يسوع يرفض الاستمرار
رقد غير مستريحٍ في القبر المسطح. القبر ضيق أشد الضيق كالمعتاد؛ لذا وجب عليه أن يثنيَ ركبتَيه. أحس ببرودة ثلجية في ظهره. أحس بها كموتٍ متنامٍ. وجد السماء بعيدة للغاية. بعيدة بعدًا رهيبًا يجعلك عاجزًا عن وصفها بالطيبة أو الجمال. كان بُعدها عن الأرض رهيبًا، وكل هذه الزرقة التي تنثرها لم تقرب المسافة. الأرض قارصة البرودة، وعنيدة في تجمُّدها الثلجي؛ لذا كانت رقدة المرء غير مريحة في القبر الذي كاد يكون في مستوى الأرض. أعلى الإنسان أن يرقد غير مستريح طيلة حياته؟ لا، بل وحتى طيلة موته، وهو ما يستمر زمنًا أطول بكثير من الحياة؟
ظهر رأسان في السماء أعلى حافة القبر. قال أحد الرأسَين مخرجًا من فمه سحابة بخار أبيض كأنها قطعة قطن: «هل القبر مناسب يا يسوع؟» فأخرج يسوع من فتحتَي أنفه سحابتَين رقيقتَين من الدخان الأبيض وقال: «نعم، مناسب.»
واختفى الرأسان من السماء. كبقعتَي حبر أُزيلتا فجأة. دون أثر. لم يعُد هناك إلا السماء ببُعدها الرهيب.
جلس يسوع، فبرز جذعه من القبر قليلًا. بدا من بعيدٍ كأنه دُفن حتى بطنه. ثم ارتكز بذراعه اليسرى على حافة القبر ونهض. وقف في القبر متطلعًا بحزنٍ إلى يده اليسرى. في أثناء نهوضه انفتق القفاز — الذي رتقه حديثًا — عند الإصبع الوسطى مرة أخرى، فبرز طرفها المتجمد. حدق يسوع في قفازه وحزن حزنًا شديدًا. وقف في القبر المسطح تمامًا، وأخذ ينفخ من فمه بخارًا دافئًا في اتجاه الإصبع العارية المتجمدة قائلًا بصوت خافت: «لن أستمر معكم بعد الآن.» قال له أحد اللذَين أطلَّا على القبر محدقًا فيه: ماذا حدث؟ فردد يسوع مرةً ثانيةً بصوت خافت: «لن أستمرَّ معكم بعد الآن.» ووضع إصبعَه الوسطى العارية الباردة في فمه.
– هل سمعت يا شاويش؟ يسوع لن يستمر معنا بعد الآن.
كان الآخر — الشاويش — يحصي المتفجرات في صندوق الذخيرة. زمجر قائلًا: «كيف؟» ونفخ البخار الرطب من فمه في وجه يسوع: «هه، كيف؟»
فأجاب يسوع بالصوت الخافت نفسه: «لا، لم أعُد أستطيع.» كان واقفًا في القبر مغمض العينَين. بدا الثلج في ضوء الشمس باهرَ البياض على نحو لا يُحتمل. أخذ يقول وهو مغمض العينَين: في كل يوم نحفر القبور. كل يوم سبعة أو ثمانية قبور. بل لقد حفرنا بالأمس أحد عشر. في كل يوم نحشر الناس في قبور لا تتسع لهم دائمًا؛ فالقبور شديدة الضيق. في بعض الأحيان يتقوَّسون أو يتصلَّبون من البرودة. يصدر عنهم صرير عندما نحشرهم في القبور الضيقة. والأرض صلبة وثلجية وغير مريحة. سيستمر بهم الحال هكذا طيلة الموت. وأنا، أنا لم أعُد أستطيع سماع الصرير. إنه كصوت تهشم الزجاج. كالزجاج.
– اخرس يا يسوع. هيا، اخرج من الحفرة. ما زال علينا أن نحفر خمسة قبور أخرى.
طار البخار الغاضب من فم الشاويش في اتجاه يسوع، فقال يسوع مخرجًا خيطَي بخار رقيقَين من أنفه: «لا، لا.»
كان يتحدث هامسًا ومغمض العينَين: القبور مسطحة تمامًا. في الربيع ستُخرج الأرض عظامها من كل مكان. عندما تذوب الثلوج. العظام في كل مكان. لا، لا أريد بعد الآن. لا، لا. ودائمًا أنا. عليَّ دائمًا أن أرقد في القبر لأختبر اتساعه. دائمًا أنا. بمرور الأيام بدأت أحلم بهذا. إنه أمر فظيع — أتعلمون؟ — فظيع أن أكون دائمًا مَن ينزل إلى القبور. دائمًا أنا.
تطلَّع يسوع مرة أخرى إلى القفاز الممزَّق، واعتلى القبر المسطح خارجًا منه، ثم سار أربع خطوات في اتجاه كومة داكنة من الجثث التي التوت أعضاؤها، كأن الموت دهم أصحابها خلال رقصة وحشية. ترك يسوع معوله بجانب كومة الجثث في هدوء وحذر. كان بإمكانه أن يُلقي بالمعول الذي لن يتلفَ من جراء ذلك، غير أنه وضعه في هدوء وحذر، كأنه لا يريد أن يزعج أحدًا أو يوقظه.
بربك، لا توقظ أحدًا، ليس مراعاة لهم فحسب، وإنما بدافع الخوف أيضًا. بدافع الخوف. بربك، لا توقظ أحدًا.
واتجه صوب القرية سائرًا على الثلوج التي تصدر صريرًا، مارًّا بكلَيهما دون أن يعيرهما أي انتباه.
يا له من أمر بغيض! الثلوج تصدر الصرير نفسه. كان يرفع قدمَيه ويضعهما على الثلوج كأنه طائر، لا لشيء إلا ليتجنَّب هذا الصرير.
صاح الشاويش: «يا يسوع! عُد فورًا! هذا أمر! عليك مواصلة العمل في الحال.» صاح الشاويش، لكن يسوع لم يلتفت حوله. ومشى كالطائر على الثلوج، كالطائر، لا لشيء إلا ليتجنَّب هذا الصرير. وصاح الشاويش، لكن يسوع لم يلتفت. كل ما صدر منه كانت حركة من يدَيه، كأنه يقول: بهدوء، بهدوء. بربك لا توقظ أحدًا. لم أعُد أريد الاستمرار. لا، لا. دائمًا أنا. دائمًا أنا. وصغُر شيئًا فشيئًا حتى توارى خلف أحد الكثبان الثلجية.
«يجب أن أبلغ عنه»، قالها الشاويش مخرجًا سحابة بخار قطني رطب إلى الهواء الثلجي: «لا بد من الإبلاغ عنه، لا تردُّد في ذلك. إنه عصيان للأوامر. نحن نعلم جميعًا أنه غير متوازن نفسيًّا. لكن لا بد من الإبلاغ عنه.»
وسأله الآخر شامتًا: وماذا سيفعلون معه؟
– لا شيء غير ما يفعلونه الآن، لا شيء غير ذلك على الإطلاق.
وسجل الشاويش اسمًا في مفكرته، ثم قال: لا شيء. سيُعرض على القائد العجوز. يطيب للعجوز دائمًا أن يتحدَّث مع يسوع. سوف يعنِّفه، وسيمتنع يسوع عن الطعام والكلام لمدَّة يومَين. ثم يُطلق سراحه. عندئذٍ يتصرَّف بطريقة طبيعية لبعض الوقت، ولكن في البداية لا بد أن أبلغ عنه … لأن العجوز يطيب له أن يتحدث معه. ولا بد من حفر القبور. ولا بد أن ينزل أحدهم ليختبر اتساعها. هذا الرفض لن يجدي نفعًا إذن.
فسأله الآخر مبتسمًا ابتسامة صفراء: ولم سُمِّي يسوع؟
– آخ، ليس هناك سبب. اعتاد العجوز أن يطلق عليه هذا الاسم لوداعته هذه. العجوز يراه وديعًا. منذ ذلك الحين يُسمى يسوع.
«نعم»، قال الشاويش، ثم راح يعد عبوة متفجرات جديدة للقبر التالي. «لا بد من الإبلاغ عنه، لا بد؛ لأنه لا بد من القبور.»