حفار القبور

١

ضوء الأصيل يغيم، كالحلم الكئيب، على القبور
واهٍ، كما ابتسم اليتامى، أو كما بهتتْ شموعْ
في غيهب الذكرى يهوَّم ظلُّهُنَّ على دموعْ
والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيور
كالعاصفات السُّود، كالأشباح في بيتٍ قديم
برزت لترعب ساكنيهْ
من غرفةٍ ظلماء فيهْ
وتثاءب الطَّلَلُ البعيد، يُحدِّق الليل البهيم
من بابه الأعمى ومن شُباكه الخرب البليد
والجو يملؤه النعيبْ
فتردد الصحراء، في يأسٍ وإعوال رتيب
أصداءَه المتلاشياتْ
والريح تذروهن، في سأم، على التل البعيد!
وكأن بعض الساحراتْ
مدت أصابعها العجاف الشاحنات إلى السماء
تومي إلى سربٍ من الغربان تلويه الرياح
في آخر الأفق المضاء
حتى تعالى ثم فاض على مراقيه الفِساح
فكأن ديدانَ القبور
فارت لتلتهم الفضاء وتشرب الضوء الغريقْ
وكأنما أزف النشور
فاستيقظ الموتى عطاشى يلهثون على الطريق!
وتدفَّع السرب الثقيل
يطفو ويرسب في الأصيل
لَجِبًا يرنق بالظلام على القبور الباليات
وظلاله السوداء تزحف، كالليالي الموحشات
بين الجنادل والصخور
وعلى القبور!
وتنفس الضوء الضئيلْ
بعد اختناقٍ بالطيوف الراعبات وبالجثامْ
ثم ارتخت تلك الظلال السود وانجابَ الظلام
فانجاب عن ظلٍ طويلْ
يلقيه حفار القبورْ
كفَّان جامدتان، أبرد من جباه الخاملين
وكأن حولهما هواءً كان في بعض اللحود
في مقلة جوفاء خاويةٍ يُهَوِّمُ في ركود
كفَّان قاسيتان جائعتان كالذئب السجينْ
وفمٌ كشقٍ في جدار
مستوحدٍ بين الصخور الصُّمِّ من أنقاض دار
عند المساء ومقلتان تحدِّقان، بلا بريقْ
وبلا دموعٍ، في الفضاء:
«هو ذا المساء
يدنو، وأشباح النجوم تكاد تبدو، والطريق
خالٍ؛ فلا نعش يلوح على مداه … ولا عويلْ
إلا النعيب
وتنهد الريح الطويل!
وعلام تنعب هذه الغربان، والكون الرحيب
باقٍ يدور يعج بالأحياء مرضى، جائعين
بيضَ الشعور كأعظم الأموات، لكن خالدين
لا يهلكون؟ علام تنعب؟ إن عزرائيل مات!
وغدًا أموت، غدًا أموت!»
وهز حفار القبور
يُمناه في وجه السماء، وصاح «رب»! أما تثور
فتبيد نسل العار … تحرق، بالرجوم المهلكاتْ
أحفاد عادٍ، باعَةَ الدَّمِ والخطايا والدموع؟
يا رَبِّ ما دام الفناءْ
هو غاية الأحياء، فَأْمُرْ يُهلكوا هذا المساء!
سأموت من ظمأٍ وجوع
إن لم يَمُتْ — هذا المساء إلى غدٍ — بعض الأنامْ
فابعث به قبل الظلام!
يا رب أسبوعٌ طويل مَرَّ كالعام الطويل
والقبر خاوٍ، يفغر الفم في انتظارٍ … في انتظار
ما زلت أحفره ويطمره الغبارْ
تتثاءب الظلماء فيه ويرشح القاع البليلْ
مما تعصِّر أعين الموتى وتنضحه الجلود
تلك الجلود الشاحبات وذلك اللحم النثير!
حتى الشفاه يمصُّ من دمها الثرى، حتى النهود
تذوي ويقطر، في ارتخاءٍ من مراضعها، المغيرْ!١
واهًا لهاتيك النواهد، والمآقي، والشفاه!
واهًا لأجساد الحسان! أيأكل الليل الرهيبْ
والدود منها ما تمناه الهوى؟ وا خيبتاه!
كم جثةٍ بيضاء لم تفتضها شفتا حبيب
أمسى يضاجعها الرغام؟
هل كان عدلًا أن أحن إلى السراب، ولا أنالُ
إلا الحنين، وألف أنثى تحت أقدامي تنامُ؟
أفكلما اتَّقدت رغابٌ في الجوانح شَحَّ مال؟
ما زلت أسمع بالحروب، فأين أين هي الحروب؟
أين السنابك والقذائف والضحايا في الدروب
لأظلَّ أدفنها فلا تسع الصحارى
فأدسُّ في قمم التلال عظامهنَّ وفي الكهوف؟
فكأن قعقعة المنازل في اللظى نَقْرَ الدفوف
أو وقع أقدام العذارى
يرقصن حولي لاعباتٍ بالصنوج وبالسيوف!
نُبِّئْتُ عن حربٍ تدور، لعل عزرائيل فيها …
في الليل يكدح والنهار، فلن يمر على قرانا
أو بالمدينة وهي توشك أن تضيق بساكنيها!
نُبِّئْتُ أن القاصفات هناك ما تركت مكانًا
إلا وحلَّ به الدمار فأي سوقٍ للقبور!
حتى كأن الأرض من ذهب يُضاحك حافريها
حتى كأن مَعَاصِرَ الدَّمِ دافقاتٌ بالخمور!
أواه لو أنِّي هناك أسد، باللحم النثير
جوع القبور وجوع نفسي … في بلادٍ ليس فيها
إلا أراملَ … أو عذارى غاب عنهن الرجال
وافتضَّهنَّ الفاتحون إلى الذماء، كما يقال!
ما زلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها
لا تستقرُّ على قرانا؟ ليت عيني تلتقيها
وتخضُّهن إلى القرار، وكالنيازك والرعود
تهوي بهن على النخيل، على الرجال، على المهود!
حتى تحدق أعين الموتى، كآلاف اللآلي
من كل شبرٍ في المدينة ثم تنظم كالعقود
في هذه الأرض الخراب، فيا لأعينها ويا لي!
رباه إني أَقْشَعِرُّ أكاد أسمع في الخيال
أغنيَّةً تصف العيون
تنثال من مقهى، فأنصت في الزحام، وينصتون!
وكأن ما بيني وبين الآخرين من الهواء
ثَدْيٌ سخيٌّ بالحليب وبالمحبة والإخاء
يا رب أسبوع يمر ولست أسمع من غناء
إلا النعيبْ
وتنهُّد الريح الرتيب!
وا خيبتاه! ألن أعيش بغير موت الآخرين؟
والطيبات من الرغيف، إلى النساء، إلى البنين
هي منة الموتى عليَّ فكيف أشفق بالأنام؟
فلتمطرنَّهم القذائف بالحديد وبالضرام
وبما تشاء من انتقام
من حُمَّيَاتٍ أو جذام!
نذرٌ عليَّ لئن تشبَّ لأزرعنَّ من الورود
ألفًا تُرَوَّى بالدماء وسوف أرصف بالنقود
هذا المزار … وسوف أركض في الهجير بلا حذاء
وأعدَّ أحذية الجنود
وأخطُّ، في وحل الرصيف وقد تلطخ وقد تلطخ بالدماء
أعدادهنَّ لأستبيح عدادهنَّ من النهود!
وسأدفن الطفلَ الرَّمِيَّ وأطرح الأُمَّ الحزينهْ
بين الصخور على ثراه
ولسوف أغرز بين ثدييها أصابعي اللعينهْ
ويكاد يحنقها لهاثي وهي تسمع، في لظاه
قلبي ووسوسةَ النقود نقودها! وا خجلتاه!
أنا لست أحقَر من سواي وإن قسوت فلي شفيع
أني كوحشٍ في الفلاء
لم أقرأ الكتب الضخام، وشافعي ظمأ وجوع
أوَما ترى المتحضرين
المزدهين من الحديد بما يطير وما يذيع؟
مهما ادَّنأت فلن أسفَّ كما أسفُّوا. لي شفيع
أني نويت ويفعلون، وإنَّ من يئد البنين
والأمهات ويستحل دم الشيوخ العاجزين
لأحط من زانٍ انتهك الغزاة وما استباحوا!
والقاتلون هم الجناة وليس حفار القبور
وهم الذين يلوِّنون لي البغايا بالخمور
وهم المجاعة، والحرائق، والمذابح، والنواح
وهم الذين سيتركون أبي وعمته الضريرهْ
بين الخرائب ينبشان ركامهن عن العظام
أو يفحصان عن الجذور، ويلهثان من الأورام
والصخر كالمقل الضريرهْ
وسيوثقون بشعر أختي قبضتيَّ وكالظلام
وكخضة الحمى، تسمِّرها على دمها صدور
تعلو وتهبط باللهاث، كأنهن رَحًى تدور
يا مجرمون، إلى الوراء! فسوف تنتفض القبور
وتقيء موتاها ويا موتي، على اسم الله ثوروا!
رباه، عفوك إن «قابيل» المكبَّل بالحديدْ
في نفسي الظلماء هَبَّ وقَرَّ يعصره الملال!
فالليل جاء، وما أزال
مستوحدًا أرعى القبور وأنفضُ الدرب البعيد
وكأنَّ … يا بشرى! كأن هناك في أقصى الجنوب
خطًّا كأذيال الظلام ولمعةً كدم الغروب!
لكأنه ضيفٌ جديد!
وبدا الجناز، وراح يشهق وهو يدنو في ارتخاءْ
الأوجه المتحجِّرات يضيئها الشفق الكئيب
والغمغمات الخافتات من انفعالٍ أو رياءْ
والنعش يحجبه غطاءْ
ألوانه المترنحات كأنما اعتصر المغيب
فيها قواه، وذاب فيها كوكب واهي الضياءْ
حتى إذا انهال التراب وصُفِّحَ القبر الجديدْ
وتراعش الألق الضئيل، على الظهور المتعبات
حتى اضمحل، وغيَّبتها ظلمة الأفق البعيدْ
كانت مصابيح السماء تذر ضوءًا كالضبابْ
بين القبور الموحشات
وعلى الخرائب والرمال وكان حفار القبور
متعثر الخطوات يأخذ دربه تحت الظلامْ
يرعى مصابيح المدينة وهي تخفق في اكتئابْ
ويظل يحلم بالنساء العاريات وبالخمور
وتحسست يده النقود وهيأ الفم لابتسامْ
حتى تلاشى في الظلام!

٢

النور ينضح من نوافذ حانةٍ عبر الطريق
وتكاد رائحة الخمورْ
تلقي، على الضوء المشبع بالدخان وبالفتور
ظلًّا كألوانٍ حيارى واهياتٍ من حريق
ناءٍ … تهوم، في الدجى الضافي، على وجهٍ حزينْ
وتلوح أشباحٌ عجاف
خلف الزجاج تهيم في الضوء السَّرَابِيِّ الغريق
ويشد حفار القبور على الزجاجة باليمين
وكمن يحاذر أو يخافُ
يرنو إلى الدرب المنقط بالمصابيح الضئال
وتحركت شفتاه في بطءٍ وغمغم في انخذال:
«أظننت أنك سوف تقتحم المدينه كالغزاهْ
كالفاتحين وتشتريها بالذي ملكت يداك
بأقل من ثمن الطلاء القرمزي على شفاهْ
أو في أظافرٍ لاحقتها، ذات يومٍ، مقلتاك؟
سأعود، لا نهدٌ تعصِّره يدي حتى الذهولْ
حتى التأوُّه، والأنين، وصرخة الدم في العروق
والسكرة العمياء … والخدر المضعضع … والأفول!
والأذرع المتفتِّرات يلوِّن الضوء الخفوق
هزاتها المستسلمات، وينفح الدم والعبيرْ
ظلٌّ لهن على السرير
الأذرع المتفترات، وزهرتان على الوسادْ
نسجتهما كفٌ مخضبة الأظافر، زهرتان
تتفتحان على الوسادة كالشفاهِ، وتهمسان
نغمًا يذوب إلى رقادْ
ونعومة الكتفين، والشعر المعطر، والشحوب
وتألق الجِيد الشهي، ولفحة النَّفَس البهير
والنور منفلتًا من الأهداب تثقله الطيوب
قلقًا كمصباح السفينة راوحته صَبًا لعوب
وتخافق الأظلال في دعةٍ، ووسوسة الحرير
والحلمتان أشد فوقهما بصدري في اشتهاءْ
حتى أحسهما بأضلعي، وأعتصر الدماء
باللحم والدَّمِ والحنايا، منهما، لا باليدين
حتى تغيبا فيه، في صدري، إلى غير انتهاءْ
حتى تمصَّا من دماي وتلفظاني، في ارتخاءْ
فوق السرير
وتشرئبَّا
ثم نثوي جثتين!»

٣

دربٌ كأفواه اللحود
لولا التماعات الكواكب، وانعكاس من ضياء
تلقيه نافذةٌ، ووقع خُطًى تهاوى في عياء
يُصدي له الليل العميق، وحارسٌ تَعِبٌ يعود
وَسْنان يحلم بالفراش وزوجه تذكي السراجْ
وتؤجِّج التَّنُّور صامتةً وأخيلةُ اللهيب
تضفي عليها ما تشاء من اكتئابٍ وابتهاج
ثم اضمحلَّ الحارس المكدود، والنغم الرتيبْ
وقع الخطى المتلاشيات … كأنه الهمس المريب
ما زال يخفق من بعيد
وتململت قدمان، وارتفعت يدٌ بعد انتظار
وهوت على الباب العتيق، فأرسل الخشب البليدْ
صوتًا كإيقاع المعاول حين إدبار النهار
بين القبور الموحشات. وأطبق الصمت الثقيلْ
وأطل من إحدى النوافذ، وهي تفتح وارتيابْ
وجهٌ حزين ثم غاب!
وتحرَّك الباب المُضَعْضَعُ وهو يجهش بالعويلْ
وتقول أنثى في اكتئاب:
«ضيفٌ جديدٌ!» ثم تفرك مقلتيها في فتور
ويظل يزحف كالكسوف يحجِّب الألق الضئيلْ
عن وجهها، ظِلٌّ يقيدها بحفار القبور!

٤

في زهوة الشفق الملون حيث يحترق النهار
في عودة الرُّعْيَان أشباحًا يظللها الغبار
في ساعة الشوق الكئيب إلى شواطئ كالضباب
وإلى أكفٍّ مُخلِصاتْ
وإلى أغانٍ مبهماتٍ هائماتٍ في شعاب
أنأى من الأصداء تغشاها نجومٌ ساهماتْ
في ساعة الشفق الملون كان إنسانٌ يثور
بين الجنادل والقبورْ
نفسٌ معذَّبة تثور
بين الجنادل والقبور:
أأظلُّ أحلم بالنعوش، وأنفض الدرب البعيدْ
بالنظرة الشزراء، واليأس المظلل بالرجاءْ
يطفو ويرسب، والسماء كأنها صنمٌ بليدْ
لا مأمل في مقلتيه … ولا شواظ ولا رثاءْ؟
لو أنها انفجرت تقهقه بالرعود القاصفات!
لو أنها انكمشت وصاحت كالذئاب العاويات
فات الأوان، فخط لَحْدَكَ واثوِ فيه إلى النشور!
لو أنها انطبقت عليَّ كأنها فَمُ أفعوان!
لو أنها اعتصرتْ قواي!
ومات ظل الأرجوان
في آخر الأفق البعيد، ولألأت قطرات نور
مما تبعثره المدينة وهي تبسم في فتور
وكأنما رضعت مصابيح المدينة مقلتاه
فَسَرَتْ لهيبًا في دماه وألغمتْها بالرغاب
وكأنهن، على المدى المقرور، آلاف الشِّفَاهْ
تدعوه ظمأى، لاهثاتٍ … مثل أحداق الذئاب:
«ما زلت تحترقين من فرحٍ، وأحترق انتظارًا
صُبِّي سناك على التراب
وعلى الكئوس الفارغات، وبعثريه على كتاب
أو بين أغطية الموائد وهي تنتظر النهارا
ظَلَّتْ تعابثها شفاه الريح، وانصرف السكارى!
راحوا إليها مسرعين، إلى التي ارتعشت قواها
بين التوجُّع والذهول، على يديَّ وفي دمائي
ليلٌ وأعقبه الصباح ونبأتني مقلتاها
أنَّا انتهينا
يا سماء، ويا قبور … أما أراها؟
لا بد من هذا!» وصوَّب مقلتيه إلى السماء
حنقًا يزمجر، ثم أطرق وهو يحلم باللقاء
بابٌ تَفَتَّحَ في الظلام … وضحكةٌ … وشذًى ثقيلْ …
ويدانٍ تجتذبان أغطية السرير وتُرخيان
إحدى الستائر
ثم تنطفئان في الضوء الضئيلْ!
وتغيم أخيلة وتجلى، ثم تبرز حلمتان
ويُطل وجهٌ شاحب القسمات مختلج الشفاهْ
وتغيم أخيلة وتُجلى، ثم تفتح مقلتاهْ
فيرى القبور
ويرى المصابيح البعيدة كالمجامر في اتِّقاد
ويرى الطريق إلى القبور
يكتظ بالأشباح زاحفةً إليه على اتِّئَاد
فيصيح من فرحٍ: «سألقاها، فإن على الطريق
نعشًا وإن حف النساء به وأملق حاملوه!
إني سألقاها!» وينهض وهو يرفع باليمين
فانوسه الصدئ العتيقْ
يلقي سناه على الوجوه
وعلى الدثار القرمزي وفي عيون القادمين
لو أنه اخترق الدثار بمقلتيه وبالضياء
لو حدث التابوت عمن فيه … أو رفعت يداها
أو هبَّةٌ للزعزع النكباء حاشية الغطاء
تحت النجوم الساهمات
لكاد ينكر من رآها!
ماتتْ كمنْ ماتوا، وواراها كما وارى سواها
واسترجعت كفاه من يدها المحطمة الدفينهْ
ما كان أعطاها، وإن حملت يد امرأةٍ سواها
تلك النقود بل البقايا من نفايات المدينهْ

•••

وتظل أنوار المدينة وهي تلمع من بعيد
ويظل حفار القبور
ينأى عن القبر الجديد
متعثر الخطوات يحلم باللقاء، وبالخمور!
١  اللبن الممزوج دمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤