.
في الصباح التالي، كان يسير أمامي رجلٌ آخر جعلني على الفور أنسى الباروكة. كان يبدو كاذبًا كعالم لاهوت، ولكني أعتقد أنه مُنح خصِّيصى إجازة من جهنم، لكي يجعل قطفي للزهرة مستحيلًا تمام الاستحالة.
كان يلفت الأنظار على نحو يتسم بالوقاحة. كلهم كانوا يضحكون عليه ويسخرون منه، حتى الكلاب الزرقاء الشاحبة لم تستطع أن تكبت ضحكة شماتة، كانت تبدو غريبة إلى أقصى حد. من الرأس حتى أخمص القدم كان سمت موظفي الدولة ظاهرًا عليهم — غير أن الهيبة البدائية التي تشعها الوجوه المتبلدة للجنود الموظفين في الجيش باتت مسخًا مشوهًا. لم يقصدوا الضحك، كلا، والله! لكنهم كانوا مرغمين على ذلك. أتعرف ذلك الشعور المتعالي، عندما تكون غاضبًا من شخص، عندما تكونان نموذجَين للخصام، ثم يحدث شيء هزلي يجبر كلًّا منكما على الضحك — مع أنكما لا تريدان الضحك، حقًّا لا! غير أن الوجه يبدأ في الاتساع، ويأخذ تلك الملامح المعروفة التي لا يمكن وصفها إلا بالتعبير الرائع «ضحكة صفراء». هذا ما حدث للزُّرق، وكان ذلك هو الشعور الإنساني الوحيد الذي لاحظناه عليهم في يوم من الأيام. نعم، هذا اللاهوتي كان مثل حشرة العث! ماكرًا إلى حد الجنون — غير أنه لم يكن مجنونًا إلى الحد الذي يقلل من مكره.
رجل اللاهوت (فيما بعد عرفت أنه في الحقيقة حدَّاد، وقد توفي خلال عمله في إحدى الكنائس — الله يرحمه!) كان مجنونًا أو ماكرًا إلى حد أنه كان يحترم هيبتهم احترامًا كاملًا. ماذا أقول — يحترم؟ كان ينفخ الهيبة في الرجال الزرق إلى أن يتحولوا إلى بالون هوائي ذي أبعاد لا يدركها أحد، ولا حتى حاملو الهيبة أنفسهم. حتى وإنْ وجدوا أنفسهم مجبرين على الضحك على حمقه، فإنَّ العجرفة كانت تنفخ سرًّا بطونهم التي تبرز تحت الحزام الجلدي المشدود.
في كل مرة، كان اللاهوتي يمر بكلاب الحراسة التي كانت تقف فاتحة سيقانها مستعرضةً سلطتها، وكلما سنحت الفرصة كانت تنطلق في اتجاهنا لتعضنا؛ وفي كل مرة كان ينحني انحناءة تبدو صادقة للغاية، ثم يقول بكل حرارة وأدب وطيبة: عيد مبارك، سيدي الحارس! كان يقولها على نحو لا يمكن أن يجعل أي إله يغضب عليه، ناهيك عن تلك البالونات الهوائية المتعجرفة داخل الزي الرسمي. كان ينحني في تواضع بالغ ويبدو في كل مرة وكأنه يتجنب صفعة موجهة إليه.
والآن ها هو الشيطان قد جعل من هذا اللاهوتي المضحك الرجلَ الذي يسير أمامي. كان يشعُّ جنونًا ملكَ عليَّ نفسي حتى كدت أنسى عشيقتي الجديدة الصغيرة، سِن الأسد. لم يعُد بمقدوري أن أرسل إليها نظرة حنونًا؛ إذ كان عليَّ أن أخوض صراعًا مجنونًا مع أعصابي كان يدفع بعرق الخوف دفعًا من كل مسام بشرتي. في كل مرة كان اللاهوتي ينحني ويقول جملته «عيد مبارك، سيدي الحارس!» وكأنها قطرة عسل تنساب فوق لسانه، عندئذٍ أبذل جهدًا كبيرًا في التحكُّم في عضلاتي حتى لا أقلده. كانت الغواية عظيمة حتى إني أومأت بلطف عدة مرات في وجه نُصب الدولة التذكارية، ولم أنجح في الإحجام عن الانحناء والبقاء صامتًا إلا في اللحظة الأخيرة.
كنا ندور يوميًّا نحو نصف ساعة في الحوش، أي في اليوم عشرين دورة، بينما كان اثنا عشر زيًّا رسميًّا يحيطون بدائرتنا. كان اللاهوتي إذن ينحني على الأقل ٢٤٠ مرة في اليوم، و٢٤٠ مرة كان عليَّ أن أكون في كامل تركيزي حتى لا أُجن. كنت أعرف أني لو فعلت ذلك لمدة ثلاثة أيام، لَكنت حصلت على حكم مخفف — غير أن ذلك كان يتعدى قدراتي. كنت أعود إلى زنزانتي منهكًا غاية الإنهاك، ولكني كنت طيلة الليل أسير في الحلم أمام صفٍّ لا نهائي من لابسي الزي الأزرق؛ كلٌّ منهم يبدو مثل بسمارك، وطيلة الليل كنت أنحني انحناءة عميقة أمام الملايين من «بسمارك»، بزيهم الأزرق الشاحب، وأنا أقول: «عيد مبارك، سيدي الحارس!»
في اليوم التالي نجحت في أن أترك الطابور يمرُّ أمامي؛ بحيث أصبح رجل آخر يسير أمامي. انخلع قبقابي، ثم اصطدته بصعوبةٍ بالغة، وهكذا عُدت وأنا أعرج إلى داخل السور الخشبي. الحمد لله! أشرقت الشمس من أمامي. لا، بل أظلمت. السائر الجديد أمامي كان طويلًا إلى حدٍّ فظيع، لدرجة أني بطولي البالغ ١٨٠سم اختفيت تمامًا في ظله. هناك إذن عناية إلهية — على الإنسان أن يساعدها بالقبقاب فحسب. أعضاؤه الطويلة طولًا غير إنساني كانت تتداخل في بعضها البعض بشكل عبثي، أما الغريب فهو أنه كان يتحرك إلى الأمام رغم أنه بالتأكيد لم يكن يعلم ماذا تفعل قدماه أو ذراعاه. كدتُ أشعر بالحب تجاهه — نعم، كنت أصلي كي لا يسقط فجأة ميتًا مثل الباروكة، أو أن يُجن، أو يبدأ في الانحناء انحناءات جبانة. دعوت له بطول العمر والصحة العقلية. كنت أشعر بالطمأنينة في ظله إلى الحد الذي جعل نظراتي تعانق زهرتي الصغيرة وقتًا أطول من المعتاد، دون أن أشعر بالخوف من أني بذلك أفضح نفسي. بل إني سامحت هذا الرجل الرائع السائر أمامي، ولم ألتفت إلى أنفه الفظيع، كما أني تكرمتُ ولم أطلق عليه أي اسم مستعار، مثل «الناي» أو «القرموط» أو «عابد الرب». لم أكن أرى سوى زهرتي — ولم يهمَّني في شيء أن يكون السائر أمامي طويلًا وأهبل! كان اليوم مثل غيره. الفارق الوحيد بينه وبين الأيام الأخرى هو أن نبض سجين الزنزانة ٤٣٢ في نهاية النصف ساعة كان سريعًا سرعة جنونية، وأن عينَيه كانتا تظهران أنه يدعي البراءة وأنه لا يحسن إخفاء قلقه.
شرعنا في الدوران الدورة قبل الأخيرة — مرة أخرى دبَّت الحياة في سلاسل المفاتيح. كان السور الخشبي يغفو في أشعة الشمس الضنينة التي بدت وكأنها محبوسة إلى الأبد خلف القضبان.
ولكن، ما هذا؟ أحد الألواح الخشبية لم يكن يغفو على الإطلاق! كان في تمام يقظته، ولانفعاله كان يغير كل بضعة أمتار طريقة سيره. ألا يلاحظ ذلك أي إنسان؟ لا. وفجأة انحنى اللوح رقم ٤٣٢ عابثًا بجوربه الذي انزلق إلى أسفل، ثم توجهت إحدى يدَيه بسرعة البرق إلى زهرة صغيرة مرعوبة، وقطفتها، ولم يلبث أن واصلت الألواح السبعة والسبعون دورتها الأخيرة بخطًى وئيدة كالمعتاد.
أي عجب في هذا؟ صبي متعالٍ، نادم، من عصر أسطوانات الجرامفون وأبحاث الفضاء، يقف في الزنزانة رقم ٤٣٢ تحت كوةٍ في أعلى الجدار، ممسكًا بيدَيه اللتَين تعانيان من العزلة زهرةً صغيرةً صفراء في شعاع الضوء النحيل، زهرة سن الأسد العادية تمامًا. ثم يرفع هذا الإنسان — الذي كان معتادًا على شم البارود والعطر والبنزين والجِن وأحمر الشفاه — الزهرة ويقربها من أنفه الجائع الذي لم يشمَّ طيلة شهور سوى رائحة خشب سريره الصغير والغبار وعرق الخوف — ويمتصُّ بنهم جوهرها عبر الأوراق الصفراء الصغيرة حتى يغدو كله أنفًا.
شيء ما يتفتح داخله، ويفيض مثل ضوء في الغرفة الضيقة، شيء لم يعرفه من قبل أبدًا: حنان وطمأنينة ودفء لا مثيل له. يملؤه هذا الشعور ويجذبه إلى الزهرة.
لم يعُد يتحمل الغرفة، فأغلق عينَيه واندهش، لكن رائحة الطين تتصاعد منك. رائحة الشمس والبحر والعسل، أيتها الحبيبة المفعمة بالحياة! شعر ببرودتها العفيفة، وذكرته بصوت أبيه الذي لم يلتفت إليه يومًا، والذي وهبه الآن عزاءً عظيمًا بصمته — شعر بالزهرة كأنها كتف منير لامرأة داكنة اللون.
بحرص حملها مثل عشيقة وسار بها إلى كوب الماء، ووضع هذا الكائن الصغير المجهد فيه، ثم احتاج إلى دقائق عديدة حتى جلس ببطء بالغ، وجهًا لوجه مع زهرته.
شعر بالاسترخاء التام وبالسعادة، فأزاح عن نفسه كل ما يثقل عليه: السجن، الوحدة، الجوع إلى الحب، قلة حيلته بسنواته الاثنتَين والعشرين، الحاضر والمستقبل، العالم والمسيحية — نعم والمسيحية أيضًا!
أمسى أحد سكان جزيرة بالي السمر، «بدائيًّا» من شعب «بدائي»، كان يخشى البحر والبرق والشجرة التي يتعبَّد إليها. يقدس ثمرة الجوز وسمك القُد والطائر الرنان، ويُعجب بها، ويأكلها، ولا يفهمها. إلى هذا الحد كان متحررًا، ولم يكن مستعدًّا لفعل الخير في حياته مثلما كان الآن عندما همس لزهرته … لو أصبح مثلك …
طيلة الليلة كانت يداه السعيدتان تمسكان بصاج كوبه المألوف. شعر خلال نومه كيف أهالوا الطين فوقه، طينًا أسمر زكي الرائحة، وكيف تعوَّد على الطين، وكيف أصبح مثله، وكيف ترعرعَت زهور منه: شقائق النعمان والأنقولية وسِن الأسد، شموس ضئيلة لا تكاد تُرى.