الأوطان والديانات

والوطنية والدين أحبولة أخرى من أحابيل الاستغلال، ولا مصدر لهما غير الوسائل الاقتصادية — أو وسائل الإنتاج — التي تستولي عليها طبقة بعد طبقة، ثم تزولان بعد زوال الطبقات، ففي البيان المشترك يقول الصاحبان: إنَّ الشيوعيين يخالفون هيئات العمال الأخرى بما يأتي فقط:
  • أولًا: أنهم في المعارك الوطنية التي يشترك فيها الصعاليك — البرولتارية — بين البلاد المختلفة يبرزون علانية، وينبهون إلى مصلحة الصعاليك العامة جملة واحدة بمعزلٍ عن القوميات جميعًا.
  • ثانيًا: وأنهم خلال التطورات التي تمر بها حركات العمال ضد البرجوازيين يُمثِّلون على الدوام، وفي كل مكان، تلك الحركات في مجموعها.

وفي ذلك البيان يقولان: «إن العمال لا وطن لهم، وإننا لا نستطيع أن نأخذ منهم ما ليس لهم.»

أما الدين فرأي الماديين فيه تلخصه الكلمة المشهورة في مقالة «كارل ماركس» عن «هيجل»: «إنه نفثة المخلوق المضطهد، وشعوره بالدنيا التي لا قلب لها، إنه أفيون الشعوب»، ومثلها كلمته في حرب الطبقات بفرنسا إذ يقول: «إنه الأفيون الذي يخدر الشعب لتسهل سرقته»، «وإن الدين كان وسيلة الإخضاع الروحي كما كانت الدولة وسيلة الإخضاع الاقتصادي»، وهو رأيه الذي أكده في كلامه عن حروب فرنسا الداخلية.

ويتفق «ماركس» و«إنجلز» على أنَّ الدين كما قال «إنجلز» في الرد على «دهرنج»:

ينشأ قبل أن تنتهج الوسائل التي يكسب بها الإنسان معيشته، وإن الإنسان يواجه الطبيعة مباشرة في تلك الحالة فتقف أمامه الطبيعة قوة غلابة غامضة يعبد منها ما لا يدركه، وما الدين إلا انعكاس القوى الظاهرية التي تسيطر على معيشته اليومية.

ويقول «ماركس»: «إن المسيحية تقرظ الجبن واحتقار النفس وإذلالها، وتحبذ الخضوع والخسة وكل صفات الكلب الطريد.

وإن أصحاب المصالح قد استغلوا المسيحية كلما وجدوا لهم مصلحة في استغلالها، فجعلوها دين الدولة بعد قرنين ونصف قرن من ظهورها، وجاء البرجوازيون في ألمانيا فأبدعوا البروتستانتية، ولم يستفيدوا منها لضعفهم فاستفاد منها الملوك المطلقون؛ لأنها رفعت عنهم سلطان الكنيسة.

والدين — جملة — هو الغذاء الخادع للضعفاء؛ لأنه يدعوهم إلى احتمال المظالم ولا يزيلها.»

•••

ذلك هو لباب الفكرة الماركسية عن أصل الوطن والدين، ولهم في كل فكرة من هذا القبيل تتمة يلحقونها بها مؤداها أنَّ العقيدة الوطنية أو الدينية تنشئ لها «تركيبة عليا»١ من الشعائر والمراسم، تعمل في الظاهر مستقلة عن وسائل الإنتاج، ولكنها مشتقة منها متوقفة عليها.

ودينهم المفهوم في تعليل جميع العقائد الوطنية أو الدينية أنهم متى وصلوا إلى وسائل الإنتاج أخذوا كل حالة اقتصادية تصادفهم، فجعلوها سببًا للعقيدة التي تعاصرها. وقلَّما يعنيهم أن يذكروا أنَّ النظم الاقتصادية متكررة مشتركة بين جميع الأمم منذ عصر الرق إلى عصر البرجوازية ثم الصناعة الكبرى، فكيف يشترك النظام الواحد في تعليل الوطنية التي تعلم الناس الكفاح والأنفة وتعليل الدين الذي يقولون إنه يعلمهم الجبن والضعة والاستكانة! وكيف نعلل بنظام الرق مثلًا ديانة توصي بإحراق الجسد وديانة توصي بتحنيطه وتخليده في الحياة الدنيا وفيما بعدها؟ وكيف يسفر الرق في إسبرطة عن الجندية والقانون ويسفر في أثينا عن الحكمة والأدب والفن الجميل؟

وقبل الوطنية كيف نشأت العنصرية وهي تشبهها في نخوة النسب وصيانة الحوزة وقد تزيد عليها بوحدة اللغة ووحدة العرف والتراث؟ هل هي أحبولة قديمة بليت في أيدي الطبيعة فنبذتها واخترعت الوطنية لتكون أحبولة جديدة تحل في محلها؟ وهل استقام التاريخ على سنة النصب والاحتيال، فليس فيه من النظم والعلاقات إلا الشرك القديم ينبذه ويحفر بعده موضعًا خفيًّا للشرك الجديد؟

•••

إن دعاة الشيوعية شاهد قوي على صحة قول القائلين: إنَّ ملكة الخيال وملكة الفكاهة ضروريتان للبحث الفكري كضرورة الفهم والمنطق والدراية. فقد كان «ماركس» و«إنجلز» وأتباعهما على فقرٍ شديد في كلتا الملكتين، ولم يكن لأحدهم نصيب من ملكة الفكاهة ولا من ملكة الخيال، ولولا ذلك لأدركا الصورة المضحكة التي يصوران بها النواميس الكونية وهي تعمل في المجتمع البشري، فكان لهما من تلك الصورة المضحكة تنبيه يدعوهما إلى المراجعة والجد في فهم مسائل الكون ومسائل الاجتماع.

أي صورة للنواميس الكونية في المجتمع البشري يتصورها من يلم بمذهب الشيوعيين في تفسير التاريخ؟

إنه يتصور أنَّ هذه النواميس الكونية خلعت ملابس الشغل الشريف، وتسلمت التاريخ البشري في زيٍّ جديد، هو زيُّ النصاب المحتال الذي لا يفرغ من خدعة إلا ليحتال على خدعةٍ غيرها، ولا يزال في عملية مستمرة من الخداع والتضليل يموه الحيل والأباطيل بمظاهر التقدم والحضارة، ويسعده الحظ بالغفلة بعد الغفلة في عقول الناس حتى يخذله الحظ في سهوةٍ من سهواته، فيظهر له الشاطر «كارل ماركس» من زاوية من الزوايا لم تكن في الحسبان، ويكشف عن زغله للعيان من الآن إلى آخر الزمان.

صورة مضحكةٍ زرية.

وليس المطلوب من «كارل ماركس» وأتباعه أن يبنوا مذهبهم على الخيال والفكاهة وكفى، ولكن المطلوب منهم أن يدركوا الصورة المضحكة الزرية فينتهوا إلى الخطأ وينتفعوا بهذا التنبه في معاودة البحث واجتناب الهزل والزراية في تصوير النواميس الكونية، وهي أكبر ما يتناوله العقل الإنساني بالتصوير.

ولو قد تنبها لأدركا حكمة الخلق التي لا تداري نفسها عن أحد يريد أن يبصرها، فإنها أقرب من تلك اللغة الطويلة وراء عمليات النصب، وراء كل سر من أسرار تاريخ الإنسان.

إن الوطنية ليست بحيلةٍ من حيل الإنتاج؛ لأنها خليفة العنصرية وشبيهتها في ظواهرها وبواطنها، وليست هي — أي العنصرية — من حيلة أحد يقصدها أو لا يقصدها؛ لأنها علاقة الدم والقرابة التي لا اختيار فيها لخادع أو لمخدوع، وليس أهزل من مفكر يعمد إلى شعورٍ عام بين الناس على اختلاف أرزاقهم ومواردهم، فيزعم أنه حيلة من مخدوعين يحتالون بها على مخدوعين آخرين. وما كان شعور الوطنية أو العنصرية في أمةٍ من الأمم وقفًا على طائفة أو طبقة أو صناعة أو هيئة اجتماعية دون هيئة أخرى فيقال: إنه من أخاديع فريق للعبث بفريق.

أقرب من هذا التفتيش الدائب على عمليات النصب والاحتيال وراء كل سر من أسرار التاريخ، أن ننظر إلى حكمة الخلق في كل بنية حية وكل كيان اجتماعي أو عضوي، فنرى هنالك أنَّ حكمة الخلق تودع في كل فرد إيمانًا قويًّا بخدمته لمصلحته، حين يعمل في خدمة الجماعة أو البيئة التي ينتمي إليها، وأقوى ما يكون ذلك في خدمة النوع أو خدمة البيئة الحية، ولو كان خدامها من الأعضاء التي لا عقل لها ولا إرادة، من الذي يخدع اليد، فيرفعها إلى الرأس لتتلقى الضربة التي توشك أن تحطمه.

من الذي يخدع الخلايا في باطن الجسد فيدفعها إلى التجمع لوقاية البنية كلها من فتك الجراثيم؟

من الذي يخدع الفرد فيشيع في بنيته السرور بحفظ النوع، ويشيع في بنيته الصبر على مضانك الحمل والرضاعة والتربية؟

هذه هي حكمة الخلق في شعور الفرد بمصلحة الجماعة وشعور الجزء بمصلحة سائر الأجزاء، هذه هي الحكمة التي تخلق لكل بنية اجتماعية ضربًا من «الأنانية» الكبرى تقترن بالأنانية الفردية لتعمل في خدمة الجماعة كما تعمل في خدمة الفرد على حدة.

فكلما وجدت جماعة من الخلق وجدت معها «شخصية» أو أنانية كبيرة تصونها وتوكلها بالحفاظ على نفسها، كما توجد «الأنانية» في كل مخلوق لحماية نفسه ومقاومة العوامل التي تنازعه البقاء من حوله.

سنة الخلق في خلايا البنية، سنة الخلق في أفراد النوع، سنة الخلق في آحاد القبيلة أو العنصر أو الوحدة الوطنية، سنة قريبة جِدُّ قريبة لمن يشاء أن يبصرها حيث استدار بنظره إليها، ولكنها بعيدة جد بعيدة عمن ينظر إلى كل وجهة، فيأبى أن يرى شيئًا غير النصب والاحتيال في قواميس الكون وقوانين الاجتماع وأسرار التاريخ.

•••

إن الجماعات البشرية لم تخل قط من شعور كشعور الوطنية منذ عهد القبيلة الأولى، ونحن نعرف شعور المصري الذي كان يؤمن بمقام المصري في المرتبة الأولى بين مراتب الأجناس البشرية، ونعرف شعور العربي الذي كان يفخر على الأعاجم ويصف بالأعجمية كل من لا يتكلم العربية، ونعرف شعور اليوناني الذي كان يطلق وصف البربرية على كل أمة لا تنتسب إلى القبائل اليونانية، ونعرف فخر الروماني بالمدينة الخالدة واعتباره النسبة إليها ذروة المرتقى في الشرف والكرامة. وهذا الشعور في كل جماعة من هذه الجماعات هو الحافز الذي كان ينهض بكل فرد للدفاع عن «شخصيته الكبرى» التي ركبت في طبعه إلى جانب الشخصية الفردية، وما كان هذا الشعور بدعة في طبائع الجماعات والكائنات العضوية، فإننا نرى أصوله عميقة مكينة في غريزة النوع وفي تركيب الخلايا الجسدية وتركيب الأعضاء التي تتحرك لدفع الخطر عن البنية كلها، ولو أصيبت بأخطر ما يصاب به العضو على انفراده، وما أقرب هذا التفسير لمن يبحث عن التفسير! وما أبعده عمن يبحث عن «عملية النصب والاحتيال» وراء نواميس الكون وصروف المقادير!

•••

أما الدين فلو كان ﻟ «كارل ماركس» نصيب من خيال التشبيه لما خطر له أن يشبهه بشيءٍ من المخدرات أو المسكرات، إذ كانت الأديان جميعًا تقوم على الإيمان بالجزاء والثواب والعقاب، وتعلم المتدين أن يحاسب نفسه على تبعات أعماله؛ لأنه محاسبٌ عليها في السر وفي العلانية، وتغرس في نفسه عادة الاحترام والتقديس وتحذره الْقِحَةَ وسوء الأدب. وهذه العقائد كلها هي وحالة السكر نقيضان لا يجتمعان، وأول ما يسقطه السكر عن المخمور أو المخدر شعوره بالتبعة وشعوره بالاحترام، فلا يبالي عاقبة عمله ويتطاول على العظماء في نظره، وتكاد تكون الكلمة الأولى على لسان كل سكران: أنا لا يهمني شيء، أنا لا أبالي بإنسان!

ومن عجز الخيال أن يختار «ماركس» للدين تشبيهًا لا يصدق على عقيدة قط كما يصدق على عقيدة الشيوعية؛ لأن الشيوعية تروج بين الذين يسقطون التبعة عن أنفسهم، ويلقون أوزار الجرائم والرذائل على المجتمع، وتمهد العذر للسراق والجناة والمنافقين بما تتهم به المجتمع من الرياء والظلم وسوء التصريف والتدبير، وتعطي كل من يشتهي التطاول حجة للتطاول على المحسودين أو للتطاول على ما يشاء من الحرمات والمقدسات. وما من سببٍ يغري بتعاطي المخدرات والمسكرات إلا كان من المغريات بالشيوعية على حدٍّ سواء، فحيث توجد الأسباب للإقبال على السكر توجد الأسباب للإيمان بالشيوعية على السواء.

ومن عجز الشعور — لا من عجز الخيال وحسب — أن يسوي الماركسيون بين الفرائض العامة التي يدين بها المرء في حياته الاجتماعية، ولا مساواة بينها في الحس ولا في الفكر ولا فيما يقصده من معناها.

من عجز الشعور أن يسوي الماركسيون بين فرائض العرف والعادة وفرائض القانون وفرائض الأخلاق وفرائض الدين، وما من فريضةٍ من هذه الفرائض تقع في النفس موقع الفرائض الأخرى، أو تنبعث في أعماق الضمير من حيث تنبعث الأخرى.

من عجز الشعور أن يقال: إنَّ هذه الفرائض المتعددة تصدر من أسباب اجتماعية أو نفسية واحدة، إذ لا معنى لتكرار هذه الفرائض في كل أمةٍ لتقوم بغرضٍ واحدٍ وتخرج من مصدرٍ واحدٍ، ولو حدث هذا اتفاقًا في بيئة واحدة لأمكنت نسبته إلى المصادفات أو الفلتات التي لا يُقاس عليها، ولكن فرائض العرف وفرائض القانون وفرائض الأخلاق وفرائض الدين تتكرر في كل بيئةٍ ولا تغني إحداها عن سائرها.

فالإنسان يتَّبع العادة اتِّباعًا آليًّا يكاد يخرج من عداد الأعمال الإرادية، ويقال عن العمل: إنه جرى بحكم العادة ليقال: إنه غير مقصود، وإنه لم يصدر عن روية وتقدير. ويصح أن ترجع العادات في جملتها إلى التقليد المرعي في البيئة الاجتماعية المحدودة، وإن ضاق نطاقها كما يلاحظ في العادات، التي تختلف بين إقليمٍ وإقليم وبين قريةٍ وقرية.

وفرائض القانون يتبعها الإنسان بمشيئته، ويروغ منها أحيانًا إذا استطاع؛ لأنها تفرض عليه برأي «السلطة» ولا يؤمن بصحتها أو إنصافها في جميع الأحوال.

وفرائض الأخلاق يتبعها الإنسان ويخجل من مخالفتها؛ لأنها في الغالب منوطة بكرامته الإنسانية التي تعم كثيرًا من الأمم والبيئات، ولا يحس أنها صادرة من السلطة أو أنها مقيدة بعشيرةٍ واحدة، ولا نحسبها كانت على غير هذه الصفة حتى في الأزمنة الأولى، التي كان وازع الأخلاق فيها مقصورًا على عشيرةٍ واحدة غير ملزم لأبنائها في معاملتهم للعشائر الأخرى. فهذه العشائر الأولى أيضًا كانت تؤمن بأن الأخلاق من كرامة الإنسانية، ولكنها كانت ترى أنَّ الإنسانية المثلى صفة من صفاتها دون سواها، وأن العشائر الأخرى لا تستحق رعاية الأخلاق؛ لأنها لا تستحق كرامة الإنسان.

هذه الفرائض يمكن أن يقال: إنَّها من وحي البيئة المحدودة أو أنها من وحي الأمة والدولة أو أنها من وحي الإنسانية في بيئاتها المختلفة، وكل هذا لا يمكن أن يقال عن الدين، فيحبط به ويستغرقه، ويفسر جميع بواعثه وأسراره في المجتمع أو في الضمير.

إنما يفسره بعض التفسير أنه يقوم على علاقة الإنسان بالكون كله لا بالنوع الإنساني ولا بالأمة أو البيئة الخاصة، وأنه يلتمسه لأنه يلتمس معنى حياته ومعنى الوجود الظاهر له والمغيب عن حسه وعقله، وقد يناقض الاعتقاد الديني في بعض الملل غريزة البقاء في نوع الإنسان، وقد يثير المتدين على قومه وعلى عشيرته الأقربين، وقد يوقع في روعه أنَّ الخلاص في الخروج على وحي العرف المحدود، ووحي القانون، ووحي الأخلاق، المصطلح عليها.

ومن الجهل بطبيعة الشعور الإنساني أن يقع في الظن أن صاحب الثروة يستغني عن هذا الشعور الديني، ويستغني عن فهم معنى حياته ومعنى الوجود المحيط به ولا يحتاج إلى الدين إلا ليضلل به المحرومين ويستعين به على الكسب والاستغلال.

وأجهل من ذلك أن يقال: إنَّ الإنسان يتدين؛ لأنه ضعيف بين نواميس الكون وقوى الوجود، فهذا كلام من قبيل تحصيل الحاصل لأنه يمنع تفسير الدين على وضعٍ من الأوضاع، فلن يكون الإنسان على حالٍ من الأحوال إلا ضعيفًا بين نواميس الكون وقوى الوجود. فكيف ندرك الحقيقة إذن في حقيقة الدين؟ هل نرجعها إلى اليوم الذي تنقلب فيه الآية، فيصبح الكون أضعف من الإنسان، أو يصبح الكون مهملًا في نظره لا ينطوي على سرٍّ من الأسرار.

على أنَّ الضعف الإنساني لا يصلح للإحاطة بتفسير الدين إلا إذا كان الضعف أغلب الصفات على أصحاب الضمائر الدينية، وليس هذا من الحقائق التي تؤيدها المشاهدة والتجربة؛ لأنه يناقض المشاهدة والتجربة في كثيرٍ من الأحوال، فلا يكون الدعاة الدينيون إلا من أقوى الأقوياء وأعظمهم نفوسًا وأقدرهم على الإرادة والمضاء.

•••

وسائل إنتاج، وسائل إنتاج، لا شيء ولا أول ولا آخر غير وسائل الإنتاج، دين، وطنية، علم، فلسفة، أدب، فن، أخلاق، أسرة، زواج، رهبانية، كل هذا تبحث عنه في وسائل الإنتاج ولا تبحث بعده عن شيء غير وسائل الإنتاج.

إن الرجل الذي يفسر جميع الأمور بإرادة الله مفهوم من الوجهة العلمية؛ لأنه يؤمن بأن الله هو السبب الأول لجميع الأسباب، ولا مناقضة للعلم في الرجوع بالأسباب طُرًّا إلى أصلها الأصيل.

أما الذي لا نفهمه من الوجهة العلمية، فهو وسائل الإنتاج التي لا تفسر لنا شيئًا؛ لأنها تفسر كل شيء بلا استثناء، ولو كان من شأنها أن تفسر كل ما تدعي تفسيره لوقفت بنا في منتصف الطريق حين تقول لنا: إنَّ وسائل الإنتاج هي التي تنشئ الطبقة، وتقول لنا مرَّة أخرى: إنَّ الطبقة هي التي تنشئ وسائل الإنتاج، وتقول لنا في جميع المرات: إنَّ علاقات الإنتاج هي المهمة، وليست هي الآلات والمخترعات والموارد والنفقات.

•••

وإنه لمن المألوف قديمًا وحديثًا أن نسمع أن الأغنياء يستمتعون بمحاسن الطبيعة، وجمال النساء، ونفائس الجوهر؛ لأنهم يملكون المال الذي يشارفون به بهجة الربيع ومناظر الأودية والبحار ويغرون به المرأة ويقتنون به ذخائر الأحجار الكريمة، إلا أنه من السخف — أهزل السخف — أن يقول قائل من أجل ذلك: إنَّ أصحاب الثروة هم الذين خلقوا الربيع، وخلقوا جمال المرأة، وخلقوا كنوز المناجم والبحار؛ لأنهم يملكون المال أو يملكون وسائل الإنتاج، وإنه لأسخف من ذلك أن يقول قائل: إنهم خلقوا الأديان والعقائد في المجتمعات؛ لأنهم يشترون ضمائر الأدعياء من المتدينين، فإن محاسن الطبيعة والنساء لا تنكر الثروات الضخام ولا تحيطها بالريبة والوعيد، ولكن الأديان جميعًا تُنْحي على جشع الثروة وتستريب بمن يجمع منها ما لا طاقة له بتحصيله بوسائل الربح الحلال، وهذه هي الأديان الكتابية الثلاث تسمعنا نعوتًا للثروات الضخام وأحكامًا على أصحابها أقل ما يقال فيها: إنها ليست من أقوال المحاباة والاستحسان.

فشريعة موسى عليه السلام قد شرعت لقوم من أحب خلق الله للمادة ومتاعها، فحرمت عليهم الربا والرهن، وجاء في سفر الخروج من العهد القديم الذي يدينون به: «إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك، فلا تكن له كالمرابي ولا تضعوا عليه ربا. وإن ارتهنت ثوب صاحبك فإلى غروب الشمس ترده له؛ لأنه هو وحده غطاؤه»، وتكرر هذا في سفر اللاويين حيث يقول الإصحاح الخامس والثلاثون: «وإذا افتقر أخوك وقصرت يداه عندك فأعضده غريبًا أو مستوطنًا فيعيش معك. لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة بل اخش إلهك فيعيش أخوك معك.» وسبق هذا التحذير تحذير من الاستئثار بما يشتريه صاحب المال، فجاء في الإصحاح الخامس والعشرين «إن الأرض لا تباع بتة؛ لأن لي الأرض وأنتم غرباء ونزلاء عندي، بل في كل أرض ملككم تجعلون فكاكًا للأرض، إذا افتقر أخوك فباع من ملكه يأتي وليه الأقرب إليه ويفك مبيع أخيه، ومن لم يكن له ولي فإن نالت يده ووجد مقدار فكاكه، يحسب سني بيعه ويرد الفاضل للإنسان الذي باع.»

وفي سفر أشعيا نذير بالويل لمن يجمعون المال والعقار «فالويل للذين يصلون بيتًا ببيت وحقلًا بحقل»،٢ «ومن أنفق نفسه للجائع وأشبع الذليل أشرق في الظلمة نوره وأصبح كالظهر خلا من الدامس.»٣

ويعقب المعقب على هذه الوصايا — حقًّا — بأن الأخلاف من قوم موسى فهموا منها أنها مشروعة لشعب إسرائيل دون غيره، أو يعقبون عليها — حقًّا — أنها لم تسمع ولم يعمل بها أو لم يكن العمل بها إلا على الرياء والمواربة. فلا هذا ولا ذاك يثبت شيئًا مما يقوله الماركسيون عن أصل الأديان، إذ يزعمون أنها من صنع الأغنياء لمحاباتهم وتسويغ سلطانهم؛ لأنَّ قصور العقائد الدينية كقصور الثروة في كل زمن عن بلوغ ما تصبو إليه، فلا رياء الأغنياء للدين بمبطل حقيقة المال، ولا رياء المتدينين للمال بمبطل حقيقية الدين، وليس انتفاع الغني بمداراة العقائد الدينية حجة للقائل بخلق الثروة للعقيدة، ولا انتفاع المعتقدين بمداراة المال حجة للقائلين بخلق العقيدة للثروة، وإنما يدل هذا وذاك على حقيقة واحدة: وهي أن وسائل الإنسان جميعًا لا تبلغ به كل ما يصبو إليه، وأنه لا يعلن كل ما يبطن في جميع الأعمال والنيات.

•••

وقد أسلفنا أن الشريعة الموسوية شرعت لقوم من أحب خلق الله للمادة ومتاعها، فلم يكن فيها ما يعزز قول القائلين: إنَّ الأغنياء يروجون العقائد في المجتمع لتسويغ مطامعهم واستباحة ما لا يباح. ثم جاءت المسيحية على أثر الموسوية، فكانت في صميمها حملة على الثراء أو ثورة على ملكوت الأرض من أجل ملكوت السماء، وآيتها أن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني إلى ملكوت السماء، وأدبها بعد أدب السيد المسيح مشروح في وصية يعقوب من الإصحاح الثاني حيث يقول:

إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم الذهب في لباس بهي ودخل معه فقير بلباس وسخ فنظرتم إلى اللابس البهي وقلتم له: اجلس أنت هنا حسنًا. وقلتم للفقير: قف أنت هناك أو اجلس هنا تحت موطئ قدمي. فهل لا ترتابون في أنفسكم وتصيرون قضاة أفكار شريرة؟! اسمعوا يا أخوتي الأحباء، أما اختار الله فقراء هذا العلم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه؟! أما أنتم فأهنتم الفقير، أليس الأغنياء يتسلطون عليكم وهم يجرونكم إلى المحاكم؟!

إن معظم ما وعته الأناجيل الباقية والكتب الملحقة بها يوافق هذه العقيدة وهذا الأدب الديني في مواجهة الفقر والغنى، فمن الهذيان ألا تعلل الديانة المسيحية في نشأتها أو في تطورها إلا بالعلة الببغاوية التي يحفظها الماركسيون، كلما عللوا الظواهر الاجتماعية، فردوها جملة واحدة إلى خدمة مصالح الأغنياء، ولو كان أمامنا مائة تعليل لنشأة دين كالدين المسيحي، لجاز أن يقبلها العقل على علاتها قبل أن يسيغ القول بأن المسيحية اختراع الأغنياء لترويض الفقراء، ولا بد أن نبتعد من هذا التعليل مراحل شاسعة، حين نعلم أنَّ الغني المسيحي يؤمن بدينه كما يؤمن به الفقير المسيحي، ولا يشعر لمحة عين بأنه مذهب مخترع على قصد منه لخداع الفقراء وتسخيرهم في خدمة دنياه، ومن خطر له هذا الخاطر من الأغنياء فقد يماثله أناس من الفقراء، ينحرفون بهذه المظنة عن الدين كما ينحرف عنه أصحاب الأموال.

وليس مما ينقض الرأي الصواب في نشأة المسيحية أن تراد لمقاومة إغراء المال ثم يستطيع أصحاب المال أن يحتفظوا بالقدرة على الإغراء، فإن المضروب الذي لا يقتله السكين ويلويه على الضارب لا يقال عنه من أجل ذلك: إنه هو الذي صنع السكين ليضرب به ويلويه على ضاربه، وما يقوله الماركسيون بهذا المعنى فإنما هو أضحوكة، لا تقل عن هذا الضرب من الأضاحيك.

لا جرم يصطدم الهذيان الماركسي الذي يسمونه علمًا بالحقائق التاريخية وبالواقع من تجارب الماركسيين في دولتهم بعد الحرب العالمية، فيعاد النظر في تعليل نشأة المسيحية، ويتراجع الدعاة شيئًا فشيئًا عن التفسير الماركسي المحفوظ إلى تفسيرٍ آخر، يحاول أصحابه أن يوفقوا بين التاريخ — كما حدث — وبين فلسفة التاريخ على مذهبهم، ويلم بهذا الموقف الجديد «تيماشيف» صاحب كتاب «الدين في روسيا السوفيتية» إذ يقول في الفصل الذي كتبه عن السياسة الجديدة: «إن الحزب الشيوعي كان على خطأ في رأيه عن أصل المسيحية. وكانت هناك نظريتان: إحداهما نظرية الأستاذ «ويبر» الذي يقول بأن المسيحية من نشأتها ديانة استغلال ومستغلين، والأخرى نظرية الأستاذ «كوتزكي» الذي يرى أن المسيحية تخلص من الشقاء، وأنها في نشأتها ديانة أَرِقَّاء وشوق إلى الحرية، وعندهم أنَّ المسيحية كسائر الديانات أفيون للشعوب، ولكن لا بد من بيان السبب الذي كفل لها النجاح، وهذا السبب هو أنها حركة دينية جديدة لا تسمح بالتمييز بين الأجناس والأقوام، وتهيئ الطريق لنظامٍ جديد في الزواج وتعترف بكرامة الإنسان الخالص وبالمساواة بين الناس على تفاوت طبقاتهم، وقد كانت الثورة على الأحوال الاجتماعية هي قوام الدين بين المسيحيين الأول، وكانت جماعاتها الأولى ديمقراطية، وطرأ على المسيحية بعد ذلك طوارئ شتى ولم تزل بعدها محافظة على كرامة المثل الأعلى، ولا نكران لما قامت به المسيحية من المساعدة على التقدم بالمقابلة بينها وبين الديانات، فإنها جاءت بأفكارٍ جديدة وقواعد يبنى عليها مجتمع جديد.

وبعد أشهر قليلة أقرت جماعة الإلحاد المجاهدة مقترحات «رانوفتش» وأذاعتها في منشورٍ موجه إلى دعاة الإلحاد قالت فيه: «إن المسيحية لا ينبغي أن تجعل كأنها صورة موحدة مع نظام رأس المال، فإن المسيحيين الأُوَل لم يكونوا أغنياء ولم يكن من دأبهم تعظيم الثروة.»»

•••

إن بعض هذا الاجتراء على الشك في «العقيدة» الماركسية، كان في السنوات الأولى لقيام الدولة الشيوعية بمثابة جريمة للخيانة العظمى التي يعاقب عليها بالموت والتشهير، ولو أنَّ العلماء النظريين الذين فسروا الدين هذا التفسير، قد اجترءوا على العقيدة الماركسية هذه الجرأة مبتدئين بالرأي من عند أنفسهم، لكان أسعدهم حظًّا من ينفى إلى مجاهل سيبريا، أو ينبذ من المجتمع ليقضي بقية حياته في عزلة الخمول، إلا أنَّ العلماء النظريين في النظام الشيوعي لا يقدرون على مثل هذه الجرأة، ولا يكون إقدامهم عليها إلا دليلًا على الإيعاز الخفي أو التحول الصريح في «تفكير» الدولة برمتها، وقد كانت هذه النظريات تنشر ورئيس الدولة «كالينين» يخطب في مؤتمر المعلمين ليقول:

إن التعليم بالروح الماركسية ينبغي ألَّا يفهم منذ الآن كأنه تعليم القضايا الماركسية. بل ينبغي أن يراد به بث عاطفة الحب للوطن الاشتراكي، وتنمية الصداقة والزمالة والإنسانية وفضائل الأمانة والتعاون في العمل.

وخطب في مناسبة أخرى فقال: «إن هدم الدين بغير نظر فيما يخلفه لا يجدي، وإن «لينين» كان يرى أن المسرح سوف يحل في المجتمع المقبل محل الدين.»
ولما قررت الدولة إجازة يوم رسمي في الأسبوع، كان من مقترحات «المؤمنين» أن يختار يوم الاثنين أو الأربعاء أو يوم من الأيام غير يوم الأحد فأعرضت الدولة عن هذه المقترحات، وقررت يوم الأحد دون غيره، وعهد إلى الأستاذ «نيكولسكي» أن يكتب بحثًا في هذا الموضوع، ينشر في مجلة العصبة؛٤ لإقناع شبانها بصلاح هذا اليوم دون غيره لإجازة الأسبوع.

ولم يحدث هذا التحول منذ عشرين سنة إلا بعد حبوط العقيدة الماركسية في دور التعليم وفي الأندية والمعاهد والمجتمعات التي أقيمت لنشر الإلحاد وصرف الناشئة عن التربية الدينية، فحرمت الدولة في السنوات الأولى تعليم الدين للتلاميذ الصغار، وأوجبت تعليم المذهب الماركسي للطلاب المتقدمين في الدراسة، وأرسلت المبشرين إلى الأقاليم يسفهون الأديان جميعًا وينعتونها بنعوت الجهل والخداع والاستغلال، وتجسم في حملات هؤلاء المبشرين غباء الغبي وجحود الجاحد مجتمعين، فإنه من المفهوم أن يلحد الملحد؛ لأنه عرف الدين الذي مرق منه وعرف الإلحاد كما تراءى لعقله، وأما الإلحاد المفروض على من لا يعرفه ولا يعرف الدين، فذلك هو غباء التقليد الأعمى في الجحود وفي الدين.

وقد كان دعاة الإلحاد ممن جمعوا الغباوتين فتدينوا وهم يجهلون، وألحدوا وهم لا يعلمون، وروت صحيفة «العصبة الملحدة» في عددها الثاني سنة ١٩٣٩ أن مبشرًا «إلحاديًّا» ألقى محاضرة على جماعة من الكيميين فخلط بين الترك والإيرانيين، وعقد المقارنة بين المسيحية والملة الكاثوليكية الرومانية كأنهما ديانتان منفصلتان، وعقبت الصحيفة على ذلك محذرة من اختيار هؤلاء المبشرين من زمرة الأميين وأشباه الأميين. وقد نشرت «صحيفة المعلمين» في عددها الثالث والعشرين من شهر أكتوبر سنة ١٩٣٨ أنَّ التلاميذ الذين أبعدوا كل الإبعاد من تعليم الكنيسة هم أشد تلاميذهم تعلقًا بالتمائم والتعاويذ، وأكثرهم اقتناء للأحجية والرقى التي يتوسلون بها إلى النجاح. وقالت صحيفة «برافدا» في عددها العشرين من أغسطس سنة ١٩٣٩: إنَّ بعضهم يحسب أن الجيل الجديد يرفض الخرافات، وهو في الواقع يتعلق بها ويصدقها، وقالت صحيفة «المعلمين» التي سبقت الإشارة إليها في أعداد متفرقة في سنة ١٩٣٧ إلى سنة ١٩٣٩ أنَّ الشبان يحتالون بالتمائم؛ لاستهواء قلوب معشوقاتهم، وإن عاملًا كتب إلى الصحيفة يسألها أن ترشده إلى «ساحر» أمين يستشيره فيما يعنيه.

•••

وعلى هذا النحو حار دليل الوحي الماركسي عند أول موضع قدم، وضلت العقيدة الراسخة الخالدة قبل أن تفارق باب المحراب، وهي هي العقيدة الراسخة الخالدة التي لا يجوز أن تتزعزع، ولا يسمح لعقيدة أو فكرة غيرها أن تفسر شيئًا من أسرار الماضي وخبايا المستقبل في مسائل الدين على الخصوص، واضطر سدنة المحراب أن يخرجوا للوحي المنزل ترجمة بعد ترجمة ليصححوا خطأه لا ليهتدوا بهديه في مسالك الغيب المحجوب، ووجب عليهم أن يفسحوا الطريق للديانة التي سموها أفيون الشعوب وقالوا عنها: إنها وضعت لتخدير المساكين وترويض المتمردين، فإذا هي على الطرف الآخر ثورة جائحة من المساكين والمتمردين على طغيان أصحاب الأموال والعروش.

ومن سخرية القدر أن تبتلى العقيدة الماركسية بالتحريف والتبديل في بضع سنوات، فلا تدري كيف تعلل ما أصابها كما عللت ما أصاب جميع المبادئ التي انحرفت عن سوائها بعلتها الوحيدة التي لا تدري علة سواها، وهي أنَّ المجتمع يسخر المبادئ ويطوعها لخدمة رءوس المال؛ كي يستديم لها الربح الفائض والسيادة الغالبة، فإذا لم يكن هناك استغلال ورءوس أموال، فلا موضع لتحريف المبادئ عن سوائها ولا متسع في العقل والضمير لغير الفلسفة الماركسية على استقامتها.

وقد منيت عقيدة العقائد بالتحريف والتزييف بين أناس يكفرون برأس المال كما يكفرون بالاستغلال، ولم ينقض من الأبد الطويل الذي سنطبق عليه فلسفة الماركسيين أكثر من عشر سنين عند ابتداء ذلك التحريف والتزييف. فإذا تواضعنا بالأبد الأبيد، فهبطنا به إلى مليون سنة، فإلى أين يا ترى ينتهي التغيير بالعقيدة الراسخة الخالدة التي لا تقبل التغيير في المدى الطويل بله المدى القصير.

وجاء الامتحان الأول للعقيدة الراسخة الخالدة أيام الحرب العالمية الثانية، فنادى الكفار بالوطنية وبالدين أنها حرب الغيرة الوطنية، وأن المجاهدين أحرار في العقيدة الدينية التي يسرونها أو يعلنونها، ولم يكن جيل القيصرية هو الذي ألجأهم إلى التمسح بالوطنية أو بالحمية الدينية فيقال: إنه قديم شبوا عليه وشابوا، فلا مندوحة عنه في إبان المحنة الداهمة، بل كان الجنود المقاتلون في الصدمة الأولى من جيل بين العشرين والأربعين، أكبرهم لم يزد على الثالثة عشرة عند قيام الدولة الشيوعية، وتسعة أعشارهم على الأقل لم يتعلموا حرفًا في غير مدارسها، ولم يستمعوا كلمة من غير دعائها. ولا تفسير لاستفزازهم بنخوة الوطن وحمية الدين، إلا أنه إفلاس للمذهب المادي في تكوين المجتمع وغرس الأخلاق في نفوس لم يزاحمه عليها مزاحم من المهد إلى مقتبل الشباب.

•••

وبعد هذا فصل عن تفسير الفلسفة المادية للعقائد الدينية لم نرد به تفسير الأديان ولا الموازنة بينها، ولكننا نؤدي ما أردناه به حين نتبين قصور تلك الفلسفة عن تفسير نشأة الدين في المجتمع وفي النفس البشرية، بالقياس إلى الفرائض الاجتماعية العامة كفرائض الشريعة وفرائض العرف والعادة وفرائض الأخلاق والآداب، وأوضح ما يكون القصور في هذه الفلسفة، حيث تعرض لسريرة الإنسان وعوامل الحياة الاجتماعية، التي لا تحيط بها كلمة «المال» أو كلمة الإنتاج.

وقد عرضنا في ختامه لتطبيق التفسير المادي على الأديان الكتابية، فتناولنا الكلام على اليهودية وعلى المسيحية ولم نعرض بعد للإسلام؛ لأننا سنخصه بفصل مستقل يدعونا إليه أمران، أولهما: أننا نحن مطالبون قبل غيرنا ببيان الحقيقة عن الإسلام في هذا الموضوع، والآخر: أنَّ الإسلام يدحض الفلسفة الماركسية عن نشأة الدين في كل رأي ذهبت إليه، ولا يدحضها في معرض الكلام على رأي منها أو رأيين، ولهذا يهم الباحث المستقل بيان وجهته؛ لأنها تحتمل تفصيلًا في البحث، لا يحتمله بيان الحقيقة عن سائر الأديان.

١  Superstructure.
٢  الإصحاح الخامس.
٣  الإصحاح الثامن والخمسون.
٤  عدد ١١ إبريل و١٣ يوليو ١٩٣٩م من مجلة عصبة الشبان الشيوعيين Kosmomolskaya Pravada.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤