بواعث الشكاية

من العبارات الجارية مجرى المثل في مصطلحات الماركسيين أنَّ «مذهب هيجل» قلب الحقيقة رأسًا على عقب، فأقامها على رأسها في التراب بدلًا من قدميها.

إن صحت هذه العبارة في مذهب من المذاهب، فهي أصح ما تكون في مذهب «كارل ماركس» عن دوافع الإصلاح.

إن المشاهد في الواقع، والمعقول في التفكير المستقيم، أنَّ الأسباب المادية لا تغير حالة من حالات البشر إلا إذا تحولت إلى أسباب نفسية يشعرون بها، فإن الفقير الذي لا يعلم أنه فقير لا يفكر في تغيير حاله ولا ينساق إلى عمل شعوري أو غير شعوري لتغيير تلك الحال، وكذلك الفقير الذي يعلم أنه فقير، ولكنه لا يكترث لما به ولا يبالي أن يغيره أو يتطلع إلى تغييره.

أما مذهب «كارل ماركس» فهو يقلب هذه الحقيقة رأسًا على عقب ويقيمها على رأسها بدلًا من قدميها، فيقول: إنَّ الأسباب النفسية لا تغير حالة من حالات البشر إلا إذا تحولت إلى أسباب مادية. ثم يضطرب في بيان هذه الأسباب المادية اضطرابًا يترنح به بين النقيضين، مع أن المذهب كله قائم على أساس هذه الأسباب.

وتاريخ القرن التاسع عشر الذي وُلِد فيه «كارل ماركس» أسبق التواريخ إلى نقض مذهبه والإبانة عن خلطه واضطرابه؛ لأنه أسبق التواريخ إلى إثبات أثر الحالات النفسية في حركات الإصلاح أو حركات الثورة والانقلاب.

كانت في القرن التاسع عشر — في القارة الأوربية — شكايات كثيرة قاسية، شرحها مؤرخوه ومصلحوه ولا يزال المؤرخون والمصلحون يشرحونها إلى اليوم، ولم يحاول أحد قط أن يتجاهلها ويداريها أو يخفف من سوئها ولا من استياء المستائين منها. بل الواقع أنها لقيت من أهل القرن عناية لم تلقها شكايات القرون الغابرة من أبنائها، فنشط المصلحون للبحث في عللها ووسائل علاجها، وظهر من مذاهب الإصلاح في مدى خمسين سنة أضعاف ما ظهر من هذه المذاهب في القرون الأولى، وكانت كلها في المذاهب القائمة على القواعد الاشتراكية وقواعد المساواة بين الآحاد والطوائف والطبقات.

والقرون الأولى — مع هذا — لم تكن خالية من شكاياتها الكثيرة القاسية، بل كان كل قرن منها له كفايته وفوق كفايته من الشكايات الكثيرة القاسية، ولو رجعنا القهقرى من القرن التاسع عشر إلى القرن الأول للميلاد، لوجدنا في كل فترة من فترات هذا الزمن حادثًا بارزًا من كبريات الحوادث التاريخية يترجم عن شكاياته ومساوئ أحواله، فلا نرجع قليلًا من القرن التاسع عشر حتى يصادفنا عصر الثورة الفرنسية وقبله عصر الهجرة إلى أمريكا والبلاد الشرقية، وقبله عصر الإصلاح والأزمات الدينية العلمية، وقبله عصر الحروب الصليبية، وقبله عصر الظلمات في القرون الوسطى وأوبئتها ومنازعاتها وأزماتها، وقبله عصر انحلال الدولة الرومانية، وقبله عصور أخرى لا تنقطع فيها الشكايات الكثيرة القاسية ولا الحوادث الكبرى التي تترجم عنها.

والشكاية الحاطمة — وهي شكاية الفقر — لم تكن من طوارئ القرن التاسع عشر على القارة الأوربية، فإن الأوربي في القرن التاسع عشر كان أقل فقرًا من أسلافه قبل قرن واحد وقبل عدة قرون، وكان أقرب إلى الكفاية في المعيشة من أولئك الأسلاف، ولكنه كان أقوى شكاية، وأنشط حركة في طلب التبديل والارتقاء ممن كانوا قبله أسوأ حالًا وأفقر يدًا، وأدنى إلى الحرمان وأبعد من الكفاية.

وسبب ذلك أن الأوربي في القرن التاسع عشر، كان أعرف من أسلافه بحقوقه، وأشد شعورًا بالحرمان من أولئك الذين سبقوه وزادوا عليه في مضانك الحرمان.

هذا هو الباعث المهم إلى ثورات الإصلاح في القرن التاسع عشر، وهو الباعث الذي نلمحه من النظرة الأولى ثم نتبينه من النظرات الطويلة المتوالية، بعد إنعام التأمل والدراسة، فلم تكن الثورة في طلب الإصلاح على قدر التقدم في أدوار الصناعة الكبرى، كما يريد «كارل ماركس» أن يقرر في مذهبه، بل كانت على قدر الحاجة إلى الحرية والاعتراف بحقوق المساواة.

«ماركس» نفسه شاهد من الشواهد المطبقة على صحة هذا السبب، فإنه هو وزملاؤه من الألمان دعاة المذاهب الاشتراكية قد نشئوا في بلاد متوسطة بين عصر الإقطاع وعصر الصناعة الكبرى، وقد نشأ دعاة الثورة الروسية المعاصرون له في بلاد لم تخرج بعد من عصر الإقطاع، ولم تكن لها صناعة كبرى تذكر بين أقطار الصناعة.

أما البلاد التي تقدمت في الصناعة الكبرى، كالبلاد الإنجليزية، فهي التي قلت فيها الدعوة إلى الثورة، وعظمت فيها الدعوة إلى الإصلاح عن طريق الوسائل الدستورية، وهي البلاد التي أخرجت دعوة الفابيين١ الذين يؤمنون بإمكان التعاون بين مذاهب الاجتماع، كما أخرجت النقابات التي تعول على الانتخاب وقوانين البرلمان، وتليها في هذه الوجهة، درجة أو درجات، بلاد أخرى من القارة على حسب نصيبها من الحرية، وفي مقدمتها فرنسا وبلاد الغرب والشمال.

كانت الدعوة إلى الثورة تشتد على حسب الشعور بالحاجة إلى الحرية، وكانت الدعوة إلى الإصلاح السلمي تشتد على قدر التقدم في الصناعة الكبرى، خلافًا لما قرره «كارل ماركس» وشيعته رأسًا على عقب، ووفاقًا لما هو معقول ومشهود.

وقد كانت الثورة في طلب الحرية عامة في أنحاء القارة على اختلاف درجاتها من الصناعة، وعلى اختلاف أطوارها من وسائل الإنتاج، وكلما قلت الحرية زادت حدة الثورة وشدة الانقلاب.

كان لزامًا على «كارل ماركس» وشيعته، إذا ناقضوا هذه الحقيقة، أن يُثبتوا حقيقتهم المزعومة إثباتًا قاطعًا يمتنع فيه كل اختلاف، كان لزامًا عليهم أن يزيلوا كل لبس يحيط بآرائهم في وسائل الإنتاج، التي يحسبونها قضاء أبديًّا يناط به التغيير والتبديل من أوائل التاريخ إلى نهايته القصوى، أو إلى غير نهاية، كان لزامًا عليهم أن يحققوا السبب الذي يرونه كافيًّا للإصرار على قلب الدنيا وهدم المجتمعات دون أن يلتفتوا أقل التفاتة إلى احتمال الخطأ فيه.

ولكنهم على خلاف ذلك، قد تركوا وسائل الإنتاج لغزًا مبهمًا يتيهون فيه، ولا يفضي بهم التيه إلى ملتقى متفق عليه.

ما وسائل الإنتاج؟ أهي الآلات الصناعية، أم هي الطبقة المشرفة عليها؟ وهل الطبقة هي التي تنشئ وسائل الإنتاج، أو وسائل الإنتاج هي التي تنشئ الطبقة؟

تلك مسألة ليست بالمسألة الهينة التي يجوز فيها اللبس ويستبيح الباحث أن يتركها عرضة للتأويل والتخريج أو للتمحل والتهريج؛ لأنه يستبيح بها ما لم يستبحه أحد قط من قبله، ويعلق عليها القرار الأخير في أمر لا غنى فيه عن اليقين كل اليقين، ولكن هذه المسألة التي ليست بالهينة، قد هانت على «كارل ماركس» وشيعته كأنهم لا يبالون نتائجها، أو يحبون تلك النتائج حبًا يعميهم عن كل عاقبة وكل مصير.

فوسائل الإنتاج تارةً هي الآلات الصناعية حيث يقول في رسالته الفكرية الألمانية:٢ «إن طاحون الريح تعطيك مجتمعًا يتولاه سيد الإقطاع، وطاحون البخار تعطيك مجتمعًا يتولاه صاحب رأس المال في الصناعة.»

ووسائل الإنتاج تارةً أخرى هي الطبقة المستولية على المجتمع، حيث يقول في البيان المشترك الذي كتبه مع «فردريك إنجلز» وقيل عنه: إنه أهم في بيان الشيوعية من كتاب رأس المال: «إن الطبقة البرجوازية لا يمكنها أن توجد بغير تطور دائم في أدوات الإنتاج يغير علاقات الإنتاج، ويغير من ثَمَّ علاقات المجتمع بأسره.»

أما في كتاب «رأس المال» فيكفي أن تعرف آلة من آلات الزمن القديم؛ لتبني عليها تركيب المجتمع كله، وفي هذا المعنى يقول في الجزء الأول: «إن آثار آلات العمل الغابرة تؤدي للباحث في جميع أحوال المجتمع الاقتصادية التي مضت مهمة كالتي تؤديها عظام الحفريات للباحث عن أنواع الحيوان المنقرضة، وليست آلات العمل هي المميزة بين الأدوار الاقتصادية، بل كيفية صنعها والأدوات التي صنعتها هي التي تميز لنا تلك الأدوار، وإن أدوات العمل لا تبين لنا درجة التطور الذي بلغه العمل الإنساني وحسب، بل هي دلائل على الأحوال الاجتماعية التي يجري فيها العمل.»

•••

وهذه العبارات وما في معناها تتفرق في كتابات «كارل ماركس» وزميله «فردريك إنجلز» وأقطاب الشيوعية بمثل هذا التناقض أو أشد منه، كما سنرى عند البحث في مواضعها من هذا الكتاب، وكلها لا تنجلي عن موقف محدود في هذه المشكلة الخطيرة التي تقف بنا بين ضفتين: هذه للهدى والفلاح، وهذه للضلالة والخسارة بلا هوادة بينهما ولا شفاعة ولا سلام.

فهل طاحون الهواء هي التي تعطينا أرباب الإقطاع، وطاحون البخار هي التي تعطينا أرباب رأس المال؟ أو أن الأمر على نقيض ذلك، والطبقة الاجتماعية هي التي تخلق آلاتها وتتطور بها على حسب أطوارها؟ إن كانت الآلة هي الحكم في وسائل الإنتاج ومصائر الجماعات، فالإدارة الإنسانية أحط من الآلة الصماء؛ لأنها — بنتائج عملها — آلات في أيدي الآلات. وإن كانت الطبقة الاجتماعية هي التي تخلق آلاتها وتتولى أطوارها، فمن الواجب إذن أن نتجه بالبحث إلى نفس الإنسان أو نفوس الناس، ولا محل إذن لكل هذه الطنطنة بالإنتاج والمباحث العلمية في الإنتاج والأدوار التاريخية التي نحصرها في وسائل الإنتاج.

ولا بد من الفصل بين القولين؛ لأن القول بأحدهما نقيض القول بالآخر، وترك الأمر فيهما بغير فاصل محدود خليق أن يدور بنا حتمًا في متاهة خفية بين الحد الذي تبتدئ منه الإرادة الإنسانية، والحد الذي تنتهي إليه وتسلم المصير كله للآلات والمَكنات.

ولا ينفعنا أن نلفق هذه البداية وهذه النهاية في أعماق الطبيعة البشرية أو في معادن الآلات الصناعية؛ لأننا إذا لفقنا الخليطين المشتركين في الإنتاج بقي أمامنا أن نعرف كيفية صنع الآلات، وأن نعرف الكيفية التي يدار بها كل نمط منها في نظام بعد نظام.

ومن حق كل قارئ أن يقول لدعاة الشيوعية: إنني أريد منكم حدودًا واضحة في هذا الأمر الخطير؛ لأنكم تدعونني إلى هدم العالم بلا هوادة ولا إصغاء إلى قول غير الذي تقولون أو رأي غير الذي ترون، فلا أقلَّ من اليقين قبل الهجوم على هذه الغاية التي لا رجعة فيها.

ولكن طبيعة الدعوة المبنية على الضغينة وشهوة الدمار إنما تلوح لنا في طبيعة المستجيبين لذلك الهذر الملقى إليهم باسم العلم والدراسة الواقعية، فإنهم لا يستجيبون له إلا إذا كانوا قد وضعوا في أذهانهم أن يهدموا أولًا، وأن يستمعوا لصوت الهدم قبل كل صوت، ثم يأتي الإقناع أو لا يأتي بعد ذلك فهما لديهم مستويان.

والواقع أنهم يقدمون على الهدم لأقل من ذلك الخلاف بين المعسكرين، معسكر الشيوعية ومن ينكرونها كل الإنكار.

يقدمون على الهدم، ويصرون عليه، ولا يتلفتون لاحتمال الصواب، كلما اختلفوا على التفصيلات الصغيرة التي يختلف عليها أتباع كل مذهب متفقين على جملة الأصول، يقدمون على الهدم ويصرون عليه، ولا يتركون متنفسًا لاحتمال الصواب في المخالفة كلما اختلفوا على التفصيلات الصغيرة التي يختلف عليها أتباع كل مذهب متفقين على الأصول، ومن أقطابهم — نظراء «كارل ماركس» في مقامه بينهم — داعية البلشفية «لينين» وحامل العلم في قيادة الثورة الروسية، فإنه خولف قبل الثورة في بعض تفصيلات الدعوة يوم انقسم البلشفيون والمنشفيون، ثم اجتمع مؤتمر ستوكهلم للتوفيق بين الفريقين، فأذعن «لينين» لقراره، ثم ناقضه بالحملة على المنشفيين في اللحظة الأولى، وأعلن هذه الحملة قبل أن تنقضي على القرار بضعة أسابيع، وانعقد مجلس الحزب لمحاكمته على سوء مسلكه مع أعضاء حزبه، فتقبل المحاكمة وحضر للدفاع عن مسلكه، فاعترف بخروجه في لهجته عن آداب الخطاب بين أعضاء الحزب الواحد، ولكنه قال كما جاء في المجلد الثالث من مختاراته: «إنه لا يعتبر مخالفيه أعضاء في حزبه، بل يعاملهم معاملة الأعداء ويتخذ في مناقشتهم أسلوبًا مقصودًا؛ لإثارة البغضاء والنفور والازدراء، مقصودًا لغير الإقناع، بل لتحطيم الصفوف، أو مقصودًا لغير تصحيح الخطأ، بل للإتلاف ومحو الخصم من على ظهر الغبراء.

وهذا الأسلوب الذي استخدمته إنما يراد به أن يثير أقبح الظنون وأقبح التهم والشبهات حول الخصم، ويدعو حقًّا على خلاف أسلوب الإقناع والتصحيح إلى بلبلة الآراء بين الطبقة العاملة، وإذا سئلت: أأنت معترف بأن هذا الأسلوب غير مقبول؟ فجوابي: نعم.

مع قيد صغير وهو أنه غير مقبول بين أعضاء حزب متحدين، وإنما يعني الاختلاف بينهم فَصْم كل عروة من عرى الألفة والوئام، ونقل العراك من التأثير داخل الحزب إلى التأثير في خارجه، أو نقله من الصحيح وإقناع الزملاء إلى هدم نظامهم وإهاجة العمال عليهم ومع العمال جمهرة الشعب على الإجمال.»

ولا شك أن هذا سبب — كلا سبب — لاستباحة كل هذا الشطط في الهدم والتشهير والتحقير وإثارة الشحناء والعداء، وإذا كان هذا كله مستباحًا لمجرد الاختلاف على الرأي بين أعضاء الحزب الواحد، فلا حاجة إلى سبب لاستباحته واستباحة ما هو أنكر منه في الخلاف بين الشيوعيين، ومن ينكرون مذهبهم ويخرجون على حدوده، وإن لم تكن له حدود واضحة للمؤمنين أو المنكرين.

وإنه لمن الخزي لهؤلاء المفسدين أنَّ الحقيقة تصدمهم ولا تدعهم في غفلتهم عنها؛ لأنها أكبر من أن يحجبها التجاهل والاستخفاف، وإن وجوه الاعتراض على آرائهم تأتيهم من حولهم ومن داخل معسكرهم، فلا تغيب عنهم طويلًا بين المناقشات والمساجلات التي لا مناص منها، ولكنهم يعرضون عنها؛ لأنهم منصرفون عن كل خاطر يشككهم في غايتهم من الهدم والشحناء، مغضبون بكل ما في طبائعهم المريضة من لدد وإصرار على الجانب الذي يخالف وجوه الاعتراض، ولا يقبل التريث في مناقشتها، فإذا اعترفوا بها فإنما هو اعتراف المضطر إلى حين، ثم لا يترتب على ذلك الاعتراف تبديل أو تعديل في الغاية التي لا ينصرفون عنها بحال.

وربما كان من ممهدات العذر لهم أن يجهلوا وجوه الاعتراض، ولا يخرجوا من نطاقهم الضيق إلى ما وراءه من الفروض والآراء، فأما الخزي المحيق بأولئك المفسدين، فهو استخفافهم بدفع كل اعتراض يشككهم في شهوة الهدم والكراهية مهما يبلغ في إلحاحه عليها من جانب الأتباع أو الناقدين.

إنهم أمعنوا في تهوين العوامل الإنسانية في مجرى التاريخ جيلًا كاملًا بغير تراجع ولا مبالاة، وأملى لهم في هذا الغلو أن دوافع الثورة في القارة الأوربية كانت على أشدها حوالي منتصف القرن التاسع عشر، فلم يشعروا بالحاجة إلى الأناة والاعتدال، ولم يصادفهم ما يكبحهم عن الشطط الذي يتمادى فيه من شاء في أيام الفتنة، ولا يستطاع التمادي فيه مع استقرار الأمور، فلما يئسوا من تحقيق الانقلاب العاجل واحتاجوا إلى مزيدٍ من الإقناع وقليلٍ من العنف والجماح، تراجعوا واعترفوا بعض الشيء بأثر العوامل الإنسانية أو أثر الفكرة في حوادث التاريخ وحركات الإصلاح، وكتب «إنجلز» في سنة ١٨٩٠ إلى طالب يسأله جلاء الشك في هذه المسألة فقال:

إنه على «ماركس» وعلي أنا يقع بعض التبعة في توكيد العوامل الاقتصادية وإعطائها فوق ما تستحقه من التقرير، وقد كنا أمام حملات خصومنا مضطرين إلى توكيد المبدأ الأصيل في دعوتنا لإنكارهم إياه، ولم يتسع لنا الوقت كل حين لإبراز العوامل الأخرى بين الفعل ورد الفعل من العوامل المتعددة.

وقال «إنجلز» في خطاب آخر: «إنه على حسب الإدراك المادي للتاريخ يكون العامل الفعال في اللحظة الأخيرة عامل الإنتاج والتثمير في الحياة الواقعية. وما حدث قط من «ماركس» ولا مني أننا قررنا غير ذلك، ولكن الذي يحاول أن يجعل العامل المادي وحده فعالًا في التاريخ يخرج بالعبارة من معناها إلى كلام مجرد بغير معنى، فالعامل المادي هو المهم في الأساس، ولكن العوامل الأخرى السياسية وغير السياسية — من دساتير وشرائع ومؤثرات ذهنية ونظريات فلسفية وعقائد دينية — كلها تسيطر على منازعات التاريخ، وتقرر أشكالها في كثيرٍ من الأحيان.»٣

وليس لهذا الاعتراف من نتيجةٍ معقولة إلا إدحاض المذهب والعدول إلى شيء من الأناة، بل كثير من الأناة، في الدعوة إلى الهدم، والإصرار على اللدد في مكافحة كل مخالفة كبيرة أو صغيرة له في تفسير التاريخ، فإن الفصل بين العوامل الإنسانية وبين العوامل الآلية في حوادث التاريخ المتشابكة ليكونن من ضروب التنجيم والتخمين بعد هذا الاعتراف، ولا يجوز لأحدٍ — بناء على الزيادة هنا أو النقص هناك من هذه العوامل أو تلك — أن يعلنها فتنة عمياء بلا هوادة ولا إصغاء إلى مختلف الآراء.

ولكن هل عدل الشيوعيون بعد هذا الاعتراف عن صيحتهم الأولى التي تحفز الضغائن في نفوس اليائسين إلى غاية مداها من الهدم والعدوان؟

هذا هو الشيء الذي يستطيعونه، وذلك هو الموقف الذي لا يستطيعون التراجع فيه؛ لأنه أساس المذهب كله في أعماق الطبائع دون الآراء والتخريجات التي يلفونها ويشدونها ويلقون بها، حيث تنقاد لهم وحيث لا تنقاد؛ ليتخذوا منها الحجة لدعوة الهدم والعدوان.

وغني عن القول أنَّ هذه الشهوة العمياء تضللهم عن الحقائق التي بين أيديهم، كما تضللهم — من باب أولى — عن الوقائع التي يدعون النظر إليها بغير الثقة، حين يتكلمون عن المستقبل القريب والمستقبل البعيد، فقد كان «إنجلز» يؤكد في كلامه عن الاشتراكية الطوبية والاشتراكية العلمية — التي هي اشتراكية دون غيرها بطبيعة الحال — أنَّ الثورة الشيوعية بادئة في ألمانيا منتشرة منها إلى الديار الأوربية من حولها، وكان البيان المشترك — المانفستو — يؤكد في سنة ١٨٤٨ أنَّ ألمانيا على أبواب ثورة برجوازية تتبعها ثورة الصعاليك أو البرولتارية، وكانت نبوءات كهذه كذبت جميعًا ولم تصح لهم نبوءة واحدة، وما من أحدٍ يطالب داعية المذاهب الاجتماعية بعلم الغيب إلا أن يكون داعية للشيوعية الماركسية، فإن المذهب الذي يقوم على نبوءة لازبة يتقرر بها أو لا يتقرر على الإطلاق، يجب أن يقاس بمقياس نبوءته القريبة دليلًا على ما وراءها من النبوءات التي تستباح في سبيلها الفتن والحروب والثورات. وماذا يبقى من مذهب المادية التاريخية إذا سقطت نبوءته التي يبنيها على قوانين الإنتاج، ويجعلها ضربة لازب مفضية إلى قيام المجتمع الذي لا طبقات فيه بعد انتهاء صراع الطبقات؟ إلا أنَّ الداعية الشيوعي قد نسي الجانب المهم في هذا الاعتراف، الذي جاء بعد الفراغ من شرح المذهب بثلاثين سنة، فليس المهم أنَّ «إنجلز» وزميله «كارل ماركس» أهملا العوامل النفسية أو العوامل الإنسانية تحدِّيًا لخصوم المذهب ومناقضيه، لكن المهم أنهما قضيا العمر يفسران الأزمات الحاضرة والغابرة تفسيرًا ناقصًا مخطئًا، لا يصلح للاعتماد عليه في العواقب العظمى التي يرتبانها عليه، ونتيجة ذلك أنَّ الشيوعية تسقط من عداد المذاهب التي يؤخذ بها في تصوير الحالة في زمانها وتصوير الحالة أو الحالات التي ينبغي أن تعقبها، وهذا هو محور البحث كله في حقيقة الدعوة وعواقبها، فليست هي صورة صادقة للشكايات الاجتماعية، ولا هي صورة صادقة لعلاجها وتقدير العواقب التي تخلفها، وتتوفر الجهود على تحقيقها والتعجيل بإنجازها عن ثقة لا تقبل التسامح واختلاف وجهات النظر في الأصول والتفصيلات، كما هو دأب الشيوعيين عامة مع من يخالفهم في أصغر الأمور وأكبرها على السواء.

وعلى هذا يجب أن نسقط الشيوعية من عداد المذاهب التي تفسر شكايات القرن التاسع عشر وتتولى علاجها، وهذا هو الحد الفاصل بين إنكار الشيوعية وإنكار تلك الشكايات، فلا نكران للشكايات الاجتماعية التي تجاوبت بها الأمم خلال القرن التاسع عشر، وإنما ينكر المنكرون، بحق — أنَّ الشيوعية تحسن وصفها وتحسن علاجها، فضلًا عن دعوى المدعين أنها استأثرت بالوصف الوحيد الصادق والعلاج الوحيد الموافق للعلم والتفكير السليم.

إن شكايات القرن التاسع عشر بعضها اقتصادي من أثر الصناعة واختلاط المعاملات واتساع الأسواق وموارد الخامات، وبعضها أدبي «معنوي» من أثر التطور في الأفكار والعقائد ومقاييس الأخلاق، والشيوعية لا تفسر هذا ولا ذاك تفسيرًا يُركن إليه أو يُحمل على محمل العلم والدراسة.

ونعود إلى أولئك الذين يحكمون بالظلم ليشتهروا بالعدل، فنقول: إنهم يفعلون مثل ذلك في إظهار الإنصاف لمبادئها ودعاواها، فالإنصاف الحق لهذه الدعوة المتعسفة أنها «كلام فارغ» لا يصمد للنظر، ولا يليق بالعلم أن يسلم له بالصفة العلمية على حسب العنوان المعلق عليه، فمن الجهل المطبق أن يجيئنا أحد فيزعم أنه ملك زمام الحقائق الأبدية ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، ثم نتقبل منه هذا الزعم؛ لأنه سماه بالعلم واحتكر له الصفة العلمية، ومن الجهل المطبق أن تقاس الشيوعية بمقياس الحوادث الجسام التي حملت عنوانها، فإن مبادئ الشيوعية لم تخلق الثورة الروسية. ولم يكن من العسير على جماعة من الناس كائنًا ما كان عنوانها — أن تقود تلك الثورة كما قاد النازيون ألمانيا، والفاشيون ثورة إيطاليا، وقاد أتباع «سن يات سن» ثورة الصين، وقاد غيرهم حركات الأمم في أوروبا وآسيا وأفريقيا بعد الهزائم وقلاقل الحكم وأزمات المعيشة، كلها ثورات وجدت من يقودها من الجماعات المنظمة بعد سقوط الدول لأسباب متفرقة أشد التفرق، متباعدة أشد التباعد في المصادر والدعاوى والغايات.

إنما حق الشيوعية من العلم أن نفسرها بتفسير الظواهر النفسية في الطبائع المريضة، فأكبر مبادئها واضح البطلان إذا طبقته على قواعد البحث وبرامج الإصلاح، وأصغر وساوسها — بل أخفى خفاياها — واضحة المعنى إذا رجعت بها إلى دخائل النفوس المريضة التي تتحفز للنقمة وتلبي كل من يحفزها إليها.

و«كارل ماركس» لم يبتدع الشيوعية؛ لأنه رجل عطوف حريص على تخفيف الآلام ورحمة الضعفاء، والذين صدقوه لم يصدقوه لأنهم فكروا في مبادئه، أو يقدرون على التفكير في مبدأ من المبادئ على إطلاقها، فإن تسعة أعشارهم لا يقدرون على التفكير لمحة عين ولا يبالون أن يقدروا عليه، ولكنهم يصدقون الشيوعية؛ لأنها تشبع فيهم بواعث النقمة وترضيهم عن خطتهم التي يتبرمون بها ويمتلئون بصغارها، وإنهم لتصدمهم أكاذيب الشيوعية وأكاذيب دعاتها أكذوبة بعد أكذوبة، ثم تبقى الشيوعية بحذافيرها حيث كانت من طبائعهم أن لم يزدها الغضب على من يكذبونها، لأن الشيوعية بحذافيرها قبل الاستماع إلى دعوتها، وبعد الاستماع لكل حجة تناقضها، هي كلمة واحدة، حيث رجعت إليها من طبائع دعاتها ومصدقيها، وتلك هي كلمة «النقمة» على كل إنسان وعلى كل شيء.

وليس على بصيرة بطبائع هذه النفوس من يحاول أن يقنعها بالحجة والعيان، وليس بسليم اللب من يحاول أن يصرف عن الشيوعية لئيمًا تسميه الإنسانية مجرمًا وتسميه الشيوعية ضحية المجتمع، أو ماجنًا تسميه الإنسانية حقيرًا وتسميه الشيوعية متقدمًا يحتقر الرجعية وآدابها، أو امرأة هلوكًا تسميها الإنسانية بغيًّا وتسميها الشيوعية متحررة من رق الزوجية المفروضة عليها، فهذه محاولات مخفقة من البداءة أيًّا كان موقعها من الحجة المقنعة والعيان الملموس. وسنعرض حقيقة الشيوعية — بعد تلخيصها — من هذه الناحية التي تحتويها من طرفيها، وسنرى أنها واضحة جدًّا، كلما رجعت بها إلى مصادرها من النفوس المريضة، وأنها مبهمة جدًّا كلما صدقنا لجاجة المتحدثين عنها باسم العلم والإصلاح.

١  Fabians.
٢  Dutch Ideology.
٣  رسائل «إنجلز» التي نشرت في اﻟ Socialistusche Acadamiker شهر أكتوبر سنة ١٨٩٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤