انتهى … انتهى

في بعض الأحيان يقابل نفسه. يأتي إلى ذاته بخطوات متراخية وأكتاف متهدلة وشعر طال حتى غطَّى إحدى أذنَيه. تصافحا. لم يشدَّ على يده. حيَّاه قائلًا: مرحبًا.

– مرحبًا. من أنت؟

– أنت.

– أنا؟

– نعم.

فسأل نفسه: لمَ تصرخ في بعض الأحيان؟

– إنه الوحش.

– الوحش؟

– وحش الجوع.

ثم سأل نفسه: لمَ تبكي كثيرًا؟

– الوحش، الوحش.

– الوحش؟

– وحش الحنين إلى الوطن. إنه يبكي. ووحش الجوع. إنه يصرخ. ووحش الأنا. إنه يفر.

– إلى أين؟

– إلى المجهول، فلا مفر. حيثما أذهب أقابلني. غالبًا في الليالي، لكني أواصل الفرار. وحش الحب يهاجمني، ووحش الخوف ينبح أمام النوافذ التي تقف خلفها الفتاة بجانب فراشها. يصرُّ مقبض الباب، ضاحكًا ضحكة خافتة. وأفر. ألاحق نفسي دومًا. ومعي وحش الجوع في البطن، ووحش الحنين إلى الوطن في القلب، لكن لا مفر. دائمًا أقابلني في كل مكان. لا أستطيع الفرار مني.

مع نفسه يتقابل في بعض الأحيان. وسرعان ما يعاود الفرار. يمر من تحت النوافذ وهو يصفر، وأمام الأبواب وهو يسعل. أحيانًا يوقفه قلب ويدعوه لقضاء الليل، يد أو قميص منزلق من كتف، من صدر، من فتاة. أحيانًا توقفه إحداهن لقضاء ليلة. وعندما تكون له وحده ينسى الآخر خلال تبادل القبلات، الآخر الذي هو نفسه، فيضحك. ويعاني. جميل أن تؤنسك إحداهن، فتاة ذات شعر طويل وثياب داخلية فاتحة اللون، أو ثياب كانت يومًا فاتحة ومنقوشة بالزهور. وإذا كانت تضع على شفتَيها شيئًا من الأحمر فسيكون ذلك جميلًا. سيكون هناك شيء ملون. وعندما يهبط الظلام فمن الأفضل أن يكون مع إحداهن. عندئذٍ لن يكون الظلام بمثل هذا الاتساع. عندئذٍ لن يكون الظلام بمثل هذه البرودة. سيبدو فمها وعليه أحمر الشفاه كمدفأة صغيرة متقدة. هذا جميل في الظلام. والثياب الداخلية، وإن كان المرء لا يراها، لكن الآخر لا يفارقه حيثما ذهب.

عرف واحدة كانت بشرتها في الصيف كالورد البري. كالبرونز. وشعرها كشعر الغجر. يميل إلى الزرقة أكثر منه إلى السواد. كالغابة كان شعرها مشعثًا. تناثر الزغب الأشقر على ذراعَيها مثل ريش الكتاكيت. وكان صوتها مغناجًا كعاهرات الميناء. كانت ساذجة تمامًا. اسمها كارين.

واحدة أخرى اسمها «ألي»، كان شعرها الذهبي الأشقر يبرق كرمل البحر. وعندما تضحك، كان أنفها يتقوَّس، وتعضُّ على شفتها السفلى، ولكن بعد برهة جاء رجل. كان زوجها.

أمام أحد الأبواب وقف رجل يتضاءل شيئًا فشيئًا. كان نحيلًا أشيب. قال: حسن يا بني. بعدها أدرك أنه أبوه.

أما تلك الفتاة ذات الساق المضطربة الشبيهة بعصا الطبل فكان اسمها كارولا. ساقها كساق غزال. عصبية. عيناها تصيبان بالجنون. أسنانها الأمامية متباعدة بعض الشيء. هذه كان يعرفها.

ليلًا يقول العجوز أحيانًا: حسن، يا بني.

إحداهن كانت بدينة الخصر. كان يتردَّد عليها. تفوح منها رائحة الحليب. اسمها شائع، لكنه نسيَه. انتهى الأمر. في الصباح. تشدو العنادل أحيانًا في دهشة، لكن أمه في مكان بعيد ناءٍ، والأشيب النحيف لم يعُد ينطق؛ إذ لا أحد يجيء.

سارت قدماه من تلقاء ذاتها: انتهى، انتهى.

في الصباح عرفت العنادل أنه انتهى، انتهى.

أسلاك البرق تدقُّ: انتهى، انتهى. والعجوز لم يعُد يقول: انتهى، انتهى.

وفي المساء تضع الفتيات أيديَهن على البشرة المتلهِّفة: انتهى، انتهى. والأقدام تسير من تلقاء ذاتها: انتهى، انتهى.

كان لإنسان أخ. تصادقا، لكن قطعة من المعدن أصابته مخترقة الهواء وهي تطنُّ كحشرة سخيفة. كانت الحرب مشتعلة. صفعَت قطعة المعدن بشرته كنقطة مطر: تفجر الدم كزهرة خشخاش نبتت فجأةً وسط الثلوج. السماء لازوردية، لكنها لم تمتصَّ الصرخة. لم تكن آخر صرخة خرجت من فمه هي: وطني. لم تكن: أمي أو إلهي. آخر صرخة صرخها كانت مريرة حادة: أعطوني خلًّا.١

كانت صرخة لاعنة خافتة: خلًّا. ولم ينطق بشيء آخر. إلى الأبد. انتهى.

لم يعُد النحيف الأشيب، أبوه، يقول: حسن يا بني. لم يعُد. لقد انتهى كل شيء. كل شيء.

١  كان آخر ما نطق به السيد المسيح على الصليب: «أنا عطشان.» فأعطاه الحراس خلًّا، فذاقه وقال قد أكمل. وأسلم الروح. (إنجيل يوحنا ١٩: ٢٨). (م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥