مرثية جيكور

يا صليب المسيح ألقاك ظلًّا
فوق «جيكور»١ طائر من حديد
يا لظلٍ كظلمة القبر في اللون، وكالقبر في ابتلاع الخدود
والتهام العيون من كل عذراء كعذراء «بيت لحم» الولود
مَرَّ عَجلان بالقبور العواري من صليبٍ على النصارى شهيد
فاكتست منه بالصليب الذي ما كان إلا رمز الهلاك الأبيد:
لا رجاءٌ لها بأن يبعث الموتى ولا مأمل لها بالخلود!
ويل جيكور؟ أين أيامها الخضر وليلات صيفها المفقود؟
والعشاء السخي في ليلة العرس وتقبيلة العروس الودود
وانتظارٌ له على الباب:
«محمود، تأخرت يا أبا محمود
ناد محمود!»
ثم يوفي على الجمع بمنديل عرسه المعقود
نقطته الدماء يشهدن للخدر بعذراء، يا لها من شهود٢
لا على العقم والرَّدَى، بل على الميلاد والبعث والشباب الجديد!
أي صوت يصيح: «محمود، محمود تأخرت!» كالنواح البعيد؟
أين محمود؟ ليس محمود في الدار ولا الحقل!
يا أبا محمود
ناد محمود كاد أن يهتف الديك وما زال جمعنا في الوصيد
قل له يبرز الدماء فأنا في انتظار لها وشوق مبيد!
ذرَّ نجم الصباح محمود، محمود، أأقبلت بالدم المنشود؟
أي جرح ينزُّ منه الدم الموَّار في باب دارك المرصود؟
إنه منك! منك هذا الدم الثَّرُّ ومن جانب العروس القديد!
الصليب، الصليب! إنا رأيناه وقد مر كالخيال الشرود
قد رأيناه في الصباح وفي الليل سمعنا كقعقعات الرعود
أهو هذا الذي يريدون؟ أشلاءً وأنقاض منزل مهدود؟
أفما قامت الحضارات في الأرض كعنقاء من رماد اللحود؟
لا ولم تفرخ العقول على المجهول يسبرن فيه غور الوجود!
أو يشق العباب قلعٌ يصك الريح صكًّا إلى البعيد البعيد؟
أو يلم النسيم عقدًا من النور ويذروه باقة من ورود
ساحرٌ فجَّر المدى عن مدى ملآن باللحن مترعٍ بالنشيد؟
أو تدق الأجراس: «يا أرض، يا بشراك بالحب والمسيح الوليد؟»
لا ولم يختم الزجاج على كل «هرقل»٣ من العقار الأكيد
يخنق الموت كُلَّمَا هم بالناس ويجتاح كاسرات الأسود؟
لا ولا قيس بعد ما لفه الليل من الأرض واحتوى من حدود
بالذي قاس حافة الساعة القوراء في قرصها ذراعًا حديد؟
أو يفض الظلام؟ إلا لكي تندك «جيكور» بالسلاح الجديد؟
كي يراها على اتساع المدى والشأو من ليس طرفه بالحديد؟
من وراء المحيط والليل والغابات والبيد والذرى والسدود!
أين من شال «جين» أطمار «كلثوم»؟ وأن الغضا من الأركيد؟
فيم أسرى صحاب «جين» المغاوير إلى زوج «كلثم» المنكود؟
يا رمادًا تذره الزعزع الشعثاء في مقلة القمير الوحيد
أنت «جيكور» كل جيكور: أحداق العذارى وباسلات الزنود
والرءوس التي حثا فوقهن الدهر ما في رحاه من تنكيد
صرد القمح من نثار لها اللون، ولم تحظ بالرغيف الوئيد
فهي صحراء تزفر الملح آهات وشكوى، لمائها الموءود!
خورس:٤
شيخ اسم الله ترللا
قد شاب ترلَّ ترلَّ ترار وما هلا
ترلل العيد ترللا
ترللا عرس «حمادي»
زغردن ترل ترللا
الثوب من الريز ترللا
والنقش صناعة بغداد

•••

إنها الريح! فاملئي الريح يا جيكور بالضحك أو نثار الورود!
قطَّب الصمت حيث كانت أغانيك، وحيث العبير نتن الصديد
جاء قرنٌ وراح والمدن في ضوضاء، ما زلن من حساب النقود
ضاع صوت الضعاف فيها وآهات النبين وابتهال الطريد
واستحال الفضاء، من ضجة الآلات فيها ومن لهاث العبيد،
غير هذا الفضاء شيئًا لغير الآدميين، ربما للقرود
ربما للذئاب والدود والأدنى من الدود في الحضيض البليد!
ظل ذاك الضجيج كالجيفة الحبلى بما ليس غير عقم الولود
ثمة التَّم في كرات من النار فألقى عليك صمت اللحود!
لا عليك السلام يا عصر «تعبان بن عيسى» وهنت بين العهود!
ها هو الآن فحمة تنخر الديدانُ فيها فتتلظى من جديد
ذلك الكائن الخرافي في جيكور، «هومير»٥ شعبه المكدود
جالس القرفصاء في شمس آذار وعيناه في بلاط «الرشيد»
يمضغ التبع والتواريخ والأحلام، بالشدق والخيال الوئيد
ما تزال «البسوس» محمومة الخيل لديه، وما خبا من «يزيد»
نار عينين ألقتاها على «الشمر»٦ ظلالًا مذبحات الوريد!
كلما لزَّ شمره الخيل أو عرى أبو زيده٧ التحام الجنود
شد راحًا وأطلق المغزل الدوار يدحوه للمدار الجديد!
وانتهى من حديثه الضخم عن ضخم من الغزل، وانتهى من قعود
نصف عريان يسحب الطرف عن صدرٍ تعرَّى وعن قميصٍ فقيد
غير بقيا على فم دق حتى عن فَمِ العنكبوت، في رأس عود:
مغزلٌ ينقض الذي حاكه النول، وجهد أضاع شتى جهود
فهو كد وليس بالكد، أردى قبله اثنين وادَّعى بالمزيد
حاضر غير حاضر، منه للماضي فناء وللغد الموعود!
لا عليك السلام يا عصر تعبان بن عيسى وهنت بين العهود
أنت أيتمت كل روح من الماضي، وسودت آلة من حديد
تسكب السم واللظى لا حليبَ الأم أو رحمة الأب المفقود:
سلم في الحضيض أعلاه، مرقاه انخفاضٌ وإن بدا كالصعود
حدقت منه في الورى مقلتا «فوكايَ» تستشرفان أيام «هود»
والمسيح المبيع بخسًا بما لو بيع لحمًا لناء عن تسديد!
حدِّقي حيث شئت، يا عين فوكاي المدمَّاة، من مداك المديد!
فهي سوق تباع فيها لحوم الآدميين دون سلخ الجلود
كل أفريقيا وآسية السمراء، ما بين زنجها والهنود
واشترى لحم كل من نطق الضاد تجار تبيعه لليهود!
هكذا قد أسفَّ من نفسه الإنسان وانهار كانهيار العمود
فهو يسعى وحلمه الخبز والأسمال والنعل واعتصار النهود!
والذي حارت البرية فيه٨ بالتآويل، كائنٌ ذو نقود!
١  جيكور قرية الشاعر في جنوب البصرة.
٢  من التقاليد المتبعة في الريف العراقي أن يبرز العريس من ليلة العرس منديلًا ملطخًا بالدماء يشهد على أن العروس عذراء!
٣  هرقل الجبار، خنق الموت وذلل الأسود الكاسرة.
٤  يغني الخورس أغنيتين عراقيتين شعبيتين. «شيخ اسم الله» نبات كالحلفاء تؤكل أزهاره وهي في براعمها، وتتفتح عن سنابل تشبه الرءوس التي شابت.
٥  هومير الشاعر الإغريقي الأعمى.
٦  الشمر قاتل الحسين، وتصوره القصص مرتديًا ثيابًا حمر اللون.
٧  أبو زيد الهلالي.
٨  قال المعري:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤