صاحب المذهب

سلك الماركسيون في ترجمة زعيمهم بعد وفاته مسلكين متناقضين: عدلوا من أحدهما إلى الآخر بعد شيوع ذكره واستفاضة أخباره ونشر الكثير من الوثائق المطوية عن حياته وعلاقاته بأسرته وصحبه وزملائه، مما يحتاج إلى تفسير أو توفيق بينه وبين المنزلة الرفيعة — بل المقدسة — التي أرادوا أن يرفعوه إليها على إنكارهم لكل قداسة إنسانية أو إلهية.

سلكوا في بداءة الأمر مسلك التقديس والتطويب، ثم عَدَلوا عنه إلى الاعتراف بالنقائص والأخطاء مع الاحتراس والمراوغة، ولم يلبثوا أن توسعوا في الاعتراف بما لا بد منه مع تطاول الزمن وتداول الأخبار عن الخفايا والأسرار، وكان اعتذارهم الذي يدورون حوله كلما صدم الناس بِخَفِيَّةٍ جديدة من خفاياه: إنَّ شخص الرجل شيء ومذهبه شيء آخر، وإنَّ أعمال الرجل الاجتماعية بمعزلٍ عن حياته الفردية، تطبيقًا لرأي «كارل ماركس» نفسه حيث يقول: إنَّ «الشخصية الفردية» ناقلة لا أثر لها في المجتمع ما لم يكن لها تمهيد أو مساندة من الظروف الاجتماعية.

ولم يلبثوا مرَّةً أخرى أن توسعوا في الاعتراف بالنقائص والأخطاء عن قصد يدارونه تارةً ويعلنونه تارةً أخرى، إذ كانوا يشعرون بالحاجة إلى التحلل من قيود المذهب كما وضعه «كارل ماركس»، كلما تعثروا في تطبيقه وتتابعت العقبات أمامهم في كل خطوة من خطوات التنفيذ والاختيار، ولا يزالون يترخصون في تطبيق المبادئ الماركسية، ويلتمسون لذلك المعاذير من مصاعب الابتداء واستحالة الطفرة وضرورة الأناة والاعتدال في أطوار الانتقال، وينسون أنهم على طول الزمن يبتعدون من النتيجة التي يريدونها، وتتسع الشُّقة بينهم وبينها في كل عام وفي كل مشروع من المشروعات التي يقيمونها على قواعد المذهب كما يقولون.

ولقد كان غاية ما يُنْتظر من أتباع الماركسية المؤمنين بقواعدها أن ينتقلوا من التقديس والعصمة إلى نفي التقديس والعصمة وكفى.

كان حسبهم أن يصبح «النبي المرسل» غير مقدس وغير معصوم لو وجدوا في ذلك مقنعًا للعقول التي تفاجأ في كل يوم بعيبٍ من عيوب «النبي المرسل»، لا يكفي لقبوله نفي القداسة والعصمة والنزول به درجة أو درجتين دون مرتبة الكمال.

كان حسبهم هذا لولا أن عيوب الرجل تنزل به دون ذلك كثيرًا في كل تقدير، فليس قصاراه أنه كامل يأتيه النقص عرضًا في بعض الحالات والفلتات، بل حقيقة أنه ناقص يتحول فيه النقص إلى قوة بحكم الظروف.

من مترجميه الذين واجهتهم هذه الضرورة «أوتو روهل» صاحب كتاب «كارل ماركس: حياته وعمله» الذي ترجمه إلى اللغة الإنجليزية «إيدن» و«سيدار بول».١
فهذا الكاتب يدين بالمذهب الماركسي ويؤمن بالتفسير الاقتصادي للتاريخ، ولكنه لا يرى مناصًا من تفسير نقائص أستاذه باختلال جسده، فيقول بنص عبارته كما ننقلها من الترجمة الإنجليزية: «إنه كان نموذجيًّا فيما كان يعانيه من اعتلال نشاطه الروحي،٢ وكان على الدوام متقلبًا مبتئسًا حقودًا، لا يزال في تصرفه عرضة لتأثير سوء الهضم والانتفاخ وهياج الصفراء، وكان موسوسًا٣ يغلو كجميع الموسوسين في الشعور بمتاعبه الجسدية، وكما كان يعتمد في الطعام الذي لا ينتظم فيه على الاستعانة بالتوابل والأبازير والمخللات وبيض السمك المملح وما إليها، كان يستعين بأمثال ذلك في عمله وعلاقاته بغيره، ولا يخفى أن الأكل السيئ عامل سيء وزميل سيء في الوقت نفسه، فإما أن يحجم عن الأكل أو يفرط فيه، وإما أن يكسل عن العمل أو يرهق نفسه فيه بما لا يطيقه، وإما أن ينقبض عن معاشرة الناس أو يتخذ له صديقًا من فلان وعلان وبدران وزيدان، هؤلاء على الدوام متطرفون لا تحتمل معداتهم ولا رءوسهم ولا أرواحهم٤ مفاجأة الاختلاف، وكذلك كان «كارل ماركس» في صباه عاجزًا عن المثابرة على دراسة ترشحه لعمل يُعِينه على مطالب العيش. وأصبح في كهولته عاجزًا عن المثابرة على جهد من الجهود العقلية يتكفل بغذاء الشخصية كلها، فلم تكن له صناعة ولا مكتب ولا شاغل منتظم ولا وسيلة من وسائل المعيشة، وما من شيء لديه إلا وهو موكول إلى المصادفة والارتجال والاضطراب، وبدلًا من الانتظام في سماع المحاضرات في أثناء دراسته ليستعد بذلك للعمل المنتظم راح يحشو معدته بأخلاط التوابل الفلسفية والأدبية، وتعاورته على الدوام قلة الصبر على رياضة النفس وضعف الإحساس بالنظام ونقص القدرة على الموازنة بين المورد والمصروف، وكانت تنقضي الشهور ولا ينشط لكتابة سطر واحد، ثم يقذف بكل قواه على عمل جسيم كأعمال المردة والجبابرة، فيسلخ الليالي والأيام ملتهمًا بالمطالعة مكتبات كاملة، راصًّا من حوله أكداسًا من القصاصات، مالئًا بالتعليق والتدوين كراسات فوق كراسات، تاركًا خلفه آكامًا من الكتابة المخطوطة يبدؤها ويهملها، ولا ينتهي منها إلى نتيجة ولا محصول».

•••

على هذه الصورة يتمثل «كارل ماركس» كاتب يدين بالمادية الثنائية وبالتفسير الاقتصادي للتاريخ، ثم يمضي في سرد هذه العيوب في إمام مذهبه ليقول: «إنه قد استمد من الضعف قوة، واستخرج من النقص تعويضًا يغطي عليه.»

ونعتقد أن الكاتب لم يكن ليسترسل في تصوير إمامه على هذه الصورة، لو أمكنه أن يسكت عن الجانب المهم منها وهو عجزه عن العمل المنتج ونزوعه إلى هدم ما يبنيه بيديه. ولكن الكاتب لا يستطيع أن يدعي ﻟ «كارل ماركس» حبًّا أشد من حب أبيه، وليس في وسعه أن يمحو الوثائق التي تحتوي فيما احتوته أقوال أبيه عنه وكتاباته إليه، ومنها رسالة يقول فيها «ماركس» الأب: «إن بعض الناس ينامون ملء عيونهم إلا أن يستدعيهم السرور إلى سهر الليل كله أو بعضه، على حين يقضي ولدي الموهوب الذكي «كارل» جملة لياليه مرهقًا جسده وعقله في دراسة لا لذة فيها، معرضًا عن جميع الملهيات في طلب المشكلات الغامضة؛ ليهدم غدًا ما بناه اليوم، ويرى بعد ذلك كله أنه أضاع ما لديه، ولم يستفد شيئًا مما لدى الناس.»٥

أما هذا الخلل الملازم ﻟ «كارل» من مطلع حياته فله عند «أوتو روهل» تعليلات كثيرة، منها مرض الكبد المتأصل واعتلال بنيته اعتلالًا ينبئ عن وهن أصيل في التركيب، ومنها انتسابه إلى الملة اليهودية في بلاد تنظر إلى هذه النسبة كأنها وصمة اجتماعية، ومنها آفة الولادة الأولى، أو ما ينتاب تربية الولد الأول من عوارض التدليل والانفراد. ويفتتح «روهل» فصله عن «ماركس» الرجل بتزكية المذهب المادي في تفسير حالة الفرد وتفسير أحوال الجماعات على السواء، فيقول مبتدئًا بتقرير هذه العقيدة: «وإذا كان التفسير المادي للتاريخ كما هو في الحق أصدق تفسير لمجرى الحوادث التاريخية، فمن الواجب ألا يصدق على الجماعات التي تتولى تنفيذ تلك الحوادث وحسب، بل ينبغي أن يصدق كذلك على الأفراد الذين تتجسم فيهم ظواهرها، إلا أن تطبيق التفسير المادي للتاريخ بالنسبة للجماعات مهمة من مهام الدراسات الاجتماعية. بخلاف تطبيقه على الأفراد فإنه مهمة من مهام الدراسات النفسية.»

وخلاصة المقارنة بين حالة «كارل ماركس» وحالة البيئة التي نشأ فيها أن «كارل ماركس» الفرد لا يعنينا بمعزلٍ عن آرائه الاجتماعية وعن الظواهر التي عملت على إخراج تلك الآراء.

وهذه هي الحيلة التي أراد الكاتب المؤمن بالمادية التاريخية أن يحتال بها على إغفال عيوب إمامه في معرض الكلام على مذهبه، ولعلها حيلة تنفع كل قائل غير القائلين بتفسير عقائد الناس وآرائهم بأحوالهم المادية ومطالبهم الجسدية، فإن الذي يعتقد أنَّ الديانات والأخلاق والآراء إنما هي صدى المطالب الجسدية التي يحسها الناس، لن يستطيع التخلص بهذه السهولة من أثر البنية في تكوين آراء صاحبها، ولن يستطيع أن يزعم أنَّ هذه الآراء تأتي سليمة مطهرة من نفس مريضة مختلة مطبوعة على الحقد والضغينة، وإذا استحال على الأمة في مجتمعها أن تتخلص من دواعيها الجسدية حين تدين بالدين، وحين تتعود العادات، وحين تشرع الشرائع، وحين تتذوق الجمال وتبتدع فنونه وتماثيله، فليس في مقدور الفرد أن يتخلص من نوازعه وشهواته ولا من أهوائه المتأصلة في تركيبه، وليس من المعقول أن يتساوى الرجل المطبوع على الضغينة والرجل المطبوع على سلامة الطوية في بواعث التفكير ومواجهة المسائل التي يصبغها بصبغة عقله هواه، ومن قال بذلك فهو من القائلين بالعزل بين الروح والجسد، وليس من القائلين بتغليب الجسد على كل فكرة وكل عاطفة وكل شعور.

•••

ومهما يكن من جدوى هذه المعاذير، فهناك سؤال حتم يبقى على الشيوعيين أن يجيبوه، وهو: هل يعتبر «كارل ماركس» بهذه الأخلاق فردًا صالحًا في مجتمع من المجتمعات الإنسانية كائنًا ما كان؟ وهل يكون فردًا غير صالح، ويجوز مع ذلك أن يكون إمامًا صالحًا لتأسيس المجتمعات المثالية من يومه إلى أقصى الآماد المجهولة؟

وأيًّا كان جوابهم على هذا السؤال الحتم، فلا شك أنَّ هوان الأخلاق عليهم هو مرجع الفضل في تهوين الاعتراف بتلك العيوب على زعيمهم وإمامهم، وإن يكن فضلًا غير مشكور.

ويشبه هذه الصورة التي رسمها «روهل» صورة أخرى رسمها زعيم من أكبر زعماء المذاهب الهدامة في عصره وهو «باكونين» زعيم «الفوضوية» الذي تلقى عنه «ماركس» أوائل دروسه في المذاهب الاجتماعية، وهو رجل له عيوبه وَهَنَاتُهُ، ولكنه من طراز في الأخلاق غير طراز «كارل ماركس». ولم يكن من خلاله المشهورة خلة الحقد وافتراء الأكاذيب على عمد لخدمة الدعاية أو شفاء الضغينة، بل كان على نقيض ذلك سريعًا إلى الاعتراف بصواب غيره إذا تبين له صوابه، قريبًا إلى الصفح عن خصومه الذين لا يتورعون عن اختلاق التهم عليه لتشويه سمعته والتشكيك في نياته، وقد اتهمه «ماركس» بالجاسوسية، وأحيلت هذه التهمة على لجنة من أقطاب الثوار لتحقيقها، فثبت لهم تزوير الوثيقة التي تستند إليها، وكان «باكونين» حاضرًا في جلسة التحقيق والمناقشة للدفاع عن نفسه فأخذ الورقة المزورة ولم يتشبث بإدانة مزوريها بل أحرقها بيديه، وبسط كفه للداعية الألماني «ليبكنخت» الذي كان يتولى اتهامه بالنيابة عن «ماركس»، فصافحه وختم هذه المهزلة باستئناف العمل معه والنزول عن حقه في إلصاق شبهة التزوير به وبأستاذه الموعز إليه.

يقول «باكونين» هذا عن «ماركس» وهو يعقد المقارنة بينه وبين «ماتسيني» زعيم الوطنية الإيطالية: يحب «كارل» نفسه أضعاف حبِّه لأصدقائه ومريديه، وما من صداقة تصمد لحظة إذا مسته لحظة في غروره وكبريائه، وأيسر من ذلك جدًّا أن يغفر الإساءة أو الخيانة لدعوته الفلسفية ورسالته الاجتماعية، فإنه ينظر إلى هذه الخيانة نظرته إلى علامة من علامات القصور العقلي أو علامات امتيازه على صديقه فيرى فيها نوعًا من التسلية المرضية، وقد يكون هذا الصديق أحب إليه وأدنى إلى قلبه؛ لأنه يأمن أن يكون مزاحمًا له في رسالته أو منافسًا على القمة العليا في شهرته، غير أنه لا يغتفر أبدًا أصغر الإساءات إلى شخصه، ولا بد لك من أن تعبده وتتخذه وثنًا تصلي بين يديه إن أردت أن تظفر بمودته، أو لا بد لك من أن تخافه وتهابه إن أردت أن يحتملك ويصبر عليك، وهواه دائمًا أن يحيط نفسه بالأقزام والحجاب والمتزلفين، ولا يمنع ذلك أن يحيط به بعض ذوي الأقدار.

أما على الجملة فلك أن تقول: إنَّ أصحاب «ماركس» تَنْدُر بينهم صراحة الصداقة، وتكثر بينهم الدسائس والمناورات، وهم متفاهمون ضمنًا على المكايدة والصراع والمساومة على مرضاة الغرور المتبادل بين زمرتهم، ولا موضع لشعور الصداقة حيث يعمل الغرور وتسود الأثرة، فكلهم على حذرٍ، وكلهم متوقع للتضحية به والقضاء عليه، وليست جماعة «ماركس» إلا جماعة التزلف المشترك، وهو بينهم الموزع الأكبر للأقدار والدرجات، والمحور الأكبر كذلك للغدر والكيد والدسيسة. لا يتفتح أبدًا ولا يستريح للصراحة يومًا. بل يحرض أبدًا على اضطهاد من يستريب فيه أو من يقوده سوء حظه إلى التقصير عن إكباره كما ينبغي له من الإكبار في نظره. ومتى بدا منه الإذن في الاضطهاد، فلا حدود للخسة واللؤم في الذريعة التي يتذرعون بها لقضاء إربه، ولما كان هو نفسه يهوديًّا فقد أحاط نفسه في لندن وباريس، وفي ألمانيا قبل كل شيء بنفرٍ من اليهود الصغار على حظٍ متفاوت من المقدرة على الدس والنشاط والمغامرة كسائر أمثالهم، حيث كانوا بين الموظفين التجاريين وعمال المصارف والمشتغلين بالأدب والسياسة، أو هم بعبارة أخرى سماسرة في الأدب والسياسة كزملائهم السماسرة في الصفقات التجارية، قدم في المصرف والقدم الأخرى في مراكز الحركة الاجتماعية، ولهم عشيرة كبرى في ألمانيا بين أدباء الصحف الدورية، وإن هؤلاء المتأدبين من اليهود لذوو براعة في صناعة الجبن والواقعية والإيغار والمكيدة تسمعهم يقولون كأنهم يترددون: يشاع، يزعمون، لعله غير صحيح … ثم يقذفون بأخبث التهم في الوجوه.

ومما كتبه «باكونين» عن «ماركس» إلى «هرزين»:٦ «إنَّ «ماركس» قد خدم قضية الاشتراكية خمسًا وعشرين سنة بمقدرةٍ ونشاط وإخلاص، ولن أغفر لنفسي — لو أنها سولت لي من جراء البواعث الشخصية — أن أهدم عمله أو أغض من شأنه.»
وقد أعلن «باكونين» صواب «ماركس» في بعض المسائل الفلسفية والسياسية التي اختلفا عليها، وأن «ماركس» لا يتورع عن الانتقام من مخالفيه باختلاق التهم عليهم، وأنه لا يتورع عن الانتقام من أحد يرتفع إلى المكانة العليا في الدعوة الاجتماعية وإن لم يكن بينهما نقاش على الخطأ والصواب، وقال وهو يذكر جملة «ماركس» على «برودون»:٧ إن «ماركس» ينطوي على خليقتين ذميمتين: الغرور والغيرة، وما كان بعضه ﻟ «برودون» إلا لأنه مشهور جدير بالشهرة، وما من مسبة يحجم عن صبها على رأسه؛ لأنه أناني يفرط في أنانيته لحد الجنون، وتسمعه يتحدث قائلًا: أفكاري، آرائي، وينسى أنَّ الأفكار والآراء ليست مِلْكًا لأحدٍ على التخصيص، وأن أصلح الآراء تلك التي تتمخض عنها البديهة العامة.

•••

وتكاد هذه الصورة أن تبرز بجميع ملامحها للناظر العابر بعد جلسة أو جلستين مع «كارل ماركس»، كما تبرز للغرباء الذين تجمعهم به المصادفة حينًا بعد حين، فليس يختص بها أولئك الأخصَّاء الذين طالت عشرتهم له وخبرتهم بأطواره وأعماله؛ لأنها صورة بينة تنعكس عن صفات متغلغلة متمكنة لا تخفيها المواربة، ولا تحتاج إلى إنعام النظر طويلًا لإبراز طواياها.

وصفه «كارل شورز»٨ بعد التقائه في كولون سنة ١٨٤٨ قال: «إنه قد استفاضت عنه شهرة واسعة بالاطلاع الغزير، ولم أكن على علمٍ بكشوفه ونظرياته، فزادني ذلك شوقًا إلى التقاط كلمات الحكمة من فم الرجل الشهير، فخاب أملي على نحوٍ غريب، إذ كانت كلمات «ماركس» ولا شك مشبعة بالمعاني، ولكني لم أر قط في حياتي رجلًا بلغ سلوكه من البغضة التي لا تطاق ما بلغ سلوك هذا الرجل، كان لا يعير التفاتة واحدة لفكرة تخالف فكرته أقل مخالفة، وكان يعامل كل من يخالفه معاملة ملؤها التحقير والازدراء، ويجيب على كل قول لا يعجبه إجابة قارضة تسخر من الغباء المطبق الذي يرمي به قائله أو تلوح له بالاتهام وسوء النية، ولا تزال لهجته في النطق بكلمةٍ برجوازية عالقة بذهني إلى هذه الساعة، وهو سريع إلى إلصاق مسبة البرجوازية بكل من يخالفه على أسوأ ما تدل عليه من ضعة العقل والخلق.»٩
وقال «تيشو»١٠ عنه مع إعجابه به وتسليمه بقدرته: «لو كان قلبه في عَظَمة فكره، وكان حبه في قوة حقده، لاقتحمتُ النار معه على الرغم من تصريحه غير مرَّةٍ بهبوط منزلتي في نظره.»

لا جرم كان بهذا المسلك خليقًا أن يغري بالمناقضة والمشاكسة، وكان يكفي — كما قال «شورز»: إن ينم على وجهة يختارها ليدفع بسامعيه إلى وجهة غيرها.

وعلى كثرة الذين كتبوا عنه وعن ذكرياتهم معه، لم يكن بينهم أحد يمر بهذه الخليقة دون أن يلحظها، ولو كانت من الخلائق العارضة أو الخلائق التي تظهر وتختفي بين أدوار العمر وطوارئ الأحوال، لما أنكرها منه أبوه في مقتبل عمره، كما أنكرها صديقه وصفيُّه وزميل حياته وشريك دعوته «فردريك إنجلز»١١ وهو أحرص الناس على سد خلته ومداراة عيوبه. ولكنها خليقة لازمته من مطلع حياته إلى خاتمة أيامه، فأبوه يكتب إليه أيام تلمذته ليقول له مكرهًا: «إنك — لسوء الحظ — تؤيد بسلوكك رأيي الذي كونته عنك، وأرى أنك — على ما فيك من خصالٍ حسنة — أناني تغلب الأنانية على جميع صفاتك.»

و«إنجلز» في سنة ١٨٦٣ — أي بعد أن جاوز الخامسة والأربعين يكتب إليه قائلًا: «من البديه أنك سترى مما أنا فيه من الحزن، وما أنت عليه من جمود الطبع أنني لم أكن أستطيع أن أجيبك قبل هذا التاريخ. إنَّ أصحابي جميعًا — ومنهم المخالفون — قد أبدوا لي من العطف والعزاء فوق ما كنت أنتظر، أما أنت فقد لاح لك إنها فرصة لإظهار سُمُوِّك بالتعالي عن الحزن، وجمود العاطفة، ليكن ما أردت، سلمنا لك ما تريد، فانعم بانتصارك.»

وإنما ثار «إنجلز» هذه الثورة النادرة؛ لأنه كتب إلى «ماركس» ينعي إليه خليلته فلم يتحرك لمصابه، ولم يزد على كلمات أسف وجيزة، تلاها على الأثر طلب المعونة وشرح الأزمات التي يعانيها، وقد كان «إنجلز» ينسى شواغله وهمومه كلما سمع عن وعكة خفيفة يشكوها طفل من أطفال «ماركس» أو تشكوها قرينته السقيمة، فلا يهدأ ولا يتوانى حتى يسعفه بما في وسعه من المعونة والمواساة.

وفي هذه المرة فقط عرف «ماركس» كيف يعتذر من خطأ يلومه عليه لائم من صحبه أو زملائه أو ذويه، فكتب إلى «إنجلز» ينحي على نفسه؛ لأنه أرسل ذلك الخطاب، ويقول إنه أدرك خطأه بعد إلقائه في البريد، وإنه كان من رثاثة الحال في داره بلا طعام، ولا دفء ولا راحة بحيث لا يملك متنفسًا غير التهكم وقلة الاكتراث.

وهكذا كان الاعتذار الوحيد الذي ارتضاه «ماركس» أعرق في اللؤم من الخطأ الذي ساقه إليه؛ لأنه اعتذار الشعور بالحاجة إلى الرجل الذي كان يلتمس المعونة منه، ولم يكن اعتذار شعور بالواجب أو الوفاء.

•••

والأمر الذي يستوقف النظر طويلًا بعد هذه الصور المتفرقة أنها تصدر عن إجماع عام ممن لا يتفقون يومًا في وصف إنسان واحد كبير أو صغير، فقد اتفق عليها من يعتقدون مذهب «كارل ماركس» ومن لا يعتقدونه ولا يعرفونه، واتفق عليها من عاشروه سنوات ومن لم يجتمعوا به غير مرَّة أو مرات، واتفق عليها الغرباء وأقرب الأقرباء من أصدقائه وذويه، ومن كان منهم مظنة الإجحاف لخصومة أو خلاف — كأستاذه «باكونين» — فالشبهة عليه أضعف ما تكون في هذه الأحوال؛ لأنه على رذائله الكثيرة لم يشتهر برذيلة الحقد والافتراء على عمدٍ ورويَّة، بل اشتهر على نقيض ذلك بالمسامحة وحب الإنصاف لأصحابه وخصومه، ولا يضيره بعد ذلك أن يكون مظنة الاشتباه بالإجحاف، لأن ما قاله عن «ماركس» يطابق في جملته رأي أبيه ورأي الخاصة الأقربين من أصدقائه ومريديه.

إلا أنَّ الأقوال التي تتفق على الوصف لا تتفق على التعليل والتحليل؛ ﻓ «ماركس» هكذا باتفاق عارفيه، ولكن لِمَ كان هكذا ولم يكن على صورة أخرى؟

هنا تختلف الآراء والظنون؛ لأن المجال هنا مجال بحث وتقدير وليس مجال رؤية وتقرير، ونحن نعرض هذه التعليلات فلا نجد بينها تعليلًا أقرب من تعليل «روهل» إلى الإجماع أو الفهم من والقبول، وقد تقدم أنه يرجع بعيوبه إلى أسبابٍ شتى يلخصها في اعتلال البنية والشعور بوصمة المجتمع وانفراده برعاية أبويه؛ لأنه كان أول الأبناء.

وهذه تعليلات تنظر إلى الوقائع الصحيحة ولا تستوعبها؛ لأنها لم تلتفت إلى الجانب المهم من الوراثة وعلاماتها الواضحة في أبويه، وليست الوراثة مما يهمل في شأن إنسان من الناس حيث كان وكيف كان، ولكنها في شأن «كارل ماركس» أحق بالالتفات إليها والبحث عن الصلة بينها وبين قواعد مذهبه وغاياته؛ لأنها وثيقة الصلة بتلك القواعد والغايات.

لقد كان «كارل ماركس» ينحدر من أبوين ينتميان — كلاهما — إلى طائفة الربانيين والحاخامات اليهود، وكان أبوه فقيهًا دينيًّا، وأمه من سلالة اليهود الهولنديين الذين هاجروا إلى بلاد المجر في القرن التاسع عشر لكثرة من في هذه البلاد من اليهود وأصحاب المزارع والأموال.

جاء في كتاب «الحركات الاجتماعية الاقتصادية» لمؤلفه «هاري ليدلر»:١٢ «إن أباه كان من رجال الشريعة الإسرائيليين، وإن جده كان من البرنانيين، وإن أمه تنحدر من أسرة هولندية ربانية هاجرت من هولندا في القرن السابع عشر إلى البلاد المجرية.»

وهذه الأسرة العريقة في الديانة اليهودية قد تحولت — أبًا وأمًّا — عن دينها إلى الدين المسيحي بعد ولادة «كارل» بست سنوات، ولم يتحول الأبوان معًا عن عقيدة وإيمان صادق بالمسيحية، ولكنهما اتفقا على ترك الدين الذي انحدرا من سلالة فقهائه ورؤسائه تمهيدًا لفرص العيش، ثم تمهيدًا لفرص المستقبل أمام الابن الذي بلغ السادسة، وأرادا في هذه السن الباكرة أن يحولاه معهما عن ديانة الآباء والأجداد إلى ديانة الدولة والمجتمع الذي يعيشان فيه، وليس أنسب من سن السادسة، لتحويل طفل صغير من دينٍ إلى دين؛ لأنه قد يتأخر عن السن المناسبة لتبديل معتقداته وشعائره، إذا بلغ سن المراهقة على دين الآباء والأجداد.

أيمكن أن تنفصل هذه الحادثة عن مذهب «كارل ماركس» في جوهره ولبابه؟ أيمكن أن تنفصل عن شعوره بالدين وشعوره بالعقيدة الروحية على اختلاف مناحيها؟

لقد أقام «كارل ماركس» مذهبه على المادية الاقتصادية، وكان قوام هذا المذهب أنَّ الديانات والعقائد جميعًا إنما هي انعكاس الضرورات الاقتصادية في المجتمع، كما تتمثل في عباداته وعاداته.

وليس في هذا المذهب شيء يناقض الواقع المحسوس الذي شب عليه في طفولته بين أبويه.

ولا تكون «المادية الاقتصادية» هنا فكرة من أفكار البحث والمنطق والدراسة العقلية وكفى، بل تكون في ضميره لاعجة من أقوى اللواعج النفسية التي تتطلب التنفس والتهدئة، وتهمة كامنة في الأعماق تحاول جهدها أن تنتفض من أعماقها وتتخذ لها نزعة من نوازع التسويغ أو نوازع التحدي والمفاخرة، حينما تفتحت لها دخائل الفكر والوجدان.

وكأنه يقول من وراء المادية الاقتصادية متسائلًا متحديًّا: ماذا صنع أبواي؟ أتراهما صنعا شيئًا يعاب عليهما أو يعاب على أحد؟ أتراهما على نقصٍ في الأخلاق والضمير؛ لأنهما تحولا عن الدين التماسًا للمنفعة الاقتصادية أو المنفعة المادية؟

كلا، إنَّ الديانات كلها تتحرى المنفعة الاقتصادية وتنبت في منابتها، وإن المنفعة الاقتصادية في كل مجتمع هي ينبوع العقائد فيه، وينبوع كل ظاهرة روحية فيه مما يسمونه بالآداب والأخلاق والفنون، ويحسبونه من ثمرات الذوق أو الخيال أو من وحي السماوات والأرباب، وما صنعه أبواي لا يعاب عليهما ولا ينم عن نقيصة خلقية أو خيانة لعهد الروح والضمير، بل هو مفخرة لهما وآية من آيات صدق النظر والبصيرة لديهما؛ لأنهما قد نفذا إلى أصل الدين في أعمق أعماقه، فلم ينخدعا فيه كما ينخدع المؤمنون الغافلون عن أصل الدين وعن جميع الأصول.

فها هنا دلالة أقوى من دلالة الفكرة التي تتولد من البحث العلمي والأقيسة المنطقية، ها هنا «أولًا» خليقة موروثة مع الطباع التي تورث عن كلا الأبوين، وها هنا بعد ذلك حاجة نفسية تلح على الوعي الباطن والوعي الظاهر معًا، وتلتمس منهما قوة العزاء أو قوة التحدي والمكابرة، فلا معابة في ترك الدين طلبًا للمنفعة المادية أو الاقتصادية، بل هو الظاهرة العامة التي ينبغي أن ترجع إليها جميع الديانات، وهو إلى ذلك مفخرة الأبوين بالنظر الثاقب والحدس القويم.

وليس موقف الأسرة من الدين هو كل ما نلمحه من الخلائق الموروثة وأثرها في تكوين أفكاره أو بواعث تفكيره، فإن اعتلاله كان مسبوقًا بعلةٍ مثلها في أبيه الذي مات بها قبل بلوغ الشيخوخة، وقال الأطباء عنها في محضر الوفاة: إنها داء الكباد، ولم تكن أمه أصح من أبيه كما يؤخذ من أخبارها القليلة، وكان له أخ يسمى «إدوارد» أصابه داء الهزال فمات في صباه.

•••

هذه نشأة جسدية تضاف إلى نشأته النفسية أو الأخلاقية، فلا تنم على فطرة سوية ولا تهيئ الناشئ للخير والفلاح في حياته الخاصة أو العامة، ويجوز لمن يترجم سيرته أن يقدر جرائرها إذا أعوزته الشواهد والروايات بأسانيدها، غير أنَّ الحوادث المفصلة في هذه السيرة تغني عن التقدير وتزودنا على سعة بالمعلومات الوافية عن إمام الشيوعية من طفولته الباكرة؛ لأن الدعوة إلى المذاهب الثورية ومذاهب الاشتراكية المتطرفة والمعتدلة قد انتشرت بعد عصره بسنواتٍ معدودة، وأدركها أتباعه وتلاميذه فاحتفظوا بآثاره وبالغوا في الاحتفاظ بها، حتى جمعوا من خاصة أخباره ما قل أن يجتمع في سيرة مشهورة من رجال الدول، فضلًا عن دعاة المذاهب والبرامج الاجتماعية، وكان من حظ التاريخ الصادق أنَّ أتباعه كانوا — بحكم عقيدتهم — ممن تهون عليهم قيم الأخلاق والأدب، فلم يتحرجوا من المساوئ والعيوب كما يتحرج منها مترجمو العظماء، حين يعرضون لأخبارهم الخاصة وسقطاتهم المريبة.

ومن هذه المعلومات دون غيرها، يتراءى أمام المادية التاريخية في كل صفحة من صفحات سيرته مصدقًا لتلك الخلائق التي أجمعت عليها أوصاف عارفيه، فلم يكن في عمل تولاه قط قدوة صالحة أو فردًا صالحًا لمجتمع من المجتمعات كائنًا ما كان في حساب الماديين أو غير الماديين، فلا الناشئ الطالب في سلك الدراسية، ولا الرجل رب الأسرة، ولا الصديق أو الزميل في الدعوة الاجتماعية، ولا الداعية العامل على نشر مذهبه، ولا الإنسان الذي ينتمي إلى ملة أو وطن أو طبقة، كان في «كارل ماركس» قدوة يحمدها الماديون التاريخيون ويتمنون الإكثار منها في مجتمعهم الموعود، أو في بيئة من البيئات على اختلاف المعايير والآداب.

كان على أحسنه عندهم موضع اعتذار وتعليل، ولم يكن في أخلاقه قط موضع إكبار واقتداء.

كان الطالب «كارل ماركس» يهمل دروسه، وينقطع عن معهد الدراسة أسابيع متواصلة، ويبدل منهجًا من مناهج التعليم بمنهج غيره، ثم لا ينشط للمنهج الجديد إلا ريثما يبدله، ويتعلق بآخر يهدم به ما بناه بالأمس كما قال أبوه.

وقد كان أبوه — على سُنَّة الآباء أجمعين — يميل إلى حسن الظن، أو يلقي في روعه أنه يحسن الظن به؛ ليستبقي عنده بعض الثقة برأيه، فلا يركب رأسه على هواه إذا داخله اليأس من جانب أبيه، فكان يوحي إليه بالنصيحة من خلال النقد والثناء، ويقول له: إنه يسهر الليالي الطوال في بناء الآراء وهدمها، وينقطع من الجامعة لمتابعة هذه الآراء التي لا تطرد على وتيرة ولا تنتهي إلى طائل، وحقيقة الأمر أنه ينقطع عن الجامعة لغير ذلك السبب في كثيرٍ من الأحيان، وأنه كان يسترسل في سهراته مع غواة اللهو والعربدة، ويهجر البلدة كلها — بلدة «بون» مقر الجامعة ليذهب إلى «كولون» في جوارها، ويبتغي فيها من ملاهي السهر ما لم يكن ميسورًا له تحت الرقابة الجامعية. وحدث في بعض هذه السهرات أنه سيق إلى دار الشرطة مع جماعة من السكارى لإفراطه في السكر والعربدة. وأنه سيق إلى المبارزة مرَّة أخرى، وتبين من تقريرات الشرطة أنه استخدم الأسلحة النارية فيها.١٣

وقد جرت عادة «ماركس» في كتابته الاقتصادية أن يطلق اسم «الرعاع» على علماء الاقتصاد الذين يقنعون بالظواهر ولا ينفذون إلى بواطن الحركات الاجتماعية، كما تبدو له في دراساته التي يميزها دون غيرها باسم الدراسات العلمية. فإذا استعيرت هذه التسمية للباحثين في أطوار «الشخصيات»، فلعلها تنطبق على أولئك المترجمين الذين كتبوا سيرة «كارل ماركس»، وأرادوا أن يفسروا تقلبه بين الدراسات فأقنعتهم كلمة «القلق» أو «الجموح»، ولم يشعروا بالحاجة إلى تفسير وراء هذا التفسير الذي يصح فيه أنه من قبيل تفسير الماء بعد الجهد بالماء، لأن القلق هو التقلب، والتقلب هو القلق، بغير فارق كبير في مصطلحات القاموس أو مصطلحات العلوم النفسية، وشبيه بهؤلاء المفسرين نظراؤهم الذين يفسرون هذا القلق باختلال البنية، ولا يذهبون وراء هذا الاختلال إلى دخائل النفس لفهم بواعثها وغاياتها، وما كان اختلال البنية بصالح لتفسير عمل من الأعمال، أو توضيح ترجمة من التراجم، إلا حين ينتقل من أسماء الأمراض والأسقام إلى أسماء الأخلاق والعادات.

وظاهر أننا لا نفهم شيئًا من كلمة القلق أو كلمة الاختلال، إذا أردنا أن نفسر بها تقلبه من دراسة القانون إلى دراسة الفلسفة إلى دراسة المذاهب الاقتصادية، ولكننا نفهم بواعث هذا التقلب إذا فهمنا أن شهوة الهدم والنقمة لا تجد لها منفسًا تستريح إليه في دراسة القانون أو الفلسفة، وأن مبادئ القانون أو الفلسفة لا تخلق النبوءات الدامية، ولا تتصل بهياج الثورات والفتن التي تنبعث من غرائر الملايين، كما تتصل به مشكلات الاقتصاد وصراع الطبقات على الأرزاق، وضرورات المعاش، وقصارى ما ينتهي إليه الباحث في دقائق الشريعة والقانون أن يكشف منها أخطاء يدركها الفقهاء والمشرعون، ولا تتعداهم إلى جمهرة المتقاضين من سائر الطبقات، وغاية ما ينتهي إليه الباحث في دقائق الفلسفة أن يغوص إلى الأعماق ويقنع الفلاسفة أو طلاب المذاهب الفلسفية برجحان فكرة على فكرة، وصحة قياس من الأقيسة المنطقية وبطلان قياس سواه.

أما مشكلات المعاش — ولا سيما في عصر «ماركس» أو عصر الثورات — ففيها منفس واسع لشهوة النقمة والبغضاء ونَعِيبِ الهدم والخراب، وفيها وسيلة قريبة بل وسائل شتى لخطاب الغرائز والضغائن وللإنذار بالويل والثبور في أمدٍ قريب أو بعد أمدٍ منظور.

إن طبيعة «كارل ماركس» لم تجد ما يريحها في مذاهب القانون ولا في مذاهب الفلسفة، ولكنها سرعان ما انتقلت إلى مذاهب الاقتصاد حتى وجدت هنالك بغيتها، ولم تفهم هذه المذاهب إلا من الناحية التي تملي لها في شهوتها وتنفس بها عن ضغائنها وأحقادها، وصح عندها كل فرض ينتهي إلى العداء والبغضاء، وبطل عندها كل فرض يبعد هذه النهاية أو يشكك فيها أو يشير إلى طريق غير طريقها، فلا مقياس من العلم ولا من التجربة ولا من النظر لتلك المقدمات التي تفترق ما تفترق، ثم تلتقي عند الأمنية المشتهاة باسم التقدم والإصلاح، وإنما المقياس الذي لا يخطئ أبدًا لكل فرض من فروض المادية التاريخية أنه مقدمة محتومة للعاقبة المشئومة، ومنفس واسع لشهوة النقمة والعدوان.

•••

من تلك التلمذة — ولا تلمذة غيرها في نشأة «كارل ماركس» — سلمت له دعوى العلم الذي احتكره لمذهبه الاشتراكي بين جميع المذاهب الاشتراكية التي عرفت في عصره وقبل عصره، وما من مفكر اشتراكي من أولئك الواهمين أو الحالمين — أو الرعاع في رأيه — إلا كان له نصيب من العلم لا يقل عن هذا النصيب إن لم يزد عليه.

ولما حصل على لقبه العالمي الذي كان يعتز بصيغته اللاتينية، لم يحصل عليه من جامعة تعلم فيها وانتظم بين طلابها، ولم يحصل عليه بعد مناقشة في موضوعه وامتحان لبراهينه وأسانيده، ولكنه حصل عليه بالمراسلة في جامعة «جينا» الألمانية، وهي الجامعة التي كان لها نظام يسمح بقبول البحوث من المراسلين بعد سداد رسومها وإجازتهم عليها بالألقاب في غيبتهم بغير اشتراط الحضور في أيام التحصيل ولا في يوم محدود للمناقشة والامتحان.

جاء في كتاب «البروسي الأحمر»١٤ بإسناده إلى المرجع الألماني السابق: «… كانت هناك جامعة جينا في دوقية فيمار الكبرى، وكانت تقاليدها أخيرًا تسمح بإجازة الامتحان بالمراسلة، فلا تشترط حضور الطالب إليها، ولا يتطلب الأمر إلا أن يرسل أطروحته مع الوثائق اللازمة عن طريق البريد فترسل إليه الشهادة، وكذلك فرغ من الأطروحة وأرسلها إلى الجامعة في السادس من شهر أبريل سنة ١٨٤١ بعنوان عميد قسم الفلسفة، فوقع العميد شهادة الدكتوراه بتاريخ الخامس عشر من الشهر للدكتور كارلوس انريكوس ماركس التريفيني …»

•••

وتوفي «هنريك ماركس» رب الأسرة، وابنه الأكبر «كارل» يختتم مرحلة الدراسة الجامعية. فانتهى دور الطالب وابتدأ دور الولي المسئول عن أسرته في وقتٍ واحد، لأنه كان — كما تقدم — أكبر الأبناء الذكور، فانتقل إليه عبء القيام على شئون الأسرة بعد أبيه.

ولا يخفى أن عاطفة الأسرة عنوان صادق لعاطفة الإنسان في الأسرة الاجتماعية أو الأسرة الإنسانية الكبرى، فلا يكون الإنسان مسلوب العاطفة مع أسرته موفور العاطفة مع غيرها من أبناء نوعه أو أبناء جلدته على التعميم. ومهما يكن من رأي الماديين في نظام الأسرة، فالأقربون على كل حال ناس كسائر الناس، إن يكن بينهم وبين غيرهم فارق في العلاقة، فهم أدنى إلى العطف المتبادل بينهم من جمهرة الغرباء.

وقد ارتبط «كارل» بعلاقات الأسرة جميعًا مكفولًا في رعاية أبيه وكافلًا لأقربائه وذويه، فكشف عن خلتين ملحوظتين في جميع علاقاته بأسرته: غلبة الأنانية، والتقصير في الواجبات.

أرهق أباه بطلب المال وهو طالب منقطع عن الدراسة يغيب أكثر الوقت عن جامعته بل عن البلدة التي فيها الجامعة، واسترسل في هذا السرف بعد علمه بحاجة أبيه إلى المال لإنفاقه على علاجه وعلاج ابنه المريض، بعد عجزه عن الكسب واعتماده على المُدَّخَر لديه من كسب شبابه، ونبهه أبوه غير مرَّة إلى القصد في مطالبه والاعتدال في نفقاته فلم ينتبه، ولم يقصر عن تكرار الطلب على عادته من يوم اغترابه عن أهله، فكتب إليه آخر الأمر ضجرًا من هذه اللجاجة أو هذه الأثرة التي كان يقول: إنها وصمته البادية على صفحته، وصارحه بالتأنيب الشديد قائلًا: «ماذا تظن؟ أتراك تحسبنا مخلوقات من الذهب!»

ثم مات أبوه — وهو في برلين — فلم يكلف نفسه مشقة الانتقال إلى بلده — وهو رب الأسرة بعد أبيه — ليواسي أهله وأخوته الصغار، ويقوم على تدبير شئون الأسرة كلها بعد فقد عائلها، ولم يشغله في هذه المحنة العائلية شاغل يباليه غير طلب الحصة التي يستحقها من ميراثه منجمة على حسب أقساطها الميسورة أولًا فأولًا بعد إحصائها.

واسترسل في الطلب حتى نفد نصيبه من الميراث، فمال على نصيب أمه وإخوته، وكانت أمه ترجو أن يغنيهم بكسبه أو يكفيهم على الأقل مؤنة نفقاته، فإذا هو عالة عليها يجور بمطالبه التي لا تنتهي على رزق إخوته المفتقرين إلى السند والعائل بغير أمل في مورد جديد من موارد الكسب يعولون عليه.

وضاقت أمه ذرعًا بهذه الأنانية العمياء، وهذا الكنود الشديد في ولدها الأكبر الذي كانت ترجوه لها ولبنيها الصغار بعد أبيهم، وغضبت معها أخته «صوفي» التي كانت تدلله وتعزه بين لِداتها إعزاز البنات لإخوانهن الكبار، فكتبتا إليه تنذرانه بقطع المدد عنه، وقالتا له بصريح العبارة: «إنك الآن في الرابعة والعشرين فاعتمد على سعيك في كسب رزقك، ولا تنتظر بعد اليوم مددًا نقتطعه لك من قوت أهلك.»١٥

وكفَّ — آخر الأمر مضطرًا — عن الطلب، ولكنه لم يَكُفُّ عن الاستعارة من أقربائه وأصدقائه ومنهم زوج أخته وأقارب ذلك الزوج، ومنهم قريبه العم «فيليبس» وزميله في الدعوة «إنجلز» وزميله الآخر «أنينكوف».

وكانت الاستعارة — غير المردودة — وسيلته التي لا وسيلة غيرها في معاشه ومعاش زوجته، حيث كان وحيثما انتقل بين ألمانيا وفرنسا وهولندا وإنجلترا التي كان يهجرها ليعود إليها دواليك، كلما استغلقت عليه أبواب الاستعارة فيها.

وتقبل من المعونة — بل من الإحسان — ما لا يقبله رجل ذو كرامة، فكان زملاؤه الذين يضيقون بطلباته المتلاحقة يحيلون عليه الأعمال التي تطلب منهم فيقبلها وهو لا يحسن أداءها ليحيلها على من يحسن هذا الأداء ويستولي هو على أجورها.

ففي سنة ١٨٤٨ زار «دانا» مدير صحيفة نيويورك تربيون مدينة كولون، فقدمه إليه زميله «ف. فريلجراث»، ثم عاد «دانيا» بعد ثلاث سنوات إلى لندن، فالتقى ﺑ «فريلجراث» وسأله أن يكتب إلى التربيون خلاصة التعليقات السياسية في القارة مرتين كل أسبوع. فأحاله «فريلجراث» إلى «ماركس»، وقبل «ماركس» هذه الإحالة مع جهله بالإنجليزية، وعاد فأحال العمل كله إلى صديقه «إنجلز» على كثرة شواغله وتبرعه بإعالته — أو إعارته — بما كان يومئذ في وسعه. ولم يمض غير قليل حتى تبين لهم جميعًا أنه مورد ضئيل لا يكفل ﻟ «ماركس» وأسرته معيشة الكفاف؛ لأن مدير الصحيفة كان يُسقط كثيرًا من الرسائل، ولا يحتسب الأجر إلا على الرسائل المنشورة، عشرين شلنًا لكل رسالة تأتي بعد مراجعة المهمل والمنشور!١٦

كان رب الأسرة عالة على أسرته في كهولته، كما كان عالة على أسرته في طفولته وصباه، وكان الرجل الذي يحارب التطفل الاجتماعي طفيليًّا في كل مجتمع أصيل أو دخيل نزل فيه.

ومما يذكر على الخصوص في سيرة رب الأسرة الذي يحارب الملكية، ويحسبها سرقة أخبث من سرقة اللصوص وقطاع الطريق، أنه رد خطيب بنته «لورا» ريثما يتحقق من صحة ميراثه، ومن كفاية هذا الميراث للتعويل عليه في طلباته، وكان هذا الخلاسي «لافارج» ابن مالكٍ من مُلَّاك الإقطاع في أمريكا الجنوبية، تعلم في جامعة باريس وأرسلته الجامعة إلى لندن في بعثة خاصة، فتعرف إلى «ماركس» وفتاته هناك.١٧

وإذا كان الجو العاطفي في الأسرة دليلًا على حظ أبيها من العطف والحنان وشعور الإخلاص بينه وبين خاصته وذويه، فقد كان «كارل ماركس» أعجز الناس عن إلهام صغاره سجية من سجايا العطف والمودة تجعل للحياة معنى غير معنى المنفعة العاجلة، والأثرة المتحكمة، وسوء الظن بكل نبيل جليل من العواطف الإنسانية، فماتت ابنته «لورا» هذه وأختها «ألينورا» منتحرتين بعد حياة مضللة على غير هدى. ولم تنتحرا من البؤس في دار أبيهما. بل أقدمتا على بخع نفسيهما بيديهما بعد مفارقة الدار، هذه مع زوجها الخلاسي وتلك مع عشيقها «أفلنج»، الذي ظهر لها بعد معاشرته أنه هجر زوجته وأخفى عنها زواجه قبل معاشرتها. وكانت «ألينورا» هذه مخطوبة للكاتب العالمي المعروف «برناردشو» فرفضته، وتعلقت بذلك الأَفَّاق قانعة معه بعلاقة الخليلة والخليل، مؤثرة لها على علاقة الزوجة والزوج مع رجل مستقيم الخلق والسمعة.

ولقد كان انتحار أختها «لورا» لسبب أعجب من الخيبة في هواها، فاتفقت هي وزوجها على الانتحار معًا فرارًا من الشيخوخة التي تحرمهما متعة الشباب، وقضت الفتاتان على حياتهما في السن التي تلوذ فيها النفس الإنسانية بالعاطفة العامرة التي تجعل للحياة معنى فوق معنى اللذة ونزواتها، وتتغلب به على متاع الأنانية والأثرة العاجلة، بحثتا عن هذا المعنى إبان الحاجة إليه فلم تجداه؛ لأنهما لم تفهماه ولم تحساه في البيت الذي نشأتا فيه، ووجدتا في موضعه نظرة يائسة إلى الناس وإلى الدنيا ضللتهما في كل اختيار يرجع فيه المرء إلى هداية العاطفة الصادقة والضمير السليم.

لا جرم كان في مصطلح الأسرة كلما فارقت بنت من بناتها دار أبيها أنها نجت من محنة الجوع والضيق.

ثم تحسنت حالة «إنجلز» شريك «ماركس» في الدعوة الشيوعية؛ لأنه استقل بعمله، وتمكن من توظيف مبلغ من المال في السنة لمعيشة زميله لا يقل عن ثلاثمائة وخمسين جنيهًا بعد سداد ديونه وتنظيم داره، وتسوية الخلاف بينه وبين المتعاقدين معه على الأعمال المهملة والمشروعات المعطلة، وصدق فيه قول أبويه: إنه سيعيش عالة على الناس ما عاش.

•••

وربما خطر على البال أن الرجل كان يهمل الأعمال التي يكسب منها ضرورات معيشته؛ لأنه يعكف على العمل في نشر دعوته وتدوين فلسفته وأداء رسالته، ويشغله هذا العمل عما عداه من تكاليف السخرة المفروضة عليه في غير ما يرتضيه!

ولكن الواقع أن العمل الذي كان يهمله إنما هو عمل الدعوة في صميمها، وأوله كتاب «رأس المال» إنجيل المادية التاريخية كما يسميه الشيوعيون، وقد مات «ماركس» وهذا الإنجيل ناقص في أهم نظرياته وألزمها لإثبات المذهب «العلمي»، وترجيحه على مذاهب الاشتراكيين الرعاع والاشتراكيين المتعلقين بالأحلام، مات «ماركس» ولما يستوف «إنجيله» بحثه الموعود في نظرية الثمن والعمل ونظرية صراع الطبقات.

كان بعض معارفه قد أشفقوا عليه، أو ملوا منه الطلب وراء الطلب بغير وفاء ولا انتهاء، فأقنعوا الناشر «لسكي» بالاتفاق معه على تدوين نظرياته الاقتصادية التي تدور عليها نظم السيادة والحكم في المجتمعات البشرية، وتسلم «ماركس» في ثمن الكتاب ألفًا وخمسمائة فرنك سنة ١٨٤٤، وانقضت أربع عشرة سنة ولم يظهر الكتاب، وإذا ﺑ «كارل ماركس» يعقد مع الناشر «دنكر»١٨ اتفاقًا آخر على تأليف الكتاب نفسه، ولم يكن «دنكر» يعامله من قبل، ولكنه عامله في هذه الصفقة بوساطة «لاسال»؛ لأنه كان يطبع له الكتب والمنشورات.
ومضت السنون ولم ينجز «ماركس» اتفاقه مع الناشرين.١٩

وكان من المنظور بعد ضمان «ماركس» لمورد رزقه من معونة «إنجلز» أن يفرغ لإتمام بحوثه واستيفاء الفصول الناقصة من كتاب رأس المال، ولكنه ما كاد يضمن المورد بلا عمل، حتى أعفى نفسه من كل مجهود وترك العمل كله ليستسلم لمكائد البطالة والفراغ.

•••

وأعجب ما في دعاوى هذا الرجل دعواه على زعيم الفوضوية «باكونين» بعد أن أحس من جانبه خطر المنافسة والسبق بين زمرتهم إلى منزلة الثقة والكرامة، أثار عليه حملات التشهير، واجتهد اجتهاده في التنقيب عن جريمة يعزوها إليه، فماذا وجد؟ وجد أنَّ «باكونين» دنس سمعة الاشتراكيين؛ لأنه اتفق مع ناشر في روسيا على ترجمة كتابه، ولم ينجز ترجمة الكتاب!

ومطلع حياته كختام حياته سواء في تسخير المذاهب للوقيعة أو للوصول، ففي مطلعه كانت تصدر في بلاد الرين صحيفة تسمى «رينش جازيت» تتطرف في دعوتها إلى الاشتراكية، فأنذرتها الحكومة بالإغلاق إذا هي لم تعدل عن خطتها، ولم تخرج منها الكاتب المسئول عن سياستها، وكان شابًّا من أصحاب «كارل ماركس» اسمه «روتنبرج»، فلما سئل عن رأيه في موقف الحكومة أشار بإخراج زميله، وقَبِلَ أن يتولى تحرير الصحيفة بعده، وتولى التحرير فعلًا على خطة جديدة تُنحِي على الاشتراكية والاشتراكيين، وأعداد الصحيفة محفوظة بحملاتها إلى اليوم.٢٠

فالدعوة إلى المذاهب لم تكن شغلًا له يشغل به جميع أوقاته، ويتحين الفرص لإنجازه وتمكين حجته وسد خلله، وإنما كان كل همه منها أن يتزعمها ويحتكر شهرتها ويحيط نفسه بحاشيةٍ من أتباعها وأذنابها، ويُنَحِّيَ عنها كل من بزغ له نجم لامع فيها أو استطاع أن يتقدم صفوفها، ولعل أعدى أعدائه وأبغض الناس إليه من كان يخدم تلك الدعوة أو يخدم دعوة من قبيلها، فلا شكر لهؤلاء عنده ولا صداقة ولا رعاية، وكل جزائهم عنده ذم وتشهير وانتقاص واتهام، يعلم هو قبل سواه مبلغه من الصدق والثبوت. فيتعلل لهذا بسوء الفهم، ويتعلل لذاك بسوء النية، ويتعلل لغيرهما بالرياء والنفاق أو بالوهم والاختلاق، ولم يسلم من ضغينته قط أحد من هؤلاء بغير استثناء.

ﻓ «برودون» كان عنده سخيفًا مسوغًا للسرقة والملكية بأسلوبه، عاجزًا عن تفنيدهما بأسانيده وبراهينه، و«كارل جرون» دخيل على الحركة، مستغل لأفكارها المبتكرة في سبيل العيش والمجاملة، و«ليبكنخت» خائن لزعامته، ملفق لآرائه، منتفع باسمه على الرغم منه، و«لاسال» — صاحب الفضل عليه في التعاقد مع «دنكر» — زِنْجِيٌّ بدم الوراثة، متهم الجدات والأمهات بالفسوق الذي تشهد به ملامح وجهه وسيماه.

وصهراه «لونجويه» و«لافارج» خالفاه ولم يتبعا خطاه، فكتب إلى «إنجلز» يلعنهما، ويقول عن الأول: إنه خليفة «برودون» وعن الثاني إنه خليفة «باكونين»، وإلى الشيطان فليذهبا معًا ملعونَين مدحورَين!

و«باكونين» — كما تقدم — جاسوس مختلس بغير بينة، بل على نقيض البينة. ولا يكف عن الكيد له حتى يصدر الحكم عليه من لجنته بالفصل من زمرة الاشتراكيين.

كلهم هكذا بغير استثناء.

أنقول بغير استثناء؟ نعم بغير استثناء، إلا استثناء واحدًا دل على خسة هذه الطبيعة المدخولة من كل خسة تشهد بها ضغائنه ومفترياته، لأن هذا الاستثناء الواحد في جميع حياته، وبين جميع أبناء عصره، هو استثناء الحاجة على الرغم وقلة الحيلة.

كان «إنجلز» دون غيره من المخلوقات البشرية، ومن العاملين على نشر الدعوة الاشتراكية قبل غيرهم، هو الاستثناء الوحيد من حملات المذمة والضغينة؛ لأنه يَعُول «ماركس» وينفق عليه وعلى أسرته، ويتكفل بسداد ديونه وتنظيم شئونه، فهو جريء بالذم والاتهام على جميع خلق الله حين يأمن الضرر والخسارة، ولكنه يحسن الأدب — على رغم — حين يلجئه الكسل والفضول إلى قبول الإحسان أيامًا وشهورًا وأعوامًا بغير انتهاء. فلا سخافة هنا، ولا خيانة، ولا عقلية برجوازية أو رعاعية، ولكنها العصمة كلها من جميع النقائص والأخطاء، ولا يسلم من هذه الضغينة ناجح في نشر الدعوة، وإن لم يكن من الزعماء المنافسين لصاحب المذهب وإمام المادية التاريخية. ولو كان في صدر «ماركس» متسع لقبول عمل العاملين، لكان أحرى الناس أن يتقبل منهم العمل على نشر الدعوة طائفة الصناع أو «الصعاليك» المنذورين لقيادة المجتمع الحديث، وإقامة النظام الاجتماعي الخالد على الزمن إلى غير انتهاء. ولكن واحدًا من هؤلاء جاوز حده واغتر بثناء الزعماء عليه، فراح حيث ذهب إلى البلاد الألمانية يحرض عمالها على الإضراب، واشتهر من ثمة بينهم باسم زعيم العمال الألمان. فحاقت به اللعنة من جراء هذا الجهد الناجح، وسيق إلى مجلس المحاكمة لسؤاله عن جنايته على شرذمة العمال الذين حرمهم الشغل والخبز بتحريضه إياهم على مطالبة أصحاب المصانع بزيادة الأجور، كأنما كان في الوسع أن يقدم العمال على الإضراب بغير مجازفة تعرض أناسًا منهم للبطالة أو ترك العمل إلى حين، وكأنما قامت الشيوعية على ذريعة لتحقيق مبادئها غير هذه الذريعة في جميع دعايتها، وهي التي أنكرت الوسائل الدستورية في المطالبة بحقوق الطبقة العاملة، ووصفت من يعتمد عليها بخيانة هذه الطبقة وتضليلها عن الهدف الوحيد الذي لا محيد عنه لكل إصلاح جدير بالعناء من طلاب الإصلاح المخلصين.

•••

ونعرض بشيءٍ من التفصيل لقصته مع العامل المغضوب عليه؛ لأنها أغرب من قصصه مع «برودون» و«جرون» و«باكونين» وأشباههم من أعلام النابهين الذين يناظرونه ويناظرهم وينفس عليهم شهرتهم ورواج آرائهم، فلو كانت في هذه النفس طوية من المروءة تطيق نجاح أحد في نشر الدعوة الاشتراكية لكانت خليقة أن تطيق ذلك العامل، ولو من قبيل المثال لما يبشرون به من دولة العمال، ولكنه غشم في الطبع لا يستريح لغير النقمة والحسد، ولا يغتفر الوزر لمن يعترض لنقمته وحسده. وقد نجح العامل المغضوب عليه، فما زال به زعيم المذهب حتى ساقه إلى المحاكمة، وعومل في زمرته بغشمٍ لا يحمدونه ولا يحمده أحد لأسوأ مجتمعات الاستغلال والاستبداد، ومن أجل استبداد هذه المجتمعات واستغلالها كانوا يثيرون الثائرة ويقيمون القيامة كما يقولون.

يسمى العامل المطرود من الزمرة الماركسية «ولهلم ويتلنج» ولا يعلم له اسم أب معروف؛ لأنه تربى في حجر غسالة ألمانية حملت به سفاحًا من ضابط في جيش نابليون، لم يلبث أن هجرها وهجر الطفل فكبر بين لِداته وهو يعلم أنه ابن سفاح ويمقت الجيش والجندية، وحان موعد تجنيده فهرب من الحي وتعوَّد في مخابئه أن يطيل القراءة فيما اتفق له من الكتب والنشرات.

وكان يأوي منذ صباه إلى طرزي يتعلم منه صناعته، فجعل يعاود هذه حتى أتقن منها ما يحصل به على بعض الأجر ولا يكاد يستقل به عن أصحاب الدكاكين، وزين له الغرور في السابعة والعشرين أن يجرب صناعة التأليف فكتب رسالة عن «الإنسانية كما هي وما ينبغي أن تكون». وزج بنفسه بين أتباع «بابوف» الداعية الفرنسي الذي ثار على الثورة؛ لأنها لم تذهب إلى المدى الذي كان ينبغي أن تذهب إليه، ولم تبدأ بالمساواة الاقتصادية قناعة منها بالمساواة السياسية، وصودرت صحفه ومنشوراته، فألف جماعته السرية، وانكشف أمره بوشاية واحد من هذه الجماعة فقضى عليه بالموت بعد محاكمة طويلة (١٧٦٠–١٧٩٧م)، ولكنه ترك بعده شيعة أمينة لدعوته؛ لم تزل بين تبديدٍ وتجديد حتى انتمى إليها «ويتلنج» مع طائفة من الألمان الذين هجروا بلادهم فرارًا من الاضطهاد، ولجأ «ويتلنج» نفسه إلى الفرار بعد حين من فرنسا إلى سويسرا، فقضي عليه هناك بالسجن؛ لأنه كتب فيها رسالة يشبه فيها نفسه بالسيد المسيح؛ لأنه صانع فقير يبشر بالاشتراكية ولا ينتمي إلى نسب من بني الإنسان.

ثم امتزجت حركة «بابوف» بحركة الاشتراكيين والماركسيين، فانتمى «ويتلنج» إليها وألف كتابًا سماه «ضمانات الوئام والحرية» قرظه «ماركس» وقال: إنه باكورة رائعة من بواكير الطبقة الألمانية العاملة، وزكاه آمنًا عواقب هذه التزكية؛ لأن أحدًا من الناس لم يكن ليأخذ هذه البواكير مأخذ الجد في عالم التأليف!

إلا أنَّ «ويتلنج» لم يقصر جهوده على الكتابة التي لا خوف منها على مكانة الإمام المقدم في مذهب الاشتراكية العلمية، بل طمح «ويتلنج» بعد التأليف إلى العمل المباشر، وجمع حوله شرذمة من العمال البابوفيين والفوضويين والماركسيين يدينون له بالزعامة؛ لأنه يحسن الكلام والكتابة، وتمادى في العمل المباشر، حتى دعا إلى الإضراب والمقاطعة الصناعية تطبيقًا لمبادئ «الأعمال المباشرة» في مذهب الشيوعيين، وكان في بروكسل من بلاد البلجيك يوم قرر «ماركس» دعوته إلى مجلس من مجالس الحزب العليا «للمناقشة فيما يمكن الاتفاق عليه من تنظيم حركة العمال الشيوعيين».

وعقدت هذه الجلسة «يوم ٣٠ من شهر مارس سنة ١٨٤٦» برئاسة «كارل ماركس» وحضور زميله «إنجلز» وطائفة من الثوار الموثوق بهم في المدينة من كل مهاجري الأمم الأوربية، ومنهم الشاب الروسي «أنينكوف» الذي كان يتنقل بين البلاد الأوربية، ويحمل إلى «كارل ماركس» خطاب توصية من زعماء الثورة في بلادهم، وهو الذي دون محضر هذه الجلسة، وأثبت فيه أحاديث «ويتلنج» و«ماركس» فيما دار بينهما من الحوار.

قال: كان الخياط المهيج «ويتلنج» شابًّا أشقر وسيمًا يلبس معطفًا فضفاضًا ويرسل لحيته لم يحفل بتهذيبها، ويخيل للناظر إليه أنه سمسار متجول، وليس بالعامل الثائر المتنمر الذي يظنه السامع بسيرته.

وبعد أن تعارف بعضنا إلى بعض عَرَضًا، وبدا «ويتلنج» خلال هذا التعارف في مظهر متكلف من الأدب والمجاملة، جلسنا إلى مائدةٍ خضراء صغيرة، وجلس «ماركس» على كرسي الرئاسة فيها بجمته التي تشبه لبد الأسد، منحنيًا على ورقة أمامه وبين أصابعه قلم من رصاص. وكان زميله الملازم في الدعوة «إنجلز» الطويل المعتدل القامة بهيئته الإنجليزية، الوقور، هو الذي افتتح الجلسة بحديثٍ عن ضرورة التفاهم بين طلاب الإصلاح من العمال على رأي واضح بين الآراء المتناقضة، وعلى خطةٍ مرسومة يتخذونها عَلَمًا لهم يحومون حوله، وينظر إليه أولئك الأنصار الذين لا يتاح لهم الوقت ولا القدرة على بحث المسائل النظرية باجتهادهم.

ولم ينتظر «ماركس» حتى يفرغ «إنجلز» من خطابه، بل رفع رأسه فجأة وقذف «ويتلنج» بهذا السؤال: أَنبئنا يا «ويتلنج»، إنك أثرت الشغب بدعايتك بين العمال الألمان وجمعت منهم طائفة اتبعتك فخسرتْ من جراء ذلك أعمالها وأقواتها، فما هي حجتك التي تسوغ بها نشاطك الثوري، وبأية قاعدة تدعم ذلك النشاط؟

وتلت هذا السؤال مناقشة أليمة لم تطل على كل حال كما سنرى من هذا البيان.

وبدا أنَّ «ويتلنج» يؤثر أن يجري المناقشة على أساس العرف الشائع من الخطابة الحرة، وابتسم بسمة الجد والقلق حين أخذ يقول: «إنَّ مهمته لم تكن تفرض عليه أن يبتدع نظريات جديدة في علم الاقتصاد، وإنما كانت مهمته أن يتبع الخطط التي كان يلوح من الأحوال الجارية في فرنسا أنها أوفق الخطط لفتح أعين العمال على شئونهم الجائرة وعلى المساوئ التي كانوا يُبتلون بها.

وأطال الكلام فأدهشني على خلاف ما توقعت، إنه لم يتكلم كما تكلم «إنجلز» في وضوحٍ وسلاسة، بل اختلط عليه القول وطفق يكرر عباراته ويعود إلى تصحيحها ويسبق النتائج التي تنبني على حججه أو يتعجلها.»

قال «أنينكوف»: إنه كان يواجه في هذا الاجتماع جمهورًا مغايرًا كل المغايرة لذلك الجمهور الذي ألف مخاطبته في دكانه وقبوله لكتاباته، وكان ولا ريب وشيكًا أن يسهب في القول فوق إسهابه لو لم يبادره «ماركس» بنظرة مغضبة وهو يصيح به متهكمًا: «إنه لمن الخداع السهل أن تثير الشعب بغير مبالاة بعمله، وإن إيقاظ الآمال الخيالية لن يفضي يومًا إلى خلاص المظلومين، بل يفضي على النقيض إلى ضياعهم وخذلانهم، وإن ذهابك إلى صناع ألمانيا على غير قاعدة علمية ولا نظرية قائمة، لا معنى له إلا أنه لعب فارغ بالدعاية مجرد من محاسبة الضمير، ولا نتيجة له إلا خلق رسول داعية من جهة، واجتماع قطيع من الحمير يستمع إليه فاغر الأفواه من جهةٍ أخرى.»

وأضاف «ماركس» إلى ذلك — وهو ينظر إلى الكاتب «أنينكوف»: «إن دور «ويتلنج» كان قمينًا أن يجدي جدواه في بلاد كروسيا، ولكنه في البلاد المتمدينة كألمانيا لا جدوى منه بغير الاستناد إلى النظريات القائمة.»

واحمر وجه «ويتلنج» الأصفر وأصبح كلامه حاميًا مباشرًا، وقال بصوتٍ يرتعش من الهياج: «إن الرجل الذي ينجح في جمع مئات من الرجال إلى نداء العدل والتضامن والمحبة الأخوية، لا يمكن أن يوصف بأنه رجل خاوٍ ذو دعاية فارغة، وإنه يستطيع أن يعزي نفسه أمام الحملة التي تنصب عليه تلك اللحظة، بذكر المئات من الرسائل الشاكرة والبيانات الراضية التي تقاطرت عليه من بلاده، وإن جهوده المتواضعة في خدمة المصلحة المشتركة لأهم من التخريجات النظرية الدقيقة التي تبتعد كثيرًا عن ناحية الشعب المهضوم والجماهير المظلومة.»

«وثارت ثائرة» «ماركس» بعد سماع هذه الكلمات الأخيرة فضرب المائدة بقبضة يده ضربة عنيفة هزت المصباح عليها، ووثب محنقًا وهو يصيح: «إنَّ الغباء لم يسعف أحدًا قط.»

«واقتدينا به فنهضنا وقوفًا وانتهت الجلسة بذلك.»

وقال «أنينكوف»: «إنه أسرع إلى توديع «ماركس»، وتركه حين انصرف من الحجرة وهو في هياجه يَذْرَعُها جيئة وذهوبًا.»

وواضح من هذا المحضر أنَّ العامل المغضوب عليه فوجئ بالمحاكمة وبالحكم في وقتٍ واحد، وختمت حياته السياسية في رأي زمرته لغير مخالفة تستطيع أن تحاسبه عليها؛ لأنها لم تبسط أمامه خطة مقررة يحاسب على مخالفتها، وإنما انعقدت الجلسة للاتفاق على هذه الخطة، ودُعي «ويتلنج» إليها للتفاهم على هذا الاتفاق، وقضى «ماركس» قضاءه المطلق في مصير الرجل بين جماعته حاكمًا بأمره، واثقًا من تأييد قضائه، وكل هذا في دعوة لم يكن لها من موجب وليس لها من حجة غير إنكار الاستبداد وضمان حق الضعيف الأعزل في وجه الحاكم المستبد وصاحب المال الغشوم.

•••

إن «هنريك ماركس» لم يسمع بغير القليل من هذه الفعال وهذه الأخبار حين قال عن ابنه — وفي قلبه غصة: «إن الأنانية غالبة عليه، وإنها وصمة أو لطخة على صفحة نفسه.»

هذا أقرب الناس نسبًا إليه، وأقربهم إليه فكرة، زميله «إنجلز» الذي سمع الكثير من تلك الفعال وتلك الأخبار، وعرف من خلاله ما عرفه أبوه، ولكنه كاد أن يخفيه عن ضميره حتى صدمه في إبان حزنه تلك الصدمة، فلم يكتمه أنه جامد الشعور يخفي جمود شعوره بالتعالي على خلق الله.

ويأتي بعد هذين كاتب من كُتَّاب التفسير المادي للتاريخ يعلم ما علمه الأب والزميل، وزيادة عليه مما أضافه الزمن إلى سيرة أستاذه، فلا يرميه بأقل من خلة الحقد والتقلب واختلال الإرادة.

فماذا يقول التاريخ وهو ينظر إلى الرجل بعين غير عين الأب أو عين الزميل أو عين التلميذ؟

إنه لا يستطيع أن يزوي بصره عن تلك الخلال التي تتمثل له حيثما نظر إلى علاقة من علاقاته الاجتماعية؛ لأن تلك الخلال التي تجمعها «الأنانية» الناقمة تملأ فراغ نفسه فلا تدع فيها متسعًا لغيرها، ويكفي أن يكون الرجل كذلك ليكون كما كان بغير حاجة إلى سر آخر غير ذلك السر المتكشف للعيان، إنه لم يكن صالحًا في علاقة من علاقاته الاجتماعية، لم يكن الطالب الصالح، ولا الابن الصالح، ولا العامل الصالح لنفسه ولأسرته، ولا الزميل الصالح في مودته أو خدمة دعوته، كان فاشلًا في كل علاقة من هذه العلاقات الاجتماعية، ولم يكن منظورًا منه شيء غير الفشل فيها، مع تلك الأنانية وتلك النقمة وذلك الجمود.

ولقد كان شخصًا منفرًا لمن حوله فيما يرجع إلى مسلكه بينه وبين نفسه، لا يقصد فيه المرء صلة بينه وبين أحد من أبناء نوعه.

كان قذرًا يهمل الاغتسال والنظافة، وكان منظر القروح والثآليل التي تملأ وجهه وعينيه وما ظهر من جلده يزيد قذارة على قذارة، وكانت هذه القروح والثآليل مما يجنيه على نفسه بتهافته على الأطعمة الممنوعة على الرغم من وصايا الأطباء وإلحاحهم عليه في اجتناب الطعام الذي لا يوافق المصابين بالكبد، ولا سيما الذين أزمنت فيهم هذه الإصابة من جراء النهم وفعل الوراثة، وقد نقل «ليوبلد شوارزشيلد» صاحب كتاب البروسي الأحمر نبذة من الرسالة التي كتبها بعضهم إلى صهره عن معيشته في لندن جاء فيها «إنه شخص مشعث للغاية، سيء التصرف في أعماله، يجري في معيشته على نهج المتشردين من المشتغلين بالمطالب الفكرية، ويندر أن يستحم أو يمشط شعره ويغير ملابسه الداخلية، يشرب كثيرًا ويحوم أيامًا على غير هدى وبغير عمل. فإذا حزبه أمر لازب قضى الليل والنهار في العمل: ولا يخطر له على بال أن ينظم ساعاته ومواعيده.»

هذه الرسالة وما في معناها من التقارير محفوظة في دار المحفوظات بمدينة ليبزج نقلها المترجم عن المجلد العاشر من أخبار الاشتراكية الألمانية.

وإذا كانت هناك تتمة لهذه الصورة المنفرة، فهي مسلكه الشاذ الذي لا نظير له في البيئة اليهودية التي نبت فيها، فإنه جمع فيه طرفي النقمة من قومه وعلى قومه في آونة واحدة، فلا هو بالمسلك الذي يرضى عنه قومه ولا هو بالمسلك الذي يرضى عنه أعداء قومه، كأنما آلى على نفسه ليكونن بغيضًا منفرًا حيث كان وكيف كان.

وتقدم من كلام «روهل» أنَّ شعوره بالنسبة لليهودية كان مركبًا من مركبات النقص التي يفسر بها تناقضه واختلال أحواله.

كان ولا شك يهوديًّا في أعمق أعماقه، وكانت زمرته التي يأوي إليها على الأكثر من شذاذ اليهود، وأصحاب الفضول منهم، كما جاء في كلام «باكونين» عنه، وكان هو يتشبه بالأسلاف والآباء اليهود كما وصفتهم كتب التلمود، فيرسل لحيته ويطلق جمته ويحب أن يتراءى للناس كأنه أب من آباء العبرانيين في أيام إسرائيل الأولى، ولكنه لا يكتب عن اليهود واليهودية إلا ليحاول أن ينفي عنه ذلك النسب اليهودي، ولا يجد أمامه سبيلًا إلى التنصل منه غير سب اليهودية والإنحاء عليها، ومن كلامه في ذلك: «ما الأساس العالمي الذي تقوم عليه اليهودية؟ إنه الضرورة العملية وحب المنفعة الذاتية. وما النحلة العالمية التي تنتحلها اليهودية؟ إنها نحلة الطواف والتجوال، وما الإله العالمي لليهودية؟ إنه المال.»

ويجتهد «روهل» في استنباط البواعث النفسية وراء هذه الحملة فيعزوها إلى الرغبة في التنصل وتسويغ الخروج على الملة الموروثة، إلا أنه باعث من بواعث شتى، يفرضها المترجمون له من أنصاره وخصومه، فمنهم من يرى أن الحملة على اليهودية حيلة يسوغ بها الحملة على الأديان جميعها، ومنهم من يرى أنَّ هذه الحملة دفع مقدم لتهمة النية المبيتة على هدم المجتمعات القائمة وتسليم زمامها لسماسرة المال بعد تقويض القيم المرعية في تلك المجتمعات من روحية أو وطنية أو عقيدة خلقية، منهم من يرى أنَّ الحملة على اليهود من قبيل التحدي لقومه؛ لأنه يحس منهم الزراية به وبأهله وبالصابئين عن ملة الآباء والأجداد.

وكل باعث من هذه البواعث شائن معوج متناقض مع دعواه، ولا سيما الإنحاء على اليهودية؛ لأنها تقدس الضرورة العملية، وتنزع إلى الطواف والتجول، فإن هذه المذمة أعجب المثالب من رجل يقيم النظام الاجتماعي كله على الضرورات العملية، ويدمغ الوطنية — أو حب الوطن — بتهمة السخرية والتسخير من تدبير أصحاب الأموال والقابضين بأيديهم على أَزِمَّة الإنتاج.

وبأي هذه البواعث يأخذ الناظر في ترجمته لا يكون «كارل ماركس» إلا — كدأبه المعهود — مثلًا سيئًا لليهودي في انتسابه وانتقاضه على بيئته وعلى أصله الذي لا فكاك منه بحالٍ من الأحوال.

•••

هذه صورة تامة، وإن تكن موجزة، لإمام الاشتراكية المادية أو الاشتراكية العلمية، لم نأت على لمحةٍ من ملامحها البينة من غير مصدرها، ولم نرجع في تلك المصادر إلى أعدائه ومخالفيه إلا أن يكون كلامهم مطابقًا لكلام الأصحاب والأقربين.

ولا ندري بعدها ماذا يقول القائل في أولئك الذين يتركون الناحية الوحيدة التي ينبغي أن يتجه إليها الباحث قبل كل وجهة تصلح لمناقشة مذهبه أو مناقشة دعوة من الدعوات تنضح بها هذه الشخصية المعتلة، وما يختلف رأيان مستقيمان في طبيعة بواعثها وصبغة تفكيرها وشعورها بما ينكشف للنية وما يأتي على غير وعي أو نية مكشوفة لصاحبها.

كل ما في وسعنا أن نقوله: إنَّ طغيان كلمة «العلم» في القرن التاسع عشر هو الذي وضع هذا المذهب في موضع الفروض العلمية، وإن طغيان كلمة «العلم» قد اقترن به شيوع الثورات التي يقودها أناس من القائلين بالتفسير المادي للتاريخ، فنسي الناقدون «العلميون» أنَّ عناوين الثورات غير أسرارها ومضامينها، وأن كثيرًا من الثورات كان شعاره خرافة يردها العقل لأول نظرة، ولا تحتمل المناقشة العلمية ممن يجد في احترام العلم والمناقشة.

ولولا طغيان كلمة «العلم» في القرن التاسع عشر وظهور الثورات المسماة بالماركسية في القرن العشرين لما كان للماركسية كلها مكان في البحث غير مكان الظواهر النفسية، فإن الظواهر النفسية كما تمثلت في «كارل ماركس» كافية كل الكفاية لتفسير مذهبه بجميع تفصيلاته وفروعه ومراميه: كل شيء فيه مقرر مؤكد على قدر نصيبه من النقمة ومن إشباع شهوة الحقد والكراهية، وكل شيء فيه مرفوض منقوض إذا أبطل تلك الشهوة أو رفع عنها نقابها ونفذ دخيلتها.

وهكذا يفسر كل مبدأ من مبادئ «كارل ماركس» وكل حجة من حججه؛ لأنها على أية حال لم تبلغ من الثبوت واليقين مبلغًا يهون نقض الدعائم الإنسانية القائمة على رءوس الملايين من الضحايا ما لم يكن ذلك مبنيًّا على طبيعة مجبولة من الشر والنقمة، وأن أيسر شك في ثبوت تلك المبادئ لحقيق أن يدعو صاحبه إلى مراجعة النفس والأناة قبل الهجوم على كوارثه وجرائره بغير حيطة ولا تدارك مستطاع بعد فوات الأوان.

تلك هي الحقيقة السافرة على وجه المادية الماركسية.

تلك حقيقة كل ادعاء يخول رجلًا واحدًا أن يحيط بقوانين الكون من مبدئها إلى منتهاها، ويجزم بها الجزم الذي لا يداخله شيء من التردد الكثير أو القليل مع وخامة عقباه.

حقيقة إنه «ظاهرة نفسية» تتلخص في بضع كلمات: «شهوة النقمة، والخراب.»

وسترى أنَّ شهوة النقمة والخراب هي التي تصغي بالأسماع إلى هذا المذهب الأثيم، كما كانت هي مصدر الصيحة بوحيه ودعوته ودعواه.

١  Karl Marx. His life and work by Otto Ruhle translated by Eden Cedar Paul.
٢  Spiritual Metabolism.
٣  Hypochondriac.
٤  Spirits.
٥  «بير» عن «ماركس وتعاليمه» Life and Teaching of Karl Marx by Beer.
٦  Herzen.
٧  Proudhon.
٨  Schurze.
٩  Reminisenceo by Carl Schurz «ذكريات شورز».
١٠  Teechow.
١١  Laidler.
١٢  Laidler.
١٣  من كتاب البروسي الأحمر بإسناده إلى مصدره الألماني Red Prussian Max—Englez—Gesamt Ausgabe.
١٤  The Red Prussian.
١٥  تراجع أسانيد «البروسي الأحمر» الألمانية والرسائل المتبادلة بين «ماركس» و«إنجلز».
١٦  كتاب «روهل» عن حياة «كارل ماركس» وعمله.
١٧  من كتاب «روهل» عن «ماركس وحياته».
١٨  Dunker.
١٩  البروسي الأحمر.
٢٠  البروسي الأحمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤