رئيس …!

عدت إلى منظاري فوضعته على أنفي، وقد أزلت عنه ما علق به من الغبار والصدأ؛ وما زال لهذا المنظار سحره العجيب، فهو يريني من دنيا الناس ما لا تريني العين المجردة، فلولاه مثلًا ما استوقف بصري هذا الذي أحدثك عنه، والذي أضيف إليه لقب الرياسة العظيم، وما هو من ذوي الجاه ولا العظمة، إذ ما زاد على أنه كبير الخدم بالمدرسة التوفيقية الثانوية!

وأنا يا قارئي العزيز رجل ساذج أو عبيط إذا شئت، فقد لا أرى شيئًا من العظمة ولا من الرياسة في بعض من تواضع الناس على أنهم عظماء ورؤساء، وقد أرى العظمة كل العظمة والرياسة حق الرياسة في رجل كالذي أحدثك عنه، ولست بالضرورة أدعوك إلى أن ترى ما أرى، فأنت وشأنك، وإنما أدعوك لأن تقرأ هذه في غير سخرية مني …

إن «عم أحمد حسين» كما يسيمه الطلاب «والريس أحمد العهدة» كما يدعوه زملاؤه، أو على الأصح مرءوسوه، هو رجل يريني منظاري من خلقه وسمته ما يحملني على أن أرى فيه رئيسًا، بل ورئيسًا محبوبًا إن أردت الحق.

أول ما حببه إليَّ وقاره إذا تكلم أو مشى، ووفرة شعوره بشخصيته والأنفة ممن كان في مثل موضعه تحمل على الإعجاب والمحبة، فكم نسي الأنفة كثيرون هم أرفع درجات منه بحكم العمل، وليس في أنفته شيء مما يرى في غيره من ذوي الرياسات من صلف أو غرور، وإنما هي الكرامة تلمحها في وجه «عم أحمد حسين» حين يُؤمر في صلف أو يُنهر في غير موجب، فتراه عندئذ يرشق آمره أو ناهره بنظرة ثائرة فيها التمرد الصامت والعتاب الذي يشبه الازدراء، وبين يديه ثمانية وثلاثون عامًا قضاها بين جدران ذلك المعهد العتيق، فمثله ليس بالشخص الذي يرهب سطان متسلط، وقد درج تحت بصره في هذا المعهد مئات من رجالات هذا البلد فما أساء إليه أحد بكلمة.

وحببه إلي كذلك حيويته وأدبه وإخلاصه في عمله، وعظيم تأثيره في مرءوسيه وقد علت به السن؛ فما تدور بعينيك في ركن من أركان الدار إلا طالعك منه «عم أحمد» في جلبابه الجيد النظيف، وقد تجعد شعر فوديه الأبيض تحت طربوشه القاتم الطويل الذي يدفعه دائمًا إلى الخلف قليلًا، بحيث تتدلى خيوطه فوق أذنه اليمنى، وكأنما يكسبه هذا الوضع مهابة إلى جانب ما يكسبه منها شعره الأبيض، وطول أعوام خدمته، أو هكذا خيَّل إليَّ منظاري …

ويعجبني منه ذكاؤه وسرعة خاطره وخفة روحه، فهو سريع الفطنة إلى ما يسرك من ألوان الحديث وكيفية الخطاب، فيحدثك وهو ينظر بعينيه اللامعتين إذ تسمع، فإن لمح أثر ارتياحك عى محياك استرسل، وإن آنس فيه كدرة أدار الحديث في لباقة وسرعة حتى يقع على ما تحب.

وأجمل حديثه ما كان عن تاريخ المدرسة وتلاميذها القدماء، فيسمعك أسماءهم كما كانت تسمع في فناء الدار، خالية من ألقاب العزة والسعادة والمعالي وما إليها، وكأنه يريد أن يلقي في روع الطلاب اليوم أن هؤلاء كانوا بالأمس مثل ما هم عليه الآن، وهو إيحاء يحبه الطلاب، ومن يدري فلعل فيهم من يحمل في غد أكبر الألقاب، أو من يستغني بنباهة اسمه عن جميع الألقاب.

على أن أكرم خلال ذلك الرئيس هي وفاؤه لكل من يعمل معهم، وغيرته على سمعة ذلك المعهد الذي يعمل فيه، وإن جميع من عرفوه ليلمسون فيه هذا الوفاء.

وإذا شئت دليلًا على وفاء هذا الرجل، فاعلم أنه يرسل كل عام في عيد الميلاد كتابًا إلى مستر إليوت بإنجلترة، ومستر إليوت هذا كان ناظرًا للمدرسة التوفيقية منذ ربع قرن، وهو لا يملك له اليوم ضرًّا ولا نفعًا؛ ولذلك فوفاؤه لا تعلق به شائبة من تلك الشوائب التي قلما خلا منها «وفاء» في هذه الأيام، وقل في الناس من يوادك إلا لعلة.

ولقد رد عليه مستر إليوت هذا العام بكتاب يخاطبه فيه محاطبة الصديق: أرأيت معي أن «عم أحمد حسين» خيلق بأن يدعى الرئيس، وبأن رياسته خليقة بأن تحب؟ إن كنت في ريب من هذا فأخطر ببالك من تطمئن إلى الاعتراف لهم بالرياسة، وانظر إن كنت تجد فرقًا بينه وبينهم، ومرد الأمر فيما تحكم إلى ذمتك، أما أنا فلست أشك في أنه أكرم عندي من كثيرين، وإذا كان هذا الكتاب الذي أشرت إليه دليلًا على ديمقراطية الناظر القديم، فإن فيه لك شهادة على أن كبير الخدم أحمد حسين جدير بأن يذكر وبأن يحب.

وإليك نص الكتاب كما عربته بقلمي «للرئيس» عن الأصل الإنجليزي:

من ناظر إلى فراش
عزيزي أحمد حسين:

لك جزيل شكري على كتابك الذي تسلمته الساعة، وما يبعث كتاب في قلبي من دواعي السرور أكثر مما تبعثه كتبك التي تصلني في نظام أول كل عام، وإنه لعجيب بعد تلك الأعوام الطويلة التي مرت منذ أن تعارفنا، وهي الآن خمسة وعشرون أن تظل محتفظًا نحوي ونحو أسرتي بذكريات مودة وصداقة، وإن ذلك لدليل على وفائك حقًّا، ولا أزال أتلو كتبك مرة ومرة في سرور بالغ، ولا ينقصني إلا أن نلتقي كما كنا نفعل في الأيام الماضية فأصافحك، ولكن هذا بالضرورة مستحيل فليس لدي إلا أن أصافحك بكتابي وهذا ما أفعله الآن … وكذلك أصافح ذلك الشيخ الكبير عزيزي الحاج عبد القادر، وكم تتوق نفسي إلى رؤية ذلك الرجل الطيب العجوز: وأكبر ظني أنه قد علت به السن جدًّا الآن كما علت بي، ولكن من دواعي الغبطة الشديدة أنه لا يزال حيًّا، وأنك لا تزال على صلة به ولو أنك لا تراه، وأنك تبلغه رسالاتي التي أبعثها إليه عن طريقك، بلغه أني كثيرًا ما أذكره كلما أذكرك، وأذكر جميع الأخيار من الأصدقاء الذين عاشرتهم بالمدرسة التوفيقية في تلك الأيام الطيبة الخالية، ولقد رغبت إلى زوجي أن أقول لك: إنها كذلك لا تزال تذكركم جميعًا في عطف ومودة، وإنها جد فرحة بأنك لم تنسها.

وبعد فإني أسرد عليك شيئًا عن حال أسرتي كما طلبت، وعلى الأخص حال ولدي، إنها والحمد لله بخير، وإننا في أيام الحرب هذه لنشكر الله على أنهما لا يزالان كذلك، وإنه ليؤسفني أنك كنت غائبًا حينما زار أصغر الأخوين المدرسة التوفيقية سائلًا عنك وكذلك يشعر هو بالأسف، ولم يكن لديه متسع ليعاود الزيارة كما ذكرت أنت مع أنه رغب في تلك؛ كان جيمس أصغرهما هو الذي زار المدرسة لا وليم، وهو الآن «ليفتنانت كيرنل» في فرقة المدفعية وهو يحارب على رأس رجاله في جبال إيطاليا. ولقد كان وليم على مقربة من القاهرة حديثًا إذ كان يصحب مستر ونستون تشرشل أثناء المؤتمر الذي عقد في ديسمبر الماضي في مينا هوس، ولم يكن ليستطيع أن يتغيب طرفة عين عن مكانه قرب الأهرام، وعلى ذلك فلم يتمكن من زيارة المدرسة كما كان يحب أن يفعل، ولقد رقي الآن إلى مرتبة نائب مارشال الطيران، وسيذهب لقيادة قوة الطيران الملكية في جبل طارق وهو عمل شائق يتطلع إليه في شغف، وقد يكون ممكنًا أن يطير من جبل طارق يومًا ما إلى القاهرة، فإذا تم ذلك فمن المؤكد أنه يحب أن يراك وأنه لذلك سيزور المدرسة، وآمل أن تكون وقتئذٍ حاضرًا، ولكني لا أستطيع طبعًا أن أذكر متى يفعل ذلك إن كان ثمة ذلك في طوقة، ولوليم الآن طفلان هما حفيداي الحبيبان: بنت في السادسة وصبي في الرابعة، ولقد قضيا هنا عندنا أسبوعين، وكان جميلًا أن نراهما وعلى الأخص ذلك الصبي، فقد ولد في بدء الحرب ولم نره قبل اليوم أبدًا، وهو ولد جميل قوي البنية لن يتعب من اللعب؛ ولذلك تراني أتعب قبل أن يتعب هو إذا ما لعبنا معًا ولما تنته اللعبة، فإن جسمه الصغير أكبر قوة من جسمي الذي هده الكبر.

ليست زوجي على خير ما أحب لها من العافية، أما أنا فعلى خير ما أرجو إذا ذكرت أني أدلف إلى الثمانين من عمري، فلا زلت أستطيع أن أصعِّد في تل قريب حيث أُطل منه على منظر بهيج، وإن كنت بالضرورة لا أستطيع أن أفعل ذلك في مثل ما كنت عليه سالفًا من السرعة، كما أني لا أبلغ من التل ما كنت أبلغه من قبل.

أشكرك ثانيًا على كتابك الكريم وما جاء فيه من عبارات طيبة، وأرسل إليك أطيب تمنياتي وتشاركني في ذلك زوجتي، كما نرسل حبنا ومودتنا لكل من لا يزال يذكرنا، وبخاصة أنت والحاج عبد القادر العزيز.

المخلص
ج. إليوت

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤