آدمي …!

كان يوم رأيته آخر مرة في الحقل يبدو مصفارًّا مضعوفًا، لم تبق العلة في وجهه غير أثر ضئيل مما كان يترقرق فيه من نضرة العافية، ولم يدع السقم في بدنه إلا بقية طفيفة مما كان يكمن فيه من فتوة الشباب؛ وكان يجيل الفأس في حركة أشبه بحركة الآلة البخارية نفد وقودها أو كاد، فبدت كأنما أوهنها طول العمل.

وألح عليه الداء فلم يبرح داره أيامًا، وساورتني رغبة قوية أن أذهب لأعوده، ولم أكن أعرف موضع بيته من القرية فاستصحبت من يدلني عليه.

مشيت دقيقتين أو ثلاثًا فيما يسمى في القرية شارع «داير الناحية»، ثم قادني صاحبي إلى حارة لا يزيد اتساعها على ثلاثة أمتار أخذت تلتوي، فأنعطف تارة نحو اليمين وطورًا صوب اليسار وأنا أمر على الجانبين بهاتيك المباني المتلاصقة التي تتشابه في كل شيء، في صغر منافذها وقلتها، وفي حجم أبوابها ووضاعة مظهرها، ثم في هذه الأقراض الجافة المتخذة من روث الماشية والمرصوصة فوق هامتها كأنها الأكاليل!

ولم أكن دخلت من قبل دارًا من هاتيك الدور البائسة، ولم أر إحداها من الداخل إلا بالنظرة العابرة حين أمر بباب مفتوح من تلك الأبواب القبيحة، التي تزين صدر كل منها ضبة أشد قبحًا منه.

ووجدتني في فناء دار ذلك المريض الذي جئت لأعوده، وهو فناء لا يزيد اتساعه كثيرًا على ثلاثة أمتار في مثلها، في ناحية منه مصطبة عليها جرة من تلك الجرار التي يحمل فيها الماء من الترعة؛ وإلى جانب المصطبة موقت من الطين أحسب أنه لم توقد فيه نار من زمن طويل، فلا أثر للرماد فيه، وفي ناحية أخرى من الفناء وقفت جاموسة هي أثمن ما في الدار من متاع، بل هي أصل ما في الدار من متاع، وعليها وحدها يتوقف ما فيها من معيشة، وكانت أرض الفناء إلا مساحة قليلة مبللة بالماء الذي ينساب إليها من فوق المصطبة حينًا، ومن تحت الجاموسة أحيانًا!

ودهشت زوجة المريض إذ رأتنا، أخذتها ربكة حتى ما تجد كلامًا تقوله، وبدت الدهشة في عينيها وفي وجهها وفي ارتعاش أطرافها، وتعثر خطواتها وهي تشير إلى القاعة التي يرقد فيها زوجها … وما كنا لنخطئ تلك القاعة لو لم تدلنا عليها، فلم يك أمامنا غير باب تحكم إغلاقه ضبة عتيقة، وآخر انفرج قليلًا؛ وليس مما يجوز في العقل أن تلك الضبة العتيقة تغلق الباب دون المريض، فليس مما يدعو إلى حبسه سبب ظاهر أو خفي فيما نعلم …

وأسرعت المرأة أمامنا فدخلت قاعة المريض تخبره بمجيئنا، وتألمت إذ أدركت أنه سيحاول القيام، فأسرعت في إثرها لأقسم عليه ألا يفعل، ودخلت ولكني لم أره أول الأمر، فالقاعة مظلمة لا يدخلها نور النهار إلا من كوة صغيرة قرب السقف.

وسمعت صوتًا يئن ويقول في إعياء وهمود بالغين: «كتر خيرك يا سيدي … الحمد لله … الله يخليك يا رب، ولا يريك اللي أنا فيه.»

وحركت نبرات ذلك الصوت نفسي من أعماقها، وخيل إليَّ أني داخل قبر أستمع إلى صوت آدمي عادت إليه الحياة منذ لحظة، فهو لطول عهده بالصمت لا يستطيع إخراج الألفاط إلا في عسر شديد … وكاد يغلب الخيال يقيني، فرحت أستمع إلى ذلك الأنين المؤلم، وفي وهمي أنه يخلص إليَّ من تحت الأرض.

ولكني رأيت الرجل حينما اعتادت النظر في الظلمة عيناي، فسألته عما به فأشار إلى فخذه واسترسل في أنينه، وقالت امرأته وهي تحبس دمعها: «بعيد عنك، طالع له طلوع في فخذه وجسمه سخن زي النار.»

ونظرت فرأيت الرجل ممددًا على التراب، فليس تحت جسده فرش ما ولا تحت رأسه وسادة اللهم إلا خرقة قديمة كورتها له امرأته، وعاد الخيال يغريني أنه ميت بعث، وأنه برز من جوف الأرض، حتى لقد توهمت أني أرى خضرة الكفن فيما تهدل على جسده الهزيل من ثياب!

ونظرت حولي في القاعة، فلم أجد غير بعض الحبال ومنجل وفأس في زاوية، فوثبت إلى ذهني صورة أخرى من صور الموت، فقد كان آباؤنا الأقدمون يضعون مع الميت في قبره متاع دنياه!

وخرجت أستدعي الطبيب وخلفي زوجة المريض تقول في نبرات حزينة: «حصلت البركة، مستعجل ليه يا سيدي، خليك نذبح لك خروف.»

أيها التعساء البائسون! إن بهائم سادتكم الذين يسخرون مثلكم في فلاحة الأرض لأسعد حالًا منكم، ومع ذلك فأنتم آدميون كما أن هؤلاء السادة آدميون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤