الفصل الثالث

في دار القضاء

في دار القضاء بهوٌ رحيب أنيق، فيه مقاعد من خشب السنط، مزخرفة زخرفة إغريقية جميلة، وفي وسطه منضدة من نفس الخشب، وإلى جانبيْ مقدم البهو عمودان ضخمان يتوسطهما تمثالان للإلهين أجكس وأرس، وقد علق في الجدران حراب وسيوف وقسي وسهام.

١

وكانت أوجستينا سيدة القضاء أو وزيرة العدل جالسة لدى المنضدة، وفي يدها رق القانون تنشره رويدًا كلما قرأت لنفسها بعض أسطره. وما هي إلَّا هنيهة حتى دخلت أودينا الشرطيَّة الكبرى أو ذات الرتبة العالية بثوب خاص يدل على رتبتها، وفي يدها رمح قصير ذو حربة، وضربت الأرض بكعب رمحها ضربًا خفيفًا، فالتفتت إليها أوجستينا، وسألت: هل جدَّ شيءٌ بشأن المعتقلات التسع على جسر ترمودون؟

– عثرنا على عاشرة يا سيدتي مشتبه بها في فندق التاجرات، فاعتقلناها منذ ساعة.

– أية شبهة ظهرت فيها؟

– أعدم يمناي إذا لم تكن رجلًا جاريجاريًّا متنكرًا.

– وي. وي، إذن عثرنا على القمر الساطع.

فقالت أودينا باسمة: بل على القمر القاتم يا سيدتي، وأما القمر الساطع فما هو إلَّا المعتقلة السابعة التي أصرَّت على عدم الإقرار بهويتها لأن الشبهة قويت عليها.

فاشرأبت أوجستينا مهتمة وقالت: ماذا بها من دلائل الشبهة؟ هل كذبت بحقيقة شخصيتها؟

– بل حقيقتها كذَّبت شخصيتها.

فابتسمت أوجستينا وقالت: كيف؟ هل شرعت تتحوَّل من صنم إلى إنسان؟

– لا، لم تزل صنمًا لا يتحول، وإنما أليس هذا هو الصباح الثاني لاعتقالها.

– بل مضت عليها ليلتان ونهار في المعتقل هنا، فماذا ظهر من كذب شخصيتها؟

فقالت أودينا مداعبة ومشيرة إلى خدها: وجنتا الصنم كذبتا كذبًا صراحًا.

– هل اصفرَّ أحمرها وجلًا؟

– بل اخضرَّ ورقًا.

فقالت أوجستينا ضاحكة: تبًّا لك، أتعنين أن شيئًا أخضر نبت فيهما؟

– أي وربي، نبت فيهما عذاران … أ … جميلان.

– ويكِ، أعذاران؟ أشعرٌ نبت فيهما كما يبدو في خد الفتى؟

– نعم، إذ لم يتسنَّ له أن يحلق منذ وقع أسيرًا إلى اليوم، فتأملي أن تري شبحًا في ثوب مرأة أنيق وعلى خديه عذاران وعلى شفته شارب.

وجعلت أوجستينا تقلبُ الرق في يديها وقالت: أما هي سابعة اللواتي قبضت الشرطيات عليهنَّ حين مرورهنَّ على جسر ترمودون حين خسوف القمر؟

– بلى هي، هي.

– هل علمت متى عبرت المتنكرة العاشرة على الجسر.

– لا، لأن ذلك المتنكر لم يبت في الفندق إلَّا أمس، وقد جاء إليه متأخرًا ولم يخرج منه إلى أن أعتقل.

– ائتيني بهذا المعتقل العاشر أولًا، وحافظي على السابع جيِّدًا ريثما أنتهي من التحقيق مع ذاك أولًا.

وبعد أن خرجت أودينا جعلت سيدة القضاء تخاطب نفسها: حقًّا، لم يكن نطق الهيكل عبثًا، سنرى أي الدواهي في صدريْ هذين الرجلين المتنكرين، هل لهما غرض واحد، أم أنهما لا يلتقيان عند غرض واحد.

وفي الحال دخلت أودينا تقود رجلًا متنكرًا بثوب امرأة، وفي يديه غلٌّ (سلسلة حديدية) متصل بطوق في عنقه، وعلى وجهه لثام تبدو من خلاله عينان حادتان، لأن السجن في نفس الجدار.

ثم أشارت أوجستينا إلى أودينا أن تخرج، ورفعت أوجستينا اللثام عن وجهه، فبدا لها رجل في آخر سن الشباب، دميم الوجه، ذو أنف أشم. وجلست وهو بقي واقفًا أمامها وسألت: كيف دخلت إلى البلد من غير أن تشتبه بك امرأة أمازونية أو شرطية الحدود لكي تصدك عن الدخول.

فقال بأنفة وكبرياء: دخلت مستترًا بغلس الليل الماضي.

– أين كنت في نهار أمس.

– كنت مارًّا في الحدود.

– كيف جرؤت وأنت تعرف أن قانون الأمازونيات يحرِّم دخول الرجال إلى بنطس تحت طائلة القصاص.

خاطرت مضطرًّا لأمر ليس فيه مساس بقانون البلاد.

فقالت بنزق: ما هو؟

– لي حبيبة جاريجارية يأباها عليَّ أهلها، وقد اضطهدوها لأجلي، فلجأت إلى عاصمة بنطس وجئت أبحث عنها لكي نتفاوض بتدبير موافق لكلينا.

– وي. وي. لقد أصبحت بنطس ملجأً للعشاق … ما اسمك يا هذا، وما اسم حبيبتك؟

– مولاتي أرجو أن تعفيني من هذا السؤال. العادة عندكن أن الهاربات إليكن بسبب غير مشين يلجأنَ إلى الهيكل، وكنت مزمعًا أن أقصد إليه لكي أسأل عن حبيبتي هناك، فاعتقلت قبل أن يأتي الليل، فأرجو أن تسمحي بأرسالي إلى الهيكل، وهناك يثبت صدق دعواي.

– لا أجيب طلبك إلَّا إذا اعترفت بهويتك وبهوية حبيبتك.

– مولاتي، أعتقد أن قضاء الأمازونيات الجليل الشريف يسمح لي بكتمان هويتي وهوية حبيبتي حرصًا على كرامتنا، وأظن أن إبلاغك أمري إلى قداسة كاهنة الهيكل الجليلة يريحك ويريحني من عناء التحقيق.

وهنا نادت أوجستينا أودينا وقالت لها: ردي هذا المعتقل إلى كنِّه ثم تعالي.

وخرجت أودينا بالمعتقل، وشرعت أوجستينا تكتب على رقٍّ صغير:

إلى سيدتي الورعة المبجلة رئيسة الكاهنات في دار القضاء

عندي رجل جاريجاري متنكر معتقل يزعم أن له حبيبة لاجئة إلى الهيكل فرارًا من اضطهاد أهلها لأجله، ويأبى أن يبوح باسميهما، فإذا كانت عندك هذه الفتاة فأرجو أن ترسليها مخفورة إلى دار القضاء لأجل التحقيق في دعوى هذا المعتقل.

أوجستينا
سيدة القضاء

ثم لفت الرق وربطته بشريط أحمر، ولما عادت أودينا قالت: أرسلي هذه الرسالة إلى الهيكل، ثم ائتيني بذات العذار؛ لأنه يلوح لي أن هذا المتنكر الآخر الذي كان في الفندق ليس القمر الساطع الذي مرَّ على الجسر حين اكمداد القمر.

– حتى ولا نيزك هابط يا سيدتي.

– أجل، أظن أن ذات العذار هي بيت القصيد.

– نعم هي بيت القصيد الذي يصعب تفسيره.

– هل حاولت استنطاقها؟

– لم أستنطق منها إلَّا لفظة «لا»، فهي مغرمة بهذين الحرفين كأن اللغة كلها مجتمعة فيهما.

فقالت أوجستينا ضاحكة: أوه، كثيرًا ما تجتمع اللغة كلها في حرفين.

– أفي حرفين بلا معنى كحرفي «لا».

– لا بل كحرفي حاء وباء ففيهما كل معاني الوجود.

– أي وربي. فيهما كل لاهوت كيوبد وفلسفته، ليتك تشرحينهما يا سيدتي.

– ائتيني بذات العذار لعلي أتوفق إلى شرحهما.

٢

وما هي إلَّا دقائق حتى عادت أودينا بفتى بثوب امرأة أمازونية مغلولة اليدين، والسلسلة متصلة بطوق في عنقها، وعلى ظهرها جعبة سهام، وعلى كتفها الأيسر قوس معلقة للدلالة على أنها كانت في الصيد، فقالت أوجستينا: دعيني يا أودينا أستوحي الفلسفة من التي أشرت إلى مصدرها.

فخرجت أودينا، وكانت أوجستينا تتفرَّس في المتنكرة المعتقلة جيدًا معجبة بجمالها، ثم أشارت إلى مقعد لدى المنضدة وقالت آمرة: جلوسًا.

فقعدت المتنكرة، واستأنفت أوجستينا التحقيق: أتأسف يا ذات العذار أن دار الاعتقال خلو من موسى يُحلق بها عارضاك، ولكنك لو أنبأتني منذ أول ساعة أنك اعتدت الحلاقة كل صباح وكل مساء لاختلقت لك موسى من أعماق الخفاء، فعذرًا. أين الموسى التي كنت تحلق بها عارضيك فآتي بها إليك؟

فتبرَّم الفتى، ولم يجب بكلمة.

– عذرت إقلالك من الكلام أمس إذ كانت رئيسة الشرطة تحقق معك؛ لأن الحياء من طبع النساء الجاريجاريات المتحصنات. ولكن الإقلال من الكلام الآن إنما هو جبن لا يليق بالرجال الجاريجاريين الذين تربطنا بهم أوثق صلة، صلة الدم. فمعظمهم آباؤنا وإخوتنا وأولادنا. هل تريد أن تنكر شهادة هذا العذار اليانع؟ (قالته بابتسامة).

– لا أنكره.

– حسنًا، ولماذا كنت تحصده كل يوم، وهو نصف حسن الفتى الجميل؟

– لأنه مستنكر في بنطس.

– ومن هي المرأة التي لم تستنكر وجودك معها بدونه؟

– لا أعرف امرأة أمازونية لا تستنكر وجود رجل معها في بنطس.

فقالت باسمة ابتسامة شعاعية: أما كنت تأوي إلى منزل امرأة حسناء؟

– لا.

– أين كنت تبيت؟

– في السجن.

– وقبل السجن؟

– كنت في الحدود.

فقالت سيدة القضاء أوجستينا متدللة مبالغة في الابتسام: من هي المرأة السعيدة التي كانت تتوقع قدومك إليها؟

– لا أدري.

– إلى أين كنت تقصد إذن؟

– إلى أي فندق في هذه العاصمة.

– لماذا قدمت؟

– لأجل النزهة، ولمفاخرة رفاقي في مشاهدة عاصمة مملكة النساء التي لم يدخلها رجل.

– هل كنت تجهل القانون الأمازوني الذي يحرِّم على الرجال الدخول إلى مملكة النساء وعقاب مخالفته؟

– كنت أعلمهما ولهذا تنكرت.

– أما حسبت حساب الافتضاح وهذا المصير الذي انتهيت إليه؟

– إن طيش الشباب يخطئ الحساب يا سيدتي.

وكانت تحملق في عينيه باشة إلى أن قالت: لا يطل من هاتين المقلتين إلَّا سحر بابل. أمن أصل بابلي أصل سلالتك؟

– ربما.

– لا أرى في هذه النظرات الخالبات طيشًا. بل أرى ذكاءً يضارع البهاء الذي يشع من هذا المحيَّا الوضَّاح، فلست أقتنع أنك غبي لا تحسب حساب وقوعك تحت الشبهة. أعتقد أنك لم تقدم على هذه المجازفة إلَّا اعتمادًا على قوَّة تنقذك. فما هي؟

فقال الفتى متبسمًا: ما هي إلَّا رحمة القضاء بي.

– لقد صحت فراستي. لم تطمع برحمة القضاء بك إلَّا اعتمادًا على شفاعة قوية بك. فما هي؟

– ما هي إلَّا شفاعة القضاء نفسه.

– يلوح لي أنك عظيم الأمل بتسامح القضاء، ففي مقابل أية محمدة تمنِّي نفسك بعطف القضاء ورحمته؟

– التسامح يا مولاتي في مقابل محمدة لا يُعدُّ رحمةً بل هو جزاء للمحمدة؛ لأن المحمدة ثمن له، فأنا آمل برحمة القضاء لأني شاعر بأنه مفعم «رحمةً وعطفًا بلا ثمن.»

فقالت أوجستينا متهللة كأنها أصابت غرضًا في نفسها: ولكن قانون الأمازونيات صارم (مشيرة إلى رق القانون الذي في يدها وناشرة منه بعضه).

– القانون كتابة بكماء في رقعة صماء، والقضاء ينشره ويطويه كما يشاء.

حينئذ شعرت أوجستينا بفيض الشعر في مخيلتها وقالت متغزلة: يخيل لي أنك توكِّل هذه النظرات الساحرات بأن تشل اليد التي تنشر القانون، ثم لفت الرق كما كان وردَّته إلى موضعه إذ كان الفتى يجيب باسمًا: إذن لم يخب أملي برحمة القضاء.

– هل كانت تلك المرأة المسبية بهذه اللواحظ تطمع برحمة القضاء بك.

– عسى أن تعثري على امرأة كهذه فتسألينها.

– ما خاطب ظني في سحر هاتين المقلتين الفاتنتين، سحر يشق الطريق إلى الدهاء. سؤال آخر، هل تتفضل بالإجابة؟

– أشكر لسيدة القضاء الموقرة لباقة تحقيقها التي فرشت طريق الإجابة بزهور العطف واللطف، وأطلقت لساني من قيد الاعتصام بالصمت كلما أنذر السؤال بخطر الوقوع في الفخ. فتفضلي بالسؤال: هل تتوقع أن الحسناء التي كانت تتوقع نعيم اللقاء بك تقبل الرحمة بك من يد القضاء؟ (تشير بيدها).

– جواب هذا السؤال يا سيدتي في فم المستقبل.

فقالت أوجستينا متململة: ما أسعد حظ تلك المعشوقة العاشقة التي يختم حبك لها باب أسرارها بختم لا يستطيع أحد فكه، ترى هل هي جديرة بهذا الإخلاص؟

أشكر حسن عقيدتك بأسيرك يا مولاتي. هل عندك دليل على وجود عاشقة لي معشوقة؟

فتنهدت أوجستينا وقالت متحسرة: أعرف عاشقة لك، لا أدري إن كانت معشوقة لك (تعني نفسها).

فقال الفتى مختلجًا: ما أتعس المعشوق الذي يجهل السعادة التي هو فيها.

فردَّت أوجستينا: وأتعس منه العاشقة التي غمضت عينا عشيقها عن ملامح غرامها.

– تبًّا لهذا العشيق، أأعمى هو؟

فوقفت أوجستينا متئدة، فوقف هو أيضًا، وقالت: سلمت عيناه. بربك أتعلم كيف يفهم فرخ الحمام شوق قرينته الحمامة له؟

فأجاب الفتى مترددًا: أظن أنه متى هدر لها أحسَّ قلبه ينبض نبضًا قويًّا كنبض قلبها، أعني أن القلبين يتخافقان.

– إذا كنت أنت لا تحس هذا الإحساس فبربك هات يدك لعلك تحسه.

وأمسكت بيده ووضعتها على أيسر صدرها، وهو استردَّها بكل لطف، ففهمت هي من استردادها إباءه ثم قالت: ما أشقى الحمامة التي لم ينبض قلب الفرخ مع نبض قلبها. آه لقد كانت حياتك في يديَّ فأصبحت وحياة قلبي في يديك أيها الفاتن الفاتر، امنحني نظرة حب وبسمة غرام، وفي ليل ونهار تكون مطلقًا إلى الحدود.

ثم قبضت على كفه كأنها تريد ضمه إلى صدرها، وقالت: إن القضاء مرنٌ في يدي. أصدر حكمي بإطلاق سراحك بدعوى أنك فتى طائش لم تقدِّر العواقب حق قدرها، ولم يثبت عليك سوء قصد، فهل تسمح الآن …؟

وهمت به، ولكن أودينا باغتتها قبل أن تنال مأربًا منه وقالت: بلاغ رسمي يا مولاتي.

فارتدت أوجستينا مبغوتة وقالت: أدخلي هذه المتهمة إلى الحجرة السرية، وأوصدي الباب دونها. واستدعي ناقلة البلاغ.

ففعلت أودينا كما أمرتها سيدة القضاء، ثم أومأت لها هذه أن تخرج من حيث أتت.

٣

ما هي إلَّا دقائق معدودة حتى دخلت جورجيا رئيسة وصيفات الملكة وانحنت باحترام كلي لسيدة القضاء وقالت: السلام على سعادة وزيرة القضاء.

– سلامًا، وسمعًا وطاعة للبلاغ الملكي الشريف.

فقالت جورجيا بوضوح وصراحة: بلسان جلالتها أسأل: ماذا بدا من الشبهات في أمر المعتقلات؟

– ظهر بينهنَّ رجل متنكر ليس في العير ولا في النفير، ما هو إلَّا جحش لا يعرف كيف «يبرطع». ثم ظهر آخر متنكرًا، وهو فتى قلبه طامور أسرار، وأنا مجدة في استخراج أسراره.

– وي. وي. وي. فتى متنكر؟ هذا ما كنا نتوقعه، بأي زي؟

– بزي صيادة.

فقالت جورجيا مازحة: أغزالة كان ذلك التعس يطارد؟

فقالت أوجستينا تعقب على مزاح جورجيا بمزاح فظيع: لعله كان يطارد أفعى.

– أأحمق هو حتى يطارد أفعى إلى قلب بنطس؟ لا بدَّ أنه كان يطارد حمامة كانت تستدرجه إلى أن وقع في الفخ.

– إلى الآن لم يبد منه أن له صلة بحمامة ولا بغزالة، يزعم أنه جاء للتفرج والنزهة.

– أجاء هذا الشقي لكي «يتفرَّج» على حمامته كيف يحزُّ عنقها وينتف ريشها.

– ينكر أية صلة له بأنثى.

– أتبلع منك السذاجة يا سيدتي الوزيرة إلى حد أن تصدقي زعمه بعد أن قضيت عمرًا في خدمة القضاء؟ أرجو عدم المؤاخذة على هذه الجسارة مني.

– خمسة عشر عامًا لم أر في خلالها أحدًا طائشًا طيش هذا الفتى الأحمق.

– بلسان جلالة الملكة أقول: يجب أن تتحققي إلى أن تكتشفي المرأة التي له صلة بها.

– قد يكون الفتى صادقًا فيما يقول، وليست له صلة بامرأة.

– يجب أن تخلقي له صلة بامرأة لكي تتم نبوءة الهيكل بجريمة، ولكي يتم العقاب ويرتفع ويل الهيكل عن البلاد.

– إن كان لا بد من ذلك، ففي طوقي أن أجعل دار القضاء دار تمثيل جرائم، ومنصة لتنفيذ الأحكام بالإعدام أيضًا لكي يرضى الهيكل.

– لماذا تكلفين نفسك كل هذا العناء؟ كلفيها نصفه فقط، ففي قبضة يدك الآن أحد المجرمين، فاختلقي له شريكة بالجريمة، واقضي عليهما.

– حتى ولو كانا بريئين؟

– إن كان هذا بريئًا فإعدامه لا يسوء أحدًا، ولا العالم ينقص فردًا واحدًا قبل ميعاد نقصه، وفي كل دقيقة يأتي للعالم بدل ما ينقص منه.

– ولكن عدل القضاء غير عدلك.

– دعي هذا العدل، ففي بلاط الأحكام يتلوَّن العدل. السلام عليك.

ثم خرجت جورجيا مرحة، وما إن خف وقع أقدامها حتى استدعت أوجستينا أودينا رئيسة الأمن.

٤

ودخلت أودينا فبادرتها أوجستينا: أما سأل أحد عن المتهمة السابعة؟

فأجابت أودينا ضاحكة: أذات العذار تعنين؟ من تجسر أن تسأل عنها، وتعرض نفسها للشبهة، ماذا اكتشفت من أسرار وفيها الحاء والباء المحتويان على الوجود المطلق؟

فقالت أوجستينا: إني اكتشفت في صدرها أبا هول مصريًّا، وفي عينيها سحرًا بابليًّا، وفي ثغرها شعرًا هوميروسيًّا يونانيًّا، وفي قلبها حكمة سليمان العبراني، وفي نفسها شمم بلقيس بلميرا، وفي رأسها ذكاء أوقتافيوس الروماني.

– لله درها. إذن هي مجموعة أمم.

– أجل مجموعة الأمم وقعت في قبضة القضاء اليوم. ائتيني بها من الحجرة السرية التي أودعتها فيها.

وفيما أودينا عائدة من الحجرة السرية بالفتى قالت: أشعر باختلاج في قلبي يا سيدة القضاء، أمن سحر بابل هذا يا ترى؟

فقالت أوجستينا: لا تنسيْ أن تقفلي الباب وراءَك، ثم أشارت للفتى أن يقعد فقعد، وقالت: من العبث التسآل عن هويتك يا هذا؛ لأنه لا ينتظر من متَّهم أن يصدق في جواب.

فقالت: إني في إعجاب عظيم يا سيدتي بفهمك الحقائق من غير سؤال.

– أتظنني فاهمة الحقيقة منك تمام الفهم؟

– لا أدري ما هي الحقيقة التي فهمتها عني يا مولاتي.

– أعني أنك من الطبقة التي تمتطي الجياد، وتحمل النجاد، وتصارع الآساد، وتنازل الأبطال، وتبارز الأقيال.

لقد سبقت فقررت يا سيدتي أنك لا تنتظرين مني جوابًا جازمًا بهذا الشأن، فأخاف أن أجيب جوابًا جازمًا فتنخدعين بصدقي.

– يقينًا لا يهمني من أنت ما دام القانون عندنا لا يميز بين الأشخاص، فحسبي أن المتهم أمامي بشخصه جسدًا وحياةً وعقلًا وروحًا. أجبني على سؤال واحد فقط بلا مراوغة ولا مواربة؛ لأن الأمر باستنطاقك جازمٌ، من هي المرأة التي تتصل بها؟

– تضطرينني يا سيدتي أن أعود إلى صمتي السابق بعد أن أطلقت لباقتك العنان للساني، واستوفى تحقيقك حقوقه.

– أجل، لا أرجع بوعدي لك أن أفسِّر ذنبك بالطيش والتهور لتبرئتك. ولكن إنجاز هذا الوعد لا يمنعني من الاستقصاء عن المرأة التي لك صلة بها. فإذا لم تبح باسمها وهويتها فلا بد من إنزال العقاب الشديد بك، وهذا ما أريد أن أتداركه ولو بتضحية مني.

– شكرًا لعطفك الذي لا يقدر بثمن، إذن اختصري الطريق واحكمي بالعقاب الآن، ولا مقتضى لانزعاج كلينا بالتحقيق العقيم.

ووقفت وأمسكت بأذنه وقالت: لله منك عنيدًا مكابرًا، حاولت إنقاذك فعاونت القدر على معاكستي.

وطوَّقت خصره بذراعها وهمَّت أن تضمه إلى صدرها، وإذا بأودينا تفاجئها قبل أن تفعل؛ فانتفضت إلى الوراء بهزَّة كأن تيارًا كهربائيًّا نفضها، وكأن تيارًا عصبيًّا كلح وجهها وصفَّره، وقالت: ماذا عسى يا أودينا؟

٥

– بلاغ رسمي يا ذات القضاء والدينونة والصفح والمغفرة.

فقالت أوجستينا وهي تبتغي أن تختلق عذرًا لسبب وقوفها إلى جانب الفتى، أمسكت بيده وقالت: أدخلي ذات العذار إلى حجرة السرِّ هذه.

وبعد أن نفذت هذا الأمر قالت لها: أدخلي جورجيا ناقلة الأمر الملكي.

فدخلت جورجيا وحيت التحية الرسمية، فقالت أوجستينا: أمر جلالتها.

– هل اعترف الفتى بشيء؟

– حاولت أن أجرِّعه مقيِّئًا عسى أن يتقيَّأ اعترافه الصادق فلم أنجح، ولا أظنني أنجح.

– تهدديه بالحكم بالموت، وإن أصرَّ على الكتمان فأصدري الحكم، وأسمعيه نصه، وإن بقي مصرًّا فأرسلي نص الحكم إلى جلالتها.

– سمعًا وطاعةً.

ثم خرجت جورجيا وبقيت أوجستينا تكتب الحكم إلى أن دخلت أودينا، فأمرتها أن تأتي بذات العذار.

فقالت أودينا: أفٍّ من عذارها، لقد أزعجنا كثيرًا يا سيدتي، ليتك تأمرين بحصده.

فقالت أوجستينا مازحةً: وإذا حلقناه، فماذا يبقى من فلسفة كيوبد التي تودين درسها يا غبية.

دخلت أودينا إلى الحجرة السرية، ثم عادت بالفتى قائلة: يكاد هذا العذار يصبح مرجة زمردية اللون.

وخرجت أودينا بإشارة من ذات المعالي الوزيرة، وهذه تلقت الفتى بابتسامة مشرقة، وقالت: لم يبقَ في قوس الصبر منزع يا عزيزي المتهم، ولم يعد في وسعي احتضانك، كلما أطال القضاء الأجل قصَّر القدر، ولا حيلة في القدر الإلهي إلَّا حيلة واحدة وهي أن تتقيأ اسم شريكتك في عبادة كيوبد المحرمة في بنطس، لكي تشفى من دائك المميت. فما قولك؟

– لا يموت الإنسان يا سيدتي مرتين، وأما في هذا التحقيق العقيم فقد مت ثلاثًا، ولتكن الرابعة خاتمة الموتات.

فقالت أوجستينا يائسة عابسة: إذن اسمع.

وقرأت: «حكمت دار القضاء الأمازوني على المعتقلة السابعة من معتقلات الرابع عشر من هذا الشهر التاسع اللواتي اعتُقِلنَ على جسر نهر ترمدون؛ لأنه ظهر أنها فتًى متنكِّر بزي أمازونية، ولم يقرَّ عن شريكته بجريمة عبادة كيوبد المحرمة في بنطس، حكمت عليه دار القضاء بالموت برمي السهام في قلبه إلى أن ينضب دمه، ولا يقيه من هذا الحكم إلا إقراره عن شريكته قبل التنفيذ.»

ثمَّ استدعت أودينا وأمرتها أن تُدخل الفتى إلى كنِّه في الغرفة السرية، ففعلت أودينا كما أمرت، ثم لفت أوجستينا رق الحكم وختمته، وقالت لأودينا: أرسلي هذه الوثيقة إلى القصر حالًا، لم يبقَ لهذا المنكود الحظ إلَّا أن يستهدف قلب الملكة لسهامه عسى أن تنفتق لها حيلة لإنقاذه.

٦

بعد قليل جاءت أودينا إلى سيدة القضاء تبلغها أن رئيسة الحكومة أمازونيا جاءت لمقابلة أوجستينا، فوقفت أوجستينا تقول: على الرحب والسعة بالرئيسة الموقرة.

ودخلت أمازونيا وحيت، فأخلت لها أوجستينا كرسي الرئاسة، ولما استقرت قالت: بلغ إليَّ أن الذي وقع في الفخ رشأ إلى جانبي أنفه جعبتان للسهام. وختمت كلامها بضحكة وزارية.

فأجابت أوجستينا أيضًا بضحكة قضائية: أجل، جعبتان لا تفرغان من السهام، كلما راش سهمًا منها بدا آخر.

– أود أن أستهدف واحدًا منها.

فنادت أودينا وقالت: إلينا بذي العذار.

فقالت أودينا: أفٍّ. وغدًا بذي الشاربين وبعد غدٍ باللحية.

فقالت أمازونيا: يقال إنه ابن كيوبد، وقد جاء ليثير فتنة في بنطس لقلب الحكومة الأمازونية.

فقالت أوجستينا: وفي وسعه أن يشعل بنطس بنار الجحيم.

ثم عادت أودينا تصطحب الفتى، فرفعت أمازونيا نظرها فيه ثم قالت: حاشا لله ما هذا بشر، إن هذا إلَّا كيوبد بعينيه. وقالت: يقولون إنك ابن كيوبيد، أحقيقي؟ أنت كيوبد بعينه؟

فقال مبتسمًا: إن لم أكن كيوبد أو ابنه فإني من سلالته.

– ويقال إنك جئت لكي تثير فتنة في بنطس، أحقيقي هذا القول أم افتراء؟

– على سيادتك التحقيق.

والتفتت أمازونيا إلى أوجستينا، وسألت: بماذا اعترف هذا الساحر العاثر الحظ؟

سمعًا يا هذا، نحن هنا نجحد السحر والشعر أيضًا.

فقالت أوجستينا: عبث استخراج الدر من بحر بلا قرار.

وسألت أمازونيا: من هي المفتونة الخائبة الأمل التي تشاطرك الجريمة يا هذا؟

– أية جريمة يا سيدتي الجليلة؟

– جريمة الحب العظمى.

– الحب يا سيدتي فضيلة للإنسان حتى للحيوان، فكيف تصمينه بوصمة الإجرام.

– هو جريمة في بنطس، وجريمة مقدسة في غيرها، وعقابه عندنا شديد، أعيذك منه.

– لماذا الحب جريمة في بنطس دون غيرها؟

– لأنه خطر على استقلال المرأة، ألا تعلم هذا من تاريخ الأمازونيات؟ أما علمت أنهنَّ لم يتحررن من العبودية للرجل إلَّا بجحدهن الإله كيوبد وصد سهامه، أوَلا ترى أنه حيث يباح الحب تكون المرأة أمة للرجل الجائر؟

– لا يا سيدتي، حيث يباح الحب تكون المرأة محبوبة والمحبوب معزور، وأما حيث تكون المرأة أمة للرجل، فلأن الحب قتيل وكيوبد دفين.

– ألا ترى أننا نحن الأمازونيات مستقلات لأننا نكفر بكيوبد إله الغرام؟ آه يا للغرام كم أشقى قلوبًا!

فقال الفتى محتجًّا: أأنتن مستقلات؟ لا وربي، ما أنتن إلَّا «عبدات» رقيقات أسيرات لهيكلكنَّ، منسحقات تحت أقدام كهنوته، لستنَّ معتوقات كما تظننَّ، ولا حرَّات كما تعتقدن، ولا تفهمن معنى الحرية.

– ما هي الحرية التي تتبجح بها؟

– هي تلبية نداء الطبيعة بلا كبت ولا قمع. الطبيعة تعزف ونحن نغني، نحن نحب والطبيعة تضحك لنا. نحن ننظم الشعر والطبيعة توحي لنا الخيال الجميل. نلحن والطبيعة قيثارتنا، ماذا عندكنَّ، من هذه المطربات المعجبات يا من تدعين الحرية والاستقلال؟ عندكن أوتار بلا أنغام وأشعار بلا ألحان، ووقع بلا رقص، وسماء بلا شموس ولا أقمار. ما أنتن حرَّات حتى ولا رقيقات، بل أنتنَّ رمم أموات، وأصنام بلا حياة، أنتنَّ بنات الطبيعة، وقد خرجتن على الطبيعة، مهما تمردتن عليها تبقين فيها تحت سلطانها، فإذا كنت يا سيدتي تعملين لخير الأمة الأمازونية وسعادتها ومجدها، فشيدي هيكلًا فخمًا لكيوبد في بنطس تحج إليه الأمازونيات مع قرابينهن جهارًا، حيث تحل عليهن نعمة الحب السعيد.

وكانت أمازونيا وأوجستينا مصغيتين متهللتين كأنهما تسمعان أنشودة الغرام على قيثارة هلاس، ومحياهما يطفحان بشرًا. فقالت أمازونيا: وي وي. كأني لم أجئ إلى هنا لكي أحقق، بل لكي أسمع كرازة بعقيدة الحب.

– أجل يا سيدتي، الحب ينبوع السعادة والسرور، والقلب بلا حب كالغصن اليابس. هو أول الأغصان التي تتحول إلى رماد إذا لفحها اللهيب، وأول ما تنقصف إذا كسحتها الرياح، وأما القلب المفعم حبًّا كالغصن الذي تحميه رطوبته من الاحتراق، وتنقذه مرونته من الانقصاف، بل هو الغصن الرطيب الذي تكسوه أزاهره في الربيع، وتثقله ثماره في الصيف.

– كفى يا هذا، ما نحن في مباراة أشعار، دع هذا الهذيان.

فقاطعها قائلًا: أعلم يا سيدتي أنك لا تحسين ما أقول، فلو كان إلى جنبك زوج وفي حضنك طفل لكنت تفهمين هذا الهذيان، ما أنت إلَّا الغصن اليابس الذي ينقصف من هبوب رياح هذياني.

– كفى كفى. إذن حقيقي أنك ابن كيوبد، وقد جئت لكي تضرم نار فتنة هنا.

– إذا كانت الدعوى إلى عبادة كيوبد تسمى فتنة، فقد صدق القول أني جئت لكي أطلق النساء الأمازونيات من أسرهنَّ إلى ساحة حريتهنَّ، وأرشدهنَّ إلى كيفية استعباد الرجل بالحب والإخلاص.

– صه، لقد انجلى لنا جرمك بشهادة لسانك، فلا تعفى من العقوبة إلَّا إذا كنت تبوح باسم شريكتك فيه.

– أستنكف جدًّا أن أشتري العفو بشهادة زور.

– على من تعتمد في إنقاذك من الحكم الرهيب؟

فقال الفتى باسمًا: على سهم من سهام كيوبد إلهي.

– لا حول لكيوبد ولا طول في بنطس.

فقال: يرمي سهامه من جاريجاريا فتقع في قلب بنطس.

ووقفت أمازونيا كأنها غاضبة، وقالت باسمة: يا سيدة القضاء، إن لهذا الفتى صلة بمكيدة هائلة، فإذا لم يعترف بها لكي يكافأ بالعفو، فلا بد أن تحكمي عليه بالموت الأحمر أو الأسود. السلام عليك.

فقالت أوجستينا واقفة: لقد صدر الحكم يا مولاتي.

وخرجت أمازونيا ظافرةً مرحًا ومترنحةً أسفًا.

٧

وما إن خرجت رئيسة الحكومة أمازونيا حتى دخلت أودينا وفي يدها رق، وقالت: رسالة من الهيكل يا سيدتي ردٌّ لرسالتك.

ودفعت الرق لأوجستينا وخرجت توًّا.

وفضت أوجستينا الرق، وقرأت:

من رئيسة الكاهنات إلى حضرة سيدة القضاء

عندي في الهيكل خمس لاجئات لأسباب مختلفة، وبعضها مجهولة، يكتمن ذواتهنَّ، وليس للهيكل أن يبتزها منهنَّ ابتزازًا، فأرجو أن ترسلي المعتقل إلى هنا عسى أن يتعرف على حبيبته إن كانت بينهنَّ.

وفكرت أوجستينا مليًّا، ثم كتبت الرد هذا:

سيدتي الجليلة رئيسة الكاهنات، حسب إيعازك أرسل إليك المعتقل لكي تتحققي صدق دعواه، ثم أرجو أن ترديه إلى دار القضاء بحيث لا يكتشف أمره أحد.

ثم استدعت أودينا وأمرتها أن تأخذ الرسالة مختومة وذلك المعتقل الذي قبض عليه في الفندق إلى الهيكل.

وما إن خرجت أودينا حتى دخلت جورجيا رئيسة وصيفات الملكة، فبغتت أوجستينا وقالت: خيرٌ إن شاء الله.

– جلالة الملكة قادمة الآن متنكرة لكي تحقق مع الفتى المجرم العنيد الذي صدر الحكم عليه، يجب أن تُخلي دار القضاء من الإنس والجن لكيلا يعلم أحدٌ بوجودها هنا.

استحضري الفتى واحبسيه في هذه الحجرة إلى أن تدخل جلالتها عليه من غير أن يعرف من هي التي تحقق معه؛ لعلها تستطيع أن تستخرج سرَّه من أعماق قلبه.

ألقت جورجيا هذه الرسالة وانثنت راجعة من غير أن تسمع كلمة من سيدة القضاء، فاضطربت أوجستينا وانهمكت، واستخرجت الفتى بنفسها من الحجرة السرية، وقالت: إني بريئة من دمك يا هذا، لقد حاولت إنقاذك، ولكن عنادك جنى عليك، بقي لك خيط ضئيل من الرجاء، إن شئت أن تتشبث به، إني تاركتك إلى المحققة الأخيرة قبل تنفيذ الحكم، فعسى أن ترعوي وتربأ بنفسك.

وخرجت وأقفلت الباب وراءها، فجعل الفتى يخاطب نفسه قائلًا: إني أعتصم بغوث إلهي كيوبد من هؤلاء المرائيات اللواتي يعبدنه بقلوبهنَّ ويلعنَّه بشفاههنَّ، قبل أن يرمينني بسهم واحد مُدمٍ.

٨

ما هي إلَّا هنيهة حتى انفتح الباب بغتة ودخلت الملكة بثوبٍ عاميةٍ، ثم ارتدَّت مذعورة لما وقعت عيناها على عيني أفريدوس، وأجفلت إذ رأت عذاره، وترنَّحت واهية القوى، وأما أفريدوس فبهت واختبل؛ لأنه لم يكن البتة يظن أن الملكة تأتي إلى دار القضاء للتحقيق.

وبعد لأيٍ قالت وهي تتبينه: ويحي. أأنت المعتقل؟

فقالت أفريدوس: بلى، أنا هو الذي لم تجد الملكة أفضل وسيلة لنبذه إلَّا أن تلقمه لأنياب القضاء العاتي.

فحملقت فيه ذاهلة: ويلي! وأغلالٌ في يديك وعنقك؟

وأمسكت السلسلة كأنها تتحقق.

– نعم، هذا هو جزاء اليدين اللتين كانتا تضمان هذا الهيكل الملائكي إلى الصدر المتدفق غرامًا لكي يرتوي من سعادة الحب الطاهر.

فقالت الملكة متفجِّعة: وسجن أيضًا في كنِّ المجرمات؟

– وهل غير كنِّ الكلب أليف للعاشق الذي جعل صميم فؤاده سريرًا للملكة تتقلب فيه على وثير الحب؟

فقالت وكأنها لا تفهم ماذا تقول، وجالت كالمجنونة: أيمكن أن يكون هذا قضاء الهيكل؟

– يا للمكر، أتعزين هذه النقمة لقضاء الهيكل، وأنا ماثل في دار قضائك أستوحي كيوبد إلهي أن يلهمني أجوبة التمويه التي لا تستفيد منها سيدة القضاء شيئًا يقرب الظن إلى الملكة.

فقالت وقد لطمت خديها وتركت كفيها عليهما: وا حرباه أهو الغدر الغشوم أم غضب الآلهة؟

– لا هذا ولا ذاك، وإنما أتخمت الملكة من وليمة الحب، فرامت أن تغير ألوان الطعام، فقذفت بالبقية الباقية من طعام الوليمة إلى دار القضاء لكي تحرقها هذه في فرن الإجرام.

– صه، كفى تقريعًا لي في إبان أزمتي ويأسي.

– وي! أزمة؟ حبيب الملكة العزيز بالأمس أذل المجرمين اليوم، وهو يهيأ ليقدم أضحية على مذبح الانتقام من ملاك الغرام.

صمتًا عن هذا العتاب المر، كيف اعتقلت وعهدي بك في قصر الصيد تنتظرني.

– إذا كنت غبيًّا صابرًا على وعدك لموافاتي إلى قصر الصيد فقلبي ليس غبيًّا، ولا يطيق صبرًا. وإذا كان جسمي طينة حقيرة لا تشعر بالذل، فنفسي سماوية لا تحتمل الهوان. وإن كانت سلالتك ملكية، فسلالتي الكهنوتية ليست أحط منها. ما كان إقصائي عنك يكلفك سوى إعراضة واحدة، فلا تعودين بعدها ترين وجهي إلى أن أقضي بداء غرامي المبرِّح.

– ويك، حسبي هذه الكارثة، فلماذا تضاعف وقرها على نفسي بهذا التقريع؟ قل أين اعتقلت؟

– على جسر نهر ترمودون.

– وكان القمر …؟

– في إبان خسوفه.

فترنحت الملكة وهي تقول: ويحي، ويحي، الويل، الويل … ما الذي جاء بك إلى الجسر، وقد أمرتك أنت تنتظرني في قصر الصيد.

– القلق عليك والشوق إليك.

– الشوق فهمته، والقلق لماذا؟

– لأني فهمت أنك عدلت عن الصيد، فخفت أن يكون قد ألمَّ بك حادث سوءٍ.

– لم أقل لأحد إني عدلت عن الصيد، فما الذي أقام الشك في ذهنك بوعدي أن أوافيك؟

– سيدونيا حارسة القصر، وكانت أول من لمحت إلى عدولك عن الصيد بدعوى طروء مشاغل سياسية.

فقاطعته الملكة: تبًّا لها، كيف تقول هذا ولم أوعز به لها ولا لأحد؟

– طبعًا رابني قولها، فبرحت مدعيًا لها أني ماضٍ إلى الصيد، ومؤكدًا لها أني سأعود مساءً حتمًا. ولكني توجهت إلى جهة العاصمة أتنسَّم أخبار الحقيقة عن قدوم حاشيتك، فما رحلت مرحلةً إلَّا تسقطت من أنبائك خبر عدولك عن الصيد. وما زلت أتقدم وأتنسَّم هذا الخبر بعينه إلى أن وقعت في الفخ الذي نصبته لي على الجسر، حيث اعتقلتني ٤ شرطيات شاهرات الخناجر البرَّاقة عليَّ، وجرَّدنني من سلاحي، وجئن بي إلى السجن، فماذا تظنين يخطر لي سببًا لاعتقالي؟

وكانت الملكة شديدة الاضطراب والحنق، وقالت: ولكني أرسلت ملدافي بعدك لكي تؤكد لك أني ذاهبة إلى قصر الصيد، على قصد أن أتأكد أنك منتظرني، فعلمت ملدافي من ميدونيا أنك متغيب في الصيد فتركت لك معها خبر إزماعي على الذهاب إلى القصر، وإيعازي بأنك تبقى فيه منتظرني. فلو رجعت أدراجك لوجدت أوامري مطمئنتك. فلا أدري كيف تسرعت.

وتفجعت باضطراب شديد وهي تقول: الويل الويل الويل.

وأفريدوس لا يفهم ما معنى هذا الويل؛ لأنه لم يعلم بخبر نبوءة الهيكل، ولا رامت الملكة أن تنفره بهذا الخبر. فقال حينئذ: أي ويل أعظم من أن أفهم أنكِ أوعزتِ باعتقالي؛ لأن وعدك الكاذب باللحاق بي لم ينجح في إقصائي.

فصاحت الملكة كالمجنونة: الويل الويل. وا فجيعتاه! لم أقل إني عدلت عن الصيد، فكيف انتشرت هذه الإشاعة الكاذبة؟ لا ريب أنها من تدابير الإله لكي تتم نبوءة الهيكل، فوا حرباه وا نكبتاه!

وما زال أفريدوس لا يفهم سر هذا التفجع والويل، فقال: ماذا كانت نبوءة الهيكل؟ لم تخبريني بها.

– يا للهول، كانت عبور رجل على الجسر حين خسوف القمر.

فقهقه أفريدوس وقال: ما هذه نبوءة، إن هذه إلَّا مكيدة من كاهنات الهيكل.

– إذا كانت هذه المكيدة قد أتقنت هذا الإتقان الغريب العجيب، فالكاهنات أعظم من الآلهة؛ ولذلك يجب أن نخشى غضبهن.

– إن تطيُّرك بتخريفهنَّ ساعد مكيدتهنَّ، أو أن مكيدتهنَّ أنتجت وهمك الذي وافق تدجيلهنَّ. لو لم توعزي لي أن أسبقك إلى القصر ما حدث عبوري على الجسر بتاتًا، ولتمَّ خسوف القمر وانقضى حين لا أزال في قصرك هنا عبد غرامك وأسير بهائك.

– ولكني لم آمرك أن تذهب إلى قصر الصيد على الحدود إلَّا لكي أفسد نبوءة الهيكل.

فقال أفريدوس مقهقهًا: يا له من إفساد للنبوءة! إن قصر نظرك أفسد إفسادك لها.

فقالت متنهدة: لا حيلة في تدابير الإله الناقم على غرامنا، أعني التدابير التي أتم بها نبوءة الهيكل، ويلي لقد نفذ المقدور.

– إذا صدقت عقيدتك فقضاء إلهك لا مردَّ له. ليت سيدة القضاء أفهمتني ولو تلميحًا عن نبوءة الهيكل، فكنت أرجوها أن تستنزل كل ويلات غضب الإله عليَّ لكيلا يقع منها شيء لا على العرش ولا على الأمة.

– ويحك. هذا هو الويل الأعظم الذي أبذل كل شيء لكي أتداركه. آه، لا أدري ماذا أفعل. عدمت الحيلة، ونضب معين الدهاء.

– لماذا هذا التفجع يا سيدتي، ولم تقع عليك شبهة؟

لأني لا أستطيع أن أهرِّبك من غير أن أثير الشبهة بي.

– لا أهرب ولن أهرب.

ولا أستطيع أن أختلق مبررًا لإطلاق سراحك.

– أليس عجبًا أن تستطيع سيدة القضاء ما لا تستطيعه الملكة؟

فأجابت الملكة متغيظة: ماذا تستطيع سيدة القضاء؟

– تستطيع أن تنتحل المبرر لإطلاق سراحي، تزعم أن التحقيق لم يسفر إلَّا عن طيش هذا الفتى ورعونته؛ لأنه لم يدخل إلى بنطس متنكرًا إلَّا لكي يشاهد عاصمة الأمازونيات.

– أأوجستينا قالت هذا القول؟ إذن لماذا حكمت عليك؟

– لأني لم أقبل شروطها.

فقالت الملكة مرتعشة: ماذا كانت شروط تلك الماكرة؟

– ماذا تكون شروط المرأة التي كان في قبضتها فتى تداعبه كما تداعب الهرَّة الفأرة، أو بالأحرى كما تداعب الغزالة الغزال؟

– وي وي، أحقيق أن تلك الماكرة كانت تنوي أن تفعل ما تقول؟

– لا أدري إن كانت تستطيع التصنُّع إلى حد أن تحملني على تصديق وعدها.

وكانت الملكة تفكر مليًّا ثم قالت: يا لمعاندة القدر! كان القدر كالسيف ذي الحدين يجرح من الجانبين. أنا أبحث بالتشديد في التحقيق؛ لأني لم أكن أعلم أن القدر رماك في يد القضاء، وأنت تمردت على قلب متلهف، فاتفق الأمران على قضاء صارم.

– هل كنت تعذرين مطاوعتي لمساومة أوجستين لو علمتِ أني أنا الواقع فريسة بين براثن القضاء، وأن نجاتي تتوقف على قبولي شروطها؟

فقالت مرتبكة: نعم … لا بل، لكن لا بأس. ماذا كان في الأمر لو قبلت ثم حنثت؟

فقال أفريدوس مستهجنًا: أوه، لو كان الحنث شيمتي أفما كان التحقيق الدقيق خطرًا عليك؟ إذ يحتمل أن أخون عهدك أيضًا لكي أنجو من الموت.

– أوه، ويلي. وهذا ما يجعل الموقف الآن أعقد من عقدة الإسكندر، وا نكبتاه! من لي بسيف الإسكندر لحل العقدة؟

– الأمر بسيط، لا تهتمي بأمري، دعيني لرحمة القدر.

– ويلاه، كيف أؤمِّن للقدر وقد بدرت بادرته الهائلة؟! الحكم بالإعدام، لا أستطيع تصوره.

– اعتبري علاقتنا الماضية حلمًا قصيرًا وانقضى.

– كيف ينقضي وهو مطبوع في مخيلتي ولا يمكن الزمان أن ينسخه؟

– احسبي حساب الموت مقدرًا لكل إنسان! واتركيني لنقمة القضاء قبل أن تثار الظنون.

فقالت مضطربة: مستحيل أن أسلمك لنقمة القضاء.

– لم يبقَ إلَّا هذا السبيل لإنقاذ حياتك وعرشك.

– وما الجدوى من الحياة بلا حب؟ وما لذة العرش بلا حبيب؟! وا لوعتاه. لا أسلمك للقضاء ولا لنقمة الهيكل إلَّا وأنا معك أتلقى هذه النقمة الهائلة بصدري لكيلا أراها منقضَّة عليك. آه دعني أعزي النفس في إبان يأسها.

ثم طوَّقت عنقه بساعديها وقالت: سأستكد قريحتي لاختراع وسيلة للفرج.

ثم فتحت الباب واستدعت أوجستينا، وقالت: ردي هذا المعتقل إلى كنِّه وعودي إليَّ.

فانحنت أوجستينا، وقادت المعتقل إلى الحجرة السرية حيث كان حبيسًا. ولما عادت قالت الملكة: يلوح لي أن لهذا الفتى سرًّا عميقًا، ولا بد من استخراج سره من صدره؛ لذلك يؤجل إعدامه لئلا يدفن سرُّه معه. انتظري مني أمرًا باستدعائه إلى قصري عسى أن أوفَّق إلى حيلة لاستقصاء أمره.

– الأمر أمرك يا مولاتي. توفقنا إلى القبض على أسير آخر يا مولاتي.

– أسير آخر؟ ماذا علمت من أمره؟

– ادَّعى أن حبيبته فرت من اضطهاد أهلها لأجله، ولجأت إلى الهيكل، فخاطبت رئيسة الكاهنات بشأنه عسى أن تكون دعواه صادقة، فطلبته الرئيسة إلى الهيكل لكي تعرضه على اللاجئات.

فبدا على الملكة بشرٌ، وقالت: من يدري؟ ألا يحتمل أن يكون هذا هو المقصود بنبوءة الهيكل، أود أن تشددي النكير في التحقيق منه، ولا تثقي بدعواه هذه، فما هي إلَّا للتمويه.

وخرجت الملكة. وما لبثت أن طلبت ذات العذار إلى قصرها، فأرسلته أوجستينا مخفورًا وهي تقول له: جرِّب سهامك حيث أنت ماضٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤