الفصل الثاني

في دار الدولة في قصر الملكة

تركنا الملكة في الفصل الآنف تأمر بعقد مجلس الدولة في بهوها، وهو يحتوي على مقاعد من الخشب السنط مزخرف من الطراز اليوناني القديم، وفي وسطه منضدة من خشب مزخرفة، وقد جلست الملكة أمامه وجلست حوله سائر سيدات الدولة، ما عدا الوصيفات وحاشية الملكة طبعًا.

وعلى أرض البهو أبسطة جميلة إغريقية الطراز، وفي الزوايا مناضد عليها تماثيل وأزاهر أمام التماثيل. وعلى الأبسطة فراء، وقسي وسهام، وخناجر وحراب ورماح معلقة في الجدران.

١

وقد افتتحت الملكة الجلسة بورع قائلةً: إن إنذار الهيكل لرهيب يا سيدات.

فتلتها أمازونيا رئيسة الوزارة بالقول: لا بدَّ أن في بنطس الآن جريمة سرية مدنسة قدسية شريعتها. فيجب تطهير البلاد منها، وإلا نزل الويل بالبلاد، وما الويل الذي يخشى منه إلَّا ضياع استقلالها ووقوعها تحت نير العبودية لدولة جارجاريا الطامعة فيها.

فقالت الملكة: طبعًا، لا إنذار إلَّا تجاه جريمة، فالأمر الذي يجب تحقيقه هو الجريمة نفسها.

فقالت فلومينا مديرة الشرطة: طبيعة الجريمة ظاهرة يا مولاتي في نفس إنذار الهيكل، وهي «الويل إذا انتصر كيوبد إله الحب على أجكس إله القوة»، فالجريمة جريمة حب، وبأكثر وضوح هي جريمة اجتماع حبيبين في بنطس.

فقالت أوجستينا متفلسفة: كيف يكون الحب جريمة ونحن لولاه لما وجدنا.

ففسرت أمازونيا رئيسة الوزراء: ليس الحب جريمة إلَّا في بنطس، وأما في جارتنا جاريجاريا فلا.

فقالت أوجستينا متململة: لا أفهم كيف يكون ناموس طبيعي جريمة هنا وفضيلة هناك، أليست بنطس جزءًا من الطبيعة؟

– أمرك غريب … هل الطبيعة دستور بنطس؟ وهل سنَّت الشرائع إلى لمقاومة الطبيعة.

– دستور بنطس لا يحرِّم الحب، لا يحرِّم إلَّا دخول الذكور إلى البلاد.

– ويحرِّم الحب فيها أيضًا؛ لأن إباحة الحب تتضمن إباحة دخول الرجال، ودخولهم خطر على الاستقلال الذي اشترته جداتنا بدمائهن.

فتدخلت الملكة بين أوجستينا وأمازونيا حسمًا للنزاع في سر الحب، وقالت: يجب أن نفسر نطق الهيكل كلمة كلمة لكي نحدد الجريمة التي اقتضت هذا الإنذار المروع.

فقالت فلومينا: التفسير واضح يا مولاتي، القمر الساطع رمز لشيء، فهل يمكن أن يكون رمزًا إلَّا للرجل.

فقهقهت أوجستينا متهكمة وقالت: ألا يحتمل أن يكون رمزًا لحمام أو لغزال، أو لتيس سيعبر الجسر.

فقالت فلومينا ساخرةً: لا ريب أن ضياء عينيْ تيسك يخسف القمر.

– ومن ذا يقول إن الظباء والحمام والتيوس لا تعشق. الحب كالدم جار في كل عرق من عروق الطبيعة.

فشق على الملكة التمادي بالجدال في موضوع الحب كأنه يحرك فيها شجونًا وهو ما تريد تجنبه في هذا المقام، فقالت: يجب أن نبحث لماذا يغضب الإله إذا مرَّ ذلك القمر الساطع على الجسر حين يكمد القمر، إذا كان المراد بالقمر الساطع رجلًا، مع أن دخول أي رجل إلى بنطس في كل حال يُعد جريمة.

فقالت فلومينا مستدركة: ولكن ليست كل جريمة تغضب الإله هذا الغضب المنذر بالويل والثبور. والظاهر من النطق الهيكلي أن الإله يغضب إذا اتفق مرور ذلك الرجل الجميل على الجسر حين اكمداد القمر، فيجب أن نبحث عن المراد باكمداد القمر.

فقالت أوجستينا متفلسفة: الأمر واضح، ليس تفسير اكمداد القمر بخسوفه أبعد عن العقل من تفسير القمر الساطع بالرجل الجميل.

– ومروره على الجسر حينئذٍ نذير بدخوله إلى بنطس بجريمة الحب التي تغضب الإلهين.

فقالت الملكة مترددة: إذن عليك بالقبض على الرجل الذي عناه الإنذار قبل أن يمر على الجسر ساعة اكمداد القمر؛ أي خسوفه، وإذا مرَّ قبل الخسوف أو بعده فلا ويل.

فقالت الوزيرة أمازونيا نازقة بصوت عالٍ وهي تخبط المنضدة بيدها: يجب القبض عليه واعتقاله ومقاصته ورفيقته بالموت على كل حال، فاليوم رجل وغدًا رجال، وبعد غدٍ أقيال وأخيرًا أمراء، وحينئذٍ على عرش الدولة يا رحمان يا رحيم، وللاستقلال نار الجحيم، ولكن للجميع العبودية.

وكانت الملكة تختلج عند سماع هذا الإنذار فقالت مضطربة: أجل، يجب قطع دابر الذكورة من بنطس وإلَّا وقعت الأمة الأمازونية تحت نير العبودية للرجال. على ملفينا القيمة على الأمن أن تتخذ التدابير الكافية للبحث عن أي ذكر في بنطس.

فقالت أمازونيا بحزم: ويجب أيضًا مراقبة جسر ثرمودون حول ميعاد خسوف القمر واعتقال كل امرأة تمرُّ عليه وتحري أمرها.

فقالت الملكة متلعثمة: وسأنزل العقاب الشديد بكل امرأة يثبت أن لها صلة برجل متخفٍّ في بنطس؛ لتكون عبرة لمن تجرأ على تدنيس شريعة الأمازونيات، إني حريصة على استقلالهن كحرصي على عرشي.

فهتفت المؤتمرات: تعيش الملكة، ثلاثًا.

ثم قالت أوجستينا: إذن يجب أن نتحقق موعد خسوف القمر فقد يكون قريبًا.

فقالت الملكة مؤمنة على كلام وزيرة العدل: على جريجوريا وزيرة الشئون الاجتماعية استدعاء المنجمة الآن لاستفتائها.

فخرجت جريجوريا لقضاء هذه المهمة واستمرت الملكة تقول: حذار أن تتسرب كلمة من هذا المجلس إلى الخارج لئلا تضج البلاد بالأقاويل والأراجيف التي يمكن أن تحدث شغبًا. بقيت الفقرة الثانية من نطق الهيكل: «الويل ثم الويل إذا انتصر كيوبد على أجكس إله القوة حين يقترن القمران.»

فقالت فلومينا سيدة المحافظة على الأمن: الظاهر من هذا النص أن المراد بالقمرين القمران المذكوران في الفقرة الأولى: القمر الساطع والقمر المكمد.

فقهقهت أوجستينا وقالت متهكمة: أي نعم، اضبطي قمر الأرض الساطع لئلا يفر إلى قمر السماء المكمد ويقترن به.

فقالت الملكة متحققة أمرًا يهمهما: ألا يحتمل يا سيدات أن يكون المراد باقتران القمرين مرور الرجل على الجسر مع حدوث الخسوف في وقت واحد؟

فقالت أوجستينا: عفو مولاتي، إذا كان هذا هو المراد، فالفقرة الثانية تكرار للأولى، ونطق الهيكل يجل عن التكرار الفضولي أو التوكيدي لأنه أكيد بلا توكيد.

فقالت أمازونيا رئيسة الوزارة باسمة: هذا كلام شخص حقوقي قانوني منطيقي. إذن فلا بد أن يكون المراد اقتران ذكر وأنثى في بنطس على كل حال.

فقالت فلومينا كأنها تتشفى: أجل الويل لهما، هذا تدنيس للشريعة، يجب أن يشاد هيكل حقير لكيوبد، ويحرق المجرمان على مذبحه لكي يختنق كيوبد بدخان ضحيته.

فقالت أوجستينا ساخرة: وحينئذ يجب أن تعيني حارسات تراقبن ذلك الهيكل ليلًا وتحصين الأمازونيات اللواتي يدخلن إليه، ويسجدن لإله الحب.

– واجعلي فوق باب الهيكل سيفًا يسقط على كل عنق يشرئب إلى داخله.

– حاذري أن يقع سيفك خطأً على عنقك يا عزيزتي.

– سيفي لا يخطئ، لا يقع إلى على كل من تمد عنقها إلى هيكل الغرام.

فقالت الملكة متلملة من هذا الحديث كأنها هي المقصودة فيه: إذن فعليك يا فلومينا أن تستخرجي القرينين من مخبئهما، ولو كانا في أعماق الخفاء.

فعادت أوجستينا إلى لباب الموضوع وقالت: إذن يجب أن نفهم ماذا عنى الهيكل بالقمرين لكي نعلم إن كانا يصحان رمزًا للعاشقين، ليس في السماء إلَّا قمر واحد، فما هو القمر الآخر؟

فقالت فلومينا: الجواب عند المنجمة، فمهلًا قليلًا فإن جريجوريا قد خرجت لاستدعاء المنجمة.

٢

لم يمض وقت طويل حتى جاءت جريجوريا مصطحبة المنجمة، وانحنتا باحترام كلي لدى جلالة الملكة وسائر الوزيرات. وكان تحت إبط المنجمة درج من رق الغزال يشتمل على علوم الأفلاك والتنجيم، فأمرتها الملكة بالجلوس على مقربة منها، وسألتها: هل لك أيها العالمة أن تنبئينا متى يقع الخسوف القادم.

فحلت المنجمة الثوب الأطلسي عن الرق، ونثرت الدرج مسافة ذراعين منه، وجعلت تحملق فيه إلى أن قالت: «بحسب تقويم بطليموس سيد الفلكيين وأمير المنجمين، يقع الخسوف القادم في موعد تمام البدر القادم.»

فقالت أوجستينا: عمر القمر الآن عشر ليال …

فقالت الملكة: إذن بعد ٤ أيام يقع الخسوف.

فقالت المنجمة: من غير بد.

فسألت الملكة محققة: هل تعرفين في الفلك قمرًا ثانيًا؟

– كلا وحاشا يا مولاتي، لا تسمح الآلهة إلَّا بقمر واحد يقرر صنفًا واحدًا من الطوالع.

– صنفًا واحدًا من الطوالع؟ أي صنف؟

– صنف الطوالع الغرامية يا مولاتي.

فاختلجت الملكة واختلجت معها جميع الوزيرات مرتبكات، وقالت الملكة: يا للعجب. هل للقمر تأثير في العشق؟

– القمر نفسه عاشق يا ذات البهاء.

– يعشق من؟

– يعشق الشمس يا سيدتي، وهل يجد القمر في الفلك عشيقة أجمل من الشمس؟

– أمرٌ غريب. كيف يعشق القمر الشمس؟

– أما رأيت يا ذات الذكاء الباهر القمر يقترن بالشمس حين كسوفها، ولا يفارقها إلَّا بعد عناق طويل يبثها فيه غرامه.

وكانت جميع الوزيرات مبهوتات من كلام المنجمة. فقالت أوجستينا: أعزَّك الله يا ذات العلم الواسع، إذن يُعنى بانكساف الشمس اقترانها بالقمر، وإذا قيل اقتران القمرين فماذا يُعنى؟

فقالت المنجمة محملقة مشرئبة العنق: من يقول هذا القول البديع؟ إنه لشعر ساحر.

– لعلَّ إلهًا قاله. لا أتذكر.

– المجد لهذا الإله، إنه لتعبير بديع يراد به الشمس والقمر جميعًا، لعلَّ هيلاس إله الغناء والشعر قاله.

– هل تعرفين في ميثولوجيا إحدى الأمم نصًّا على أن الشمس والقمر متعاشقان؟

– في ميثولوجيا غلاطيه أنهما عاشقان، وفي ميثولوجيا كبدوكيا أنهما أخوان، وفي ميثولوجيا قورنثيا أن الكوكبة أندروميديا ولدتهما وتركتهما فاقترنا، نعم أخوان اقترنا.

– متى يحدث الكسوف التالي؟

وكانت المنجمة تحملق في درجها وتقول: «بحسب تقويم أستاذ التنجيم بطليموس، يقع الكسوف التالي يوم ميلاد القمر التالي.»

– إذن بعد …

– بعد ١٨ يومًا كاملة.

فقالت الملكة مضطربة تريد الخلاص من المنجمة: شكرًا لك أيتها العالمة الجليلة، لك المكافأة اللائقة بعلمك جزاء إفاداتك. ونهضت المنجمة وانحنت باحترام كلي ثم خرجت.

٣

حدث اضطراب شديد على أثر خروج المنجمة، وجعلت الوزيرات ينظرن بعضهن إلى بعض كأنهن يتساءلن إلى أن قالت فلومينا: يالله! أخوان يقترنان؟ أليس هذا شرًّا فظيعًا؟

فقالت أوجستينا: هذا فظيع، ولكنه جائز في قورنثيا، دعينا من تطبيق الشرائع الآن. لقد انجلى فحوى نطق الهيكل جيدًا الآن، وهو أن الويلين ينزلان على بنطس إذا اقترن الأخوان المتعاشقان حين كسوف الشمس، أجل إن اقتران الأخوين أعظم جريمة تزلزل بنطس.

وكانت الملكة مبهوتة تفكر فيما جرى من الحديث فقالت: ويحهما، أيقترنان في بنطس؟

– إن العاشقين يا مولاتي ليسا بعيدين عن هذه العاصمة.

فاستشاطت الملكة مختلجة واجفة وقالت متلعثمة: الويل ثم الويل لهما، سأجعلهما عبرة للأجيال القادمة.

فقالت جريجوريا كاتبة سر الملكة: يمكن حدوث هذا القران الفظيع خطأً يا مولاتي.

– وهل يغتفر إلاهانا هذا الخطأ؟ إن دستورنا تدارك حدوث اقتران الأخوين خطأً؛ إذ حتَّم على كل امرأة أن لا تعرف إلَّا قرينًا واحدًا لها، فترسل إليه مولودها إذا كان ذكرًا، وتحتفظ به إذا كان أنثى. وهكذا تستطيع أن تنذر بناتها من الاقتران ببنيه؛ لذلك يجب تدارك حدوث هذا الخطأ لئلا تنقض الويلات على بنطس. على فلورينا أن تجمع كل دهاء السماء والأرض لكي تعتقل ذينك العشيقين قبل حدوث الخسوف تداركًا للويلات الرهيبة، وعل كل يمكن أيتها الوزيرات أن تفعل ما يجب عليها في اكتشاف هذه الجريمة الهائلة. لقد أعذر من أنذر، وسيكون الانتقام من اللواتي يحاولن بناء هيكل ليكوبد في بنطس انتقامًا لا تطبيقه نفس بشرية. سلامٌ عليكن.

وجعلن ينحنين أمام الملكة ويخرجن.

وفيما هي في صحن الدار همست ملفينا في إذن أوجستينا: ما قولك بعظة الملكة. فقالت أوجستينا: هل تستطيع أن تقول غير ما قالت؟

٤

ارفضَّ المجلس والملكة دخلت إلى جناح قصرها، وجلست على مقعدها تفكر فيما سمعت، وفيما جرى في الهيكل، وفي نبوءة الكاهنة الكبرى، وقد استوى الهم على نفسها، وجثم على صدرها كابوس الغم، ثم جعلت تحلل النبوءة بنفسها.

لقد انحصر تفسير نطق الهيكل في أمرين صريحين؛ الأول: مرور رجل على جسر ترمودون في حين خسوف القمر، وهذا أمرٌ تداركه أسهل من السهل.

والثاني: اقتران الأخوين في حين كسوف الشمس، وهذا يمكن تداركه إذا نجحت فلومينا في اعتقال أحد الأخوين حين مروره على الجسر، ولكن من هما الأخوان، لا يمكن أن يكون أفريدوس أحدهما. وهب أن هذا الاقتران وقع في بنطس فأنا بريئة منه، والويل لا يقع في القصر.

ثم تقدمت نحو باب حجرة السر وفتحته ثم نادت أفروديت: أفروديت، أفريدوس، أفريدوس!

فجاءها من وراء الحجرة فتًى في زي فتًى روماني يتشح بوشاح عريض طويل أنيق، وإلى جانبه خنجر جميل صغير، وينحني باحترام وببشاشة ويقول: لبيك يا مليكة فؤادي.

وعانقته عناقًا عنيفًا ثم قالت: ما ألذ وأجمل أن أراك بزي الفتى الجميل والحبيب المعشوق يا أفريدوس. يا لقوة الجمال في هاتين الساعدين المفتولتين. قالت هذا وهي قابضة على ساعديه.

ويا لقوة السحر في هاتين المقلتين الوضَّاءتين! ويا لقوة الشعر في هاتين الشفتين العندميتين! ويا لقوة الضياء في هذا المحيَّا الساطع! أخاف أن تكون القمر الساطع، ويا لقوة البهاء في هاتين الوجنتين المتوردتين.

وكانت تلمس بأناملها جميع هذه المذكورات.

ثم أردفت: يا لقوة الشباب في هذا القد العادل.

وضمته إلى صدرها ثانية وقبلته قبلة النسيم للغصن.

ثم أفلتته، ولكنها لم تستطع أن تفلت من بين ذراعيه ولا شفتاها من شفتيه كأنه لا يرتوي ولا هي ارتوت.

وعادت تقول: أغتبط أيما اغتباط إذ أراك قمرًا طالعًا بزي الشاب النبيل. ولكن أشفق أن ينم عليك زيك في حين غفلة، فعد وتزيَّا بزي الوصيفة أفروديت لئلا تباغتك إحدى الوصيفات فيفتضح الأمر.

فقال أفريدوس: ولكني كما أمرت أتجنب الاختلاط بالوصيفات تحاميًا للفضيحة.

هذا التجنب حتم على كل حال حتى في حال تنكرك؛ إذ لا يمتنع أن تصادفك إحداهنَّ على حين غفلة، فعد والبس لباس أفروديت.

– أخشى حسدهنَّ لي لتمييزك إياي عليهن، يعرفنني وصيفة حديثة العهد في بلاطك باسم أفروديت.

– لقد أوهمتهن أنك فتاة من سلالة تتصل بالأسرة المالكة ففقأت بهذا الإيهام عيون الحاسدات.

– ولكن ما الذي طرأ حتى صرت ترغبين في اختلاطي بهن.

– أشفق عليك من مللك في وحدتك في انتظاري، حين أكون مشغولة بمهام الدولة.

– لا أشعر بملل الوحدة لأنني في غيابك أنظم الشعر لأبث فيه غرامي لك.

– أما كفى ما في هذين اللحظين من السحر حتى تضم إليها سحر الشعر. إنك قاتلي بما في هذين الناظرين من السحر، ادخل الآن إلى خدرك وتنكر بزي الوصيفة، وهلم إليَّ.

فدخل إلى مخدعه، وهي بقيت تغازل نفسها، يا للهوى يا لشعلة الغرام في الفؤاد! كلما نفخها جبروت الملك لكي يطفئها صب عنفوان الشباب زيتًا عليها ليزيدها ضرامًا … ا … آه … طلبت السعادة في انتصارات الحروب فوجدتها لا تزيد على نبضة واحدة ضعيفة بين نبضات الغارات العنيفة في المعارك. توسلت إليها في مطاردات الصيد فما أصبت منها إلَّا علفة من قلب غزال تتخم معدة الجسد. وأما معدة النفس فبقيت جائعة، فتطلبت السعادة في سلطة الملك، فما وجدت إلَّا سلسلة مشاكل ومشاغل لا تنتهي. عبثًا بحثت عن سعادة في أي ناحية من نواحي الحياة … آه. فما وجدتها إلَّا في الحب، تبًّا لدستور بنطس الذي يجعل الحب جريمة، فكأنه يحرِّم الحياة. إذا قتل الحب، فماذا يبقى من هدف للحياة … آه … الحب. الحب الحب، هو إله الطبيعة الذي لا يجحد، هلم إليَّ يا كيوبد إله الحب، إني ملكة عبادك بل أنا خادمة هيكلك.

عند ذاك جفَّلها قرع على البار الخارجي. ففتحته وإذا أمها الشمطاء العمياء تبدو منه فقالت مبغوتة: ماذا دعاك إلى هذه المفاجأة يا أماه؟

فقالت أمها: صه، لا تدعي أفريدوس يأتي إلى هنا قبل أن أملي عليك نصيحتي.

– نصيحتك؟ بأي شأن يا أماه؟

– بشأن المجلس الذي ارفضَّ منذ برهة، فإن أذني العمياء مرهفتان — استوعبتا كل حوار جرى بينكنَّ من وراء الباب.

– كانت جلسة سرية يا أماه.

– أتودين أن تُكتم أسرارك عن أخلص الناس لك؟ عن أمك؟ عن والدتك الساهرة على سلامتك وسلامة عرشك؟

فقالت الملكة خافقة الفؤاد متلعثمة: أجل أنت أم، بل أنت الملكة الأولى، وستبقين الأم التي لا غنى عن نصائحها.

– فاجأتك قبل أن ترسمي أية خطة بشأن أفريدوس، فماذا نويت أن تفعلي؟

– نويت أن أحتم عليه الاعتكاف في القصر لا يخرج منه كعادته للصيد إلى أن ينقضي موعد إنذار الهيكل.

– أي سبب تنتحلين لهذا التحتيم؟

– لم أفكر بعد بتلفيق سبب له.

مهما لفقت من أسباب فلا يطمئن، وإذا اشتد قلقه أفضى إلى فضح سره، فما هو بالأبله لكي يطاوع طاعة عمياء، إن الاحتفاظ به هنا في القصر غير مأمون العاقبة.

– إن تنكره متقن جدًّا يا أماه، فهو يحلق عارضيه وشاربيه كل يوم مرتين، وإلى الآن لم يكتشف أحد سره.

منذ اليوم ستكون العيون محملقة جدًّا يا بنتي.

– لا يتسنى لأحد أن يتدخل بشئون قصري.

– لا تدرين ماذا تكون عاقبة التدقيق في التحقيق الذي قررتنَّه، فإذا وقعت الشبهة على أفروديت تتبعت الجاسوسات أفريدوس إلى أعماق قصرك.

فقالت الملكة مضطربة: ورأيك الحكيم يا أماه.

– رأيي أن يخرج أفريدوس حالًا من القصر بأية حجة من غير أن يرتاب بسبب، دعيه يسبقك إلى قصر الصيد على الحدود حيث ابتدأ تعارفكما، حتى متى صار هناك توعزين إليه أن يتريث موعودًا بأن تستدعيه بعد حين إذا لم تلحقي به.

– أماه، ويلاه، لا أطيق فراقه يومًا واحدًا.

– أشعر بحسرتك، فقد نكبت بها في شبابي أحيانًا، ولكن أتطيقين ضياع عرشك إذن؟

– ويحي، كلاهما متعادلان في الميزان.

– وكليهما تخسرين.

– يمكن أن يسلما كلاهما إذا منحتني دهاءك.

تحتاجين إلى دهاء عظيم يا بنتي؛ لأني أحسُّ أن مكيدة هائلة مدبرة ضدك، فحاذري.

– ويحي، أي مكيدة تحسين؟

عجبًا، ألا تشعرين أن نطق الهيكل مبني على تسرب أسرار القصر إليه؛ لأن جواسيس الهيكل يجسن أعماق الزوايا والكهوف، ولعل رئيسة الكاهنات علمت بأمر أفريدوس فنطقت بنبوءة الهيكل بناءً على هذا العلم.

فقالت الملكة متفجعة: ويلاه. إذن. دبري تدبيرًا ينقذني من هذه المكيدة الهائلة يا أماه من غير أن يفقدني التدبير أفريدوس. هو قمري الذي لا أحتمل غيابه يومًا واحدًا.

– العروش يا بنتي، لا تثبت على أساس العواطف الرملي، يجب أن تكون لك إرادة أصلب من الجلمد، يجب أن تُقصي أفريدوس عنك إلى آخر الشهر؛ أي إلى ما بعد حدوث الخسوف والكسوف، وثم نرى ماذا يكون بعد إخفاق نبوءة الهيكل.

فقالت الملكة متضرعة: أماه كيف يمكن السمكة أن تعيش في الوحل إذا نضب الماء؟ وكيف يعيش العصفور في إناء لا ينفذ إليه الهواء؟ وكيف يهتدي الجدي إلى أمه إذا انحجب عنه الضياء؟ وكيف يحيا الحي إذا انقطع عنه الغذاء والضياء والهواء والماء؟ يا أماه، أحين أبلغ إلى قمة جبل الغرام أتزحلق إلى وادي الفراق؟ لا أطيق يا أماه، يجب أن أتبعه على الأثر.

– حاذري أن تفارقي العرش في إبان هذه الأزمة الدولية الهيكلية؛ لئلَّا تقعي فريسة للمكيدة.

– أفٍّ، أفٍّ، ليت هذا العرش لم يكن، ولا كانت متاعبه ومصائبه … آه … ما أسعد الراعية في جاريجاريا، وحبيبها يعزف لها على قيثارته! وما أسعد الفلاحة في قورنثية وهي تشد بحبل رفش حبيبها! وما أسعد الحاصدة في كبدوكية وحبيبها يعرقل منجلها بمنجله مداعبًا! كرهت العرش يا أماه.

– أشفق عليكِ، حاذري التفريط بالعرش يا بنتي؛ لأن حياتك مقترنة ببقائه. ولدت ذات عرش ولم تولدي فلاحة ولا راعية. كوني حازمة لئلا تضيِّعي الملك والعرش والحبيب والحياة جميعًا. استدعي أفريدوس وأبلغيه تعليماتك.

وخرجت الوالدة لا تلوي، وبقيت الملكة تناجي نفسها: وا ويلتاه! كيف أستطيع فراق ذلك البدر الساطع؟ هل تستطيع عيناي الغمض وهو بعيد عني؟ كل يوم أقضيه إلى جنبه يزيد غرامي به. كذب الشعراء الذين يقولون: «دوام الوصال يورث الملال.» لعلهم لم يذوقوا طعم الحب، فكيف يُبدعون التشبيب والغزل والنسيب؟ آه! ولكن لا بدَّ من إبعاده ريثما يمر زمن الإنذار بالويل، فيا قلب تحمَّل الفراق على أمل اللقاء.

ثم فتحت الباب ونادت أفريدوس.

ودخل أفريدوس فإذا هو أفروديت إلهة الجمال، لا يمكن أن تظنه شابًّا؛ لأنه أتقن زي الحسناء من كل وجهة، فتلقتهُ الملكة باشَّة متهللة، وأخذت بيده وطوَّقت خصره بذراعها وتمشَّيا معًا، وهي تقول: إلى ينبوع السرور، وهو يقول لها: لبيك يا بحر البهجة والحبور.

فقالت: أليس البحر متجمعًا من الينابيع، فكيف لا يتعاظم ويتدفق على مرور الزمن كأنه لا ترويه الينابيع؟!

– الينبوع يا عزيزتي سلسال قطرات صغيرة تتلاشى في البحر الخضم، فلا تزيده مقدارًا.

فقالت بعد صمت هنيهة وتأمل وتفكير في ما هي فيه من بلبال: أفريدوس، من أين تأتي مياه الينابيع؟

– إنها قطرات المطر تتغلغل في الأرض، ثم تتفجر من منافذها.

– ومن أين يأتي المطر؟

– من فيض الآلهة.

– أي الآلهة؟

– مطر السرور من فيض كيوبد إله الحب، أتنكر أن الحب مصدر كل سرور وسعادة؟

– لا أنكر.

– إذن فلماذا لا تبنين هيكلًا لكيوبد؟

فأجابت بدلال وابتسام ساطع: بنيت.

– أحقيقيٌّ؟ أين؟

فأشارت إلى قلبها، وقالت: هنا، بنيت هيكلًا واحدًا لمتعبدٍ واحدٍ.

فقال أفريدوس متدللًا أيضًا: كيوبد إله جميع البشر، فكيف تحصرين عبادته في هيكل واحد لمتعبد واحد؟

– أتريد هيكلًا يشترك بالعبادة فيه كل الناس؟

– كذا تكون الهياكل، يجب أن تبني هيكلًا لكيوبد في بنطس يقصد إليه كل الناس.

– أن تعلم أن لا محل له في بنطس، ولا سلطة لي في غيرها.

– حيثما تبنين هيكلًا لكيوبد تنقاد السلطة إليك صاغرة.

– تغضب أمتي.

– غضب كاذب.

– كيف يكون كاذبًا وهو يزعزع عرشي؟!

– بل يثبت عرشك؛ لأني أعلم عباد كيوبد في بنطس أشد حرارة وغرامًا من عباده في أي مكان آخر.

– لو بني هيكل هنا لهدمنه في دقيقة وجعلن مكانه قاعًا صفصفًا.

فقهقه أفريدوس قائلًا: ليتك تمتحنين الأمر؛ فترينهنَّ يترامينَ إليه ترامي الفراش على المصباح.

– يرمينني منه بسهام مسمومة.

– يرمينك بأغصان الورد امتنانًا وشكرًا.

– هذه مجازفة يا أفريدوس، لا أجسر أن أقدم عليها.

– ليس في الأمر مجازفة، يبنى الهيكل في الحدود قرب قصر الصيد الذي اجتمعنا فيه لأول مرة من غير أن يعلم من بناه، وحينئذ ترين الأمازونيات يتهالكن في التردد إليه خلسة وبعد حين جهارًا. وفي زمن غير طويل يتلاشى العداء الذي حدث بين دولتي بنطس وجاريجاريا بسبب الدسائس، وثمَّ يتواتر القران بين الأمازونيات والجاريجاريين. وأخيرًا يتحوَّل الخصام الكاذب بين الأمتين إلى ولاء صادق. وثمت يتسنى ضمُّ العرشين في عرش واحد تتبوئينه أنتِ.

– وي. وي. وي. لقد شططتَّ كثيرًا يا أفريدوس، تزين لي حلمًا لا أتصوَّر تحقيقه حتى ولا في السماء السابعة، فكيف يمكن ذلك؟

فقال أفريدوس جادًّا: تقترن ملكة بنطس بملك جاريجاري …

فقالت مبغوتة غاضبة: ويحك، أتخادعني بحبك لكي تزين لي قرانًا بملك جاريجاري، وقد صار ملككم عدوًّا لدودًا لأسرتي؟ إذن كنت تتصنع الغرام بي تصنعًا لكي يكون السبيل إلى اتحاد العرشين وضم المملكتين بزواج ملكي أكون فيه أمة لا سيدة. لا، لست أصبر على هذا الخداع لحظة.

فقال أفريدوس بدلال وشمم: أتبلغ منك السذاجة أن تفهمي من مقالي قرانك بغيري؟ هل ترين فيَّ النذل الذي يسخر عشقه أو يؤجره لقضاء مأرب لغيره؟!

فقالت مبهوتة: إذن كيف يتحد العرشان بهذا القران، وأنت تقول إنك من سلالة الكهنوت لا من سلالة ملكية؟

– هل تجهلين أن السلالات الملكية مشتقة من السلالات الكهنوتية في كل أمة؟

إذن فلا بدع أن يصير ابن كاهن كبير ملكًا.

– هل مُسخ ملك جاريجاريا إلى خنفسة حتى لا تحسب حسابًا لمقاومته.

– أجل في جاريجاريا سلطة العرش مستمدة من سلطة الكهنونت، والشعب الجاريجاري ضاق ذرعًا من قانون دولتكنَّ الذي أفضى على مرور الزمن إلى تكاثُر الذكور في جاريجاريا، وتجمع الإناث في بنطس؛ لأن الأمازونية التي تقارن جاريجاريًّا في ربيع المغازلة إذا ولدت بنتًا احتفظت بها أو ذكرًا أرسلته إلى أبيه. فأصبحت بنطس مملكة نساء، وجاريجاريا مملكة رجال قلت فيها النساء. وكثيرٌ من الشبان لا يجدون لهم زوجات، وجميع الآلهة تستنكر هذا التفريق. وكيوبد يتضجَّر منه، فإلى متى هذا الفسق المنافي لسنة الطبيعة؟

وكانت الملكة تفكر في منطق أفريدوس هذا وتزنه وترى الصواب فيه إلى أن قالت: تكاد تريني سعادة لا أتصوَّر وجودها حتى في عالم الآلهة. هذا اقتراح خطير الشأن، يجب البحث فيه مليًّا قبل تقريره، والبحث في خططه قبل تنفيذه؛ لذلك أود أن تذهب الليلة إلى قصر الصيد في الحدود، وتنتظرني هناك إلى أن أوافيك بحاشيتي للصيد. وهناك يخلو لنا الجو، ونتفاوض في رسم الخطة الضامنة النجاح.

فأجاب أفريدوس مبتهجًا: لماذا لا أبقى هنا ثم أذهب مع الحاشية؟

– صرت أخشى انفضاح أمرنا، فأود أن تسبقني بدعوى أنك موفد لتهيئة أجهزة الصيد، وهناك سيرونا الوصيفة المخلصة الحارسة قصر الصيد، والقيِّمة عليه تكون في خدمتك.

– لا أرى موجبًا لهذا التدبير العاجل، لعلك تريدين بهذا التدبير إقصائي عنك.

– كلا البتة، بالعكس، أود أن أضمن بقاءك إلى جنبي إلى الأبد، لا تسئ الظن بي، وأن أعبد كيوبد فيك، اذهب الليلة إلى قصر الصيد وانتظرني هناك.

– كم عمرًا أنتظرك؟

فضحكت ملء فمها، وقالت: بعض الأسبوع.

– أبعد غد؟

– أو بعده فلا تضجر.

– بدأ الضجر منذ الآن.

– راعِ القمر فهو شعاع الحب بين قلبينا.

– سأرى القمر مكمدًّا حيث لا تكونين موجودة تمدينه بضيائك.

فقالت مجفلة: إذن فلا تساهر القمر، بل ناجِ الشمس في النهار، فهي جمرة الحب بين قلبينا.

فقال متضرعًا: بربك لا تبطئي لئلا تحرق تلك الجمرة قلبي، فلا تجدين حين اللقاء إلَّا رماده.

فقالت ضاحكة: اذهب أعد جوادك، فالشمس على وشك المغيب، تبلغ إلى قصر الصيد في ضحى الغد إذا لم يخنك الجواد.

ثم تلاثما ملاثمة الوداع، وخرج إلى الإسطبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤