أخي الشاحب

لا شيء في بياض هذا الثلج. أبدًا. من فرط بياضه كاد يميل إلى اللون الأزرق. الأزرق المخضر. بياض فظيع. أمام هذا الثلج لم تجرؤ الشمس على نشر أشعتها الصفراء إلا بالكاد. لم يكن صباح يوم أحد بمثل هذا النقاء كهذا الصباح، ولكن في الخلفية، وهناك فقط، برزت الغابة الزرقاء الداكنة، لكن الثلج كان جديدًا ونقيًّا مثل عين حيوان. ليس هناك ثلج كان يومًا في بياض هذا الثلج في صباح يوم الأحد هذا. لم يكن صباحُ أحدٍ بمثل هذا النقاء يومًا. العالم، هذا العالم الثلجي في يوم الأحد، كان يضحك.

رغم ذلك كانت ثمَّة بقعة في مكان ما. البقعة كانت إنسانًا يرقد وسط الثلوج على بطنه، منكمشًا على نفسه، مرتديًا الزي العسكري. كومة رثَّة. كومة رثَّة من الجلد والعظم والقماش. تناثرت عليها دماء جافَّة داكنة الاحمرار. شعره ميت تمامًا، كأنه شعر مستعار. منكمشًا على نفسه، صارخًا صرخته الأخيرة وسط الثلوج، نابحًا، أو مصليًا ربما. جندي. بقعة وسط البياض الثلجي الذي لم ترَه عين من قبل، في صباح يوم أحد هو الأكثر نقاءً. لوحة حربية مؤثرة، غنية بالتفاصيل. إغواء للألوان المائية: دماء وثلوج وشمس. الدماء الدافئة تختلط بالثلج البارد، البارد، فيتصاعد بخار. وفوق كل شيء الشمس الحبيبة. شمسنا الحبيبة. كل أطفال العالم يقولون: الشمس الحبيبة، الحبيبة. وهي تسطع فوق الميت الذي يصرخ صرخة مريعة وسط صرخات كل الدُّمى الميتة: الصرخة الصامتة، الفظيعة، الصامتة! مَن منا — انهض يا أخي الشاحب — آهٍ، من منا يستطيع أن يتحمل الصرخة الصامتة التي تلفظها الدُّمى عندما تنقطع أسلاكها، وتسقط وقد التوت وتشوهت على خشبة المسرح؟ مَن، آه، من منا يتحمل صرخة الأموات الصامتة؟ لا يتحملها سوى الثلج، الثلج الجليدي. والشمس. شمسنا الحبيبة.

أمام الدمية التي انقطعت حبالها كانت هناك أخرى سليمة. ما زالت تتحرك. أمام الجندي الميت وقف آخر حي. في صباح يوم الأحد النقي هذا، في الثلج الذي لم ترَ عينٌ بياضًا مثله، ألقى الواقف على الراقد الخطاب التالي الصامت صمتًا مرعبًا:

نعم. نعم نعم. نعم نعم نعم. ضاع الآن مزاجك الرائق، يا عزيزي. مزاجك الرائق دائمًا. لم تعُد الآن تقول شيئًا، أليس كذلك؟ لم تعُد تضحك، أليس كذلك؟ لو تعرف نساؤك حالتك البائسة الآن، يا عزيزي. تبدو بائسًا للغاية بدون مزاجك الرائق. وفي هذا الوضع السخيف. لماذا ضممت ساقَيك إلى بطنك بخوفٍ هكذا؟ آه، لقد أصابتك رصاصة في الأمعاء. لطخت نفسك بالدماء. منظرك مقزز، يا عزيزي. لقد بقعت الزي كله بالدماء. كبقع حبر أسود. حسنٌ أن نساءك لا ترى هذا المنظر. كنت دائمًا تتباهى بزيك. الزي المحبوك على وسطك. عندما رُقيت إلى رتبة عريف لم تكن تسير بحذائك العسكري إلا بعد تلميعه. لساعات كنت تدهنه قبل أن تذهب في المساء إلى المدينة، ولكنك لن تذهب إلى المدينة بعد اليوم. نساؤك يتركن الآخرين الآن … لأنك لن تخرج بعد اليوم، أتفهم؟ لن تخرج بعد اليوم أبدًا يا عزيزي. لقد توقفت عن الضحك بمزاجك الرائق دائمًا. ترقد الآن هنا، وكأنك لا تستطيع العد حتى ثلاثة. أنت فعلًا لا تستطيع. لم تعُد تستطيع العد حتى ثلاثة. وضعك بائس يا عزيزي، بائس للغاية، ولكن هذا حسن، حسن جدًّا. لن تقول لي بعد الآن: «أخي الشاحب ذو الجفن المعلَّق.» لن تقول لي ذلك بعد الآن، يا عزيزي. من الآن لن تستطيع. لن تستطيع أبدًا. ولن يحتفيَ بك الآخرون أبدًا من أجل ذلك. لن يضحك الآخرون عليَّ بعد اليوم عندما تقول لي: «أخي الشاحب ذو الجفن المعلق.» هذا أمر له قيمة كبيرة، أتعرف؟ هذا أمر له قيمة هائلة بالنسبة لي، أؤكد لك. لقد كانوا يعذِّبونني وأنا في المدرسة. كانوا يجلسون عليَّ كالقمل؛ لأن عيني بها هذا العيب الصغير، ولأن جفني متهدل. ولأن بشرتي بيضاء هكذا. بيضاء كالجبن. ها هو صاحبنا الشاحب يبدو متعبًا كعادته، كانوا يقولون. والبنات كن يتساءلْنَ ما إذا كنت قد استغرقت في النوم؛ إذ إن إحدى عينَيَّ كانت شبه مغلقة. نعسان، كن يقلْنَ إنني نعسان. أودُّ أن أعرف الآن مَن منا يبدو نعسان؟ أنت أم أنا، هه؟ من الآن هو «أخي الشاحب ذو الجفن المعلق»؟ هه؟ من يا عزيزي، أنا أم أنت؟ أنا؟

عندما أغلق باب المخبأ خلفه، التفَّ عليه من كافة الأركان عشرة من ذوي الوجوه الرمادية. أحد هذه الوجوه كان وجه الشاويش. هل عثرت عليه أيها الملازم؟ تساءل ذو الوجه الرمادي الذي كان فظيعًا في رماديته.

نعم، عند أشجار الصنوبر. رصاصة في البطن. هل نحضره؟

نعم، عند الصنوبر. نعم، بالطبع. يجب إحضاره. عند الصنوبر.

واختفت الوجوهُ الرمادية العشرة. جلس الملازم عند المدفأة المعدنية وراح ينظِّف شعره من القمل. تمامًا مثلما فعل بالأمس. بالأمس نظَّف شعره من القمل. سمع صوتًا يقول: لا بد أن يذهب شخص إلى الكتيبة. والأفضل أن يكون الملازم، هو شخصيًّا. راح يصيخ السمع بينما كان يرتدي قميصه. طلقات رصاص. لم تصدر من قبل طلقات رصاص. وعندما فتح الباب بقوة رأى الليل. لم يرَ ليلًا بمثل هذا السواد من قبل، قال لنفسه. ضابط الصف هيلر كان يغنِّي. كان يحكي باندفاع عن نسائه. ثم قال هذا اﻟ «هيلر» بمزاجه الرائق دومًا: أيُّها الملازم، لن أذهب إلى الكتيبة. أود بدايةً أن أطلب ضعف كمية الطعام. يمكن للمرء أن يعزف الأكسيليفون على أضلاع صدرك. يا لَبؤس منظرك! هذا ما قاله هيلر. ولا بد أن الجميع قد ابتسم في العتمة بشماتة. كان ينبغي أن يذهب أحدٌ إلى الكتيبة. عندئذٍ قال: إذن يا هيلر، عليك الذهاب لكي تبرد من مزاجك الرائق قليلًا. فرد هيلر: تمام يا أفندم. هذا هو ما حدث. لم يكونوا يقولون أكثر من ذلك. ببساطة: تمام يا أفندم. ثم ذهب هيلر. ولم يعد ثانيةً.

شدَّ الملازم قميصه فوق رأسه. سمعهم يرجعون من الخارج. الآخرون. مع هيلر. لن يقول لي بعد اليوم «أخي الشاحب ذو الجفن المعلق.» همس الملازم. لن يقول لي ذلك أبدًا، من الآن فصاعدًا.

بين ظفرَي إبهامَيه اصطاد قملة. طق. ماتَت القملة. وعلى الجبين — كانت هناك نقطة ضئيلة من الدم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥