الثلوج الكثيرة الكثيرة
تدلَّت الثلوج من الأغصان. راح الجندي المسلَّح بمدفع رشاش يغني. كان يقف في موقع حراسة متقدم في إحدى الغابات الروسية. وانطلق يغني أغاني عيد الميلاد رغم أننا كنا في بدايات شهر فبراير. يعود ذلك إلى أن الثلوج كانت تعلو أمتارًا. الثلوج بين جذوع الشجر السوداء. الثلوج على الأفرع الخضراء التي يعلوها السواد. الثلوج لم تزل تتدلَّى من الأغصان، كما تراكمت فوق الشجيرات، كالقطن، ثم التصقت بالجذوع السوداء. ثلوج كثيرة كثيرة. والقنَّاص يغني أغاني عيد الميلاد رغم أننا كنا وقتئذٍ في فبراير.
بين الحين والآخر لا بد أن تطلق بعض الطلقات النارية. وإلا تجمَّد المدفع الرشاش. ما عليك إلا أن تطلق في الظلام طلقة إلى الأمام. حتى لا يتجمَّد. فلتصوِّب على الشجيرات هناك. نعم، هناك. عندئذٍ تعرف أن أحدًا لا يختبئ فيها. هذا يطمئن. يمكنك أن تطلق بهدوء كل ربع ساعة دفعة طلقات. هذا يطمئن. وإلا تجمد هذا الشيء. عندما تطلق النار بين الحين والآخر فإن ذلك يكسر بعض الشيء السكون السائد. هذا ما قاله مَن سلمه الحراسة. وأضاف أيضًا: عليك أن تبعد الخوذة عن أذنَيك. أمر من القيادة. على المرء في أثناء الخدمة أن يبعد الخوذة عن أذنَيه. وإلا فلن يسمع شيئًا. هذا أمر، ولكن المرء لا يسمع شيئًا على أية حال. السكون هو السائد. ليس هناك أقل صوت. خلال كل تلك الأسابيع. ولا أقل صوت. إذن، بين الحين والآخر تطلق طلقة. هذا يطمئن.
هذا ما قاله. ثم وقف وحيدًا. أبعد الخوذة عن أذنَيه فانقضت البرودة عليهما بأصابع حادة. كان يقف وحيدًا. الثلوج تتدلى من الأغصان، وتلتصق بالجذوع السوداء المشوبة بزرقة. الثلوج تتراكم فوق الشجيرات. أضحت أكوامًا، ملأت الحفر، ومنها تطايرت. ثلوج كثيرة كثيرة.
وقف وسط الثلوج، فأمسى الخطر خافتًا. وبعيدًا. ومع ذلك فمن الممكن أن يكون رابضًا خلفك، لكن الثلوج احتوته. وقف وسط الثلوج وحده في الليل، لأول مرة يقف وحده، وشعر بأن الثلوج جعلت اقتراب الآخرين خافتًا للغاية. وبعيدًا بعيدًا. امتصَّت الثلوج كل شيء. جعلت كل شيء خافتًا حتى إن النبض علا صوته في الأذنَين. علا النبض علوًّا شديدًا حتى إنه لم يعُد يستطيع الإفلات منه. إلى هذه الدرجة امتصَّت الثلوج كل شيء.
عندئذٍ سمع أنينًا. إلى اليسار. في الأمام. ثم يمينًا. في اليسار مرة أخرى. وفجأة بالخلف. كتم القنَّاص أنفاسه. هناك، مرة أخرى. ثمة تنهيدة. ملأ التنهيد أذنَيه وأصبح طنينًا عاليًا. تنهيدة أخرى هناك. رفع ياقة المعطف. ارتعشت أصابعه وآلمته. شدت الأصابع ياقة المعطف دون أن تغطي الأذن. هناك تنهيدة. تسرب العرق باردًا من تحت الخوذة وتجمد على جبينه. تجمد هناك. بلغت درجة البرودة اثنتَين وأربعين درجة تحت الصفر. من تحت الخوذة تسرب العرق وتجمد. تنهيدة في الخلف. وفي اليمين. في أقصى الأمام. ثم هنا. هناك. هناك أيضًا.
كان القناص يقف في الغابة الروسية. الثلوج تتدلى من الأغصان. والدم يطن طنينًا عظيمًا في الأذن، والعرق يتجمد فوق الجبين. والعرق يسيل من تحت الخوذة. ثمة تنهيدة. شيء ما. أو شخص ما. لقد احتوته الثلوج وامتصته؛ لهذا تجمد العرق فوق الجبين. فالخوف كان في الأذن هائلًا؛ إذ ثمة تنهيدة.
عندئذٍ أخذ يغني. غنى بصوت عالٍ فلم يعُد يسمع الخوف. ولا الأنين. لم يعُد العرق يتجمد. غنى. ولم يعُد يسمع الخوف. غنى أغاني عيد الميلاد. ولم يعُد يسمع التنهيد. غنى أغاني عيد الميلاد بصوت عالٍ في الغابة الروسية؛ فالثلوج تتدلَّى من الأغصان الزرقاء الداكنة في الغابة الروسية. ثلوج كثيرة كثيرة.
فجأة انكسر أحد الأغصان. لاذ القناص بالصمت. استدار. انتزع المسدس. حينئذٍ أقبل الشاويش ناحيته بخطًى واسعة مخترقًا الثلوج.
سأُعدم الآن رميًا بالرصاص، قال القناص لنفسه. غنيت خلال الخدمة. والآن سأُعدم. ها هو الشاويش قد أتى. انظر إلى مشيته. غنيت خلال الخدمة وها هم يأتون ليعدموني. وأحكم قبضته على المسدس.
عندئذٍ وصل الشاويش. استند عليه، وأجال بصره فيما حوله. ارتعش، ثم قال لاهثًا: يا إلهي! اسندني يا رجل. يا إلهي! يا إلهي!
ثم ضحك، وارتعشت يداه. وضحك: لقد سمعت أغاني عيد الميلاد. أغاني عيد الميلاد في هذه الغابة الروسية اللعينة. أغاني عيد الميلاد. ألسنا في فبراير؟ بلى، نحن في فبراير. ومع ذلك فالمرء يسمع أغاني عيد الميلاد. هذا يرجع إلى السكون المخيف. أغاني عيد الميلاد! إليك ألتجئ يا إلهي! اسندني يا رجل! اصمت. هناك. كلا. لا أسمع الآن شيئًا. ثم قال الشاويش لاهثًا: لا تضحك. وتشبث بالجندي. لا تضحك، ولكن ذلك يرجع إلى السكون. سكون منذ أسابيع. ولا أقل صوت. لا شيء. ثم يسمع المرء أغاني عيد الميلاد. شهر فبراير بدأ منذ أيام عديدة، لكن الثلوج هي السبب. إنها متراكمة هنا بكثرة. لا تضحك. أقول لك إن هذا يسبب الجنون. أنت هنا منذ يومَين فحسب، ولكننا هنا منذ أسابيع. ولا أقل صوت. لا شيء. هذا يسبب الجنون. كل شيء ساكن دائمًا. لا أقل صوت. لمدة أسابيع. عندئذٍ يبدأ المرء يسمع أغاني عيد الميلاد. لا تضحك. بمجرد أن رأيتك اختفوا فجأة. يا إلهي. هذا يسبِّب الجنون. هذا السكون الأبدي. الأبدي!
وظل الشاويش يلهث. ويضحك. ثم تشبَّث به. وتشبَّث القناص به هو الآخر. ثم ضحكا معًا. في الغابة الروسية. في فبراير.
أحيانًا يميل أحد الفروع من ثقل الثلوج، ويهبط بين الأغصان الزرقاء الداكنة. ومعه تنهيدة. خافتة تمامًا. مرة في الأمام. إلى اليسار. ثم هنا. وهناك أيضًا. تنهدات في كل مكان؛ فالثلوج تلتصق بالأغصان. ثلوج كثيرة كثيرة.