المادية

تفسير «المادية» بالظواهر النفسية واضح قريب التناول، فهي أدنى المذاهب إلى اليأس والعنف والخطط الآلية، وأشد الماديات إغراقًا في اليأس والعنف تلك المادية التي اختارها «كارل ماركس» وسماها بالمادية الثنائية.

فالمذاهب المادية متعددة، أشهرها المادية المَكَنِيَّة والمادية الناموسية.

والمادية المَكَنِيَّة هي التي تتخيل الكون في صورة مكنة مدارة، تتركب كل أداة منها في موضعها وتدور كلها كما تدور الآلات، وهي مذهب يفتح الباب لتصوير «المدير» الذي يركب تلك الآلة ويحرك دواليبها ويضع كل جزء منها في موضعه ويديره بالتوافق مع الأجزاء الأخرى لإنجاز عملها وتحقيق أغراضها، ومثل هذا الباب قد تأتي منه الرحمة، وقد يفضي إلى افتراض القدرة المدبرة الحكيمة، فلا ينبغي أن يفتح ولا بد من إغلاقه وإن لم تقم في المذهب الماركسي حجة تسوغ ذلك الإغلاق.

يقول «كارل ماركس» في رسالته عن الفيلسوف فيورباخ Feuerbach: «إن العيب الأكبر في مذاهب المادية الموجودة — ومنها مادية «فيورباخ» أنَّ الموضوع والواقع والحس إنما تفهم على أنها موضوعات للتأمل، ولا تفهم على أنها عمل إنساني يحس ويتصرف، وأنها هي صاحبة الفاعلية.»

فلا بد عند «كارل ماركس» من مكنة تدير نفسها من باطنها، ولا يمكن أن تدار من خارجها على فرض من الفروض، ولهذا يجب أن تسقط المادية المكنية أو «المكنازم» من الحساب على أي احتمال.

وشبيه بالمادية المكنية من بعض الوجوه مادية النواميس، وهي التي يقول أصحابها: إنَّ ظواهر الكون المحسوسة كلها مادية تديرها النواميس المركبة في طبائعها، وتتحرك في نطاقها بأمر خالق المادة وخالق النواميس، وقد تدخل في هذه المادية فلسفة الهند القديمة التي ترى أن المادة وَهْمٌ ظاهر، وأن الحقيقة المطلقة وراء هذه المحسوسات وهذه النواميس.

وإذا كانت المادية المكنية مرفوضة في رأي «كارل ماركس»؛ لأنها قد تفتح الأبواب لافتراض المدير المدبر، فالمادية التي تؤمن بوجود الحقيقة من وراء الظواهر والنواميس مرفوضة من باب أولى.

ولا يعنينا هنا أنَّ رأي «كارل ماركس» صحيح أو غير صحيح، ولكن الذي يعنينا منه موقعه من الظواهر النفسية، وهو أقرب المذاهب موقعًا من اليأس والعنف والخطط الآلية.

أما البحث في هذه المادية بمقاييس الفكر والعلم فمحصوله أنها ترقيع، وأنها تفكير ساذج، وأنها بقية من بقايا الخرافات الإسرائيلية، وأنها لا تنتهي إلى نتائجها التي انتهى إليها «كارل ماركس»، ولو صحت مقدماتها المفروضة، وليس منها فرض صحيح، فمن الترقيع أن تستعار فلسفة «هيجل» من المثالية إلى المادية وتستعار معها مصطلحاتها وأطوارها، ثم يقال: إنها باطلة كما وضعها صاحبها، وصحيحة كما استعارها منه «كارل ماركس».

إنَّ الفلسفة النظرية تصويرات أو تصورات في الذهن تحتمل التجوز الكثير؛ لأنها تبحث في شئون يقدرها الذهن ويرى أنه بلغ فيها قصاراه إذا خلص منها إلى تقريب الحقيقة إلى الإدراك الإنساني بعض التقريب، فإما أنْ يقال: إنها باطلة في النظر، صادقة في الواقع من قبيل المصادفة بجميع مصطلحاتها، فذلك هو الترقيع السخيف الذي لا مثيل له فيما نعهده من ترقيعات الرثاثة والسخافة؛ لأنه يرقع الشيء بغير مادته، أو يرقع النظريات بالواقعيات ويزعم أنها تلفق لها بالمصادفة، ولا تلفق حيث وضعها فيلسوف الحكمة المثالية.

والسذاجة في المادية الماركسية أظهر من سخافة الترقيع والتلفيق؛ لأنها تقوم على النظرة العامة السهلة التي كانت شائعة بين جمهرة المتعالمين في القرن التاسع عشر، ممن يستسهلون التحقيق والتفسير، ويظنوهما شيئًا ملموسًا قريبًا من دق المائدة بالأيدي وخبط الأرض بالأقدام، وهذه هي الحقيقة في رأيهم لا ما يتوهمه الواهمون في أحاديث الغيب والخيال.

كان أحدهم ينكر تفسير الكون بالفكرة أو بالحقائق الغيبية، ويقول — وهو يدق بيده على المائدة ويخبط بقدمه على الأرض: هذه هي الحقيقة التي تفسر لنا كل شيء وليست تلك الفروض المغيبة وراء الواقع الملموس باليدين.

وعند هؤلاء أنَّ المادة مفسرة بالبداهة، ناطقة بالبداهة، غنية بالبداهة، عن كل تفسير وكل تعبير.

هذه هي المادة تحت يديك وقدميك وأمام عينيك، فما حاجتها إلى التفسير والتعبير؟

هذه النظرة الساذجة هي نظرة «التفسير المادي» للوجود ظاهره وخافيه، وهي نظرة «كارل ماركس» في تفسير الكون وتفسير التاريخ وتفسير كل محتاج إلى تفسير، إلا المادة نفسها، فإنه لم يحاول قط أن يفسرها ويفسر حقيقتها في الحس أو في العقل أو في الخيال؛ لأن تفسيرها في وهمه — أو في عمله — أن تضرب بيدك على المائدة فإذا هي هناك، وأن تخبط بقدمك الأرض فتسمع «وجودها» ناطقًا صادقًا غنيًّا عن البيان.

وسذاجة هذه النظرة لم تكن خفية في عصر «كارل ماركس» لو شاء أن يتأنى، ولم يشأ أن يتعجل بحافزٍ من الرغبة في تقرير ما يوافق هواه، ولكنها في عصره ربما كانت خفية على المتعجلين بادية لمن يؤثرون الأناة والروية أمام المجهول.

أما اليوم فكل سامع من الملمين بأطراف الحديث عن المادة، يعلم أن مشكلة الروح في أعمق أعماقها لم تواجه الذهن بعقدة في تفسيرها كالعقدة التي تواجهه عند تفسير المادة، نقول: «كل سامع» من الملمين، ولا نقول: «كل دارس أو كل عليم»؛ لأن حديث المادة في أصولها وراء الذرة والشعاع، قد أصبح من الأحاديث المتواترة على كل لسان.

ما هي المادة؟

ليست هي هذا اللون المنظور؛ لأنك لا تنظره إلا بشبكة العين الإنسانية، فإذا ضاقت أمواجه أو اتسعت فلا لون أمام عينيك، وليس هذا اللون بعينه منظورًا لكل ذي عين من الأحياء.

وليست المادة هذه الدقة التي تسمعها إذا ضربت المائدة بيدك؛ لأن يدك لا تدق شيئًا إذا تضاعفت قوتها مئات الأضعاف أو ألوف الأضعاف، بل تجري دون المائدة كما تجري في هذا الفضاء.

وليست المادة هذا الوزن الثقيل أو الخفيف؛ لأنها تقوم بغير هذا الوزن وراء حدود الجاذبية الأرضية، المادة ذرات، والذرة لا يدري أحد أهي موجة أو جوهر فرد صغير بالغ في الصغر، ولكنه يقبل الانقسام فيطير شعاعًا في الأثير.

وما هو الأثير؟ كل ما قيل عن الروح أيسر فهمًا وأقرب إلى الإدراك من هذا الأثير.

شيء لا لون له، ولا كثافة، ولا حركة، ولا تصدق عليه خاصة من خواص المادة في علم العارفين بها والعاملين في ذراتها.

وقبل أن نصل إلى هذا اللغز المركب نقف عند الذرة وما فيها من البروتون والنيوترون والإلكترون، وما يقال عن البروتون السالب في الفضاء المستعصي على الفهم في حيز هذا الجو، وعلى مقربةٍ من عناصر المادة وأجزائها إلى أدق دقائقها المدركة بالفرض والتخمين.

و«كارل ماركس» مع هذا — يظن في علمانيته التي لا حد لها — أنه يفسر بهذه المادة كل شيء، وأن هذه المادة غنية كل الغنى عن تفسير المفسرين وتقدير المقدرين، يقول في البيان المشترك: «إن الشبهات التي تلقى على الشيوعية من جانب الدين، أو جانب الفلسفة، أو جانب الأفكار النظرية على العموم — غير جديرة بالجد في تمحيصها واختبارها، فهل يحتاج الأمر إلى بداهة عميقة لنعلم أنَّ خواطر الإنسان وآراءه ومداركه — أو بكلمةٍ واحدة وعيه — يتغير مع كل تغير يطرأ على كيانه المادي وعلاقاته الاجتماعية وحياته العامة.»

لا، إنَّ هذه الحقائق المادية عائمة على السطح لا تحتاج إلى بداهة، ولا اختبار، ولا امتحان، ولا تردد، ولا تقبل كلمة أخرى غير الكلمة التي يرسلها «كارل ماركس» من طرف اللسان، فلا يضطرب فيها قولان.

وندع أسرار المادة جميعًا، ونسلم مع «كارل ماركس» أنها مجردة من كل سر ننتظر به المستقبل لكشف خباياه، وأنها مفسرة صالحة لتفسير جميع نواميس الكون ووقائع التاريخ، فلماذا يلزم من ذلك أنَّ وسائل الإنتاج هي التي تتحكم في تاريخ الإنسان؟! ولماذا يكون الناس أحق بهذه القوة من الأدوات الصماء؟!

إن مطالب العيشة ضرورة لا غنى عنها لجميع الأحياء، ولكن ضرورتها هذه لم تمنع الأحياء أن يتعددوا أنواعًا وأفرادًا لم تحصرها العلوم بعد، ولم تحصرها الحواس والعقول، واضطرارها جميعًا إلى مطالب المعيشة، لم يمنع هذا التنوع الهائل في أجناسها وطبائعها وآحادها.

فلماذا نسقط هذه القوى الحية من حسابنا ولا نلتفت في تفسير أطوار التاريخ إلا لوسائل الإنتاج الصماء؟ لماذا تكون هذه القوى الحية رهينة بالآلات الصماء؟ ولماذا تكون كذلك بعد ظهور نوع الإنسان وهو الذي يصنع تلك الآلات الصماء؟

يقول «ماركس» و«إنجلز» فيما جاء من مجموعة الرسائل المختارة: «إننا نعتبر أنَّ الأحوال الاقتصادية هي العامل الذي يقرر أخيرًا أطوار التاريخ، ولكن النوع الحيواني هو نفسه عامل من العوامل الاقتصادية.»

وكثيرًا ما جاء في كلام «ماركس» و«إنجلز» أنَّ الإنسان فاعل منفعل، وأنه بين القوى المادية هو القوة الوحيدة التي لها عقل وإرادة، فلماذا تكون هذه القوى العاقلة المريدة رهينة بالآلات الصماء ولا تكون الآلات الصماء تابعة لها في جميع الأحوال؟!

وإذا هبطنا بالإنسان عن عليائه وسوينا بين تأثيره وتأثير المكنات، فلا أقل من أن نسوي بين القوتين في التأثير، تارةً للجماعات العاقلة الرشيدة وتارةً لأدوات الخشب والحديد، فهذه إذن حلقة مفرغة لا يتبين أحد منها على سبيل الحتم موضع الابتداء وموضع الانتهاء. ولا يستطيع أحد أن يقول على سبيل الحتم: أين ابتدأت إرادة الإنسان، أو أين ابتدأ إحساسه بالمطالب الجديدة في شئون المعيشة، وأين ابتدأ عمل الآلات والمكنات؟! لا يستطيع أحد أن يقول: إنَّ الناس أحسوا هنا فأرادوا فغيروا واخترعوا، وإن الآلات وجدت بعد ذلك، فتسلمت بين يديها أطوار التغيير والتبديل، وهما إذن على الأقل عاملان متساويان متعادلان مجهولان على حدٍ سواء أو معلومان على حدٍ سواء، فلماذا اختار «كارل ماركس» على سبيل الحتم أن يكون الحكم الأخير للآلة، وأصر على ذلك إصراره الذي نلمحه متشنجًا من أجله لكل مخالفة له في تقديره، ولم يقع اختياره على العامل الآخر عامل الإرادة والعقل والحياة؟!

أما سبب ذلك في الظواهر التاريخية، أو في أسانيد البحث والنظر، فغير مفهوم وغير ثابت وغير قاطع في ثبوته إن كان له نصيب من الثبوت. وأما سببه في الظواهر النفسية فلا عناء في البحث عنه؛ لأنه يفسر لنا كل شيء ولا يختلف عليه تفسيران.

سببه في الظواهر النفسية أنه هو الطريق الوحيد لإشباع شهوة النقمة والشر في طبيعة «كارل ماركس» وأنه الأساس الوحيد الذي يقوم عليه افتراض المجتمع الذي لا طبقات فيه، وتسويغ الهدم والعدوان على كل ما عداه.

ينبغي أن تكون الآلات هي الحكم الأخير في إنشاء الطبقة التي تستولي عليها ولا تأتي بعدها طبقة تناقضها.

أما إذا كانت العوامل الإنسانية هي الحكم الأخير، فالباب مفتوح لإنشاء نقيض جديد للمجتمع الأخير، وطبيعة الإنسان بنقائضها الكثيرة كفيلة بالانتقال مرحلة أخرى من نظامٍ إلى نظام؛ لأنها هي مصدر النقائض ومصدر البواعث إلى اختراع الآلات.

يجب إذن أن تكون الطبقة الأخيرة طبقة بغير نقيض؛ لأنها تستولي على وسائل الإنتاج.

أما إذا كانت وسائل الإنتاج لا تمنع النظم الإنسانية أن تتناقض ولا تمنع البواعث النفسية أن تعمل في طلب السيادة والسلطان، فمن أين يأتي الشر والخراب، وكيف ترتفع الصيحة بهدم كل ما كان وكل من كان من تراث الأمم والأزمان؟!

يثبت شيء واحد لا يستغني عنه «كارل ماركس» في سببٍ ولا نتيجة، وهو شهوة الهدم، ثم يركب عليه الأسباب والنتائج أو يدعها لك تركبها كما تشاء، وما دام هناك باب مفتوح للهدم، فكل ظن ثابت ثبوت اليقين، وكل ما عداه كفر وبهتان.

وباب الهدم لا ينفتح إذا كانت النقائض تأتي من القوى الحية؛ لأن هذه القوى الحية تخرج لنا طبقة جديدة بعد كل طبقة، وتسلط عواملها الدائمة العميقة الأغوار لطلب السلطان، أو طلب السيادة على المجتمع الجديد.

ويا للخسارة إذن ويا لخيبة الرجاء!

لا محل إذن لاستئصال الجماعات وتقويض ما بناه الناس في مختلف الحضارات، ولا محل إذن للغاية الأخيرة التي من أجلها نقتحم جميع الغايات.

ولا ضرورة للبحث عن تفسير جامع مانع لمعنى المادة، ولا عن دليل قاطع على غلبة الأدوات والآلات، إذ يكفي أن تنظر وراء جميع الفروض والتخمينات، فترى الهدم هناك أو لا تراه، وحيث ترى الهدم فكل شيء ثابت، وكل شيء واضح، وكل شيء مفسر اليوم، ومفسر إلى آخر الزمان، وحيث لا ترى الهدم، فكل شيء باطل مناقض للعلم متهم النية متهم الدليل!

ومن سخرية القدر أنَّ النظامين اللذين قاما في أضخم بلاد العالم وانتسبا إلى «المادة الماركسية» قد فعلا في نقضه أضعاف ما فعلاه في إثباته، وهما نظام روسيا ونظام الصين.

فكل منهما قد هدم القاعدة الأولى من قواعد المذهب؛ لأنه هدم قوله: إنَّ الثورة السياسية تابعة للثورة الصناعية، وأثبت أنَّ الثورة السياسية هي التي تنشئ الصناعة الكبرى، أو هي التي تهيئ الأسباب لإنشائها، ولا حاجة بالثورة السياسية إلى تلك التلفيقات اللولبية، التي يتملص فيها دعاة المذهب من جحر ليدخلوا في جحرٍ آخر، ويجعلوها مقدمات محتومة في زعمهم تفضي إلى نتائجٍ محتومة لا مهرب منها، ولا حتم هناك، وإنما هو الترخص أو الاستثناء الذي يجوز في كل مذهب، ولا يستأثر بطريقٍ واحدة للتاريخ لا يؤذن له في خطوة يخطوها إلى وجهةٍ غيرها.

فالثورة الروسية قامت بعد الحرب العالمية الأولى في بلاد ترجع إلى الصف الأخير بين صفوف البلاد الصناعية، والثورة الصينية التي انتسبت إلى المذهب المادي، قامت بعد الحرب العالمية الثانية على أيدي الفلاحين خلافًا لما توقعه جميع الأقطاب الشيوعيين خارج الصين، وعلى رأسهم «ستالين».

والصين — بعد — هي البلاد التي اخترعت المطبعة والبارود والإبرة المغناطيسية والمدن التجارية وعملة الورق ومصارف الموانئ وسلسلة المعاملات «البرجوازية»، التي انتشرت في بلادها وتجاوزتها إلى غيرها، ولم تفعل تلك الأدوات شيئًا مما فعلته في أوربة، وفرضت به فرائضها المحتومة على مجرى التاريخ من نظام الرق إلى نظام رأس المال.

وإذا جاز مثل هذا الترخص أو الاستثناء، فما هو وجه الحتم الذي لا يرتضي مقدار شعرة من الحيد إلى يمين أو يسار، ولا يحتمل من المستقبل البعيد تعديلًا من مفاجآت التاريخ، أو من مبتكرات التطبيق؟

يتساءل «كارل ماركس» بغير حق: هل يحتاج الإنسان إلى بداهةٍ عميقة ليعلم أنَّ تاريخ الإنسان يتوقف على ضروراته المادية؟ ويلقي هذا السؤال، ولا يلقي بالًا إلى الضرورات التي تنشأ من الإنسان وقد ينشئ من أجلها الآلات ووسائل الإنتاج.

ولكننا نتساءل بحق: هل يحتاج الإنسان إلى بداهة عميقة؛ ليعلم أنَّ وسائل الإنتاج ووسائل الإشراف عليها وراء الحسبان من الآن إلى آخر الزمان أو آخر الأزمان.

ما هي وسائلنا الصناعية اليوم إلى جانب وسائل الطاقة الذرية؟ وما هي وسائل الطاقة الذرية إلى جانب القوة المغناطيسية وقوة الجاذبية؟

لقد كان يسيرًا على «كارل ماركس» أن يتخيل في زمانه مجتمعًا يستولي فيه الصانع على مكنات الصناعة، فلم تمضِ على زمانه عشرون سنة، حتى أصبحت إدارة المكنة الكبيرة هندسة يتخصص لها المدير بدراسة السنين، ولا ينفرد بعدها بإدارتها دون الخبير الإداري والخبير الاقتصادي والخبير السياسي والخبراء في غير الإقليم على نحوٍ من الخبرة يناسب كل إقليم.

أهو لعبة هذا المصير الإنساني بمفاجآته واحتمالاته ونقائضه وأعاجيبه، يأتي رجل واحد في بضع سنوات ليفكها ويركبها على حكمه وهواه، ثم يغلق الباب، فلا مراجعة ولا تردد ولا ارتياب.

أهذا هو العلم وما عداه هو الوهم أو الحُلْم أو الخرافة أو الوبشية في التفكير؟ كلا، مع استعارة قليلة من «كارل ماركس» في توكيداته الخارقة بغير موجب للتوكيد، إذ لا يحتاج الإنسان إلى بداهةٍ عميقة ليرى أنَّ الخرافة هي هذا الهراء، وأن العلم وسلامة التفكير من هذه الخرافة براء.

قلنا: إنَّ المادية الماركسية بقية من بقايا الخرافات الإسرائيلية، على ما فيها من الترقيع والتفكير الساذج والنتائج التي لا تستلزمها المقدمات.

فإذا رجعنا مرَّة أخرى إلى الظواهر المادية، فهناك خرافة النعيم الألفي١ التي امتلأت بها الأساطير الإسرائيلية العتيقة، ولم يفلت «كارل ماركس» من أوهامها على الرغم من صيحاته باسم العلم أو صيحاته على أفيون الشعوب أفيون الأديان.

والنعيم الألفي خرافة إسرائيلية تقول لشعب الله المختار: إنَّ العالم سيخرب بعد ألفي سنة، ثم يخرج من في القبور من أبناء إسرائيل، فيعمرونه في نعيمٍ مقيم لا تبديل فيه ولا تأخير ولا تقديم، هذا النعيم الألفي هو ميراث اليهودي «كارل ماركس» من أساطير قومه، وله ميراث آخر من عاداتهم وتقاليدهم، وإن لم يكن من الخرافات أو النبوءات.

ميراثه الآخر هو تقديس الفلوس! ما الذي يحرك التاريخ؟ الفلوس! ومن الذي يسود العالم؟ صاحب الفلوس!

ومن هم القابضون على زمام الحضارات والعقائد والآداب والفنون والأخلاق، وكل ما يشتمل عليه تاريخ الإنسان في السر والعلانية وفي هذا الزمان وما غبر من الأزمان، وما سيأتي أو سوف يأتي من الأزمان؟!

سبحان الله، هل يحتاج الإنسان إلى بداهةٍ عميقة ليعلم أنَّ القابض على هذه الأزِمَّة جميعًا هو القابض على مفاتيح الفلوس؟!

هذه إحدى الظواهر النفسية التي لا بد منها لتفسير المذهب الماركسي بين ظواهره وخباياه، وهي تنقضه ولا تفسره وكفى، لأنها تُرِينا كيف يكون صاحب المذهب ثمرة من ثمرات الظواهر النفسية تعمل عملها، حيث تصادفها الظواهر النفسية من قبيلها، وقلَّما تصادفها مقدمة من مقدمات التفسير المادي على وفاق المذهب وأحاجيه وقضاياه.

١  Millinium.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤