المومس العمياء

الليل يُطْبِقُ مرة أخرى، فتشربه المدينهْ
والعابرون، إلى القرارة مثل أغنيةٍ حزينهْ
وتفتحت، كأزاهر الدفلى، مصابيح الطريق
كعيون «ميدوزا»،١ تحجِّر كل قلب بالضغينهْ
وكأنها نذرٌ تبشر أهل «بابل» بالحريق

•••

من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف
من أي وجر للذئاب؟
من أي عش في المقابر دفَّ أسفع كالغراب؟
«قابيل»٢ أخف دم الجريمة بالأزاهر والشفوف
وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء
ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء!
عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينهْ
والليل زاد لها عماها
والعابرون
الأضلع المتقوسات على المخاوف والظنون
والأعين التعبى تفتِّش عن خيالٍ في سواها
وتعد آنية تَلَأْلَأُ في حوانيت الخمور
موتى تخاف من النشور
قالوا: سنهرب، ثم لاذوا بالقبور من القبور!

•••

من هؤلاء العابرون؟
أحفاد «أوديب»٣ الضرير ووارثوه المبصرون
«جوكست» أرملة كأمس، وباب «طيبة» ما يزال
يلقي «أبو الهول» الرهيب عليه، من رعب ظلال
والموت يلهث في سؤال
باقٍ كما كان السؤال، ومات معناه القديم
من طول ما اهترأ الجواب على الشفاه
وما الجواب؟
«أنا.» قال بعض العابرين
وانسلَّت الأضواء من باب تثاءب كالجحيم
تطفو عليهن البغايا كالفراشات العِطَاش
يبحثن في النيران عن قطرات ماء عن رشَاش

•••

لا تثقلنَّ خطاك فالمبغى «علائي»٤ الأديم
أبناؤك الصرعى تراب تحت نعلك مستباح
يتضاحكون ويُعوِلُون
أو يهمسون بما جناه أبٌّ يُبَرِّئُه الصباح
مما جناه، ويتبعون صدى خطاك إلى السكون

•••

الحارس المكدود يعبر، والبغايا متعبات
النون في أحداقهن يرفُّ كالطير السجين
وعلى الشفاه أو الجبين
تترنح البسمات والأصباغ ثكلى، باكيات
متعثرات بالعيون وبالخطى والقهقهات
وكأن عاريات الصدور
أوصال جندي قتيل كلَّلُوها بالزهور
وكأنها درج إلى الشهوات، تزحمه الثغور
حتى تَهَدَّمَ أو يكاد … سوى بقايا من صخور

•••

جِيَفٌ تستر بالطلاء، يكاد ينكر من رآها
أن الطفولة فجَّرَتْها ذات يومٍ، بالضياء
كالجدول الثرثار، أو أن الصباح رأى خطاها
في غير هذا الغار تضحك للنسائم والسماء
ويكاد ينكر أن شقًّا لاح من خلل الطلاء
قد كان، حتى قبل أعوام من الدم والخطيئة
ثغرًا يكركر، أو يثرثر بالأقاصيص البريئة
لأبٍ يعود بما استطاع من الهدايا في المساء
لأبٍ يقبِّل وجه طفلته النَّدِيِّ أو الجبينْ
أو ساعدين كفرختين من الحمائم في النقاءْ
ما كان يعلم أن ألف فمٍ كبئر دون ماءْ
ستمص من ذاك المحيا كل ماء للحياءْ
حتى يجف على العظام، وأن عارًا كالوباءْ
يَصِمُ الجباه فليس تُغسل منه إلا بالدماءْ
سيحل من ذاك الجبين به ويلحق بالبنين
والساعدين الأبيضين، كما تنوَّرُ في السهول
تفاحة عذراء، سوف يطوِّقان، مع السنين
كالحيتين، خصور آلاف الرجال المتعبين
الخارجين، خروج آدم، من نعيمٍ في الحقول
تفاحُهُ الدَّمُ والرغيف وجرعتان من الكحول
والحية الرقطاء ظِلٌّ من سياط الظالمين
يا أنت، يا أحد السكارى
يا من يريد من البغايا ما يريد من العذارى:
«ما ظلَّ يحلم، منذ كان، به ويزرع في الصحارى
زبد الشواطئ والمحارا
مترقبًا ميلاد «أفروديت»٥ ليلًا أو نهارا»
أتريد من هذا الحطام الآدمي المستباحْ
دفءَ الربيع وفرحة الحمل الغرير مع الصباحْ
ودواء ما تلقاه من سأمٍ وذلٍ واكتداحْ؟
المال، شيطان المدينهْ
لم يحظَ، من هذا الرهان، بغير أجسادٍ مهينهْ
«فاوست»٦ في أعماقهن يعيد أغنيَةً حزينهْ
المال، شيطان المدينة، ربُّ «فاوست» الجديد
جارت على الأثمان وفرة ما لديه من العبيد
الخبز والأسمال حظُّ عبيده المتذللين
مما يوزع من عطايا، لا اللآلئ والشبابْ
والمومس العجفاء، لا «هيلين»،٧ والظمأ اللعين
لا حكمة الفرح المجنح والخطيئة والعذاب
الخيل من سأمٍ تحمحم وهي تضرب بالحوافر٨
حجر الطريق
هلمَّ فالحوذي يبحث عن مسافر
والريح صرٌّ، والبغي بلا زبائن منذ حين
إن لم تضاجعها وصدَّ سواك عنها معرضين
فكيف تحيا؟ وهي، مثلك لا تعيش بلا طعام؟
لا تخشَ منها أن تراع بما تَأَكَّلَهُ الجذام
من صدرك النخر العريض، وأنت ويحك يا أخاها
ماذا تريد، وعمَّ تبحث في الوجوه؟ ويا أباها
اطعنْ بخنجرك الهواء فأنتما لن تقتلاها
هي لن تموتْ
سيظل غاصبها يطاردها وتلفظها البيوت
ستظل ما دامت سهام التبر تصفر في الهواء
تعدو، ويتبعها «أبولو»٩ من جديد كالقضاء
وتظل تهمس، إذ تكاد يداه أن تتلقَّفاها:
«أبتي أغثني!» بيد أنك لا تصيخ إلى النداء
لو كنت من عرق الجبين ترشُّها ومن الدماء
وتحيلها امرأة بحقٍ، لا متاعًا للشراء
كللتَ منها، بالفخار وبالبطولات، الجباها!

•••

وكأن ألحاظ البغايا
إبرٌ تسل بها خيوط من وشائع في الحنايا
وتظل تنسج، بينهن وبين حشد العابرين
شيئًا كبيت العنكبوت يخضُّه الحقد الدفين
حقدٌ سيعصف بالرجال
والأخريات النائمات هناك في كنف الرجال
والساهرات على المهود وفي بيوت الأقربين
حول الصلاء بلا اطِّراحٍ للثياب ولا اغتسال
في الزمهرير، ودون عدٍّ لليالي والسنين!

•••

ويمر عملاق يبيع الطير، معطفه الطويلْ
حيران تصطفق الرياح بجانبيه، وقبضتاهْ
تتراوحان فللرداء يدٌ وللعبء الثقيل
يدٌ، وأعناق الطيور مرنحات من خطاهْ
تدمى كأثداء العجائز يوم قطعها الغزاهْ
خطواته العجلى، وصرخته الطويلة: «يا طيور
هذي الطيور، فمن يقول تعال …»
أفزعها صداه
يأتيه من عرف البغايا كاللهاث من الصدور
ويدٌ تشير إليه عن كثَب، وقائلة: تعال!
بين التضاحك والسعال
عمياء تطفئ مقلتاها شهوة الدَّمِ في الرجال
وتحسسته كأن باصرة تهمُّ ولا تدور
في الراحتين وفي الأنامل وهي تعثر بالطيور
وتوسلته: «فدى لعينك، خلني … بيدي أراها»
ويكاد يهتك ما يغلف ناظريها من عماها
قلب تَحَرَّقَ في المحاجر واشرأبَّ يريد نور!
وتمس أجنحة مرقَّطة فتنشرها يداها
وتظل تذكر — وهي تمسحهن — أجنحة سواها
كانت تراها وهي تخفق ملء عينيها تراها
سربٌ من البط المهاجر، يستحث إلى الجنوب
أعناقه الجذلى تكاد تزيد من صمت الغروب
صيحاته المتقطعات، وتضمحل على السهوب
بين الضباب، ويهمس البردي بالرجع الكئيب
ويرجُّ وشوشة السكون
طلقٌ … فيصمت كل شيء … ثم يلغط في جنون
هي بطة فلِمَ انتفضتِ؟ وما عساها أن تكون؟
ولعل صائدها أبوكِ، فإن يكن فستشبعون
وتخف راكضةً حيال النهر كي تلقى أباها
هو خلف ذاك التل يحصد سوف يغضب إن رآها
مَرَّ النهار ولم تُعِنْهُ وليس من عونٍ سواها
وتظل ترقى التل وهي تكاد تكفر من أساها

•••

يا ذكريات علام جئت على العمى وعلى السهاد؟
لا تمهليها، فالعذاب بأن تمرِّي في اتِّئَاد
قُصِّي عليها كيف مات وقد تضرج بالدماء
هو والسنابل والمساء
وعيون فلاحين ترتجف المذلة في كواها
والغمغمات: «رآه يسرق …» واختلاجات الشفاه
يخزين ميِّتَها، فتصرخ: «يا إلهي، يا إلهي»
لو أن غير «الشيخ»! وانكفأت تشد على القتيل
شفتين تنتقمان منه أسًى وحبًّا والتياعَا
وكأن وسوسة السنابل والجداول والنخيل
أصداء موتى يهمسون: «رآه يسرق.» في الحقول
حيث البيادر تفصد الموتى فتزداد اتساعا!

•••

وتحس بالدَّمِ وهو ينزف من مكانٍ في عماها
كالماء من خشب السفينة، والصديد من القبور
وبأدمعٍ من مقلتيها كالنمال على الصخور
أو مثل حبات الرمال مبعثرات في عماها
يهوين منه إلى قرارة قلبها آهًا فآها
ومن الملوم وتلك أقدارٌ كُتِبْنَ على الجبين؟
حتمٌ عليها أن تعيش بعرضها، وعلى سواها
من هؤلاء البائسات وشاء رب العالمين
ألَّا يكون سوى أبيها — بين آلافٍ — أباها
وقضى عليه بأن يجوع
والقمح ينضج في الحقول من الصباح إلى المساءْ
وبأن يلص فيقتلوه «وتشرئب إلى السماء
كالمستغيثة وهي تبكي في الظلام بلا دموع»
والله — عز الله — شاء
أن تقذف المدن البعيدة والبحار إلى العراق
آلاف آلاف الجنود ليستبيحوا، في زقاق
دون الأزِقَّة أجمعين
ودون آلاف الصبايا، بنت بائعة الرقاق
تلك الشَّقِيَّة، ياسمين
«ذاك اسم جارتها الجديد، فليتها كانت تراها
هل تستحق اسمًا كهذا: ياسمين وياسمين؟»
ومن الذي جعل النساءْ
دون الرجال، فلا سبيل إلى الرغيف سوى البغاء؟
الله — عز وجل — شاء
ألَّا يَكُنَّ سوى بغايا أو حواضن أو إماء
أو خادماتٍ يستبيح عفافهن المترفونْ
أو سائلاتً يشتهيهن الرجال المحسنون!
لو لم تكن أنثى! وتسمع قهقهاتٍ من بعيد
«عباس» عاد من الترصُّد بالرجال على الوصيد
ولسوف تنزح راحتاه غُسالة الضيف الجديد
لو لم تكن أنثى، وتسمع قهقهاتٍ من بعيد
يا ليت حمالًا تزوجها يعود مع المساء
بالخبز في يده اليسار وبالمحبة في اليمين
لكن بائسة سواها حدثتها منذ حين
عن بيتها وعن ابنتيها، وهْي تشهق بالبكاء
عن زوجها الشرطي يحمله الغروب إلى البغايا
كالغيمة السوداء تُنذر بالمجاعة والرزايا
أزراره المتألِّقات على مغالق كل باب
مُقَلُ الذئاب الجائعات ترود غابًا بعد غاب
وخطاه مطرقة تُسَمِّرُ، في الظلام، على البغايا
أبوابهن، إلى الصباح، فلا اتِّجَارٌ بالخطايا
إلا لعاهرةٍ تُجازُ بأن تكون من البغايا
ويظل يخفرهن من شبعٍ، وينثر في الرياح
أغنيَّةً تصف السنابل والأزاهر والصبايا
وتظل تنتظر الصباح وساعديه مع الصباح
تصغي — وتحتضن ابنتيها في الظلام — إلى النباح
وإلى الرياح تئن كالموتى وتعول كالسبايا
وتُجمع الأشباح من حفر الخرائب والكهوف
ومن المقابر والصحاري بالمئات وبالألوف
فتقفُّ من فزعٍ وتحجب مقلتيها بالغطاء
ويعود والغبش الحزين يرشُّ بالطل المضاء
سعفَ النخيل يعود من سهرٍ يئن ومن عياء
كالغيمة اعتصرت قواها في القفار، وترتجيها
عبر التلال قوًى تجوع؛ لكي ينام إلى المساء
عيشٌ أشق من المنية، وانتظار كالفناء
وطوى يعبُّ من الدماء وسم أفعى في الدماء
وعيون زانٍ يشتهيها، كالجحيم يشعُّ فيها
سخرٌ وشوق واحتقار، لاحقتها كالوباء
والمال يهمس أشتريك وأشتريك فيشتريها

•••

يا ليتها، إذنِ، انتهى أجلٌ بها فطوى أساها!
«لو أستطيع قتلت نفسي …» همسةٌ خنقت صداها
أخرى توسوس: «والجحيم؟ أتصبرين على لظاها؟
وإذا اكفهر وضاق لحدك، ثم ضاق، إلى القرار
حتى تفجَّر من أصابعك الحليب رشاش نار
وتساءل المَلَكَانِ فيم قتلتِ نفسك يا أثيمهْ؟
وتخطفَّاك إلى السَّعير تكفِّرين عن الجريمهْ
أفتصرخين: أبي! فينفض راحتيه من الغبار
ويخف نحوك وهو يهتف: قد أتيتك يا سليمهْ؟»
حتى اسمها فقدته واستترت بآخر مستعار
هي — منذ أن عميت — «صباح»
فأي سخريةٍ مريرهْ!
أين الصباح من الظلام تعيش فيه بلا نهار
وبلا كواكب أو شموعٍ أو كوى وبدون نار؟
أوَبعد ذلك ترهبين لقاء ربك أو سعيرهْ؟
القبر أهون من دجاك دُجًى وأرفق، يا ضريرهْ
يا مستباحة كالفريسة في عراءٍ، يا أسيرهْ
تتلفتين إلى الدروب ولا سبيل إلى الفرار؟

•••

وتحس بالأسف الكظيم لنفسها: لِمَ تُستباح؟
الهر نام على الأريكة قربها لم تستباح؟
شبعان أغفى، وهي جائعة تلم من الرياح
أصداء قهقهة السكارى في الأَزِقَّة، والنباح
وتعد وقع خُطًى هنا وهناك ها هو ذا زبون
هو ذا يجيء، وتشرئب، وكاد يلمس … ثم راح
وتدق في أحد المنازل ساعة لِمَ تستباح؟
الوقت آذن بانتهاءٍ والزبائن يرحلون
لِمَ تستباح وتستباح على الطوى؟ لِمَ تستباح؟
كالدرب تذرعه القوافل والكلاب إلى الصباح؟
الجوع ينخر في حشاها، والسكارى يرحلون
مرُّوا عليها في المساء وفي العشية ينسجون
حلمًا لها هي والمنون
عصبات مهجتها سداه وكل عوق في العيون
والآن عادوا ينقضون
خيطًا فخيطًا من قرارة قلبها ومن الجراح
ما ليس بالحلم الذي نسجوه، ما لا يدركون
شيئا هو الحلم الذي نسجوا وما لا يعرفون
هو منه أكثر كالحفيف من الخمائل والرياح
والشعر من وزنٍ وقافية ومعنى، والصباح
من شمسه الوضاء … وانصرفوا سكارى يضحكون!
فليرحلوا. ستعيش، فهي من السعال ومن عماها
أقوى، ومن صخب السكارى
فامضِ عنها يا أساها!
ستجوع عامًا أو يزيد، ولا تموت، ففي حشاها
حقدٌ يؤرِّث من قواها
ستعيش للثأر الرهيب
والداء في دَمِهَا وفي فمها ستنفث من رداها
في كل عرق من عروق رجالها شبحًا من الدَّمِ واللهيب
شبحًا تخطَّف مقلتيها أمس، من رجلٍ أتاها
سترده هي للرجال، بأنهم قتلوا أباها
وتلقَّفُوها يعبثون بها وما رحموا صباها
لم يبتغوها للزواج لأنها امرأة فقيرهْ
واستدرجوها بالوعود لأنها كانت غريرهْ
وتهامس المتقوِّلون فثار أبناء العشيرهْ
متعطشين — على المفارق والدروب — إلى دماها
وكأن موجة حقدها وأساها
كانت تقرِّب من بصيرة قلبها صورًا علاها
صدأ المدينة وهي ترقد في القرارة من عماها
كل الرجال؟ وأهل قريتها؟ أليسوا طيبين؟
كانوا جياعًا — مثلها هي أو أبيها — بائسين
هم مثلها — وهم الرجال — ومثل آلاف البغايا
بالخبز والأطمار يؤتَجرون، والجسد المهين
هو كل ما يتملَّكون، هم الخطاة بلا خطايا
وهم السكارى بالشرور كهؤلاء العابرين
من السكارى بالخمور … كهؤلاء الفاجرين بلا فجور
الشاربين — كمن تضاجع نفسها — ثمن العشاء
الدافنين خروق بالية الجوارب في الحذاء
يتساومون مع البغايا في العشي على الأجور
ليوفروا ثمن الفطور!
ليس الذين تغصَّبوها من سلالة هؤلاء
كانوا كآلهةٍ مقطَّبة الجباه من الصخور
تمتص من فزع الضحايا زهوها ومن الدماء
متطلعين إلى البرايا كالصواعق من علاء!
وتحس، في دمها، كآبة كل أمطار الشتاء
من خفق أقدام السكارى، كالأسير وراء سور
يصغي إلى قرع الطبول يموت في الشفق المضاء
هي والبغايا خلف سورٍ، والسكارى خلف سور
يبحثن هنَّ عن الرجال، ويبحثون عن النساء
دميتْ أصابعهن تحفر والحجارة لا تلين
والسور يمضغهن ثم يقيئهن ركام طين
نصبًا يخلِّد عار آدم واندحار الأنبياء
وطلول مقبرةٍ تضم رُفَات «هابيل» الجنين!
سور كهذا، حدَّثوها عنه في قصص الطفولهْ
«يأجوج»١٠ يغرز فيه — من حنقٍ — أظافره الطويلهْ
ويعض جندله الأصم، وكف «مأجوج» الثقيلهْ
تهوي، كأعنف ما تكون على جلامدهِ الضخام
والسور باقٍ لا يُثَلُّ وسوف يبقي ألف عام
لكن «إن شاء الإله»
طفلًا كذلك سمياه
سيهب ذات ضُحًى ويقلع ذلك السور الكبير
الطفل شاب وسورها هي ما يزال كما رآه
من قبل يأجوج البرايا توأمٌ هو للسعير!
لص الحجارة من منازل في السهول وفي الجبال
يتواثب الأطفال في غرفاتها ويكركرون
والأمهات يلِدن والآباء للغد يبسمون
لم يُبْقِ من حجر عليها، فهي ريح أو خيال
وأدار من خطم البلاد رَحًى، وساط من البطون
ما ترتعيه رحاه من لحم الأَجِنَّة والعظام
وكشاطئين من النجوم على خليج من ظلام
يتحرَّقان ولا لقاء ويخمدان سوى ركام
شق الرجال عن النساء سلالتين من الأنام
تتلاقيان مع الظلام وتفصلان مع الشروق
زانٍ وزانية، وبائعة وشارٍ، والطعام
لا الحب والأحقاد لا الأشواق، تنبض في العروق!
زانٍ وزانية! أيمكن ذاك وهي بلا عشاء؟
لم يعرض الزانون عنها وحدها؟ لِمَ يعرضون
وهي الفقيرة فقر شحَّاذ؟ أما هي كالنساء؟
أَوَمَا لها جسد كناضجة الثمار؟ أيعثرون
لو يقطعون الليل بحثًا والنهار، على سواها
في حسنها هي؟ في غضارة ناهديها أو صباها
وبسعرها هي؟ أي شيء غير هذا يبتغون؟
أ«زهور» أجمل أو «سعاد»؟ بأي شيءٍ جارتاها
تتفوقان؟
وعضَّت اليد وهي تهمس «بالعيون»!
عمياء أنت وحظك المنكود أعمى يا سليمهْ
وتلوب أغنية قديمهْ
في نفسها، وصدى يوشوش: «يا سليمهْ، سليمهْ١١
نامت عيون الناس آه فمن لقلبي كي يُنِيمَهْ؟»
ويل الرجال الأغبياء، وويلها هي، من عماها!
لِمَ أصبحوا يتجنبون لقاءها؟ أيضاجعون
عيونها، فيخلفوها وحدها إذ يعلمون
بأنها عمياء؟ فِيمَ يكابرون ومقلتاها
ما كانتا فخذين أو ردفين؟
وهي بهؤلاء
أدريٍ وتعرف أيَّ شيء في البغايا يشتهون
بالأمس، إذ كانت بصيرهْ
كان الزبائن بالمئات ولم يكونوا يقنعون
بنظرة قمراء تغصبها من الروح الكسيرهْ
لترشَّ أفئدة الرجال بها، وكانوا يلهثون
في وجهها المأجور، أبخرةَ الخمور، ويصرخون
كالرعد في ليل الشتاء
عبْر ابتسامتها أو الفخذ التي زلق الرداء
عنها، أو النهدين نَمَّ عليهما قلق الضياء:
«إن كنت لا تتجردين كما أتيت إلى الوجود
إن كنت لا تتجردين فلا نقود!»
ولعل غَيْرَةَ «ياسمين» وحقدها سبب البلاء
فهي التي تضع الطلاء لها وتمسح بالذرور
وجهًا تطفَّأت النواظر فيه:
«كيف هو الطلاء؟
وكيف أبدو؟»
«وردةٌ قمر ضياء!»
زور وكل الخلق زور
والكون مَيْنٌ وافتراء
لو تبصر المرآة — لمحة مقلتيها — لو تراها
لمح النيازك، ثم تغرق من جديدٍ في عماها!
برق ويطفأ ثم تُحكم فرقها بيدٍ، وفاها
بيدٍ، وترسم بالطلاء على الشفاه لها شفاها
شفتاك عارية وخدُّك ليس خدك يا سليمهْ
ماذا تخلَّف منك فيك سوى الجراحات القديمهْ؟
وتضم زهرة قلبها العطشى على ذكرى أليمهْ
تلك المعابِثَة اللعوب كأنها امرأة سواها!
كالجدولين تخوض ماءهما الكواكب، مقلتاها
والشعر يلهث بالرغائب والطراوة والعبير
وبمثل أضواء الطريق نعسن في ليل مطير
والثغر بين الجُلَّنَارِ وزهرة النهد الصغير
كانت إذا جلست إلى المرآة يفتنها صباها
فتظل تعصر نهدها بيدٍ، وتحملها رؤاها
من مخدع الآثام في المنفى، إلى قصر الأمير
تقتات بالعسل النقي، وترتدي كسل الحرير
ليت النجوم تخر كالفحم المطفَّأ، والسماء
ركام قارٍ أو رماد، والعواصف والسيول
تدك راسية الجبال ولا تخلف في المدينة من بناء!
أن يعجز الإنسان عن أن يستجير من الشقاء
حتى بوهم أو برؤيا، أن عيش بلا رجاء
أوَليس ذاك هو الجحيم؟ أليس عدلًا أن يزول؟
شبع الذباب من القمامة في المدينة، والخيول
سرِّحن من عرباتهن إلى الحظائر والحقول
والناس ناموا، وهي ترتقب الزناة بلا عشاة
هذا الذي عرضته كالسلع القديمة كالحذاء
أو كالجرار الباليات، كأسطوانات الغناء
هذا الذي يأبى عليها مشترٍ أن يشتريه
قد كان عِرْضًا — يوم كان — ككل أعراض النساء!
كان الفضاء يضيق عن سعة، وترتخص الدماء
إن رنَّق النظر الأثيم عليه كان هو الإباء
والعزة القعساء والشرف الرفيع فشاهديهْ
يا أعين الظلماء، وامتلئي بغيظك وارجميهْ
بشواظ عارك واحتقارك يا عيون الأغبياء!
«لا تتركوني يا سكارى
للموت جوعًا، بعد موتي — ميتة الأحياء — عارَا
لا تقلقوا فعماي ليس مهابة لي أو وقارَا
ما زلت أعرف كيف أرعش ضحكتي خلل الرداء
إبَّان خلعي للرداء، وكيف أرقص في ارتخاء
وأمسُّ أغطية السرير وأشرئب إلى الوراء
ما زلت أعرف كل ذلك، فجرِّبوني يا سكارى!
من ضاجع العربية السمراء لا يلقى خسارا
كالقمح لونك يا ابنة العرب،١٢
كالفَجر بين عرائش العنب
أو كالفرات، على ملامحه
دعة الثرى وضراوة الذهب
لا تتركوني فالضحى نسبي
من فاتح، ومجاهد، ونبي!
عربية أنا أمتي دمها
خير الدماء كما يقول أبي
في موضع الأرجاس من جسدي، وفي الثدْي المذال
تجري دماء الفاتحين فلوثوها، يا رجال
من جنس للرجال فأمس عاث بها الجنود
الزاحفون من البحار كما يفور قطيع دود
يا ليت للموتى عيونًا من هباء في الهواء
ترى شقائي
فيرى أبي دمه الصريح يعبُّ أوشالَ الدماء
كالوحل في المستنقعات فلا يردَّ الخاطبين
أبٌ سواه لأن جدة أم ذاك من الإماء
ولأن زوجة خال ذلك بنت خالة هؤلاء!
أنا يا سكارى لا أرد من الزبائن أجمعين
إلا العفاة المفلسين
أنا زهرة المستنقعات، أعبٌ من وحل وطين
وأشع لون ضحى»
وذكَّرها بجعجعة السنين
سُعالها ذهب الشباب!
ذهب الشباب! فشيعيه مع السنين الأربعين
ومع الرجال العابرين حيال بابك هازئين
وأتي المشيب يلف رُوحك بالكآبة والضباب
فاستقبليه على الرصيف بلا طعامٍ أو ثياب
يا ليتك المصباح يخفق ضوءه القلق الحزين
في ليل مخدعك الطويل، وليت أنك تحرقين
دَمًا يجف فتشترين
سواه، كالمصباح والزيت الذي تستأجرين١٣
عشرون عامًا قد مضين، وشِبْتِ أنت، وما يزال
يذرذر الأضواء في مُقَل الرجال
لو كنت تدَّخرين أجر سناه ذاك على السنين
أثريث
ها هو ذا يضيء فأي شيءٍ تملكين؟
ويح العراق! أكان عدلًا فيه أنك تدفعين
سهاد مقلتك الضريرة
ثمنًا لملء يديك زيتًا من منابعه الغزيرة؟
كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين؟
عشرون عامًا قد مضين، وأنت غرثى تأكلين
بنيك من سغبٍ، وظمأى تشربين
حليب ثديك وهو ينزف من خياشيم الجنين!
وكزارع لهم البذور
وراح يقتلع الجذور
من جوعه، وأتى الربيع فما تفتحت الزهور
ولا تنفست السنابل فيه
ليس سوى الصخور
سوى الرمال، سوى الفلاهْ
خُنت الحياة بغير علمك، في اكتداحك للحياهْ!
كم ردَّ موتُك عنك موت بنيك إنك تقطعين
حبل الحياة لتنقضيه وتضفري حبلًا سواه
حبلًا به تتعلقين على الحياة تضاجعين
ولا ثمار سوى الدموع، وتأكلين
وتسهرين ولا عيون، وتصرخين ولا شفاهْ
وغدًا بحبلك تُشنقين
وغدًا … وأمس … وألف أمس، كأنما مسح الزمان
حدود ما لك فيه من ماضٍ وآت
ثم دار، فلا حدود
ما بين ليلك والنهار، وليس — ثَمَّ — سوى الوجود
سوى الظلام، ووطء أجساد الزبائن، والنقود
ولا زمان، سوى الأريكة والسرير، ولا مكان!
لِمَ تحسبين ليالي السأم المسهدة الرتيبهْ؟
ما العمر؟ ما الأيام؟ عندك، ما الشهور؟ وما السنين؟
ماتت «رجاء» فلا رجاء ثكلت زهرتك الحبيبهْ!
بالأمس كنت إذا حسبت فعمرها هي تحسبين
ما زال من فمها الصغير
طراوة في حلمتيك، وكركراتٌ في السرير
كانت عزاءك في المصيبهْ
وربيع قفرتك الجديبهْ
كانت نقاءك في الفجور، ونسمةً لك في الهجير
وخلاصك الموعود، والغبشَ الإلهي الكبير!
ما كان حكمة أن تجيء إلى الوجود وأن تموت؟
ألتشرب اللبن المرنَّق بالخطيئة واللعاب
أوشالَ ما تركته في ثدييك أشداقُ الذئاب؟
كان الزناة يضاجعونك وهي تصرخ دون قوت
فكأنها، وهي البريئهْ
كانت تشاركك العذاب لكي تكفِّر عن خطيئهْ!
أفترتضين لها مصيرك؟
فاتركيها للتراب
في ظلمة اللحد الصغير تنام فيه بلا مآب
فالنور والأطفال والبسمات حظ المترفين
والجوع والأدواء والتشريد حظ الكادحين
وأنت بنت الكادحين

•••

مات الضجيج وأنت، بَعْدُ، على انتظارك للزناهْ
تتنصَّتين، فتسمعين
رنين أقفال الحديد يموت، في سأم، صداه
الباب أوصد
ذاك ليل مَرَّ
فانتظري سواه.
١  في الأساطير اليونانية أن عيون ميدوزا تحول كل من تلتقي بهما عيناه إلى حجر.
٢  في القرآن الكريم أن الغراب هو الذي أرشد قابيل كيف يدفن أخاه بعد أن قتله.
٣  تزوج «أوديب» أمه «جوكست» وهو لا يدري بأنها أمه، وطيبة هي المدينة التي دخلها بعد أن قتل أباه ملك طيبة، فتزوج أمه، زوجة الملك القتيل. وكان «أبو الهول» يحرس مدخل المدينة ويلقي على كل غريب يدخلها سؤالًا: «ما الكائن الذي يمشي على أربع في الفجر واثنتين في الظهيرة وثلاث في المساء؟» وقد حل أوديب هذا اللغز وكان الجواب: «الإنسان.»
٤  نسبة إلى أبي العلاء المعري، الأعمى والقائل: «ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.» و«هذا جناه أبي علي.»
٥  في أساطير الإغريق أن «أفروديت» وُلِدَتْ من زَبَدِ البحر، ونزلت إلى البر محمولةً على صدفة محار.
٦  تراهن الله والشيطان على فاوست، وزعم الشيطان أنه يستطيع شراءه روحًا وجسدًا، وقبل فاوست بأن يبيع نفسه فوضع الشيطان نفسه في خدمته لقاء ذلك. فرد عليه الشباب ووهبه اللآلئ والمال وأراه شبح هيلين الإغريقية.
٧  وفي النهاية لم يحصل الشيطان إلا على جسد فاوست، بينما صعدت روحه إلى السماء.
٨  البيت من «فاوست» لغوته، يقوله الشيطان لفاوست حين كان يزور مرغريت «التي غرر بها وقتل أخاها وولدت طفلًا فقتلته» وهي في سجنها.
٩  كانت «دفني» ابنة إله صغير إله أحد الأنهار وقد رآها «أبولو» إله الشمس الجبار فأحبها وطاردها محاولًا اغتصابها، وقد استنجدت بأبيها فرشها بحفنةٍ من الماء وأحالها إلى شجرةِ غارٍ تضفر من أغصانها الأكاليل للأبطال. أما سهام التبر، الذهب، فهي السهام التي كان كيوبيد يرشق بها قلب أبولو ليلهب الحب فيه، وقد استعرناها رمزًا لسطوة المال.
١٠  قصة يأجوج ومأجوج يعرفها كل من قرأ القرآن الكريم، ولكن الأساطير الشعبية تضيف إليها أنهما يلحسان السور بلسانيهما كل يوم حتى يصبح في رقة قشرة البصل، ويدركهما التعب فيقولان: «غدًا سنتم العمل.» وفي الغد يجدان السور على عهده من القوة والمتانة؛ وهكذا. حتى يُولد لهما طفل يسميانه «إن شاء الله» فيحطم السور.
١١  أغنية شعبية «سليمهْ يا سليمهْ نامت عيون الناس كلبي (قلبي) ش يُنيمهْ؟»
١٢  ضاع مفهوم القومية عندنا بين الشعوبيين والشوفينيين يجب أن تكون القومية شعبية والشعبية قومية. يجب جعل أحفاد محمد وعمر وعلي وأبي ذر والخوارج والشيعة الأوائل والمعتزلة يعيشون عيشة تليق بهم كبشر وكورثة لأمجاد الأمة العربية.
١٣  تدفع البغايا للسمسارات أجرًا ليليًّا عن المصابيح في غرفاتهن قدره ربع دينار لكل مصباح!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤