صاحبنا موتسارت الصغير

من الرابعة والنصف صباحًا حتى الثانية عشرة والنصف ليلًا. كل ثلاث دقائق يمر الترام السريع. وفي كل مرة كان صوت نسائي يصيح عبر مكبرات الصوت على رصيف المحطة: «ليرتر شتراسه». يحمل الريح الصياحَ حتى يصل إلينا. من الرابعة والنصف صباحًا حتى الثانية عشرة والنصف ليلًا. ثمانمائة مرة: «ليرتر شتراسه.» «ليرتر شتراسه.»

وقف ليبيش عند الشباك. حتى في الصباح. في الظهر. وفي العصر أيضًا. وفي الأمسيات التي لا تنتهي: «ليرتر شتراسه.» «ليرتر شتراسه.»

طيلة سبعة أشهر وهو يقف عند الشباك باحثًا عن المرأة. هناك، على الجانب الآخر، لا بد أن تكون في مكان ما. بساقَين جميلتَين ربما. بنهدَين. وشعر مجعد. يستطيع الواحد منا أن يتخيل شكلها. وأكثر من هذا. ساعات طويلة راح ليبيش يتطلع إلى الناحية الأخرى حيثما كانت تغني. في عقله كانت هناك مسبحة، وبعد كل حبة كان ليبيش يصلي قائلًا: «ليرتر شتراسه.» «ليرتر شتراسه.» من الرابعة والنصف صباحًا حتى الثانية عشرة والنصف ليلًا. حتى في الصباح. في الظهر. وفي العصر أيضًا. وفي الأمسيات التي لا تنتهي: «ليرتر شتراسه.» «ليرتر شتراسه.» ثمانمائة مرة في اليوم. طيلة سبعة أشهر كان ليبيش يقف عند الشباك باحثًا عن المرأة؛ فالمرء يستطيع أن يتخيل شكلها. بساقَين جميلتَين ربما. بركبتَين. بنهدَين. وشعر كثير. طويل، طويل طولًا لا نهاية له، مثل الليالي التي لا نهاية لها. راح ليبيش ينظر تجاهها. أم أنه كان ينظر تجاه برسلاو؟ ولكن برسلاو على بعد عدة مئات من الكيلومترات. ليبيش من برسلاو. هل كان ينظر في المساء تجاه برسلاو؟ أم أنه كان يتعبَّد إلى تلك المرأة؟ «ليرتر شتراسه.» «ليرتر شتراسه.» وكأنه يمر بأصابعه على مِسبحة لا نهاية لها. بساقَين جميلتَين للغاية. «ليرتر شتراسه.» ثمانمائة مرة. بنهدَين. منذ الصباح. وبشَعر مسائي طويل طولًا لا نهاية له، لا نهاية له. من «ليرتر شتراسه» إلى برسلاو. إلى الحلم. إلى برسلاو. إلى برس … برسلاور شتراسه … برسلاور شتراسه … نهاية الخط … نهاية الخط … نهاية الخط … نهاية … نهاية … نهاية … نهاية … برﺳ… لاو …

غير أن باولينه كان يجلس مقوس الظهر على كرسي قصير نافخًا البخار تجاه أظافر أصابعه، ثم يلمعها بمسحها في سرواله. يفعل ذلك دائمًا. طيلة شهور. كانت الأظافر وردية جميلة ولامعة. باولينه مثلي الجنس. كان ممرضًا على الجبهة. كان يتحرش بالجرحى. كان يقول لنا إنه كان يقدم لهم البودينج فحسب. لا شيء غير البودينج؛ ولهذا سُجن عامَين. كان اسمه باول. بالنسبة لنا كان بالطبع باولينه. بالطبع. وشيئًا فشيئًا لم يعد يعترض هو أيضًا على التسمية. عندما رجع من جلسة المحاكمة راح يشتكي لنا بلهجة برلينية: «كل ما ادخرته! كل ما ادخرته كان سينفعني جدًّا عندما أكبر. سينفعني جدًّا.» لكنه سرعان ما نسي كل ذلك. كان يهيئ نفسه للسجن. أصابه العته. ومنذ ذلك الحين وهو لا يفعل شيئًا سوى تلميع أظافره. كان هذا هو الشيء الوحيد الذي كان يقوم به. ومنذ ذلك الحين كان يفعل ذلك علانية. طيلة شهور. وربما لشهور أخرى قادمة إلى أن يخلو له مكان في السجن. سرير لباولينه. حتى ذلك الحين ظل باولينه يلمع أظافره. في الخارج، في الناحية الأخرى خلف السور، كانت امرأة الترام تتغنَّى بالأغنية البطولية ذات الثمانمائة بيت. كانت تغنيها من الرابعة والنصف صباحًا حتى الثانية عشرة والنصف ليلًا. كانت تغني بشعرها المجعد ونهدَيها. كانت أغنيتها السخيفة تتغلغل زنزانتنا، الأغنية اليومية، الأغنية الأبدية، السخيفة: «ليرتر شتراسه»، «ليرتر شتراسه». كان بإمكان واحدنا أن يتخيلها. المرأة المغنية. ربما كانت تعض في أثناء التقبيل من شدة السُّعار. ربما كانت تتأوَّه بحيوانية. (ربما كانت تقول متلعثمة عندما يمد أحدهم يده تحت الجيبة: ليرتر شتراسه؟) ربما اتسعت عيناها واغرورقت إذا غواها أحد في المساء. ربما كان يفوح منها في الرابعة صباحًا رائحة العشب الندي: باردًا، أخضر، ومجنونًا، و…، نعم، و… آخ، هذه المرأة كانت تغني ثمانمائة مرة في اليوم: «ليرتر شتراسه.» «ليرتر شتراسه.» لم يأتِ أحدٌ ويخنقها. لم يفكر فينا أحد. لم يعضها أحد في رقبتها حتى تحتضر، هذه المرأة السيئة السمعة. لا، أبدًا، راحت تغني، امرأة الترام، راحت تغني تلك الأغنية العاطفية الحزينة، الأغنية العالمية، المحلية، هذه الأغنية السخيفة التي لا تُمحى ولا تزول: «ليرتر شتراسه.»

كانت هناك أيام خالية من الدوار أيضًا. أيام أعياد واحتفالات، أيام عطل ببساطة. كانت تلك الأيام بالنسبة لنا هي أيام الاثنين. كان مسموحًا لنا يوم الاثنين بحلاقة الذقن. كانت تلك الأيام هي الأيام الرجالية، أيام تمنح الثقة والانتعاش. مرة في الأسبوع كانوا يسمحون لنا بذلك. في أيام الاثنين. كان الصابون سيئًا، والماء باردًا، وشفرة الحلاقة ثلمة على نحو بائس. (بإمكان المرء أن يركب على هذا النصل حتى يصل إلى برسلاو، كان ليبيش يقول لاعنًا. وكان دائمًا يركب إلى برسلاو. كما كان يفعل مع امرأة الترام.) إلى هذا الحد كانت شفرة الحلاقة ثلمة. غير أن أيام الاثنين هذه كانت أيام أحد؛ إذ كان يُسمح لنا يوم الاثنين بحلاقة الذقن تحت الحراسة. عندئذٍ كان باب زنزانتنا ينفتح، وبالخارج كان تروتنر يجلس وعلى حجره ساعة. كانت ساعة ضخمة، عالية الصوت، مكشوطة الحواف. كان تروتنر برتبة شاويش، ذا معدة مريضة، ٥٤، أبًا، شارك في الحرب العالمية. وعابس الوجه. دوره في هذه الحياة كان عابسًا. بالتأكيد لم يكن عابسًا مع أطفاله، ولكن معنا. معنا كان عابسًا جدًّا. كان هذا شيئًا غريبًا. عندما كنا نحلق الذقن يوم الاثنين، كان تروتنر يجلس أمام زنزانتنا وبيده الساعة، ويدق بكعبَيه (كانا مزودَين بالمسامير، بالطبع) مارشًا بروسيًّا. وكنا لذلك نجرح أنفسنا؛ لأنه كان يدق بكعبيه نافد الصبر. ولأنه كان يضن علينا بالحلاقة؛ فحلاقة الذقن تجعل الإنسان سعيدًا؛ ولهذا كان يغضب عندما نحلق ذقننا. وكان يحدق طيلة الوقت في ساعته المقززة العالية الصوت. وإلى ذلك يدق بكعبيه نافد الصبر المارش العسكري. وفوق ذلك كان جيب مسدسه مفتوحًا. كان أبًا، وجيب مسدسه مفتوحًا. كان ذلك أمرًا غريبًا جدًّا.

لم يكن لدينا بالطبع مرآة؛ فباستطاعة المرء أن يقطع عروق يده بواسطتها. كانوا يضنون علينا بذلك. لم نكن نستحق موتًا بسيطًا هادئًا كهذا؛ ولهذا سمروا قطعة من الصاج اللامع على خزانتنا الصغيرة. إذا كان المرء مضطرًّا فبإمكانه أن يرى صورته عليها، لكنه لن يتعرَّف عليها. لم يكن باستطاعة المرء أن يتعرف على نفسه. قطعة الصاج اللامع كانت مسمرة على خزانتنا الصغيرة. كان لدينا خزانة صغيرة. وفي داخلها أوعية الطعام الأربعة التي نأكل منها. المصنوعة من الألومينيوم. منبعجة. مخربشة. تذكر بكلاب الحوش. يا للوضاعة! مكتوب على أحدها: في الغد يتبقَّى ١٧ شهرًا فحسب. على الآخر جدول بالأيام، عليه صلبان صغيرة كثيرة. وعليه اسم إليزابيت. سبع أو ثماني مرات. على وعائي لم يكن مكتوبًا سوى: دائمًا شوربة. هذا هو كل شيء. كان محقًّا. وعلى وعاء باولينه خربشَ أحدهم ثديَين متهدلَين. وعندما كان يفرغ باولينه من احتساء الشوربة كان يجد الثديَين الضخمَين يحدقان فيه. مثل عيون القدر. لم يكن يحب شيئًا كهذا على الإطلاق، لكنه كان يعد البودينج. وهذه هي العقوبة. ربما لهذا راح جسده ينحل. ربما كان النهدان يشعرانه بالتقزز البالغ.

مساء أمس ألقى لي موتسارت بقميصه الأزرق. لم أعد أحتاجه، قال. عنده اليوم جلسة محاكمة. في الصباح جاءوا لإحضاره. يتهمونني بأني سرقت راديو، قال موتسارت. والآن أقف بقميصه الأزرق أمام المرآة الصفيحية محدقًا في صورتي. باولينه كان يتفرج. كنت فرحًا بالقميص؛ إذ إن قميصي تمزَّق خلال بحثي عن القمل. والآن أصبح عندي قميص آخر. الأزرق الفاتح يناسبني جدًّا. على الأقل هذا ما قاله باولينه. وكان هذا رأيي أنا أيضًا. يناسبني الأزرق. غير أني لم أستطع أن أزرِّر الياقة. كان موتسارت فتًى صغيرًا رقيقًا. رقبته كانت مثل رقبة البنات. رقبتي كانت أكثر بدانة. (التشبيه برقبة البنات كان باولينه يستخدمه دائمًا.) اتركها مفتوحة، قال ليبيش من عند النافذة. عندئذٍ تبدو مثل رجل اشتراكي.

لكن الآخرين سيرَون عندئذٍ شعر الصدر، قال باولينه. هذا يثير، رد ليبيش محدقًا مرة أخرى تجاه الصوت القادم من المكبر.

كان موتسارت بالفعل صغيرًا ورقيقًا إلى حدٍّ لا يُصدق. رقبته كانت مثل رقبة البنات. (يقول باولينه دائمًا.)

عندئذٍ جاءت شربتنا المجرية. كانت تتكوَّن من ماءٍ ساخن وقرون شطة. كانت تسبب الحرقان في المعدة. حتى يشعر الإنسان بالشبع. وهذا شيء ذو قيمة كبيرة، لكن المرء يتقيَّأ مائة مرة.

خلال الأكل عاد موتسارت من محاكمته. أربع ساعات. كان مرتبكًا قليلًا. فتح تروتنر باب الزنزانة وأدخله. غير أنه لم ينزع عنه الأصفاد. اندهشنا. هه، كم أعطوك؟ سألناه نحن الثلاثة في صوت واحد، واضعين ملاعقنا على المائدة في انتظار. آلام في الحلق، قال موتسارت وكان مرتبكًا قليلًا. لم نفهمه.

جراب مسدس الشاويش كان مفتوحًا. كان يقف كالمارد عند باب الزنزانة. رغم أن طوله لا يزيد عن متر وسبعين. هيا، اجمع حاجاتك يا موتسارت. راح موتسارت يجمع حاجاته. قطعة صابون. مشط. المنشفة المشطورة. رسالتان. لم يكن لديه المزيد. كان مرتبكًا.

احكِ لزملائك ما ارتكبته. يهمهم هذا. ارتعب موتسارت. عندما قال تروتنر. ذلك كان يبدو وضيعًا للغاية. بالتأكيد لم يكن يبدو وضيعًا هكذا في بيته. كان موتسارت مرتبكًا.

كنت أرتدي زي شاويش — بدأ موتسارت بصوت خافت تمامًا.

رغم أن … ساعده تروتنر.

رغم أني عريف فحسب.

وماذا أيضًا يا موتسارت؟

كنت أحمل نيشان الفروسية …

رغم أنه مسموح لي بحمل ميدالية الشرق فقط.

واصل يا موتسارت، أكمل.

تجاوزت إجازتي …

بضعة أيام فقط يا موتسارت، هه، بضعة أيام فقط؟

لا، سيدي الشاويش.

وإنما، يا موتسارت، وإنما؟

تسعة شهور، سيدي الشاويش.

وماذا يسمون ذلك يا موتسارت؟ تجاوز الإجازة؟

لا.

ماذا إذن؟

الفرار من الجندية، سيدي الشاويش.

بالضبط يا موتسارت، بالضبط تمامًا. هه، وماذا في جعبتك أيضًا؟

أبعدت كل أجهزة الراديو.

سرقتها، يا موتسارت.

سرقتها، سيدي الشاويش.

كم جهازًا إذن؟ يا موتسارت الصغير، كم جهازًا؟ احكِ. هذا شيء يهمُّ زملاءك.

سبعة.

ومن أين يا موتسارت؟

بالسطو.

سبع مرات يا موتسارت؟

لا، سيدي الشاويش، ١١.

١١ ماذا يا موتسارت؟ تكلم بوضوح.

سطو، ١١ مرة.

في جملة كاملة يا موتسارت، لا تكن خجولًا هكذا. تحدث بجملٍ كاملة. إذن؟

سطوت إحدى عشرة مرة.

هكذا يا موتسارت. هذا جيد. وغير ذلك؟ ليس هناك شيء آخر، شيء آخر يا موتسارت، هذا هو كل شيء؟

لا، سيدي الشاويش.

ماذا غير ذلك يا موتسارت، ماذا؟ ماذا لديك غير ذلك؟

المرأة العجوز …

ماذا يا موتسارت، ماذا حدث معها؟

لقد خبطتها.

خبطتها يا موتسارت؟

دفعتها.

آه. ثم، ثم؟ احكِ لزملائك. هذا شيء يهمهم. من الإثارة أصبحوا خرسًا. إنهم في قمة الدهشة. هيا، يا موتسارت الصغير، ماذا حدث للجدة العجوز؟

ماتت. قالها موتسارت بصوت خافت تمامًا. بصوت أكثر خفوتًا. لم يقُل سوى: ما – تت. كان مرتبكًا للغاية. عندئذٍ تطلع إلى الشاويش الذي استقام عوده. هل جمعت ملابسك؟

نعم.

وكيف ينبغي أن تقولها؟

نعم، سيدي الشاويش.

شد عودك إذن.

وضع موتسارت يدَيه على خياطة السروال. وهكذا فعل الشاويش. عندئذٍ قال: إني ألفت انتباهك، إلا أنه ينبغي عليَّ أن أستخدم السلاح في حالة محاولتك الهرب. كان جراب مسدسه مفتوحًا. تمامًا كما في أيام الاثنين خلال حلاقة الذقن. ثم أصدر الأمر: هيا. أراد موتسارت أن يصافحنا. غير أن الارتباك سيطر عليه ولم يفعل. في الحقيقة كان دائمًا مرتبكًا قليلًا. لم يكن سوى فتًى صغير رقيق. رقبته مثل رقبة فتاة. في بعض الأحيان كان يغني في المساء. عندما تنتشر العتمة. وعندما يطلع النور كان الارتباك يستولي عليه. كان حلاقًا. يداه كأيدي الأطفال. كان يعشق موسيقى الجاز. بملاعقنا وبالضرب على أوعية الأكل كان يعزف موسيقى الجاز ساعات طويلة. إلى أن أطلقنا عليه موتسارت.

وقف عند باب الزنزانة. واستدار، رغم أنه كان مرتبكًا للغاية. من الارتباك احمرَّت رقبته الرقيقة.

قميصك، قلت.

قميصي؟ ثم ابتسم لنا عبر بخار شوربة الفلفل. لديَّ آلام في الحلق، قال. وبسبابته صنع نصف دائرة على طول رقبة زيه. مارًّا بحنجرته. من اليسار إلى اليمين. عندئذٍ أوصد تروتنر الباب بالمفتاح.

في المساء، عندما وضعنا الدلو الذي نقضي فيه حاجتنا خارج الزنزانة، وجد الشاويش فيه طعام الغداء. لم يستطع أن يفهم ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥