أتباع المذهب

نسبت إلى الفلسفة الشيوعية حركات ثورية كبيرة ليست منها ولم تكن نتيجة لها، فاكتسبت من نسبتها إليها شأنًا غريبًا أضافه الباحثون إلى شأنها في عالم التفكير، فبحثوها على هذا الاعتبار كأنها فلسفة خطيرة التفكير حقيقة أن تتولد منها الحركات الثورية التي اقترنت باسمها، ولولا ذلك لانزوت الشيوعية وكتابها «رأس المال» في مدرجة الإهمال كما انزوى غيرها من المذاهب والكتب، ولم تظفر من الباحثين والقراء بعناية غير التي هي أهل لها بنظرياتها الملفقة، ودعائمها المزعزعة، وبراهينها التي لا تثبت على البحث النظري ولا على التجربة العملية.

وأهم الحركات الثورية التي نسبت إليها، الثورة الروسية بعد الحرب العالمية الأولى. وليست هذه الثورة في رأي الشيوعيين أنفسهم نتيجة للأطوار الاقتصادية والاجتماعية التي يقول «كارل ماركس» أنها مقدمات لازمة لقيام الشيوعية، وخلاصة هذه المقدمات أن تنتشر الصناعة الكبرى وتنحصر شيئًا فشيئًا بين أيدي المحتكرين حتى تستأصل كل طبقة في المجتمع غير طبقة أصحاب الأموال المعدودين وطبقة الأُجَراء أو «البرولتارية» الذين تقوم على أيديهم الثورة الشيوعية بعد استيلائهم على زمام الصناعة.

فالبلاد الروسية كانت آخر البلاد الأوربية التي يصدق عليها هذا التطور، وإنما الثورة التي وقعت فيها بعد الحرب العالمية الأولى ثورة من ثورات الهزائم الكبرى التي امتلأ بها التاريخ القديم والحديث، وكانت سببًا لإسقاط كثيرٍ من الدول عن عروشها التي نخرها الفساد وتلقت أمام رعاياها تبعات تلك الهزيمة وجرائرها، مقرونة في أكثر الأوقات بتبعات العجز عن تدبير مصالح أولئك الرعايا.

ولم يذهب عرش «رومانوف» وحده بعد هزائم الحرب العالمية الأولى، بل ذهبت معه عروش «هوهنزلرن» و«هابسبرج» و«آل عثمان»، وذهبت الهزائم قبل الحرب العالمية الأولى بأسرة «المانشو» في الصين على أيدي «سن يات سن» وأصحابه من طلاب الإصلاح.

وكل ما قيل عن نسبة الثورة الروسية إلى الشيوعية، فإنما مرجعه إلى الفئة التي كانت تدين بآراء «كارل ماركس»، وتسلمت قيادة الثورة بعد تمرد الجيش على أسرة «رومانوف»، ولكن الحركات الثورية في الصين وتركيا وألمانيا وغيرها قد آلت إلى أيدي فئات أخرى لا تنتسب إلى الشيوعية، وقد كانت الهزيمة الكبرى هي المشابهة الوحيدة بين هذه الحركات في جميع البلدان، ولم تتفق على برنامج غير ذلك بعد قيامها على رءوس الحكومات.

فالثورة الروسية بعد الحرب العالمية الأولى لم تكن من فعل الشيوعية، ولم يكن من الممتنع عقلًا أن تحدث هذه الهزيمة قبل ظهور كتاب الشيوعية بنحو خمسين سنة بدلًا من حدوثها بعد ظهوره بنحو خمسين سنة، فإن التاريخ حافل بأنباء هذه الهزائم التي أطاحت بالعروش ومهدت للحركات الثورية وقيام الدعاة من أصحاب المبادئ، أو أصحاب المطامع السياسية.

ولقد ذهبت هزيمة نابليون الأول بدولته، وعادت أسرة «البربون» إلى عرشها القديم فترة من الزمن، ثم ذهبت هزيمة نابليون الثالث بدولته وقوضت عرش فرنسا العريق لتقوم على أنقاضه دعائم الجمهورية، ومعها مبادئ الثورة الفرنسية التي تحقق منها ما تحقق، ولا يزال الكثير منها حبرًا على ورق واسمًا على غير مسمى، وكان ذلك قبل عصر «كارل ماركس» بقرابة مائة عام.

فمن الواجب الفصل بين شأن المذهب الماركسي في قيمة التفكير وبين الحوادث الكبرى التي أضيفت إلى فكرته بفعل المصادفة، فجعلت لها شانًا غير شأنها وأنقذتها من الإهمال الذي كان حتمًا مقدورًا عليها لولا تلك المصادفة، فلو لم يكن «لينين» وأصحابه يقولون: إنهم ماركسيون لكان كتاب «رأس المال» — كما كان — رزمة من الورق اللغو، يعجب قراؤه لما فيه من الخلط والترقيع وغلبة أهواء الشر على قواعد التفكير، ولما كان له من موضع في غير الدراسات النفسية للرجوع بهذه الإحنة الخلقية إلى مراجعها من أثر البيئة والنشأة والتكوين، ولعله لم يكن ليظفر بهذه الدراسة النفسية؛ لخفاء اسم صاحبه وزوال الباعث لتمييزه بالدرس والاستكشاف.

أما الحركات الثورية، أو الدعوات الثورية، التي تولاها الشيوعيون بعد قيام سلطانهم في روسيا، فكل ما كان لها من الصلة بالصناعات الكبرى أنَّ الصناعات الكبرى حشدت الأُجَراء بالمئات والألوف في صعيد واحد، فاستطاع الدعاة توجيه الدعوة إليهم جملة والتأثير فيهم بأساليب التأثير في الجماعات، سواء كانت هذه الأساليب من مبتكرات العصر الحديث أو من المخلفات التي تقدم بها الزمن في العصور الأولى.

وقد حاول «كارل ماركس» أن يفرق بين أُجَراء الصناعة وأُجَراء الزراعة في قابلية الثورة بفروق كثيرة تمحلها على طريقته في الالتواء والتسلل وراء الأسباب الاقتصادية الخفية، فقال مثلًا: «إن الأُجَراء في الصناعة قابلون للثورة الاجتماعية؛ لأنهم لا يملكون شيئًا في المصانع، وإن الفلاح الأجير غير قابل للثورة الاجتماعية؛ لأنه يملك بعض الأرض أحيانًا أو يملك بعض النتاج منها»، ولكن سوابق التاريخ تعصف بهذا الهراء كله، وتبقى حقيقة واحدة من أسباب الثورات الاجتماعية، وهي إمكان اجتماع الثائرين في مكان واحد أيًّا كان عملهم في الصناعة أو الزراعة، وتتم أسباب الثورة حين تقترن بها الدعاية وضعف السلطان، أو ضعف الهيبة ممن يقبضون على أَعِنَّة الأمور.

حدثت أمثال هذه الحركات الاجتماعية في القِدم قبل الميلاد بعدة قرون، ولم تكن هناك صناعة كبرى ولا صغرى تجمع بين الألوف من الأُجَراء وبين أقطاب رءوس الأموال ومُلَّاك الصناعات.

حدثت حركة كبيرة من هذه الحركات الاجتماعية بعد الأسرة الفرعونية الرابعة؛ لأن الفلاحين تعودوا الاجتماع بالمئات والألوف في بناء الأهرامات والهياكل، ووجدوا أمامهم نزاعًا مستحكمًا بين طلاب السلطان.

وحدثت حركة الأَرِقَّاء في إسبرطة قبل الميلاد بأربعة قرون، وهم الأَرِقَّاء المعروفون باسم: الهيلوت١ أو باسم الضواحيين،٢ وكلهم من الفلاحين زراع الأرض بالحصة والمقاسمة في الثمرات، وقد تجمعوا بالألوف على مقربةٍ من المدينة، وهزموا قادة إسبرطة، وألجئوا هذه المدينة الحربية الصارمة إلى طلب النجدة من جيرانها، فلم تقدر على صد الأَرِقَّاء الثائرين إلا بعد حوالي عشر سنوات.
وحدثت حركة الأَرِقَّاء في الدولة الرومانية بقيادة «سبرتاكوس»٣ (٧٢ق.م) الرقيق الذي تعلم المصارعة، وتمكن من جمع زملائه في الرق، فحشد منهم قرابة سبعين ألفًا، ودوخ الجيوش الرومانية بحملاته القوية حتى استنفد جهود الدولة وكلفها أن ترصد له أكبر قوادها من طراز «كراسوس»٤ و«بومبي»، فلم يخمدوا ثورته إلا بعد عناءٍ شديد.

وحدثت حركة الأَرِقَّاء في العصر الإسلامي بعد منتصف القرن الثالث للهجرة (وبعد منتصف القرن التاسع للميلاد) حين ثار زنج البصرة بقيادة علي بن محمد بن عبد الرحيم، وما برحت ثورتهم تحتدم وتخبو من أيام الخليفة المهتدي بن الواثق إلى أيام الخليفة المعتمد بن المتوكل، وتمكن هؤلاء الزنج من التجمع؛ لأنهم كانوا يعملون في الموانئ وسفن الشواطئ كما كانوا يعملون في الزراعة ونقل البضاعة، ولم يكن هؤلاء الأَرِقَّاء ولا أَرِقَّاء «سبرتاكوس»، أو الأَرِقَّاء الهيلوت والضواحيون عمالًا مسخرين في صناعة كبرى أو صغرى كالأُجَراء المفروضين في مذهب «كارل ماركس»، بل كانوا فلاحين أو حفارين في المناجم أو حمالين على الشواطئ، جمعتهم أماكن عملهم ووحدة الشكاية أو وحدة المصلحة بينهم، فخرجوا من تلك الحركات الاجتماعية قبل عصر الصناعة الكبرى بأكثر من عشرين قرنًا في الزمن القديم ونحو عشرة قرون في زمن الإسلام.

وعملت في كل حركة من هذه الحركات الاجتماعية عواملها المشتركة التي لا بد منها في جميع العهود، وهي عوامل الدعاية والقيادة والهزيمة أو سقوط الهيبة، وظهور العجز عن تدبير الأمور من قبل الطبقة الحاكمة.

ولا نعلم على التحقيق كيف كانت دعاية الثورة المصرية بعد عهد الأهرامات، ولكن تفرق الدعاة والأسر في الوجه القبلي على الخصوص مع شيوع الشكوى بين الفلاحين قد يدل على دخيلة الدعوة، التي جذبت كل فريق من الثائرين إلى زعيم من زعماء الأسر وطلاب العروش.

أما ثورة الهيلوت فالمعروف عنها كثير، ومن هذا الذي عُرف عنها أنها رزقت القيادة الحسنة على يدي «أرستومين» و«أرستديمس» وجاءتها دسائس الفتنة الخارجية من جانب الفرس مسخرين لها أناسًا من الطامحين إلى الملك على رأسهم القائد «بوزانيوس» وأناسًا من رؤساء العصابات كانوا على خطرٍ دائم من فتك الشرطة الخفية المختصة بتعقب الأَرِقَّاء البارزين بين صفوف أبناء جلدتهم، وكانت لهم خفية خاصة تترصدهم يسمونها الكربتية، وتشبه الخفية القيصرية قبل الثورة الشيوعية في نظام التجسس وحبائل الإيقاع والاستطلاع.

•••

والمعروف عن ثورة الأَرِقَّاء على روما أكثر من المعروف عن ثورة الأَرِقَّاء على إسبرطة، قياسًا على اشتهار الأنظمة الرومانية واشتباكها بالأمم المحيطة بها، فلا ينظر المؤرخ في تفصيلات الحوادث التي انتهت بنشوب ثورة «سبرتاكوس»، إلا وجد فيها جميع العوامل التي تخلق هذه الثورات من الأزمات السياسية والاقتصادية إلى هزائم الحروب وسقوط الهيبة، إلى تحريف الدعاية وإمكان حشد الثائرين في صعيدٍ واحد.

تعاقبت الغارات على روما من برابرة الشمال في القرن الأول قبل الميلاد، وانقسم ولاء الجيوش الرومانية بين المشرق والمغرب، وتضعضعت الحكومات القنصلية أو الشبيهة بالجمهورية، ومهدت الطريق لقيام سلطان الاستبداد وظهور الحاكمين بأمرهم من القادة وزعماء العشائر، وخابت آمال المصلحين في برامج الإصلاح، ومنها تقييد الملكية الزراعية ورسم الخطط الواسعة لتوزيع الأرض والثروة بين الملاك الكبار والصغار بالتدريج.

وكان الأخوان «طيبريوس» و«جايوس جراشي» قد استنفدا الحيل في إقناع العلية وأعضاء مجلس الشيوخ بإعادة توزيع الأرض العامة لزيادة عدد الملاك الصغار، واستصدر أولهما من مجلس الشيوخ قرارًا بالحد الأقصى للأرض الزراعية العامة، فجعله ثلاثمائة فدان (سنة ١٣٣ق.م) ثم جاء أخوه فأراد أن يتوسع في تعميم الحقوق السياسية، وأنشأ طائفة من المشترعين دون طائفة الشيوخ وكَل إليها الحق في محاسبة الولاة السابقين ومن إليهم من رجال الدولة، وكانت هذه المنازعات على الحقوق السياسية والحقوق المدنية بداءة الانقسام بين طوائف العلية من سادة المجتمع الروماني القديم.

واتفق هذا في الوقت الذي تتابعت فيه غارات البرابرة الشماليين على تخوم الدولة، فكان عجز الحاميات العسكرية عن صد المغيرين حجة مقنعة سوغت للقائد «جايوس ماريوس» أن ينظم الجيش بقيادته ويستغل سمعته في الحروب الأفريقية للاستئثار بالسلطة في حروب الدفاع عن تخوم الشمال، وجر هذا الاستئثار إلى انقسام الدولة بين جيش الوطن بقيادته وجيش الولايات بقيادة «كرنيلوس سولا»، ووقعت بين الفريقين معارك عنيفة، لم تنحسم قبل انقضاء سنوات في القلاقل والفتن والأزمات، خرج منها «سولا» منتصرًا على «ماريوس» حوالي سنة إحدى وثمانين قبل الميلاد، فدانت له الدولة بالطاعة حوالي سنتين.

ولم تنقض شهور على موت «سولا» (سنة ٧٨ق.م) حتى تجددت المساعي الحثيثة، التي تتجه من كل جانب إلى هدم النظم والجمهورية، وإقامة السلطان المطلق بزعامة هذا أو ذاك من القادة المتنافسين. وفي هذه الفترة نشبت ثورة «سبارتاكوس» ووجدت لها أشياعًا من أشتات الأسرى الذين جاءت بهم حروب الرومان في تراقية وطن «سبارتاكوس» وبلاد الغال وسائر أرجاء الدولة الواسعة، وكان منهم أناس لحقوا بالجيش وتدربوا فيه على الأعمال الحربية، وأناس آخرون من رعاة الجنوب في إيطاليا ممن كانوا يحملون السلاح لحماية قطعانهم،٥ ويشتبكون في حروب كحروب العصابات كلما ضعف سلطان الحكومة القائمة. فانقاد ﻟ «سبارتاكوس»، جيش كبير من الشذاذ النافرين، وتمكن من الانتصار على جيش الدولة بقليل من العناء (سنة ٧٣ق.م)، ثم هزم الجيوش التي جردت لقتاله بقيادة القناصل والولاة في بلاد الغال، واستشرى خَطْبُه حتى كاد أن يحكم البلاد الإيطالية فيما وراء العاصمة، ولم تقدر عليه الحكومة بجيوشها التي تخلفت من أيام النزاع وانقسام الولاء بين القادة، حتى تصدى للأمر رجل من رجال «سولا» الكُفَاة — هو القائد «كراسوس».٦ فجند لقتاله جيشًا جديدًا تولى تدريبه وتنظيمه على يديه، ودارت الدائرة على «سبارتكوس» في معركة أبوليا٧ (سنة ٧١ق.م)، وقد كاد أن يفلت بفلول جيشه على أسطول من السفن الصغيرة عند مسيني، ثم تبين أنَّ الثائرين لم يكونوا جميعًا من الأَرِقَّاء المملوكين لسادة معروفين، وأحصى منهم نحو ستة آلاف لم يعرف لهم سادة يملكونهم، ولم تكن لأكثرهم سابقة في الرق، وإنما كانوا مع طائفة من القتلى والفلول الهاربين، ثوارًا على الظلم والخلل، وطلابًا للحرية والحقوق الإنسانية.

والمعروف عن ثورة صاحب الزنج في الدولة العباسية أكثر مما عرف من ثورة الأَرِقَّاء في الدولة الرومانية؛ لأنها حدثت في عهد تاريخي وافر المراجع والمآخذ، قريب بالنسبة إلينا في أحواله وأوقاته ومصادر دعوته ودعواه، وقد كانت الدعوة والدعوى معًا كَأَوْهَنِ ما تكون الدعوات والدعاوى من السخف والتضليل، ولكنهما فعلتا فعلهما المعهود مع ضعف الدولة واحتشاد الثوار في مكان واحد وسهولة انتحال الحجة التي يستند إليها الثائر على الدولة القائمة، في أعنف أوقات النزاع بين العباسيين أصحاب السلطان والعلويين أصحاب الحق في عقيدة الأكثرين من أبناء الإقليم وما جاوره من الأقاليم.

ورواية أخبار هذه الثورة من وجهة نظر غربية أدنى إلى التناسق مع أخبار الثورات من قبيلها في تاريخ اليونان والرومان، ولهذا نرويها هنا كما لخصها سبير «وليام موير»٨ في كتابه عن تاريخ اضمحلال الخلافة، إذ يقول من أخبار سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة (٨٦٩ م) ما يلي:

أشاعت فتنة الزنج الذعر والفتك من حولها خمس عشرة سنة، وكان زعيمها فارسيًّا انتحل النسب إلى علي بن أبي طالب، فكان يدعو أول الأمر بهذه الصفة إلى بعض الآداب الروحية، ثم ما عَتَّمَ أن كشف عن خبيئته، فإذا هو متمرد منتفض يسري عليه لقب الخبيث. وكان يحوم في شبه الجزيرة العربية قبل ذلك على غير طائل، ثم رفع راية العصيان ونادى بالحرية لجميع المستعبدين ووعدهم بما لا حد له من الأسلاب والغنائم إذا التفوا برايته، واتخذ له شعارًا آية من القرآن، كتبها على الراية تبطل الرق وتلغيه: إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وفسر الآية بأن الله اشترى الرءوس والأموال فلا يملكها أحد. ولم يكن بالمستغرب من العبيد الذين علمهم أن يهينوا سادتهم أن يهرعوا إليه بالألوف ومعهم أهل البادية من طلاب الأسلاب والغنائم. أما اسم الزنج فمعناه «الأثيوبيون» من أَوْشَابِ القارة الأفريقية، ومن هنا نُسبت إليهم الفتنة فسميت بفتنة الزنج. وكانت سنة خمس وخمسين ومائتين بداءة عصيانهم ومجاهرتهم بالقتال، وتلتها سنتان انتشروا فيهما بين جوانب وادي النهرين وشواطئ قارون إلى الأهواز، فبسطوا أيديهم من ثم على هذه الأنهر، وشجعهم النجاح فأغاروا في سنة سبع وخمسين ومائتين (٨٧١م) على البصرة واقتحموها وأعملوا في الأهلين كل منكر وفظيعة. ثم نادوا بالأمان غدرًا، فقتلوا كل من اغتر بأمانهم من جمهرة السكان المخدوعين. وهدموا المسجد الكبير، وأشعلوا النيران في المدينة كلها. وقد راع الخليفة مقتربهم من عاصمة الخلافة، فأنفذ الموفق على رأس الجيش لقتالهم، فنشط للقتال نشاطًا قويًّا. ولكنه لم يظفر بهم إلا قليلًا في المعارك الأولى لاضطراره إلى وقف القتال حينًا بعد حين، واشتغاله بدرء المخاطر في مواقع أخرى من الدولة.

ولقي موسى، وغيره من القادة، مثل هذا الفشل سنة بعد سنة ثابر الزنج خلالها على الغارة مع ما كانوا يُمْنَوْنَ به من الهزيمة في بعض المعارك، وجعلوا يُغيرون على العراق وخوزستان والبحرين عصابات متفرقة أو جموعًا مصفوفة، فنهبوا الأهواز واتخذوا «واسط» معسكرًا يشنون منه حروب التخريب والتقتيل، وانقضت على البلاد التَّعِسَةِ عشرُ سنين من الشقاء والفزع، ثم فرغ لهم الموفق بعد الخلاص من الأعداء الخارجين فوحد الجيوش تحت قيادته وقيادة ابنه المعتضد، ودارت الدائرة من ذلك الحين على جموع الأَرِقَّاء، فطُردوا أولًا من خوزستان، ودُفعوا إلى الجانب السفلي من النهر، حيث استعصموا بالمواقع الحصينة، واحتموا بالأقنية والجداول المحيطة بها، ولا تزال أخبار المعارك التي تَلَتْ ذلك نحو خمس سنوات محفوظة تُروى بتفصيلاتها المسهبة المملة، وأجلى العدوَّ من مواقع كثيرة، ولكنه لبث بعد جلائه عن تلك المواقع ثلاث سنوات مستعصمًا ببعض الحصون لانقطاع الحصار فترات متوالية من جراء إصابة الموفق بجراح أقعدته عن العمل السريع، وأخذ الثوار يتسللون زرافات زرافات إلى الموفق، فيقبل منهم التوبة برفق وسماحة، وبلغ من رفقه وسماحته أنه أعلن العفو عن المسيء الأكبر. فأعرض عنه بصلف وَقِحَّةٍ. ثم سقطت القلعة وعاد كثير من النساء السبايا إلى ديارهن، ووقع الخبيث في الأسر وهو يُمعن في الهرب فقُتل وحُمل رأسه، حيث رُفع على مشهد من الجموع المُتَكَوِّفَة، فخروا سجودًا يشكرون الله على النجاة من شره.

•••

وتلخيص «موير» هذا لفتنة الزنج، يصدر عن نظرة تاريخية على الحيدة بين الداعية والدولة التي يثور عليها، فلا يمتزج بالغضب الديني الذي يشعر به المؤرخ المسلم وهو يتكلم عن فتنة من فتن المُرُوق والإباحة والافتراء على العِتْرة النبوية، وهي في رواية «موير» على نسقٍ تام مع الثورات التي من قبيلها، وإن تفاوتت أبعد التفاوت في الأزمنة والأمكنة وأجناس الثوار ومطالبهم وعقائدهم التي يأخذون بها أو ينتقضون عليها، فكلها ثورات حصلت لأنها أمكنت، وكلها ثورات أمكنت؛ لأنها ثورات أناس من أصحاب الشكايات الاجتماعية أو المنتفعين بالقلاقل والفوضى حيث كانت، تجمعوا في صعيدٍ واحد، واستضعفوا السلطان لما مني به من الهزيمة والعجز، فاستخفوا بأمر الخروج عليه، ولا يلزم من ثوراتهم هذه أن يكونوا من الفلاحين أو الصناع أو «العاطلين»، ولا أن تتقدم ثوراتهم أو تتأخر، حسب الأطوار التي يرتبها «كارل ماركس» على هواه.

أما هوى «كارل ماركس» فهو أن تكون الثورة — تطبيقًا لرأيه في الصناعة الكبرى — محصورة في «البرولتارية» التي تأتي بعد نبوءته آخر الزمان؛ لأنها لو لم تكن محصورة على هذا النحو لما جاز أن يتطرق منها إلى هدم المجتمعات كافة وإنكار الماضي بحذافيره، ولكان حكمها في العصر الحاضر كحكم تلك الثورات التي انقضت بانقضاء أيامها وجرى التاريخ بعدها في مجراه. غير مقيد بالخطة التي رسمها له، ولم يأذن له بالانحراف عنها يمنة أو يسرة إلى غير نهاية!

ولقد اتجهت في الزمن الحاضر — قبل منتصف القرن العشرين — دعوات ثورية إلى جماعات من الأُجَراء غير دعوة الشيوعية، فاستجاب لها أولئك الأُجَراء حينما انخدعوا بوعودها وأمكنهم أن يستجيبوا لها، واستثيرت حماستهم تارةً باسم الغيرة الوطنية التي يحسبها «كارل ماركس» في أكاذيب الطبقات، وتارةً باسم الدين أو باسم مذهب واحد من مذاهب الدين، وكان أناس من هؤلاء الأُجَراء يعملون في الصناعات، وأناس منهم يعملون في المجازر التي تتجر باللحوم ولا تتوقف أعمالها على صناعات العصر الحديث، وعلى هذا المثال كانت دعوة «بيرون» وزملائه في الأرجنتين، وكانت دعوات مثلها بين شعوب أمريكا الجنوبية من جميع الأجناس والنِّحَل والأعمال.

وليس من جديد الشيوعية الماركسية، أو من أفنانينها المستحدثة، أن تستهوي إليها أناسًا متفرقين في المجتمعات غير الأُجَراء وأصحاب الشكايات الاجتماعية، فهذا الاستهواء ميسور لكل دعوة تتجه إلى الغرائز الخسيسة، وتزين لأصحابها رذائلهم التي تسقطهم وتذلهم كلما قيسوا بمقاييس المجتمعات القائمة. وكل داعية يشفي حزازة الحسد والكراهية بين المحرومين أو غير المحرومين، فهو على ثقة من استهواء الأسماع واستدراج الأنصار الذين يتهوسون بمثل هذه الدعوات تهوس الجنون؛ لأنها تخاطبهم من كل ناحية مرذولة يتحرقون على التخلص منها، وتقودهم بزمام الضغينة العمياء والعدوان المتحفز والهوان الجاثم على الصدور من رواسب آلاف السنين، وما من شيء يجعل العقل البشري بعيدًا غاية البعد عن النظرة العلمية، كتلك الحالة التي يتطلبها دعاة الماركسية من المدعوين إليها، وهي حالة الضغينة المتحكمة والغرائز المتمردة والجموح الذي لا يخجل من عرف أو شريعة أو حياء، وكل وهم من الأوهام الحمقاء أو باعث من البواعث البهيمية، فهو مصدق عند من تتحكم فيه تلك الحالة بغير سندٍ أو برهان، على النقيض من جميع الإسناد والبراهين، ويا له من علم ذلك العلم الذي تتمخض عنه طبائع دعاة من طراز «كارل ماركس»، وتتلقاه طبائع المدعوين إليه من صرعى الأحقاد والغرائز العمياء.

وإنك لتنظر إلى كائن مَن كان من المستعدين لسماع تلك الدعوة، فلا تخطئ الصفة الغالبة عليه أو الصفة المتحكمة في أهوائه بين ما يرضاه أو يأباه، ولا تكون تلك الصفة في أحد منهم بمعزلٍ عن الأنانية المطبقة والاتهام السريع ولو فيما بينهم من أقرب المقربين.

فلولا الشغلان الشاغل بنوبة العلم في القرن التاسع عشر، لما جاز أن تحمل على المحمل العلمي سخيمة الماركسية التي لا محل لها في غير الظواهر النفسية، سواء أخذناها من مصدرها في نفس داعيتها أو أخذناها من مآلها في نفوس المُصْغين إليها، أو أخذناها من الشعور الذي تعول عليه آخر الأمر وهو شعور اليأس المستميت الذي يقال لأصحابه: إنكم تصدقون الشيوعية كما تصدقون غيرها؛ لأن خراب العالم لا يعنيكم ولا تفقدون فيه غير قيودكم!

والعلم لا يسمى علمًا إن لم نعرف ما يناقضه، أو يناقض طبيعته على وجوه الدعاوى السافرة، ولا سيما الدعاوى التي تجر وراءها هدمًا معجلًا لكل ما بناه الناس من شتى الأمم في مختلف العصور.

وأي شيء نعرف من العلم أنه مناقض لطبيعته إن لم نعرف ذلك في دعوى المدعين أن قوانين الكون الأبدية تكشفت في مدى التاريخ الاجتماعي، وباحت بأسرارها لعقل واحد يتحكم في مجرى التاريخ المقبل إلى غاية مداه؟

وأي أسرار هذه الأسرار التي لا نقض لها ولا معقب عليها؟

تلك الأسرار هي تعريف قيمة السلعة، أو تعريف الطبقة الاجتماعية، أو تعريف المادة، أو تعريف التفسير المادي للتاريخ بعد تعريفها.

ولا نقول: إنَّ العلم يرفض كل هذه التعريفات لأول نظرة أو يحكم بالبطلان على وجوهها السافرة، ولكننا نقول مقال اليقين: إنَّ العلم الذي يزعم أن هذه التعريفات بلغت مبلغ الثقة الجازمة التي تتحكم في ماضي بني الإنسان ومصيرهم بغير نقض ولا تعقيب، إنما هو خرافة من أجهل الخرافات التي تحوم على العقول البشرية، وإن خرافة من خرافات العجائز في عصور الظلمات لا تتطلب من غفلة التصديق بما يتطلبه قبول تلك الخرافة بعد بحث أو بغير بحث على الإطلاق.

على أنَّ المطلوب من العقل البشري أمام هذا العلم المضحك، أضخم جدًّا مما تتطلبه خرافات العجائز وخرافات الأساطير وكل ضرب من ضروب التخريف يطيف بعقل إنسان.

إذ يطلب من العقل أن يصدق — بناء على هذه التعريفات — أنَّ طبيعة الإنسان سوف تتبدل بعد مآل الصناعة الكبرى إلى أيدي الأُجَراء فلا منافسة ولا سباق إلى النفوذ ولا اختلاف بين الظواهر والبواطن، ولا أثر من آثار الشرائع والقوانين التي تدعو إلى قيام الحكومات، وهذا ثابت مقرر لا شك فيه عند هذا العلم البديع الذي ليس بخرافة وليس بأفيون للشعوب، وكيف كان ثابتًا يا ترى؟ كان ثابتًا لأن مآل الصناعة الكبرى إلى أيدي الأُجَراء ثابت أيضًا ثبوتًا لا شك فيه عند هذا العلم البديع، الذي ليس بخرافة ولا بأفيون للشعوب.

وما من رأي بين هذه الآراء ثابت كل الثبوت، ولو أنه ثبت كذلك لما لزم منه ثبوت النتائج التي يرتبونها عليه، ولكنها إنما تثبت لسبب واحد عند هؤلاء العلماء غير الواهمين وغير الحالمين؟ تثبت لأنها لازمة لإشباع شهوة النقمة والخراب، ولو بطلت شهوة النقمة والخراب لحظة واحدة لسقطت من قمتها إلى أساسها ترابًا على تراب وهباء على هباء.

ومن العلم الصحيح الذي لا شك فيه — بحق — أنَّ الدعوة الماركسية ظاهرة نفسية، إذ كان كل رأي من آرائها، وكل نتيجة من نتائجها تفسر بتفسيرات الظواهر النفسية ولا تلجئنا إلى تفسيرات غيرها.

والظواهر النفسية تفسر تلك الدعوة من الألف إلى الياء، وتشرحها على أوضح ما تكون لمن أراد أن يَسْتَكْنِهَ بواطنها من جانب العقل أو جانب الشعور.

أما التفسير المادي للتاريخ، فلا يفسره لنا ولو أخذنا بقواعده وقضاياه، لأن المادة — إذا صح أنها تفسر كل معلوم ومجهول — لم يكن من حق «كارل ماركس» أن يحتكر تفسيرها على أصح الوجوه.

وسنرى مكان الدعوة الماركسية من العلم ومكانها من الظواهر النفسية، ونرى بعد المقابلة بين مكانيها ماذا يبقى من أصولها وفروعها، إذا أخرجنا منها طوية النقمة والخراب.

١  Helots.
٢  Perioeci.
٣  Spartacus.
٤  Crassus.
٥  Latifundia.
٦  Crassus.
٧  Apulia.
٨  Muir.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤