الفصل العشرون

الفتح السوداني لمصر

نظرة عامة في تاريخ الكشوف الأثرية عن أصل ملوك الأسرة الخامسة والعشرين

تحدَّثنا فيما سبق عن الأطوار التي مرت على العلاقات بين مصر وبلاد النوبة منذ أقدم العهود حتى دخل أهل السودان فاتحين مصر في القرن الثامن قبل الميلاد. وكان كل ما نعرفه عن الأسرة الفاتحة بعض أسماء ملوكها دون أن نعرف شيئًا عن أصلهم أو موقع ملكهم في بلاد كوش، وقد بقيت الحال كذلك إلى أن قامت الحفائر العلمية في بداية هذا القرن على يد الأثري العظيم الأستاذ «ريزنر» فأماط اللثام عن بعض مُعَمَّيَاتِ هذا الموضوع وقد قَفَاهُ بعض العلماء في البحث والتنقيب فأضافوا بعض معلومات جديدة هامة عن أصل ملوك الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية.

وقد كان أول عمل وصل إليه الأستاذ «ريزنر» هو الكشف عن ست جبانات ملكية تقع كلها في محيطين عظيمين وهما محيط مدينة «نباتا» ومحيط مدينة «مروي» وتقعان على النيل، الأولى أقيمت أسفل الشلال الرابع والثانية في أعلى الشلال الخامس وينسب لكل منهما ثلاث جبانات ويمكن تحديدها بالنسبة للأخيرة.

وكانت مدينة «نباتا» القديمة عاصمة بلاد كوش في خلال عهد ثقافتها العتيقة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمعبد «آمون» العظيم الذي يقع عند سفح حافة صخرة بارزة من جبل «برقل» تعرف «بالجبل المقدس» في المتون المصرية القديمة «زووعب»١ ويقع هذا الجبل بالقرب من بلدة «كريمة» القريبة من الشلال الرابع. على أن تحديد الموقع الإداري لبلدة «نباتا» لم يعرف حتى الآن على وجه التأكيد، غير أنه لدينا براهين تشير إلي أنه كان يقع في ربوع مدينة «مروي» أو بالقرب منها (ويجب ألا نخلط هنا بين مدينة «مروي» هذه وسميتها الواقعة علي مسافة أربعة أميال في انحدار النيل أسفل جبل «برقل» وتقع علي الشاطئ الشرقي للنهر وتُدْعَى الآن «مروي الجديدة»).
والجبانات الملكية الثلاث الواقعة في منطقة «نباتا»٢ وهي:
  • (١)

    جبانة «الكورو» وتقع على مسافة ميل غربي النيل، وعلى مسافة عشرة أميال شمالي جبل «برقل».

  • (٢)

    وجبانة «نوري» وتقع على مسافة ميل جنوب النيل وعلى مسافة ستة أميال جنوبي جبل «برقل».

  • (٣)

    و«برقل» حيث توجد مجموعتان صغيرتان من الأهرام وتقع بالقرب من جبل «برقل» في الجنوب والغرب.

وكانت مدينة «مروي القديمة» تعد المركز الإداري لبلاد كوش في عهد ثقافتنا المتأخر وتُسَمَّى الثقافة المروية وهي تقع على الشاطئ الشرقي للنيل على خط عرض ١٥ ً,٥٥ َ,١٦ ْ شمالًا وخط طول ٣٠ ً,٤٢ َ,٣٣ ْ شرقًا وعلى مسافة ٢١٣ كيلو مترا بالسكة الحديد شمال الخرطوم، وتشغل الآن قرية البجراوية جزءًا من المدينة القديمة. وأهم أثر فيها الآن معبد «آمون».٣ هذا وقد قامت بعثة جامعة «هارفرد» بحفر ثلاث جبانات في «مروي» وتقع كلها شرقي المدينة.

وأهم هذه الجبانات الواقعة في محيط «نباتا» هي جبانة «الكورو» التي كشف فيها عن أهرام أربعة ملوك من فراعنة الأسرة الخامسة والعشرين، وقد كان لهذا الكشف دَوِيٌّ عظيم في الأوساط الأثرية، إذ لم يكن من الْمُتَوَقَّعِ أن يُعْثَرَ على قبور ملوك هذه الأسرة في تلك المنطقة وبخاصة بعد أن كشف «ريزنر» في عام ١٩١٧ عن مقبرة الملك «تهرقا» في جبانة «نوري» الواقعة على المشارف الجنوبية لمدينة «نباتا».

وهذه الأهرام الأربعة للملوك الآتين: «بيعنخي» و«شبكا» و«شبتاكا» ثم «تانوتآمون». وبهذا الكشف الجديد أصبح معروفًا لدينا مقابر أربعة من الملوك الذين حكموا مصر وكوش. وهؤلاء هم المعروفون بملوك الأسرة الخامسة والعشرين، هذا إلى الكشف عن قبر جدهم العظيم «كشتا» فاتح مصر. وكان المفروض قبل هذا الكشف أن كلًّا من الملكين «شبكا» و«شبتاكا» قد عاش في مصر ودُفِنَ فيها، ولكن قد أصبح من الواضح الآن أن موطن الأسرة الخامسة والعشرين القوية السلطان هو بلدة «الكورو» التي كانت تُعَدُّ مقرهم الرئيسي. والواقع أنه في هذا المكان وطدت الأسرة أركان حكمها في كوش قبل عهد «بيعنخي» بأجيال، ومن هذه البلدة النائية أخذ ملوكها يفتحون ويحكمون مملكتهم العظيمة التي امتدت شهرتها إلى أنحاء العالم القديم المتمدين فقد كان يقوم من «الكورو» السعاة رجال البريد حاملين الرسائل باسم ملك كوش إلى عواصم غربي آسيا، والواقع أنه عُثِرَ في السجلات الملكية في «نينوه» عاصمة «آشور» على طابع خاتم من الطين باسم الملك «شبكا» منذ عدة سنين؛ ومن المحتمل أن هذا الطابع كان جزءًا من رسالة الملك «شبكا» إلى عاهل «آشور» «سرجون الثاني»، كما أنه يحتمل أن الرسالة كانت ردًّا على خطاب قد أُحْضِرَ إلى «نباتا»، ومن الجائز أنه لا يزال مدفونًا حتى الآن في إحدى المباني الخربة من زمن العاصمة القديمة، وتنتظر معول الحفار لإماطة اللثام عنها. ومن الغريب أنه قبل الكشف عن هذه المقابر الملكية في «الكورو» كان علماء الآثار يقولون بوجود أربعة ملوك باسم «بيعنخي» أو أكثر كما قالوا بوجود ملكين باسم «كشتا» وكلهم حكموا مصر. وهذا القول الذي لم يكن يرتكز على أساس أثري قد وُضِعَ له حَدٌّ بعد الكشف عن مقابر «الكورو»؛ فقد دلت الآثار على أنه لم يوجد إلا ملك واحد باسم «كشتا» وآخر باسم «بيعنخي» على أغلب الظن. هذا وقد أضافت لنا الكشوف بعض التقدم بإماطة اللثام عن تاريخ العصر الذي يقع بين آخر نائب ملك لمصر في كوش وحكم الملك «كشتا».

والخطوة الرئيسية في الموضوع الذي نتحدث عنه هي الكشف عن الأصل اللوبي لأول أسرة كوشية ملكية. ولما كانت النتائج التي وصلنا إليها قد اسْتُنْبِطَتْ من الآثار التي كشفت عنها أعمال الحفر في هذه الجهة فإنه من الضروريات الهامة أن نفسر سلسلة الحقائق التي أسفرت عنها الحفائر.

الجبانة الملكية في «الكورو»:

في الواقع أن جبانة «الكورو» هي أقدم الجبانات الكوشية الملكية كما أنها أقلها حفظًا من جهة المباني التي تعلو قبورها وذلك لأن أحجارها قد نُهِبَتْ بصورة بشعة واتُّخِذَتْ مادة لإقامة المباني الحديثة للسكان المجاورين لهذه الجبانة لدرجة أنهم في كثير من الأحيان لم يتركوا بعض الأحجار لتدل على المباني العلوية للقبر، هذا إلى أنه لم تترك حجرة دفن واحدة سليمة، ومع ذلك فإن الأهمية التاريخية لهذه الجبانة عظيمة جدًّا وما بقي فيها من مواد أثرية كان عظيمًا. والواقع أن حفائر «الكورو» قد وضعت الأساس لفهم تطور مباني القبر الملكي النباتي، هذا بالإضافة إلى الأشياء المصنوعة التي وُضِعَتْ مع الْمُتَوَفَّى فإنها قد سهلت موضوع التاريخ في الجبانات الأخرى التي من العصر الكوشي.

وإن أهم ما يلفت النظر في جبانة «الكورو» أنها تقدم لنا العناصر الهامة التي نجد مثلها في جبانة «نوري»، وأعنى بذلك أن المقابر فيها كانت من الطراز الهرمي الذي له طريق ذات سلم، واتجاه المبني كان نحو الغرب (على الشاطئ الأيسر للنيل)، ثم فصل مقابر الملكات عن مقابر الملوك. وعلى الرغم من هذا التوافق فإنه توجد فروق عظيمة بين الجبانتين. فالجبانة التي في «نوري» كان قد أسسها الملك «تهرقا» ويقع قبره الهرمي الشكل في أجمل موقع فيها، إذ يقع على أعلى جزء من الهضبة التي فهيا الجبانة وهي على شكل حدوة في الجهة الشرقية. أما مقابر الملوك الذين خلفوه على عرش كوش فقد أقيمت على طول قمة الهضبة حتى نهاية الجزء الغربي منها حيث أقيم قبر الملك «نستاسن» من أواخر ملوك هذه الأسرة في أخفض وأردأ مكان بالنسبة للمقابر الأخرى.

أما الملكات فقد دُفِنَّ على كل من جانبي هرم «تهرقا» وخلفه. أما في «الكورو» فإننا نجد على أية حالة أن الرقعة الرئيسية التي أقيمت عليها مقابر الملوك الأربعة تقع على هضبة من الحجر الرملي بين واديين في حين أن المساحات التي تقع في الشمال والجنوب من هذين الواديين قد أقيم عليها مقابر الملكات. ويُلَاحَظُ أنه في «نوري» كان الموقع الرئيسي يحتله هرم الملك «تهرقا» مؤسس الجبانة، ولكن في «الكورو» نلحظ أن الموقع الرئيسي أو بعبارة أخرى موقع قبر المؤسس للجبانة كان يحتله قبر خاص على هيئة تل. وبعد ذلك نجد الخمسة عشر موقعًا التي تلي هذا القبر قد شغلت بسلسلة مقابر كان حجمها يزداد على التوالي كما كانت مبانيها تمتاز بجمالها وإتقانها على التوالي أيضًا. ثم يلي ذلك المقابر الملكية الأربع وقد أقيمت في أحقر أربعة مواضع في الجبانة، ولا غرابة في ذلك إذ كانت آخر مقابر في جبانة استعملت باستمرار منذ بضعة أجيال قبل موت «بيعنخي» ولذلك لم يبقَ منها غير مشغول إلا الأماكن الحقيرة.

وتقع رقعة الجبانة الرئيسية في «الكورو» بين واديين وتأخذ في الارتفاع شيئًا فشيئًا نحو الصحراء حتى يبلغ علوها حوالي ثمانين ومئتي متر. وفي النهاية الشرقية من هذه الجبانة جبل صغير أقيم في قمته قبر على هيئة تل مستدير مُؤَلَّفٌ من أحجار صغيرة خشنة وحجرة دفن مغطاة ببناء على شكل تل وهي عبارة عن بئر مستطيلة مساحتها ثلاثة أمتار وعشرون سنتيمترًا وعرضها متر وسبعون سنتيمترًا وعمقها متران وخمسون سنتيمترًا ويتجه هذا القبر من الشمال إلى الجنوب وله سُلَّمٌ على الجانب الغربي وحجرة الدفن في الجهة الشرقية في قعر البئر. وهذه الحجرة قد سُدَّتْ بإقامة جدار خشن البناء من اللبنات وقد رُمِزَ لهذه المقبرة «بالكورو» رقم واحد.

وبالقياس للمقبرة رقم ٢ في «الكورو» نعلم أن الْمُتَوَفَّى كان مضطجعا على جانبه الأيمن بركبتيه المطويتين بعض الشيء ورأسه نحو الشمال ووجهه متجه نحو الغرب. وتوجد حول هذا القبر في منخفض من سفح الجبل ثلاثة مدافن متشابهة. وأسفل من ذلك من جهة الغرب أقيم قبر آخر على هيئة تل كذلك، غير أن منظره الخارجي أحسن من المقابر السابقة وهو الذي رمز له «بالكورو» رقم ١٩. وهذا القبر يشبه المقابر التي في المستوى الأعلى منه في كل أسسه، ولكنه يمتاز بأنه قد كُسِيَ بأحجار رملية محكمة البناء أقيمت حول التل المؤلَّف من أحجار صغيرة وقد زيد فيه بعض إضافات تخص بالذكر منها مزارًا أو مقصورة في الجهة الغربية وسورًا من الحجر الرملي على هيئة حدوة الحصان وهذه تعد ظاهرة جديدة في هذه المقابر. هذا وقد أقيم على صخرة خارجة من الهضبة في الجنوب من «الكورو» رقم ١٩ مقبرة أخرى مكسوَّة بالأحجار (وهي «الكورو» رقم ٦) على غرار المقبرة رقم ١٩، (والمقبرة رقم ٦ هي للملكة «أرتي» ابنة «بيعنخي» كما سنرى بعد).

هذا وقد أقيم أمام المقبرة رقم ١٩ صف من المصاطب عددها ثمان وتخترق الهضبة من الوادي الجنوبي إلى الوادي الشمالي وتحمل على حسب ترقيم الأستاذ «ريزنر» الأرقام التالية: ١٤، ١٣، ١١، ١٠، ٩، ٢٣، ٨، ٧. ويوجد أمام المسافة التي بين المقبرتين ٨، ٧ مصطبة تاسعة وهي التي تحمل رقم «الكورو» ٢٠ وهي صغيرة جدًّا، وبدهي أنها تابعة «للكورو» رقم ٨. وأقدم هذه المصاطب هما «الكورو» رقمي ١٤ و١٣ وقد أُقِيمَتَا في الجنوب والشمال من مدخل السور الذي على شكل الحدوة الخاص «بالكورو» رقم ١٩. وذلك بطرية أدت إلى ترك مكان خالٍ للدخول من جهة الغرب. وكان الجدار الْمُسَوَّرُ للمقبرة رقم ١٣ قد أقيم مرتكزًا على الجدار الْمُسَوَّرِ للمقبرة رقم ١٩ على هيئة تل وعلى ذلك أصبح من الواضح أن كلًّا من المصطبتين ١٤، ١٣ أحدث عهدًا من المصطبة رقم ١٩ بل بُنِيَتَا عندما كانت القربان التي كانت تُقَدَّمُ لصاحب المقبرة رقم ١٩ لا تزال قائمة.

ولدينا برهان آخر عن الصلة الوثيقة التي بين هاتين المصطبتين والمقابر التلية الشكل التي أقدم منها وهو أن المقبرة رقم ١٤ يظهر أنها قد وُضِعَ تصميمها على أن تكون مقبرة تلية ثم حُوِّلَتْ فيما بعد إلى مصطبة ويمكن رؤية التل المؤلف من أحجار صغيرة في داخل مبنى المصطبة. وإذا استثنينا هذا نجد أن كل المصاطب حتى «الكورو» رقم ٩ كانت من طراز واحد وأن حُفَرَ الدفن كانت بالضبط مثل حفر دفن المقابر التَّلِّيَّةِ وبنفس اتجاهها. أما المبنى الذي كان مقامًا فوق حجرة الدفن فهو عبارة عن قطعة مربعة جوانبها عمودية ويبلغ ارتفاعها حوالي متر وعشرين سنتيمترًا أو أكثر، غير أن شكل قمة المبنى لم يمكن التأكد من هيئته. ويوجد في الجهة الغربية مقصورة أو مزار مبني، وحول الكل سور مستطيل قمته مستديرة. هذا ونجد من حيث الوضع أن المصطبتين التاليتين للمقبرة التاسعة وهما ٢٣، ٢٠ على الرغم من أنهما مثل المصاطب القديمة في كل صفاتها إلا أن لكل منهما حفرة دفن بسيطة تتجه من الشمال إلى الجنوب. والمصاطب الأخيرة كانت بداهة هي ٨ و٧ و٢٠ بهذا الترتيب. ويلاحظ أن المصطبتين الكبيرتين ٨،٤ ٧ مشابهتان في تصميمهما لمصاطب الدولة القديمة المصرية ولهما حفرة دفن مفتوحة مثل المقبرتين رقم ٢٣، ٢١ غير أنهما تختلفان في نقطتين: أُولاهما: كانت المصطبة مبنية من أحجار صغيرة والمقصورة والجدار المسور شُيِّدَا من جديد بأحجار ضخمة حسب الطراز الذي بني به قبر الملك «شبتاكا» وثانيتهما: كانت حجرة الدفن تتجه من الشرق إلى الغرب وهو الاتجاه الذي نجده في مقابر ملوك كوش من هذا العهد وما بعده.

والمقابر التي تأتي بعد هذه من حيث الطراز ومن حيث الزمن مقابر الملكات التي من عهد الفرعون «بيعنخي» وقد أُرِّخَتْ بنقوش وآثار مادية وُجِدَتْ فيها. ويُلْحَظُ أنها ليست في نفس الرقعة الرئيسية التي أُقِيمَتْ فيها المقابر التي تحدثنا عنها، بل وجدنا واحدة منها في الرقعة الشمالية وهي المقبرة رقم ٢٢ كما وجدنا خمسًا في الرقعة الجنوبية (من رقم ٥١ إلى ٥٥) ويلفت النظر أن البناء العلوي الذي فوق هذه المقابر الست قد هُدم تمامًا، غير أن أماكن الدفن كانت أماكن الدفن في المقبرتين ٨، ٧ وقد ذكرنا هذه المقابر هنا لأن حفر الدفن كانت مسقفة بقبوة خارجة وعلى ذلك يمكن أن نستنبط أن حفر الدفن المفتوحة (وهي ٢٣، ٢٢، ٨، ٧) كانت مسقفة بنفس الطريقة.

هذا ونجد في الرقعة الرئيسية أن المقبرة التي تلي المصاطب هي مقبرة الملك «بيعنخي» وتقع على مسافة حوالي عشرة أمتار، أمام صف المصاطب في الجزء الأسفل الذي بين المقبرتين العاشرة والحادية عشرة وهي من نفس طراز المقابر التي لها حفرة وسقفها مُقَبَّبٌ خارج؛ غير أنه قد ظهر فيها نقطة جديدة حَتَّمَتْهَا الزيادة الكبيرة التي أضيفت في حجم المقبرة وعمقها، فقد بلغت مساحة حجرة الدفن ٥٫٥٠ متر × ٣٫٥ أمتار × 5,5 أمتار عمقًا في حين أن أكبر الحفر السابقة وهي «الكورو» رقم ٨ قد بلغت مساحتها ٣٫٥٠ × ٢٫٥ × ٣ من الأمتار عمقًا، هذا وكانت الخارجة مؤلفة من أحجار أكبر حجمًا رُصَّتْ رصًّا متقنًا. أما في حالة حجرات الدفن في المقابر القديمة فكان لا بد أن الخارجة أُقِيمَتْ بعد الدفن؛ وذلك لأن حجرة الدفن لم يكن لها مدخل. ويلفت النظر في مقبرة «بيعنخي» أن عمق حجرة الدفن وحجم الأحجار التي بُنِيَتْ بها الخارجة قد جعلت المومية والقربان في خطر، ولكن لتقليل هذا الخطر عُمِلَ سلم خشن صغير قطع في الصخر من جهة الغرب يؤدي إلى النهاية الغربية من حفرة الدفن بوساطة باب مقطوع في الصخر. ومن ثَمَّ نفهم أنه لأسباب عملية محضة قد حُوِّلَتْ حجرة الدفن البسيطة إلى حجرة دفن لها سلم.

وكان قبر «بيعنخي» هو الأول من سلسلة طويلة من المقابر الملكية ذات السلالم التي أُقِيمَتْ في بلاد كوش.٥

ومما يُؤْسَفُ له أنه لا يمكننا الجزم مما تبقى إذا كان البناء العلوي الذي أقيم على حجرة الدفن قد اتخذ شكل مصطبة أو هرم مثل المقابر الملكية التي بُنِيَتْ بعد هذا القبر، وعلى أية حال فإن البناء العلوي المربع كان فوق السقف ذي الخارجة مباشرة في حين أن المزار الملاصق له في الجهة الغربية لا بد أن يكون قد بُنِيَ بعد الدفن على الردم الذي ملأ السلم وبذلك كان أساس المزار ضعيفًا جدًّا ولا بد أنه قد هبط بعد أول مطر غزير فسبب تداعيًا جزئيًّا في الجدران.

أما مقبرة الملك «شبكا» (KU. 15) فكانت مُقَامَةً على مسافة عشرين مترًا جنوب مقبرة «بيعنخي» وأمام المصطبة رقم ١٤ التي لم يُعْثَرْ على اسم صاحبها وهي في الواقع أقل المصاطب أهمية في هذا الصف ويحتمل أنها أقدمها.

وتدل مباني مقبرة الملك «شبكا» على تقدم محس عن مباني مقبرة «بيعنخي» ولكن تصميمها الأساسي واحد فنجد أن حجرة الدفن في مقبرة «شبكا» لم تظل بعد حفرة في صورة حجرة بل أصبحت حجرة منحوتة في الصخر الصلب ولها سقف مقطوع كذلك في الصخر مُقَبَّبٌ على غرار سقف «بيعنخي». هذا إلى أن السُّلَّمَ صار أجمل صنعًا بدرجة كبيرة وأكثر عمقًا وينزل حتى باب حجرة الدفن؛ وكذلك نجد أن نقطة الضعف في تأسيس المزار على الردم قد تُلُوفِيَتْ بطريقة كان لها أثر في تطور القبر الملكي في كوش في المستقبل؛ فلم يُتْرَكِ السلم مكشوفًا في كل امتداده حتى باب حجرة الدفن، بل نجد أن الدرجات الست الأخيرة كانت مقطوعة فيما يشبه النفق بحفرها في الصخر ولم يكن له عارضنا باب عند المدخل وقد أقيم على هذا النفق المزار وبذلك أصبح يرتكز على صخرة. أما البناء المربع الذي كان يقام على حجرة الدفن فقد اتخذ شكلًا هرميًّا يغطيها كلها.

أما المكان الذي يقع في شمالي مقبرة «بيعنخي» وهو الذي يقابل في موقعه هرم «شبكا» فكان موضعه مباشرة أمام المصطبة التي تُعَدُّ أحدث وأهم مصاطب الصف. ولا نعلم إذا كان الملك «شبتاكا» صاحب هذا القبر قد انتخب مكانه خلف المقبرة رقم ٨ (ويحتمل أنه قبر الملك «كشتا») احترامًا لهذه المصاطب أو بسبب رداءة نوع الحجر في هذا المكان، ويدل إعادة بناء المقبرة رقم ٨ على يد بنائي مقبرة «شبتاكا» على أنها كانت ذات أهمية عظيمة في نفس هذا الملك. ويدل بناء قبر «شبتاكا» على تقدُّم جديد في فن العمارة إذ نجد السلم ينتهي عند بداية الممر الذي حُوِّلَ إلى دهليز له سقف أفقي وسطح منبسط. وعند القمة ينزل السلم من الجنوب بمقدار تسع درجات قبل أن يتحول إلى الشرق بزاوية مستقية، وقد عمل ذلك لتلافي التعدي على الجانب الشرقي من سور المقبرة رقم ٨، هذا ويلفت النظر بصورة بارزة أن حجرة الدفن كان سقفها مقببًا وخارجًا عن سقف حجرة دفن «بيعنخي» ولكنها كانت أكبر مساحة إذ تبلغ مساحتها ٨ أمتار في أكثر من خمسة أمتار وما يقرب من ستة أمتار في العمق. ويظهر أن سبب هذا التغير كشف تشقق في أم الصخر مما جعل قطع سقفه مهددًا بالخطر.

ويأتي بعد ذلك في الترتيب التاريخي هرم «نوري الأول» وهو قبر «تهرقا» خلف «شبتاكا». و«تهرقا» هذا هو أحد أبناء «بيعنخي» كما سنرى بعد من أميرة تدعى«آبار» والظاهر أنها كانت ابنة الملك «كشتا»، ولا نعلم السبب الذي دعا «تهرقا» هذا إلى إقامة مقبرته في «نوري»، ومن الجائز أن السبب يرجع إلى خليط من الغرور الإنساني والأحقاد الأسرية، وقد يكون في ذلك مثله كمثل «زد فرع» أحد ملوك الأسرة الرابعة عندما بَنَى هرمه في «أبو رواش» بدلًا من من منطقة أهرام الجيزة،٦ ولكن من الواضح من جهة أخرى أنه لم تكن في «الكورو» مساحة كافية في جبانة الملوك لإقامة هرمه الضخم نسبيًّا، إذ يبلغ ارتفاعه حوالي اثنين وخمسين مترًا مربعًا، وهذا الهرم الذي يدل على زهو صاحبه يحوي عددًا من الحجرات والدهاليز التي أحكم نظامها تحت الأرض مما جعل منظره لأول وهلة يختلف عن المقابر الملكية التي سبقته، ولكن عند فحصه بدقة ظهر أن تصميمه الأصلي لا يختلف كثيرًا عن مقبرة «شبتاكا» سلفه. فنجد هنا السلم أمام حجرة الدفن المربعة التي قُسِّمَتْ ثلاثة ممرات بعمد مقطوعة في الصخر، ولكن الدهليز الأفقي الذي على هيئة نفق قد حُوِّلَ إلى حجرة استقبال صغيرة لها عارضتا باب معشقتان، يضاف إلى ذلك أن مقبرتي الملكتين اللتين في «نوري» وهما اللتان لا بد قد أقيمتا في عهد «نهرقا» ويحملان رقمي ٣٥، ٣٦ تُدْعَى أولاهما «آبار» والثانية «أتخباسكن» وتحتوى كل منهما على حجرتين بسيطتين، والميزة الخاصة لهذا القبر الذي يحوي حجرتين وسلمًا هو وجود ثلاث أو أربع درجات تؤدي من حجرة الاستقبال إلى حجرة الدفن.
وقد خلف «تهرقا» في الحكم الملك «تانوتآمون» بن الملك «شبتاكا»٧ وقد عاد هذا العاهل إلى «الكورو» حيث أقام قبره هناك. ففي جبانتها المزدحمة انتخب موقعًا يرتكز على الجانب الجنوبي لهرم جده «شبكا» وقد أفلح في بناء هرم صغير له حشره بين هرم جده «شبكا» وبين الوادي الجنوبي. والواقع أنه كانت توجد مساحة تتسع لمثل هذا الهرم الصغير بين مقبرة «بيعنخي» وهرم «شبكا» ولكن الظاهر أنه لم يكن من المستحب لديه إقامة مباني المصاطب القديمة الهامة أي أمام المقبرتين رقمي ١١، ١٣ واسما صاحبيهما مجهولان.٨

ويلاحظ أن مقبرة «تهرقا» تعد صورة مطابقة للتصميم الأصلي الذي نشاهد أنه قد نُفِّذَ في أقدم مقبرتين لملكتين في «نوري» وتتألف كل منهما من سلم وحجرة استقبال صغيرة وثلاث درجات وحجرة دفن كبيرة مستطيلة الشكل. ونجد قبل عهد «تانوتآمون» مقبرتين من هذا الطراز أقيمتا للملكتين «خنسا» و«تابيري» كما يبرهن على ذلك التماثيل المجيبة التي وُجِدَتْ لهما في الساحة الشمالية في «الكورو». والملكة الأولى وهي «خنسا» بنت «كشتا» وزوج «بيعنخي» وأخته والثانية وهي «تابيري» زوج «بيعنخي» وأخته أيضًا. وقد أصبح هذا الطراز من الهرم الذي يحتوي على حجرتين وسلم من هذا العهد هو الطراز التقليدي لأهرام الملكات. وقد اسْتُعْمِلَ هذا الطراز فيما بعد بوصفه أقل نوع لدفن الملوك الذين كانوا يُدْفَنُونَ لأي سبب دفنًا متواضعًا.

وقد أقام «اتلانرسا» خلف «تانوتآمون» في «نوري» (نوري ٢٠) مقبرة من هذا الطراز الذي يشمل حجرتين ولكن يلحظ أن حجرة الاستقبال وحجرة الدفن كانتا على مستوى واحد. والتغير الوحيد الذي نلحظه في مقبرته كان بلا شك سببه الفقر، ولكنه قد قلد في مقابر الملكات بعد موته.

وتولى الملك بعد «اتلانرسا» الملك «سنكامنسكن» (نوري ٣) وكان ملكًا ثريًّا قويًّا ومن عظماء الملوك الذين أقاموا مباني كبيرة في معابد جبل «برقل». وكان حبه للترف ظاهرًا في كل نواحي قبره، وإذا استثنينا الملك «بيعنخي» فإنه يعد الملك الوحيد الذي وجدنا في قبره تماثيل مجيبة من الحجر عملها لنفسه وهو كذلك الملك الوحيد بلا استثناء الذي استعمل الصِّلَّ الملكي في تماثيله المجيبة. وهرمه يعد أكبر هرم أقيم بين أهرام الملوك الذين سبقوه عدا هرم «تهرقا» الذي يبلغ حجمه حوالي ثمانية وعشرين مترًا مربعًا وقد قلده كل عظماء الملوك ممن خلفوه إلى أن قلل الملك «أمانياستبارقا» الحجم التقليدي للهرم وجعله حوالي ستة وعشرين مترًا وستين سنتيمترًا ولم يكن من المدهش إذن أنه أدخل أول توسيع في التصميم القديم الذي كان يحتوي على حجرتين تحت الأرض. فقد خالف «تهرقا» الذي كبر ووسع حجرة الدفن باستعمال العمد، وقد أضاف «سنكامنسكن» حجرة ثالثة بين حجرة الاستقبال وحجرة الدفن، وهذه الحجرة كانت واسعة أكثر من اللازم بالنسبة لطولها وتقع على طول محور القبر.

وقد كانت هي وحجرة الدفن نفسها تظهران في تصميمها مشابهتين لمزار القربان الذي كان يعمل في المقابر المصرية المنحوتة في الصخر. وقد استعملت الجدران لينقش عليها المتون الجنازية التي تُسَمَّى الاعترافات بعدم ارتكاب ذنوب وهي جزء من كتاب الموتى، وتشمل الفصل الخامس والعشرين منه.٩ ويلاحظ أنه ليكون مبنى الهرم فوق حجرة الدفن تمامًا قد أقيم الهرم إلى الشرق قليلًا وبذلك تركت مسافة بين وجهة المزار والنهاية الشرقية للسلم. وهذا الطراز من الهرم الذي كان يتألف من ثلاث حجرات وسُلَّمٍ قد اتخذه الملوك خلفوا «سنكا منسكن» نموذجًا لإقامة مقابرهم وبذلك أصبح تقليدًا للملوك الذين حكموا مدة طويلة.

وقد ظل هذا الطراز من الهرم مستعملًا مع بعض تغييرات طفيفة حتى القرن الأول قبل الميلاد وهو الطراز الذي وجدناه فيما بعد في بلدة «مروي».

ومن ثَمَّ يمكن تتبع التطورات الطبعية للهرم الذي يتألف من ثلاث حجرات وسُلَّمٍ وذلك من أول المقبرة التَّلِّيَّةِ الشكل القديمة في «الكورو» وهي التي تطورت إلى مقبرة تلية الشكل مكسوَّة بالحجر ثم إلى المصطبة القديمة المعروفة في عهد الدولة القديمة. وبعد ذلك تطورات الأخيرة إلى مقبرة بها حفرة للدفن ثم تحولت هذه المصطبة إلى مقبرة ذات حفرة وسلم وهي التي ابتدعها «بيعنخي» ثم تطورت الأخيرة إلى هرم أقامه «شبكا» له حجرة واحدة وسلم، وقد حذا حذوه «شبتاكا» ثم إلى هرم له حجرتان وسلم ابتدعه «تهرقا» وقفا أثره كل من «تانوتآمون» و«اتلانرسا» وأخيرًا قبر «سبنكا منسكن» وهو القبر الهرمي الأول الذي أصبح طرازه تقليدًا متبعًا. هذا ونجد أن التغير في اتجاه القبر من شمال — جنوب إلى شرق — غرب الذي حدث في المصاطب التي لها آبار للدفن كان سببه على ما يُظَنُّ تأثيرًا مصريًّا. أما التغيرات الأخرى فيرجع أصلها إلى حب الزهو المتزايد الذي سببته القوة المتزايدة وقد اتخذت لاعتبارات تكاد تكون كلها عملية وإذا تدبرنا العرض الذي لخصناه من أعمال الحفر التي قامت في المناطق الأثرية في السودان وبخاصة في «الكورو» و«نوري» وجبل «برقل» هذا بالإضافة إلى الآثار التي كشفت عنها أعمال الحفر سواء أكانت منقوشة أم غير منقوشة اتضح أن «الكورو» كانت جبانة أسرية أسسها الرجل الذي دُفِنَ في المقبرة رقم ١ «بالكورو» وهي التي على قمة الجبل١٠ وأن الملوك «بيعنخي» و«شبكا» و«شبتاكا» و«تانوتآمون» كانوا آخر ملوك من هذه الأسرة دُفِنُوا في هذه الجبانة، ومن ثَمَّ يحق لنا أن نسمي القبور الستة عشر التي عُثِرَ عليها في هذه الجهة مقابر أجداد «بيعنخي». ولكن مما يؤسف له جد الأسف أنه لم يُعْثَرْ على جثة ملك واحد من هؤلاء الملوك في أثناء أعمال الحفر التي عملت في مقابرهم، هذا إذا استثنينا أجزاء من جمجمة الملك «شبتاكا»١١ وسنتحدث عنها فيما بعد، ومع ذلك فإنه من الممكن أن نحدد على وجه التأكيد اسم أحد الأجداد وأصل سلالة الأسرة وما كانت عليه ملوكها من قوة، والحالة التي تقلبت فيها مصائرهم.
ويجب أن نشير هنا أولا إلى أنه لم توجد أية مدافن معاصرة للمقابر التلية الشكل أو المصاطب بين مقابر الملكات في المساحة الشمالية أو الجنوبية أو في داخل محور طوله خمسة أميال. والظاهر أن هذا الفصل بين مقابر الإناث ومقابر الذكور يرجع إلى عهد الملك «بيعنخي». وقد عُثِرَ على عظام آدمية يُحْتَمَلُ أنها لأنثى في إحدى المصاطب،١٢ ولكن يحتمل مع ذلك أنها من مقبرة أخرى ويحتمل أنها المقبرة رقم عشرة.١٣ ويجب أن نستنبط أن مقابر الأجداد كانت تشمل نساء ورجالًا على السواء. وعلى ذلك نجد أن الست عشرة مقبرة تمثل أقل من ستة عشر جيلًا، ومن الممكن أن نقسم مجموعة هذه المقابر على أسس أثرية ستة أجيال، والجيل الأخير منها تمثله المصاطب رقم ٨ و٧ و٢٠، هذا ويلحظ أن المقبرة رقم ٨ هي أهم المجموعة وأقدمها (ويحتمل أنها للملك «كشتا» كما ذكرنا من قبل).١٤ وعلى هذا الزعم يكون سلف «بيعنخي» من ملوك كوش هو الملك «كشتا» والد «بيعنخي» وعلى ذلك فمن الجائز أن المقبرة رقم ٨ هي للملك «كشتا» والمقبرة رقم ٧ هي لزوجته الأولى «بباتما» والدة الملكة «بكاستر» ومن المحتمل أنها والدة «بيعنخي» نفسه وأخيه «شبكا».
وإذا فرضنا ستة أجيال للأجداد (والجيل يقدر بثلاثين عامًا) فإن مجموع عمرهم يكون حوالي ثمانين ومئة سنة، وإذا فرضنا خمسة أجيال فقط وهو أقل تقدير فإن المدة تكون خمسين ومئة سنة. وإذا أخذنا عام ٧٤٠ق.م. بداية لحكم «بيعنخي» فإن هذين يقدمان لنا تاريخًا بين ٩٢٠ و٨٩٠ ق.م. لشاب الرجل الذي دفن في مقبرة «الكورو» رقم واحد. وهذا التاريخ يقع في دائرة حكم «شيشنق الأول» و«أوسركون الأول» و«تاكيلوت الأول» وهؤلاء هم باكورة ملوك اللوبيين في مصر وهذا وهو التاريخ الذي وضعه «ريزنر»١٥ لجبانة «الكورو». ولكن من جهة أخرى نجد «دوس دنهام» يبتدع تأريخًا آخر، يختلف بعض الشيء عن التأريخ الذي اقترحه «ريزنر»١٦ حيث يقول إن العصر الرئيسي الذي اسْتُعْمِلَتْ فيه جبانة «الكورو» يشمل اثني عشر جيلًا تمثل السبعة الأخيرة منها مقابر أعضاء الأسرة المالكة من أول الملك «كشتا» حتى الملك «اتلانرسا». والظاهر أنه قبل عصر الجيل الذي عاش فيه «كشتا» قد عاش خمسة أجيال من أجداده لهم مقابر. وإذا فرضنا أن كل جيل يقدر بعشرين سنة فإنه من الممكن وضع أقدم هذه المقابر الخاصة بأجداد «كشتا» (أي المقبرة رقم واحد) حوالي عام ٨٦٠ق.م.

وقد نسب إلى هذه الأجيال الخمسة (على أساس التطورات التي حدثت في الدفن ومباني القبر) ثلاث عشرة مقبرة. ولم نعثر في أثناء الحفر على أي اسم من أسماء أصحاب هذه المقابر الخاصة بهؤلاء الأجداد.

ولكن عندما نبتدئ في تأريخ ملوك «نباتا» تصبح الأحوال أحسن إذ يمكن معرفة أسماء أصحاب المقابر بما وجد فيها من نقوش، وهاك قائمة مرتبة ترتيبًا تاريخيًّا وتشمل الاثني عشر جيلًا للأجداد والعصر الملكي النباتي في «الكورو» مع التأريخ المقدر لكل جيل، وكذلك الأسماء وصلة النسب عندما توجد:
الجيل التأريخ رقم المقبرة صلة النسب
(١) حوالي ٨٦٠–٨٤٠ق.م. المقبرة رقم ١، ٤، ٥ التلية الشكل لم توجد أسماء أصحابها
(٢) ٨٤٠–٨٢٠ق.م. المقبرة رقم ٦، ١٩
(٣) ٨٢٠–٨٠٠ق.م. المقبرة رقم ١٣، ١٤ لم تعرف أسماء أصحابها
(٤) ٨٠٠–٧٨٠ق.م. المقبرة رقم ٢، ٩، ١٠، ١١
(٥) ٧٨٠–٧٦٠ق.م. المقبرة رقم ٢١، ٢٣
(٦) ٧٦٠–٧٥١ق.م. المقبرة رقم ٨ ويحتمل أنها للملك «كشتا»
(٧) ٧٥١–٧١٦ق.م. المقبرة رقم ١٧ صاحبها الملك «بيعنخي» ابن الملك «كشتا».
المقبرة رقم ٧ يحتمل أنها للملكة «بباتما» زوج الملك «كشتا» وأخته.
المقبرة رقم ٢٠ لم يعرف اسم صاحبها.
المقبرة رقم ٢٢ لم يعرف اسم صاحبها.
المقبرة رقم ٥٣ صاحبتها الملكة «تابيري» زوج «بيعنخي» وبنت «ألارا».
المقبرة رقم ٥٤ يحتمل أنها للملكة «بكساتر» زوج «بيعنخي» وبنت «كشتا».
المقبرة رقم ٥٥ يحتمل أنها لملكة.
المقبرة رقم ٢٢١–٢٢٤ لخيل «بيعنخي»
(٨) ٧١٦–٧٠١ ق.م المقبرة رقم ١٥ صاحبها الملك «شبكا» بن «كشتا» وأخو «بيعنخي»
المقبرة رقم ٦٢ لملكة.
المقبرة رقم ٧١ يحتمل أنها لملكة
المقبرة رقم ٢٠١–٢٠٨ خيل «شبكا»
(٩) ٧٠١–٦٩٠ ق.م المقبرة رقم ١٨ صاحبها الملك «شبتاكا» بن «بيعنخي»
المقبرة رقم ٧٢ يحتمل أنها لملكة
المقبرة رقم ٢٠٩–٢١٦ خيل «شبتاكا».
(١٠) ٦٩٠–٦٦٤ ق.م المقبرة رقم ١ الملك «تهرقا» دفن في «نوري» وهو ابن «بيعنخي».
المقبرة رقم ٣ «بالكورو» للملكة «تابارا» أي ابنة الملك «بيعنخي» وزوجة «تهرقا».
المقبرة رقم ٤ للملكة «خنسا» ابنة الملك «كشتا» وزوج الملك «بيعنخى».
(١١) ٦٦٤–٦٥٣ ق.م المقبرة رقم ١٦ «بالكورو» للملك «تانوتآمون» ابن «شبتاكا».
المقبرة رقم ٥ للملكة «قالهاتا» زوج «شبتاكا» وأم «تانوتآمون».
المقبرة رقم ٦ يحتمل أنها للملكة «أرتي» ويحتمل أنها موحدة باسم «بيعنخي أرني» ابنة بيعنخي وزوج «شبتاكا» وإذا كان هذا التوحيد صحيحًا فإنها تكون قد تزوجت من «تانوتآمون» بمثابة زوجة ثانية.
المقبرة رقم ٢١٧–٢٢٠ خيل الملك «تانوتآمون»
(١٢) ٦٥٣–٦٤٣ق.م. المقبرة رقم ٢٠ الملك «اتلانرسا» دفن في «نوري» وهو ابن «تهرقا».
(٢٤) المقبرة رقم واحد «بالكورو» وهي لملك لم يعرف وهو من عصر «نباتا» المتأخر.
المقبرة رقم ٢ «بالكورو» وهي لملكة لم يحقق اسمها بعد وتعاصر المقبرة رقم واحد بالكورو.
أما الحقائق الأثرية الأخرى عن هذه الجبانة فهي كما يأتي:
  • (١)
    يلحظ أن المقابر التلية الشكل رقم ١، ٥، ٢، ١٩ كانت تحتوي على صوان وحجر الخلدكون مستعملة رءوس سهام من طرز لوبية معروفة.١٧
  • (٢)

    يضاف إلى ذلك أن المدافن التلية كانت تحتوي على كمية وفيرة من الذهب، فعلى الرغم من النهب المريع وُجِدَ في مقبرة «الكورو» رقم واحد حبات من الذهب يعادل وزنها ثمانية وثلاثين جنيهًا إنجليزيًا قد سقطت من اللصوص، وكان يوجد كذلك ذهب كثير في مقبرتين من المقابر الأخرى يشمل تمثالًا من الذهب الصلب طوله ثلاثة سنتميترات وقطعة من الذهب منقوشة من أحد وجهيها بمتن سحري باللغة المصرية القديمة.

  • (٣)

    يلحظ أن الأشياء التي وُجِدَتْ في المقابر التلية وفي المصاطب تشمل قطعًا من أواني المرمر اللطيف وأواني الفخار المطلي المزخرفة من صنع مصري.

  • (٤)

    وُجِدَ في إحدى مقابر الملكات من أزواج «بيعنخي» لوحة باسم الملكة «تابيري» وقد سُمِّيَتْ في هذه اللوحة «الزوجة الملكية العظيمة الممتازة لجلالته «بيعنخي» مُعْطَى الحياة ابنة «ألارا» وابنة «كاسقا» والزعيمة العظيمة للتمحو (اللوبيون الجنوبيون)».

  • (٥)
    وقد علمنا فيما سبق١٨ أنه في خلال القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد كانت هناك حركة هجرة من القبائل اللوبية إلى وادي النيل وقد استوطنوا هناك بوصفهم جنودًا مرتزِقة حتى قويت شوكتهم في عهد ملوك الأسرتين العشرين والحادية والعشرين وكوَّنوا لأنفسهم ممتلكات في الدلتا ومصر الوسطى وأسسوا عددًا من الأسر المحلية التي كانت تابعة اسمًا لملك مصر.
وقد كان المؤسس الأول هو «يويو واوا» الذي اتخذ «إهناسية المدينة» مقرًّا له كما فصَّلنا القول في ذلك من قبل،١٩ وقد قوي سلطانهم في البلاد إلى أن أسس واحد منهم وهو «شيشنق الأول» الأسرة الثانية والعشرين، وقد ظل اللوبيون يحكمون البلاد المصرية حوالي قرنين من الزمان، ولكن في نهاية هذه المدة أخذ حكمهم في التدهور وانقسمت البلاد مقاطعات أو ولايات صغيرة مستقلة كما كان يحدث ذلك إثر أي انحطاط داخلي، وقد انتهز هذه الفرصة الملك «كشتا» الكوشي وغزا مصر العليا وأخذ بزمام الأمور في «طيبة» وضمن لابنته «أمنردس» الأولى وراثة وظيفة المتعبدة الإلهية التي كانت تشغلها وقتئذٍ «شبنوبت» الأولى ابنة الملك «أوسركون الثالث»، وهذه الوظيفة كانت موجودة من قبل ولكنا نجد الآن أن حاملتها حُذِفَتْ بطبيعة الحال ويقال إن هذا التغير قد قام به «أوسركون الثالث» صاحب السلطان في البلاد عندما تولى عرش الملك فلم يسمح لأحد من أولاده أو غيرهم أن يتولى مركز رياسة كهنة آمون وهو مركز كما هو معلوم غاية في الأهمية وكان في يد صاحبه سلطة ضخمة في طيبة وما جاورها مما كان يؤدِّي في غالب الأحيان إلى إضعاف سلطة الفرعون بدرجة عظيمة، وفي نهاية الأمر انتزع الملك منه، ومن أجل ذلك ألغى «أورسكون الثالث» وظيفة الكاهن الأكبر لآمون على ما يظهر وأحل محلها وظيفة «المتعبدة الإلهية» التي تولت شئونها سلسلة من هؤلاء النسوة بوصفهم كاهنات عظيمات، وأولى من تولين شئون هذه الوظيفة ابنة «أوسركون الثالث» المسماة «شبنوبت» وهي التي أجبرها الملك «كشتا» الكوشي عندما دخل «طيبة» واستولى عليها على أن تتبنى ابنته «أمنردس». وكان غرضه من ذلك أن يجعل السلطة الدينية تنتقل من الأسرة المالكة إلى أسرته كما سنشرح ذلك فيما بعد في فصل خاص، غير أن شواهد الأحوال تدل على أن وظيفة الكاهن الأول لم تُلْغَ في عهد الحكم الكوشي، أي في عهد الأسرة الخامسة والعشرين كما سنرى بعد، بل بقيت، ولكن كانت أهميتها ضئيلة وسلطان حاملها يكاد يكون منعدمًا بجانب «المتعبدة الإلهية».

وبعد «كشتا» تولى ابنه «بيعنخي» الملك واستولى على الوجه البحري ومصر الوسطى، ومن ثَمَّ انتقل ملك مصر إلى أسرة كوش الحاكمة وأصبحت تحكم كل مصر والسودان. ومن الحقائق التي سردناها هنا يمكن بناء تاريخ الأسرة التي دُفِنَ أفرادها في جبانة «الكورو» ففي حين كان اللوبيون الشماليون يدخلون مصر السفلي كان اللوبيون الجنوبيون أي التمحو يزحفون على وادي النيل في كوش آتين بلا شك من طريق الواحات القديمة التي استعملها في خلال السنين القلائل الأخيرة العرب الذين كانوا يهاجمون مديرية دنقلة.

ومن المحتمل أنه في عهد «شيشنق الأول»، أو بعده بقليل جاء الزعيم اللوبي الذي دُفِنَ في المقبرة التلية الشكل رقم واحد في جبانة «الكورو» وهي التي تحدثنا عنها فيما سبق، وهناك وضع رِحَالَهُ وأسس لنفسه ضيعة في بلدة «الكورو» القريبة من «نباتا». ويدل ما بقي من محتويات قبره على أنه كان صاحب ثروة ضخمة وذلك كما قلنا لأن قبره كان يحوي ذهبًا وسلعًا كثيرة من مصر. والواقع أن الثروة الرئيسية لبلاد كوش الفقيرة في الأراضي الزراعية والمراعي نسبيًّا، تنحصر في منتجات مناجم الذهب التي كانت تزخر بها بلاد النوبة السفلى وما تحصل عليه من طرق التجارة بين مصر والجنوب عامة. والمرجح أن هذا الزعيم الذي كان لا بد صاحب كلمة هو وأسرته في «الكورو» قد استولى في الحال على كل السلطة التي كانت في يدي نائب كوش المصري وأصبح كسائر الزعماء اللوبيين في وادي النيل وقتئذٍ تابعًا اسميًّا لملك مصر اللوبي الأصل، وإذا لم تكن الحال كذلك في عهد هذا الزعيم فإن نيابة كوش لا بد قد انتقلت إلى الجيل الثالث من أسرته. ويدل التطور الذي وجدناه في مقابر هذه الأسرة على أن أعظم نموٍّ في سلطانها قد حدث في الأجيال الثلاثة الأولى من تاريخها، وبعد ذلك لم نلحظ هذا التقدم إلا في الجيل السادس، وذلك لأننا لم نجد تقدمًا محسًّا في تطور المصاطب من أول الجيل الثالث حتى الخامس. والظاهر أن هذه الأسرة كانت قد حصلت على السيطرة في بلاد كوش ثم تمهلت بعد ذلك قبل الزحف على مصر فقد وجدنا في مقصورة المقبرة رقم ٩ حجرًا فرديًّا مثل عليه جزء من منظر من النهاية الشرقية للجدار الجنوبي. وهذا الجزء من المنظر حفظ لنا الجزء الأعلى من الوجه والرأس لرجل يلبس خوذة حرب، وهذا الوجه في سيماه ليس مصريًّا والخوذة التي كان يلبسها من المعدن بدهيًّا ولها ثقب في قمة الجبهة وشريط يتدلى من الخلف وجزء بارز في القمة يحتمل أنه كان لحمل الريشة.

ومهما يكن اللقب الذي كان يحمله هؤلاء الزعماء أصحاب هذا المصاطب في «الكورو» فإنه من المحتمل أن هذه الخوذة كانت تؤلِّف جزءًا من مميزات مركزهم بوصفهم حكام «كوش» أو بعبارة أخرى كانت رمزًا من الرموز التي يمتازون بها عن غيرهم.

ولا نزاع في أن «كشتا» (صاحب المقبرة رقم ٨ «بالكورو») هو الذي قد بدأ الزحف على مصر. ولا شك في أنه كان في أعين الجيل التالي له يُعَدُّ رجل الأسرة العظيم فقد كان يحمل لقب «ملك». وعثر في «إلفنتين» على نقش يحمل فيه لقب الملك وهو «وسرماعت رع» وقد مكن سيادته في مصر حتى «طيبة» حيث جعل ابنة «أوسركون الثالث» التي كانت «المتعبدة الإلهية» في «طيبة» أو بعبارة أخرى الحاكمة المطلقة في «طيبة» تتبنى ابنته «أمنردس» لتكون خلفًا لها في ملك «طيبة» غير أنه ليس من الواضح لدينا الآن إذا كان «كشتا» قد كسب لنفسه ملك مصر العليا بحدِّ السيف أو بالمعاهدة والتزاوج مع الأسرة الحاكمة، ولا غرابة في ذلك لأن تاريخ الأسرتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين على الرغم مِمَّا بذلناه من بحث وتنقيب لا يزال يحيطه الغموض بعض الشيء، وإنه من الواضح تمامًا أن الزمن الذي سُلِّمَ به لحكم هاتين الأسرتين النوبيتين هو عادة أطول مما يجب أن يكون.

ولا نزاع في أن «كشتا» كان معاصرًا «لأوسركون الثالث» و«تاكيلوت الثالث» اللذَيْنِ حكما معًا٢٠ ولكن في «نباتا» لم نجد إلا اسمًا واحدًا له اتصال بالأسرة الثالثة والعشرين وهو القائد «باشدت باست» بن «شيشنق الرابع» (ابن «بامي») وكان «باشدت باست» هذا معاصرًا للملك «باديباست الأول» سلف «أوسركون الثالث». ومن ثَمَّ كان من الجيل الذي كان قبل «كشتا». وقد عثر على قطعة من إناء من المرمر نقش عليها اسمه في «نوري» وقد أحدث وجودها في هذه البلدة بعض الظن بأنه كان متصلًا بصلة الزواج بالأسرة اللوبية التي في «الكورو»، وعلى ذلك فمن الجائز كما يقول «ريزنر» أن ادعاء الكوشيين لعرش «طيبة» كان مبنيًّا على هذا الزعم أو ما يماثله. والواقع أن هذا مجرد فرض.

ومهما تكن الأحوال التي أدت إلى تولي «كشتا» ملك الوجه القبلي فإن ابنه «بيعنخي» قد استولى على الوجه البحري ومصر الوسطي بحدِّ السيف وأن وراثة ملك أسرة الزعيم اللوبي «يويوواوا» اللوبي قد انتقلت إلى الأسرة اللوبية المنحدرة من الزعيم اللوبي الذي أقام قرية على تل «الكورو» وقد أصبح جبانة يُدْفَنُ فيها عظماء أفراد الأسرة المالكة.

وبلاد كوش التي كانت منذ زمن بعيد متمصرة تمامًا أصبحت الإقليم المسيطر على وصارت «نباتا» عاصمة ملوك كوش ومصر.

وقد ذكر «مانيتون» نقلًا عن «أفريكانوس» و«يوزيب» أن ملوك الأسرة الخامسة والعشرين المصرية أو الكوشية هم «شبكا» و«شبتاكا» و«تهرقا» وقد أضاف المؤرخون المحدثون إلى هؤلاء الملوك «تانوتآمون» بوصفه ابن «شبكا»، ولكن لم يأتِ ذكر «بيعنخي» أو «كشتا». والواقع أن المعلومات عن هذين الملكين كانت ضئيلة لدرجة أن بعض الكتاب اعتقدوا بوجود ملكين باسم «كشتا» وكذلك اعتقدوا بوجود أربعة ملوك باسم «بيعنخي» ويقول البعض إنه يظهر من المؤكد وجود ملكين باسم «بيعنخي» وذلك لوجود اسمي تتويج لاسم «بيعنخي» وهما «بيعنخي» و«سرماعت رع» و«بيعنخي سنفر رع». وقد ظل هذا الاعتقاد سائدًا إلى أن قام «ريزنر» بأعمال الحفر في «الكورو» وكان من نتائجها الجزم بأن كل المقابر الملكية الكوشية قد كُشِفَ عنها ووُجِدَ أن سلسلة طرز المقابر والتماثيل المجيبة والأشياء الأخرى مستمرة ومتتابعة في نموها وتطورها دون أي فاصل، ومن ثَمَّ ثبت أنه ليس هناك أي مكان لوجود أية مقبرة ملكية أخرى بين «كشتا» وسلسلة مقابر الملوك المتصلة في توليها عرش الملك في كوش، وهذا الفاصل قد بدأ في «نوري» بإقامة مقبرة الملك «سنكمانسكين» وإذن لا يمكن في مثل هذه الأحوال وجود اسم ملك آخر يُدْعَى «بيعنخي» ومن ثَمَّ تكون النتيجة المحتومة هي أن «بيعنخي» كان يحمل لَقَبَيْ تتويج على الرغم من أن ملوك مصر في العادة لا يحملون إلا لقب تتويج واحد.

وهذه النتيجة يعضدها حقيقتان واحدة منهما معروفة منذ زمن طويل والأخرى كُشِفَ عنها حديثًا في «الكورو» ففي بلدة «أتريب» (بنها الحالية) عثر على قطعة حجر عليها اسم التتويج للملك «شبكا» وهو «نفر كارع». وقد وُجِدَ أن هذا اللقب متبادل مع اسم آخر وهو «واح-اب-رع» كما وجد كذلك منقوشًا على قلادة في مقبرة جواد في جبانة «الكورو». وفي هذه الجبانة عثر على مقابر جياد كثيرة وفيها اسم التتويج للملك «شبتاكا» وهو «دد كارع» متبادلًا مع اسم «من خبر رع». ففي الحالة الأخيرة نجد أنه يكاد يكون من المستحيل عدم استنباط أن لقني «زد كارع» و«من خبر رع» هما اسما تتويج للملك «شبتاكا» ومن ثَمَّ يظهر أنه كان لكل من ثلاثة الملوك اسمان للتتويج، ومن المحتمل أن أحد هذين الاسمين كان خاصًّا بعرش مصر والثاني كان خاصًّا بعرش بلاد كوش، ومن الجائز أنه قد حدث ذلك جهلًا من «بيعنخي» بالصيغة الرسمية للألقاب المصرية، فقد كان كل من «كشتا» و«بيعنخي» مرتبطًا بآراء أسرته الإقليمية التي أتى منها. وكان «تهرقا» هو أول ملك عاش مدة تُذْكَرُ في البلاد المصرية، إذ إنه في الواقع كان أول من أتيحت له فرصة الظهور وإظهار الأبهة والعظمة في مصر بما كان لدى أسرته من ممتلكات غنية شاسعة. ولا غرابة إذن إذا وجدنا أن «كشتا» لم يترك لنفسه إلا سجلًّا واحدًا باسم تتويجه وهو «ماعت رع» وأن «بيعنخي» قد استعمل اسمي تتويج مختلفين وفي آنٍ واحد نجده يكتب اسمه الحوري أحيانًا «سحتب تايف» وأحيانًا يكتبه «كاتاويف» ومرة أخرى «كانخت خعمو أست»، وكذلك دوَّنه مرة «حتبنوتف» ولا عجب في ذلك فقد كان فخورًا متكبرًا بفتوحه كما يدل على ذلك نقوش لوحته العظيمة كما سنرى بعد، ولذلك فإنه كان قادرًا على تحدي خرق التقاليد حتى لو كان يلفت نظره الكاتب للخطأ الذي يرتكبه في هذه الناحية، ولا نظن أنه كان يوجد كاتب مصري عنده من الشجاعة ما يجعله ينوه لملك مثل «بيعنخي» عن غلطة كهذه.٢١

وذكر «مانيتون» أن «بوكوريس» (بكنرف) هو الملك الوحيد الذي تتألف منه الأسرة الرابعة والعشرين ثم أضاف أن «بوكوريس» هذا قد أُخِذَ أسيرًا وأُحْرِقَ حيًّا على يد الملك «شبكا»، ولكن المؤرخين الأحداث يميلون إلى ضم ملك آخر اسمه «تفنخت» إلى الأسرة الرابعة والعشرين وهو الذي هزمه «بيعنخي» وكذلك يضمون إليهما ملوكًا آخرين ممن وضعهم «مانيتون» في الأسرة السادسة والعشرين.

ومن المتفق عليه الآن أن الأسرة السادسة والعشرين المانيتونية إن هي إلا الاستمرار لملوك الأسرة الرابعة والعشرين، وأن الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية كانت معاصرة للأسرة الرابعة والعشرين. وإذا اتخذنا الاحتلال الكوشي أساسًا لحكم البلاد فإن الأسرة الرابعة والعشرين لم يكن لها في الواقع وجود. والواقع أن كلًّا من «كشتا» و«بيعنخي» قد تولى حكم مصر مباشرة من الأسرة الثالثة والعشرين والثانية والعشرين المنحلتين أو بعبارة أخرى تولت زمام الحكم في البلاد أسرة لوبية أخرى وقد كان أخلاف كل من «كشتا» و«بيعنخي» هم الحكام الحقيقيون الْمُعْتَرَفُ بهم في البلاد المصرية إلى أن هزم «آشوربانيبال» ملك «آشور» ملك مصر «تانوتآمون»، وبعد فترة حكم فيها الآشوريون البلاد قام «بسمتيك» أول مؤسس للأسرة السادسة والعشرين وطرد الأشوريين من بلاد مصر وطفر بها من جديد طفرة عظيمة كانت الأخيرة.

وهاك ملوك الأسرة الخامسة والعشرين على حسب نتائج الكشوف الحديثة وصلة نسب بعضهم ببعض حتى يمكن القارئ تتبع الحوادث عند التكلم عن كل منهم على حدة:
  • (١)
    «آلارا» يحتمل أن «آلارا» هو الزعيم أو الملك (؟) جد الأسرة الكوشية ولم يُعْرَفْ قبره حتى الآن ومن المحتمل أنه الأخ الأكبر للملك «كشتا» وقد جاء ذكر «آلارا» هذا في عدة مصادر٢٢ وزوجة هذا الزعيم وأخته هي «كاسقا» وقبرها غير معروف وكانت تُدْعَى ملكة وهي أخت الملك «كشتا» و«بباتما» وأم «تابيري» وتبنت «آبار».٢٣
  • (٢)
    «كشتا» هذا الملك لم يعرف قبره وقد ذهب «ريزنر» إلى أنه هو القبر رقم ٨ في جبانة «الكورو» ويحتمل أنه أخو «آلارا» السالف الذكر، و«كشتا» هو والد الملك «بيعنخي» وكذلك والد الملك «شبكا». وقد نقش اسم الملك «كشتا» هذا على قطعة من الخزف المطلي عُثِرَ عليهما في «الكورو».٢٤ وقد تزوج «كشتا» من «بباتما» التي تبنت «بكساتر» ولم يعرف قبرها للآن، ويظن «ريزنر» أنه القبر رقم ٧ في جبانة «الكورو» وقد وجد اسم كشتا على التمثال رقم ٤٢١٩٨، وكذلك نقش على مصراع باب بالعرابة.٢٥
  • (٣)
    الملك «بيعنخي» دفن هذا الفرعون في «الكورو» وقبره يحمل رقم ١٧ وهو ابن الملك «كشتا» والأخ الأكبر للملك «شبكا» وقد وُجِدَ اسمه على عدة آثار.٢٦ ويقول «جوتييه» إنه يوجد عدة ملوك يحملون هذا الاسم في حين أن «ريزنر» يقول إنه لا يوجد إلا «بيعنخي» واحد وقد أوضحنا الأسباب التي أدت إلى هذا الزعم.
أزواج «بيعنخي»: تزوج «بيعنخي» من عدة نساء وهن:
  • (١) «تابيري»: هي ابنة «آلارا» و«كاسقا»٢٧ وقد دُفِنَتْ مع زوجها في «الكورو» في القبر رقم ٥٣.
  • (٢) «بكساتر»: زوجه الثانية وقبرها مجهول غير أن «ريزنر» يقول إنه القبر رقم ٥٤ «بالكورو» وهي بنت الملك «كشتا» وقد تبنت «بباتما» وهي زوج «بيعنخي» وأخته.
  • (٣) «أبار»: زوج «بيعنخي» وأخته وابنة «كشتا» وهي التي أنجبت له «تهرقا» الذي تولى ملك مصر فيما بعدُ ويقترح «ريزنر» أنها دُفِنَتْ في «نوري» بالقبر رقم ٣٥٢٨ وتحمل الألقاب: الأم الملكية والأخت الملكية.
  • (٤) «خنسا»: زوج «بيعنخي» وأخته وابنة الملك «كشتا» وقبرها في «الكورو» رقم ٤ وقد دُفِنَتْ في عهد الملك «تهرقا».
  • (٥) «نفرو ككشتا»: وُجِدَ اسم هذه الملكة بوصفها زوج الفرعون «بيعنخي» على تمثال مجيب [52a] وقد دُفِنَتْ في القبر رقم ٥٢ «بالكورو» ويلحظ أنه لم يذكر لها أية صلة نسب بالفرعون زوجها.
أولاد «بيعنخي»: أنجب «بيعنخي» عدة أولاد ذكور وإناث من هؤلاء الزوجات، أما أولاده الذكور فهم: «شبتاكا» و«تهرقا» وقد أصبح كل منهما فيما بعد ملكًا على البلاد ثم «خاليبوت» وقد وُجِدَ اسمه على لوحة عُثِرَ عليها في «برقل» رقم ٧٠٢٩ وقبره لم يُعْرَفْ بعد. أما أولاده الإناث فهُنَّ:
  • (١) «أرتي»: وقبرها غير معروف ويذهب «ريزنر» إلى أنها دُفِنَتْ في «الكورو» بالمقبرة رقم ٦، وقد تزوجت من أخيها «شبتاكا» رابع ملوك هذه الأسرة٣٠ ويحتمل أنها هي نفس المرأة التي تحمل اسم «بيعنخي-أرتي» التي جاء ذكرها في لوحة الحكم كما سنذكر ذلك بعد.
  • (٢) «قالهاتا»: وقبرها في «الكورو» رقم ٥ وقد تزوجت من أخيها «شبتاكا» ومن المحتمل أنها أم الملك «تانوتآمون» الذي أصبح ملكًا فيما بعد.
  • (٣) «تكاهاتاماني»: جاء ذكر هذه الأميرة على جدران حجرة دفنها وعلى تمثال مجيب [63b].
  • (٤) «ناپاراي (Naparaye)»: وهي ملكة دُفِنَتْ في «الكورو» بالمقبرة رقم ٣ وهي ابنة «بيعنخي» وزوج «تهرقا» وأخته.٣١
  • (٥) «تابكنآمون»: وهي ابنة «بيعنخي» ويحتمل أنها زوجة «تهرقا» وقبرها غير معروف.٣٢
  • (٤)
    الملك «شبكا» دُفِنَ هذا الملك في «الكورو» بالمقبرة رقم ١٥ وهو ابن الملك «كشتا» والأخ الأصغر للملك «بيعنخي». وقد وُجِدَ اسمه على قطعة من الجرانيت الرمادي من مائدة قربان.٣٣
    أولاده:
    • (١) الأمير «حورمأخت»: ولم يُعْرَفْ قبره وهو ابنه الأكبر وقد وجد اسمه على تمثال بمتحف القاهرة.٣٤
    • (٢) الأميرة «استنخبت»: ابنة «شبكا» وُجِدَ اسمها على تمثال مجيب.٣٥
  • (٥)
    الملك «شبتاكا» دُفِنَ هذا الملك في «الكورو» في هرمه رقم ١٨ وهو ابن «بيعنخي». وُجِدَ اسمه على تمثال مجيب.٣٦ ووجد له لقب آخر وهو «منخبرع» مع لقب «زدكارع» في النقوش التي وُجِدَتْ في مقابر خيله «بالكورو»٣٧ وقد تزوج من أختيه «أرتي» و«قالهاتا».
    أولاده الذكور: وابنه «تانوتآمون» الذي أصبح ملكًا فيما بعد وهو ابن الملكة «قالهاتا» وابنته «بيعنخي-أرتي» وقد تزوجت على ما يُظَنُّ من أخيها «تانوتآمون» ولم يُعْرَفْ قبرها، وقد جاء ذكرها على لوحة الحلم.٣٨ ومن الجائز أن الاسم رقم ١٦ أو ٥٨ هما لفرد واحد، أي إن «أرتي» و«بيعنخي-أرتي» واحد، وإذا كان ذلك هو الواقع فإن «أرتي» تكون زوج «شبتاكا» وأخته وقد تزوجت بعد مماته من ابن أخيها «تانوتآمون».
  • (٦)
    الملك «تهرقا» دُفِنَ هذا الملك في «نوري» بالقبر رقم (١) وهو ابن «بيعنخي» وأمه هي «أبار». وُجِدَ اسمه على تمثال مجيب وكذلك على أواني الأحشاء المحفوظة الآن بمتحف «بوستون» كما وُجِدَ اسمه على تمثال من الجرانيت من معبد «جبل برقل» رقم ٥٠٠ وهو موجود الآن بمتحف «مروي»٣٩ وقد نقش عليه ألقابه الملكية واسمه.٤٠
  • (٧)
    الملك «تانوتآمون» دُفِنَ هذا الملك في جبانة «الكورو» رقم٤١ ١٦ وهو ابن الملك «شبتاكا» وأمه «قالهاتا» ووُجِدَ اسمه على تمثال مجيب [76a]، وعلى إناء أحشاء٤٢ في «الكورو» كما وُجِدَ له تمثالان من الجرانيت في معبد جبل «برقل» رقم ٥٠٠ وهما الآن بمتحف «بوستون» ومتحف «مروي» رقم ١٧٤٣ وله لوحة قربان في متحف «بوستون» [76a] وبعض قطع من معبد «صم».٤٤ وقد كتب في معبد «صم» اسما «نبتي» و«حور الذهبي» ويحتمل أنهما للملك «تانوتآمون».

هوامش

(١) راجع: Gauth., Dic. Geogr., Tom. 6. p. 115.
(٢) راجع: Griffith, Excavations at Sanam in Liverpool Annal of Archeology and Anthropology, IX (1922) p. 77-124, X. (1923) p. 71-171.
(٣) راجع: John Garstang., Meroe, The City of the Ethiopean (Oxford, 1911); and Liverpool Annals of Archeology III (1910) P. 57-70;; IV p. 45-71; V (1912) p. 73.83; VI (1913) p. 1-21 VII (1914) p. 1-24.
(٤) يحتمل أنه قبر الملك «كشتا».
(٥) راجع: El Kurru, I, p. 17.
(٦) راجع مصر القديمة الجزء الأول ص ٢٩٥ إلخ. وقد دلَّت الكشوف الأثرية الحديثة على أن حكم هذا الملك قد جاوز الحادية عشرة كما يشاهد ذلك من الكتابات بالمداد الأحمر التي وجدت على الأحجار التي تغطي المركب الشمسية المكشوفة حديثًا. ومع ذلك فإن هذا التاريخ مشكوك فيه.
(٧) راجع: El Kurru, 16 fig. 212 Pl, XVII A.
(٨) راجع: El Kurru. 11, Fig. 17 a. Pl. XIV B. p. 49; Ibid 13, Fig 18 a Pl. XVA, p. 51.
(٩) راجع مصر القديمة الجزء الخامس ص ٢٢٣–٢٥٠.
(١٠) راجع: El Kurru I, p 12.
(١١) راجع: El Kurru I, p 67.
(١٢) راجع: El Kurru, p 49.
(١٣) راجع: El Kurru, p 48.
(١٤) راجع: El Kurru, p. 46.
(١٥) راجع: Sudan Notes and Records Vol. II, p. 245- 6.
(١٦) راجع: Dows Dunham, The Royal Cemeteries of Kush, El Kurru p. 2 ff.
(١٧) راجع: Oric Bates, The Eastera Libgans, p. 145-146.
(١٨) راجع مصر القديمة الجزء التاسع ص ٧٥ إلخ.
(١٩) راجع مصر القديمة الجزء التاسع ص ١٠٦ إلخ.
(٢٠) راجع مصر القديمة الجزء التاسع ص ٤٠٤.
(٢١) وهذا التغير في أسماء بيعنخي هو الذي جعل بعض الأثريين لا يزال مصممًا على وجود أكثر من بيعنخي واحد وسنترك ذلك للكشوف التي تأتي بعد.
(٢٢) راجع: Tabiry Stela in Khartoum No. 1901 [5a]; Kawa Stela IV, L.17 [a b]. Kawa Stela VI, L. 22 [55, c] Kawa Inscr. IX, L. 54 [5 d].
(٢٣) راجع: El Kurru, I, 19-3-537 [34a]; L.R. IV, 5 ff.
(٢٤) راجع: L. R, IV, 8, [53a].
(٢٥) راجع: Ibid 10 [53 b].
(٢٦) راجع: L. R, IV passim.
(٢٧) راجع: Stela from El Kurru 53 in Khartoum No 1901 [72].
(٢٨) راجع: Kawa Stela V [11a] Temple 300 = L.D. V., p. 37.
(٢٩) راجع: A.Z., 70, p. 35 [350].
(٣٠) راجع: Cairo Stat., 49157, A.S.25, p.29.
(٣١) راجع: Alapaster Gffering Stone 19-3-588 Khartoum No. 1911 [48a].
(٣٢) راجع: Cairo Statue 49157 from Karnak (A.S.24, p. 25 ff [71]).
(٣٣) راجع: Alter ex Chapal 19.2-673 [68a] Shawabti [78 b] Gold Band ex Mummy 19-3-223 Insrcibed Ivory 19-3-231 [68d];L R. IV, 13i [68e].
(٣٤) راجع: Cairo., 42207 [27]; A.S; XXV p. 26, and Ibid, 30.
(٣٥) راجع: El Amrah and Abydos, 97 Pls. 37 [26].
(٣٦) راجع: L.R. IV, p.29.
(٣٧) راجع: M.F.A. Boston, Photoen p. 33.
(٣٨) راجع: Urk. III, p. 59; and A.S. 25, 25, ff.
(٣٩) راجع: Merowe Museum, No. Il. Khartoum No 1841 [74C].
(٤٠) راجع: L.R. IV. p. 31 ff.
(٤١) راجع: El Kurru, No. 16, p. 60.
(٤٢) راجع: (19,3324).
(٤٣) راجع: Khartoum, Nr. 1846 [76c].
(٤٤) راجع: Ann, Arch. and Anthrop. p. 9 Pl. 26, 13.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤