الفارس الجديد

له أريحية الفارس ونزعاته وإن لم يكن له جواده ولا درعه؛ ولا تنس يا قارئي أن الدفاع عن الضعيف وإغاثة اللهيف، ومحاربة الرذيلة، وكف عدوان المعتدين ودفعهم عن الناس، كانت كلها في عصور الفروسية صفات لا يكون الفتى فارسًا إذا هو لم يجعلها في مقدمة ما يتحلى به.

وصاحبنا الذي شاءت الظروف أن يكون أول من يستوقف منظاري، وقد وضعته على أنفي بعد أن تركته زمنًا حتى كاد يأكله الصدأ، فارس لا يتكلف ولا يقلد، وإنما تجري الفروسية في نفسه مجرى الدم في عروقه، ولو قد سلف به الزمن وعاش في عهد الفروسية ورزق بسطة في جسمه، لكان في الفرسان واحدهم المعلم وكميهم الذي تعنو لرمحه الرماح.

لقيته في بلد كنا غريبين فيه إن جاز أن يكون المصري غريبًا في بلد من بلدان مصر، ولست أدري لماذا أحسست لأول وهلة أني وقعت منه على أحد هؤلاء، الذين ينجذب إليهم منظاري حتى ما يريد أن يتحول عنهم.

هو فتى في نحو الثلاثين من عمره، صغير الجرم نحيف الجسم، لا يلبس فوق رأسه شيئًا، أو على الأصح لم يكن فوق رأسه غطاء ساعة رأيته، أما ملابسه فهي إنجليزية المظهر والسمت واللون؛ تتألف من سروال واسع رمادي فوقه حلة بظهرها حزام، ولونها مزيج من الأزرق والأخضر، ويتدلى من فوق كتفه اليسرى شريط من الجلد، يمر طرف منه بصدره والآخر بظهره، ويلتقيان تحت ذراعه اليمنى فينتهيان بآلة للتصوير في كيس من الجلد نظيف، فيخيل لمن يراه بعد أن يتبين فروسيته، كأنه يريد أن يصور بتلك الآلة ما يرى من عيوب المجتمع؛ ليجعل منها مادة لدرسه، أو على الأقل كان هذا خيالي.

وهو إذ يتكلم تراه يغمض عينه اليمنى ويفتحها، كأنما يتكلم بعينه وفمه معًا، وتراه يصعر خده ولكنك لا ترى فيه أثر الكبرياء، وتسمع له نبرة هادئة، إذا أنت أضفت إليها حركة عينه ونحافة عنقه وسعة جبهته، ودقة ذقنه ونتوء وجنتيه، وذبول محياه، خيل إليك أنه شيخ يدلف إلى الستين.

وفارسنا هذا ظريف الحديث، له مقدرة عجيبة على تناول كل شيء مما يدور في المجلس، وله كذلك مقدرة عظيمة على خلق الألفة بينه وبين من يحيطون به، فتراه ولم يرهم إلا منذ دقائق، وكأنه يعرفهم منذ سنين، وهو طيب القلب يكاد يصل في ذلك إلى السذاجة، ولعل طيبة قلبه هي التي مكنته من عقد أواصر الألفة بينه وبين الناس، ثم إن فيه شيئًا آخر لا أدري ما هو، يجعلني لا أتمالك نفسي من الضحك لكل ما يبدر منه من إشارة أو حديث، والحق أنه في مجموع شكله يدعو إلى نوع من الضحك، سمه ما شئت إلا أن تربطه بالسخرية بسبب من الأسباب.

ضمتني وإياه حلقة من الرفاق في مقهى، فسرعان ما ظهرت لنا ناحية من فروسيته، فلقد كان أحدنا يتلو صحيفة ونحن نستمع فجاء أحد الباعة وصرخ في حلقتنا صرخة وهو يعلن عما معه، فوثب إليه الفارس وعنفه في لهجة عجبت معها كيف صبر عليها ذلك البائع، وقد كان من الطول والعرض بحيث لو لطم صاحبنا لطمة ما استطعنا أن نقفه من التدحرج مجتمعين؛ وراح الفارس يسمعه درسًا في الأدب، وكيف أنه يكون بغيضًا بصوته الغليظ، فضلًا عن قلة ذوقه، إذ هو يرى الجالسين منصتين إلى من يقرأ لهم، ثم يصرخ فيهم مثل هذه الصرخة المفزعة.

وانصرف الرجل وهو يبتسم، ولكنه لم يكد يبتعد حتى جاء ماسح الأحذية، فما انفك يدق صندوقه بممسحته دقًّا مزعجًا وهو يردد في صوت أشد إزعاجًا قوله: «بويه»، «ورنيش»، وشاء له سوء حظه أن يقف أمام الفارس، وينظر إلى حذائه ويدق له الصندوق، وإذ ذاك هب الفارس مغضبًا وراح يرجه من كتفه ويقول له: لست بالأصم ولست أنت بالأعمى، وإذا كنت ترى حذائي أنظف من وجهك، ففيم هذا الزعيق البغيض؟ ومضى الرجل وهو يتمتم، ولست أدري مم خاف، ولعله ظن أن جرأة الفارس هذه على نحافته مردها إلى أن ما يحمل تحت إبطه شيء آخر غير آلة التصوير.

ومضى الفارس على هذا النحو يزجر باعة الصحف، وباعة اللب وباعة اليانصيب، إلى أن رأيناه يقفز إلى جماعة من أهل الريف على مقربة من حلقتنا، ولم نتبين أول الأمر ماذا ارتكبوا من ذنب، وقد كانوا خافتي الأصوات إلى أن سمعناه يقول لهم مغضبًا: المجلِس بكسر اللام هو الصحيح فلم تقولون: المجلَس؟ هذا عيب يا ناس، أتموت لغتنا في بلادنا؟ واعتذر أحدهم مندهشًا باسمًا، وعاد الفارس إلى موضعه حيث أخرج دفترًا صغيرًا وقلمًا، أظنه أضاف فيه هذا الخطأ إلى ما يضايقه من أخطاء.

ووثب الفارس إلى جماعة كانوا يلعبون النرد، ويضحكون في جلبة ويدقون الصندوق دقات عنيفة بأحجار اللعب، فعنفهم قائلًا: ما ذنب الجالسين حتى يعذبوهم بهذا العجيج وهذا الضجيج … ونظروا إليه وتخاطبوا بأحداقهم ورفع أحدهم سبابته إلى فوده خلسة، وهز الآخرون رءوسهم وتظاهروا بالطاعة، فما استدار الفارس حتى أخرج له أحدهم لسانه في حركة بين الضحك والغضب، وانطلقت ضحكاتهم ولكنهم قطعوها وأخرج الفارس دفتره وأخذ يكتب في غيظ.

ودنوت من الفارس وقلت له إنه يكلف نفسه شططًا بما يفعل، فلامني بنظرة وقال: نحن المتعلمين مسئولون عن هذه العيوب الشائعة في المجتمع، ولو أننا حاربناها لما استشرت فيه على هذا النحو المنكر، وهكذا يأبى الفارس إلا أن يقاوم ما يرى من عيوب بيده ولسانه وقلبه جميعًا، لا يقنع إلا بأقوى الإيمان، وهذه ناحية كما ترى يا قارئي العزيز من أهم نواحي فروسيته.

وكنا قد تواعدنا عند انصرافنا أن نشهد تمثيل رواية في أحد مسارح المدينة، وجاء المساء فالتقينا في المسرح، وجلس وسطنا الفارس، وسرعان ما اكتظ المكان على سعته؛ ورأيت الفارس قبل بدء التمثيل يدور بعينيه هنا وهناك، وهو لا يفتأ يتوثب في مكانه، ولا تني يده عن الكتابة في دفتره ما يكاد يرده إلى جيبه حتى يخرجه فيكتب، ثم يعيده ليخرجه، وكم وددت لو رأيت ما كتبه، وبلغ به الغيظ أن كان يحدث نفسه بين حين وحين قائلًا: «شوف السافل … شوف المنحط.» وما أشك أنه ما كان يحجم — لو أنه استطاع — أن يذهب إلى هؤلاء السفلة والمنحطين، الذين يراهم من حيث لا يرونه، فيذيقهم بأسه.

وراعنا أن نرى الفارس في فترة الاستراحة يحاول أن يقفز من فوق المقاعد، وهو يصيح بأحد الأفندنة على مقربة منه قائلًا: «يا منحط، يا سافل يا وقح.» والأفندي يرد عليه تحياته بأحسن منها! … وخفنا أن يفلت منا الفارس أثناء التمثيل، فظللنا ممسكين به، وكانت الرواية مضحكة، وكان ما يصنع الفارس الهمام أشد إثارة للضحك حتى لقد آثرته على التمثيل، وظل الناس جميعًا يضحكون من القصة إلا فارسنا، فقد كان الدم يغلي في عروقه من الغيظ، وهو يقول: «مثل هذا الوقح لا يليق به أن يحضر المجتمعات، ألا يرى أن من خلفة سيدات يجلسن؟ … دعوني من فضلكم، أين البوليس، اتركوني أؤدب هذا السافل …»

ورأينا ذلك الأفندي يلطم شابًّا من الباعة مر به لطمة على وجهه دوت في أرجاء القاعة، وتبينا أن ذنبه لم يعد أنه وطئ بقدمه الحافية على غير قصد نعل هذا الأفندي ولم يعتذر، وانهال الأفندي على البائع المسكين وشد شعر رأسه في عنف حتى لوى عنقه، وجعله يصرخ مستغيثًا، ولا تسل عن الفارس فقد أخذ يحاول الإفلات منا بكل ما في وسعه، وهو يعض على يديه من الغيظ.

وما إن انتهى التمثيل حتى رأينا الفارس يثب إلى ذلك البائع، وكان طبيعيًّا أن يجد فيه حليفًا يستعينه على الأفندي وتحمس البائع، فأطلق في الأفندي لسانه بالشتم المقذع، ولكن الناس رأوا اثنين من الشرطة يشدان الوثاق على البائع، ويوسعانه ضربًا وتبين للناس أن هذا الأفندي المتجبر الباطش من ذوي الجاه والسلطان الذين يجب على الجمهور الإذعان لهم طوعًا أو كرهًا، فقد كان حضرته «كونستبل» البندر، وما أدراك ما كونسابل البندر، وإن كان في غير لباسه الرسمي.

على أن الفارس لم يحجم، وهل كان لمثله أن يحجم؟! فتقدم من الكونستبل وسط الزحمة يسمعه كلمات القانون والحرية الشخصية والمساواة بين الأفراد، ويسأله ألم يكفه ما كان من استهتاره بالآداب العامة، وما خلق مثله إلا لحماية الآداب؟ ولم يفرغ من هذا حتى كان «الكونستبل» قد أشار إلى الجنديين إشارة خفية، فانهالت لكماتهما على رأس الفارس في غير توان أو توقف، وقد أمسكا بخناقه في غلظة وقسوة على ضآلة جرمه ونحافة جسمه، وإن كان لقوي الروح، لا يطيش في الملمات صوابه وشققت في جهد طريقي إلى الشرطيين، وكانا قد أبصراني نهارًا في زيارة رئيسهما الضابط في غرفته، فصرخت فيهما مهوشًا عليهما أعلمهما أن هذا الفارس يشغل وظيفة لها خطرها في الحكومة، فأجفلا وتركاه وإنه ليلهث إذ يخاطبني: أترى جرحًا في عيني؟ إني أحس مثل لهب النار فيها، انظر هذه أخلاق البوليس عندنا، لولا خوفي على الفوتغرافية أن تضيع في الزحام لعلمت هذين السافلين ومن أمرهما كيف يحترمون القانون؛ وأخرج الفارس منديله ووضعه على عينه وهو يكتم ما يحس من ألم شديد؛ ثم دس الفارس منديله في جيبه وأخرج دفتره وقلمه، فكتب وكان ينظر إلى ساعته في ظهر يده، ولعله كان يثبت اللحظة التي وقع له فيها هذا الحادث الخطير.

وصحبنا الفارس إلى مقر الشرطة، وجاء «الكونستبل» يعتذر إليه اعتذارًا فيه كل معاني الذلة والمسكنة، وقد انخلع عنه جاهه أمام رئيسه، وعجبنا أن نرى الفارس وقد أبت عليه أريحيته إلا أن يغفر «للكونستبل» اعتداءه على الرغم مما كان يقاسيه في عينه من ألم، وعلى الرغم مما أصابه على أعين الناس، ففعل ما تقضي به الفروسية، وتنازل عن شكواه، وهل كان وهو فارس يستطيع أن يفعل غير ذلك؟ وتشفع الفارس الهمام للبائع فأطلق سراحه وكان الشرطة قد أدخلوه «الحجز»؛ ليكيلوا له الضرب كيلًا في ظلمة الليل، وخرج المسكين ورجال الشرطة يمنون عليه بأنهم أطلقوه، ولقد ناله في الطريق وفي المسرح من الصفع واللكم والوكز ما لو نزل على ثور لهده.

ومضى الفارس إلى داره ومنديله على عينه وفوتغرافيته تحت إبطه، ودفتره المزدحم بالملاحظات والمخاطرات في جيبه، وإنه لفرح بما أحرز طول يومه من انتصار، فخور بما قاوم من منكر، رضي النفس بما قُدم بين يديه من اعتذار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤