الفصل الخامس

العلاقة بين مصر وبلاد النوبة في العهد المتوسط

مقدمة: كان المصري منذ فجر تاريخه متمسكًا بأهداب العدالة والحق والصدق والنظام التي كان يعبر عنها جميعًا بلفظة «ماعت»؛ ولذلك جاء في أساطير القوم أن الإله «رع» الذي يعد أول من حكم مصر هو الذي جاء بهذا القانون وطبقه في أنحاء البلاد. ولما رُفِعَ «رع» إلى السماء كما تقول الأسطورة وتَنَحَّى عن الحكم في الأرض وبدأ يحكم بعده أخلافه على الأرض اتخذوا هذا القانون نبراسًا لهم في حكم البلاد، ولهذا كان يُدْعَى كل من يحكم مصر من بعده «ابن رع» ما دام متبعًا قانون «ماعت»، فإذا حاد عنه ملك من الملوك فإنه لن يكون منه، وقد ظل ملوك مصر منذ عهد «مينا» يترسمون في خطواتهم هدى «ماعت» أكثر من ألف سنة إلى أن أخذ الملوك يحيدون عن هديها فَضَلُّوا السبيل وأضلوا البلاد معهم فلفظتهم وأقصتهم عن الحكم. ولقد بدأ الفساد يدب في البلاد عندما أخذ ملوك مصر يهبون حكام الأقطاع الهبات، ويُرْخُونَ لهم الْعِنَانَ للعبث بالأهلين في حين أنهم كانوا أنفسهم ينغمسون في حمأة اللهو والفجور؛ مما أدى إلى ضعف الحكومة المركزية وتمزق شمل البلاد حتى رجعت إلى سيرتها الأولى من الانقسام إلى إقطاعات كما كانت عليه قبل حكم «مينا» موحد مصر. وفي النهاية كان حكم الملك «بيبي الثاني» الذي ظل يحكم البلاد أكثر من تسعين عامًا هو خاتمة المطاف فقد ضعفت في أيامه الحكومة المركزية في «منف» وكذلك سارت البلاد نحو الهاوية والانحلال بطبيعة الحال. وهذه الحالة قد أدت بلا نزاع شل قوة مصر في الخارج، فكان من جراء ذلك أن روابط العلاقات التجارية الخارجية قد أصبحت مرتبكة، ثم قطعت نهائيًّا. وتدل شواهد الأحوال على أنه بعد حكم «بيبي الثاني» غزا البلاد أقوام من الأسيويين بل ومن النوبيين أيضًا. فقد جاء ما يشير إلى ذلك من طرف خفي في الفقرة المشهورة من تحذيرات المتنبي «آبور»١ التي نقتبس منها عن قطع العلاقات التجارية مع الأرض الشمالية (آسيا) الجملة التي جاء فيها: «إن الإنسان لم يعد يمكنه الحصول على خشب الأرز لأجل الموتى»، وهذه العبارة لها ما يقابلها فيما يخص أرض الجنوب (أي النوبة)، غير أنها لم تُلَاحَظْ كثيرًا فيقول المتن: «لقد جردت (الناس) من ملابسهم ومادة «خسايت» وزيت «مرحت» (وهاتان مادتان لا تُجْلَبَانِ إلا من بلاد الجنوب)، ومن ثَمَّ نرى أن هذه الفقرة تشير إلى أن العلاقات مع الجنوب كانت قد قُطِعَتْ أيضًا كما انقطعت مع بلاد آسيا والشمال. وهذه الحالة قد أَثَّرَتْ في «منف» بوصفها عاصمة البلاد فقد انقطع عنها محاصيل جنوب الوادي. هذا ولدينا فقرات أخرى في نفس المتن تدل على شيوع الاضطراب في البلاد: «أن «إلفنتين» و«طينه» (؟) يتبعان الوجه القبلي (؟) وهما لا يدفعان ضرائب بسبب الفتن».
على أن الضيق والعوز لم يَسُودا شمال مصر وحده حيث كانت «منف» عاصمة الملك بل كذلك نجد الانحلال التام قد انتشر في داخل البلاد. وقد رأينا من قبلُ أن الجنود المرتزقين بدءوا يفدون إلى عهد الأسرة السادسة ويستعملون شرطة٢ ومحاربين، وقد حدث ذلك في وقت كانت لا تزال فيه الحكومة قوية، وقد أصبح هؤلاء الجنود المرتزقون فيما بعد خطرًا داخليًّا كما يدل على ذلك منشور الحماية الذي أصدره «بيبي الأوَّل». والدور الذي لعبه هؤلاء الأجانب أنهم نشروا الفوضى في مرافق الحكومة كما تشير إلى ذلك فقرة في تحذيرات المتنبي «آبور»٣ فاستمع لما جاء فيها: «… إن كل إنسان قتال قد حارب من أجل أخته وكان يحمي نفسه. هل هم «نحسيو»؟ إذن يجب أن نحمي أنفسنا (؟) وإن المحاربين قد تضاعفوا (؟!) ليصدوا رجال القوس. هل هم «تمحو» (اللوبيين) إذن علينا أن نتقهقر، (؟) والمازوي فرحين (؟) بمصر. وكيف ينبغي أن يقتل كل رجل شقيقه؟ والجنود الذين جُنِّدُوا لنا قد أصبحوا من قوم القوس (أي أصبحوا مسيئين مثل هؤلاء) وقد أَتَوْا ليهلكوا (؟) (والمقصود هنا أن «المازوي» أو «المجاي» قد هيأت لهم الأحوال أن يقطنوا مصر ويخربوها كالوحوش).

ونحن نعلم أن الآسيويين قد ذكروا قبل ذلك بأنهم خطر على مصر، وكذلك يقصد بالتمحو (اللوبيين) بأنهم قوم قد غمروا مصر بالخطر. ومن المحتمل أن التعبير «هل هم «نحسيو» إذن يجب علينا أن نحمي أنفسنا» يُقْصَدُ به نفس المعنى أيضًا. ولا ينتظر الإنسان من هذا المتن المكتوب من الوجهة المنفية إشارة إلى علاقة البلاد بالحدود الأجنبية؛ وذلك لأن الحكومة المنفية في هذا الوقت قد تركت حماية الوجه القبلي — على ما يظهر — للأسرة التي تحكم هناك وأصبحت منفصلة عن الجزء الجنوبي من مصر، ولهذا السبب يمكن أن تنسب هذه الجملة الخاصة بالجنود المرتزقين الثائرين إلى مصر العليا، ولكن التعبير: «إن المحاربين قد تضاعفوا ليصدُّوا رجال القوس» يشير على ما يظهر إلى الخطر السياسي الخارجي أكثر من إشارته إلى الخطر الداخلي.

وقد رأينا أن العلاقات بين مصر وبلاد النوبة السفلى قد تحرجت بدرجة عظيمة في نهاية الدولة القديمة حتى إن الملك قد أرسل حملة تأديبية على رأسها «بيبي نخت» غير أن نتائجها من حيث امتداد نفوذ مصر لم تأتِ ثمارها، بل على العكس أوجدت في الحياة السياسية النوبية غشاوة وقد أصبحت مصر من جراء ذلك لا تحتل مكانة قوية في سياسة بلاد النوبة.

وقد لاحظنا، في نقوش «حرخوف» أن علاقات السلالات النوبية في الجنوب حرخوف قد أصبحت مضطربة، وقد ذكرنا من قبلُ الحملة التي قام بها قوم «يام» على «التمحو» (اللوبيين) وكذلك نجد في هذه النقوش تعبيرات تدل على وجود عداء بين القبائل النوبية ذاتها. ولا نزاع في أنه بوجود مثل هذه العلاقات المضطربة التي لم تكن فيها لمصر يد بوجه عام كانت الطريق ممهدة لهجرة قبائل جديدة كما كانت الحال من قبل. والواقع أن نتائج الحفائر الأثرية قد أثبتت هجرة قبائل عديدة إلى بلاد النوبة وهم القوم الذين وفدوا إلى النوبة السفلى حاملين ثقافة مجموعة C، كما حمل أقاربهم المجاورون لهم في الجنوب ثقافة «كرمة».
وهؤلاء المهاجرون يمكن أن يكونوا قد وفدوا إلى البلاد في نهاية الأسرة السادسة على أكثر تقدير. والواقع أن تحديد هذا التاريخ بأنه يقع بين نهاية الأسرة السادسة وبداية الأسرة الحادية عشرة لا يمكن أن يتفق مع الحقيقة بما لدينا من مادة مكشوفة إذ لم نجد في أقدم الجبَّانات المنسوبة إلى مجموعة C تاريخًا يمكن الاعتماد عليه. فالجبَّانات المعروفة حتى الآن من أقدم زمن لهذه الثقافة توجد جزئيًّا في «الدكة» و«عنيبة» و«فرص»، ولكن لم نجد وثائق يمكن تأريخها في «عنيبة» كما تحدثنا عن ذلك من قبل.
والواقع أن ما وجد في «عنيبة» ويمكن نسبته إلى هذا العهد يعتوره بعض الشك، وإن كان لدينا من مقابر هذه الجهة بعض أشياء مجلوبة من مصر وتنسب إلى العهد المتوسط الأوَّل، على حسب تقسيم «ستيندورف» لمجموعة ثقافة C كما تحدثنا عن ذلك سابقًا.
وقد ظن الأثري «فرث» أن هذه الهجرة قد حدثت بسبب الضعف الذي أصاب بلاد النوبة السفلى بعد الحملة التأديبية التي قام بها «بيبي نخت» إذ يقول: «ومن الجائز أنه بعد الحملة التي قام بها «بيبي نخت» أصبحت أراضي «واوات» و«أرثت» ضعيفة لدرجة أن قوم مجموعة ثقافة C وضعوا أقدامهم في هذه البلاد وأصبحوا قوَّة مُنْتَهِزِينَ في ذلك الحروب الداخلية التي كانت في مصر في العهد الإقطاعي، وكذلك الحروب التي كانت بين أسرتي «أهناسية المدنية» و«طيبة»،٤ ولكن الأسباب التي دعت إلى هذه الهجرة كانت أعمق من ذلك وترتبط بعدم وجود المصريين في بلاد النوبة، إذ من المحتمل أن هذه الحملة التي مهدت الطريق للمهاجرين لم تكن الدافع المباشر الذي سهل لهؤلاء القوم الوافدين الهجرة، وعلى ذلك لا يمكن أن نتخذ هذه الحملة بمثابة معيار تأريخ مؤكد.
ولقد وُصل إلى تأريخ محدود كما ذكر الأستاذ «نيكر» في تحليله لمحتويات مقابر «كوبانية الشمالية» وهو أن هذه الهجرة قد حدثت من غير شك قبل بداية الدولة الوسطى بزمن طويل كافٍ؛ وعلى ذلك فإن مجموعة ثقافة C هذه قد انطبعت بطابع مصري من عهد الدولة الوسطى المبكر جدًّا. ولما كانت «الكوبانية الشمالية» التي تتمثل فيها طليعة هذه الثقافة تقع في أقصى شمالِي بلاد النوبة فإن أقدم جزء في آثارها قد وجد في تأريخه مع منتصف الدولة الوسطى المصرية.٥
ولا نعلم إلا القليل عن صبغة ثقافة قوم مجموعة C عند زمن هجرتم. ويمكننا أن نلحظ هذه الثقافة أولًا بوجه خاص في طور من أطوارها المتأخرة أي في الوقت الذي بدأت فيه المملكة الموحدة تقهر بلاد النوبة. ولا نزاع في أن هذه الهجرة الجديدة كانت لها صورة أخرى تميزها عن الثقافتين A، B اللتين تَحَدَّثْنَا عنهما فيما سبق، كما يدل على ذلك بوضوح مناهضتها لسياسة التوسع المصرية المتأخرة.
وقد ذكر كل من «ريزنر»٦ و«إمري» و«كروان»٧ أن قوم ثقافة C كانوا لا يميلون إلى الحروب، وأنهم كانوا أهل سلام، وأن حضارتهم قد أينعت أولًا في حماية معاقل الدولة الوسطى، غير أنه لدينا أمور كثيرة تناقض هذا القول. حقًّا لم يوجد في أثاث مقابر قوم مجموعة C كثير من الأسلحة، ولكن لا يستلزم ذلك أنهم كانوا أهل سلم، إذ من المحتمل أن الأسلحة كانت غالية بالنسبة للنوبي فيعجز عن شرائها لتوضع معه في القبر، ومن المحتمل كذلك أنه كان للقوم عادات خاصة بالدفن لا يتفق معها وضع أسلحة في المدافن، والواقع أن النزاع الحربي الذي قام بين مصر وبلاد النوبة وهو الذي انتهى باحتلال المصريين لبلاد النوبة السفلى على يد «سنوسرت الأوَّل» قد بدا فيه لنا مقاومة عنيدة من جانب النوبيين. ولا شك في أن قوم مجموعة C كانوا بلا نزاع وقتئذٍ قد استوطنوا بلاد النوبة قبل نهاية عهد الدولة القديمة.
وقد خالف «ريزنر» هذا الرأي إذ يقول: إن مجموعة ثقافة C لم توجد في «كرمة» غير أن بعض الفخار الذي وجد في المقابر النوبية المتأخرة كان موحدًا مع فخار جبانات مجموعة C الخاصة ببلاد النوبة السفلى. وإن الجبانات النوبية الخاصة «بكرمة» كان الجزء الكبير منها معاصرًا لجبانات مجموعة C التابعة لبلاد النوبة السفلى، ومن الواضح أن السكان النوبيين الذين أسست في وسطهم مستعمرة «أنبو أمنمحات» المصرية لم تكن مثل مجموعة ثقافة C؛ إذ على الرغم من أن كل الرغم من أن كل هؤلاء السكان يمكن أن يكونوا من أصل واحد فإني أميل إلى الاعتقاد مع الأثري «أورك بيتس» أن قوم المجموعة C كانوا في معظمهم قبيلة صحراوية، والمحتمل أنهم لوبيون قد زحفوا إلى بلاد النوبة السفلى في هذه الآونة في حين أن نوبيي منطقة «دنقلة» كانوا يمثلون السكان القدامى الذين سكنوا في الوادى منذ عهد الدولة القديمة أو حتى قبل ذلك إلخ.٨
ويدل ما وصل إلينا من وصف الموقعة الحربية التي شنها «سنوسرت الأوَّل» على أنها كانت موجَّهة إلى أهالي وادي النيل في بلاد النوبة٩ ويدل إحجام قوم مجموعة C عن الأخذ بتعاليم الثقافة المصرية أيام احتلال المصريين لهذه الأراضي في عهد ملوك الدولة الوسطى، وكذلك بناء المعاقل المصرية في قلب مراكز الأهالي على كراهية سكان أهل النوبة السفلى للسيادة الأجنبية. هذا ويدل تخليص النوبيين أنفسهم في العهد المتوسط الثاني من السيادة الأجنبية على أنه كان على المصريين أن يُخْضِعُوهُمْ ثانية، يُضَافُ إلى كل ذلك أن قوم مجموعة C والقبائل القريبة النسب منها كان أفرادها يشتغلون جنودًا مرتزقين. كل هذه الحقائق لا ت تفق مع ما ذكره الأستاذ «ينكر» أو الأستاذ «كيس» عن هؤلاء القوم.١٠
ويدل فحص الفخار الخاص بأقدم طور من أطوار ثقافة قوم مجموعة C على أنه لم ينم في بلاد النوبة السفلى بل إنه ظهر وانتشر في البلاد في خلال حملة هذه المجموعة الرئيسية على هذه الجهات، ونخص بالذكر الأواني الفخارية المحزوزة التي تعد من أحسن الأشكال التي ظهرت في بلاد النوبة أناقة ومن أحسن النماذج التي وجدناها في أقدم المقابر،١١ ولا يوجد في الفخار الأحمر ذي الرقبة السوداء والفخار المصقول تطور كبير يُذكر من حيث النوع بل في الشكل فقط.١٢ ومن جهة أخرى توجد عناصر نرى بوساطتها تطورًا جديدًا ظهر في صورة أشكال فخار طويلة، ويتضح ذلك جليًّا في الفخار الذي عُثِرَ عليه في المقابر بخاصة، فأقدم هذه المقابر صغير الحجم وكلها على ما يظهر بدون استثناء على شكل حلقة في وسطها بئر بسيطة للمتوفى، ولم نعثر على المقابر الكبيرة الحسنة البناء المكسوة بالحجر أو المقببة الشكل التي حلت محل البئر البسيطة إلا فيما بعد. وهذه التطورات في فن البناء توضح بجلاء وبأحسن صورة عهد الانتقال من عيشة الْجَوَلَانِ والبداوة إلى عيشة الاستقرار والحضارة.
وفي هذا العهد ظهرت كذلك أنواع من الأواني المصرية الأصل في المقابر النوبية، هذا إلى بعض خرز من القاشاني وقطع أخرى صغيرة مستوردة ضمن قائمة محتويات القبر الثابتة. ووجود هذه الأشياء يدل بلا نزاع على تبادل تجاري مع مصر منذ أقدم عهد ظهرت فيه ثقافة مجموعة C. وقد كتب الأستاذ «ينكر» عن العلاقات التجارية في هذا العهد١٣ قائلًا: «ومن المحتمل أن الموطن الجديد وتغير الحياة من الجوَلان إلى حياة الاستقرار ووجود العلاقات الطيبة مع جيرانهم أهل الشمال قد كان لها أثر حسن. ومع ذلك فقد بقي هؤلاء القوم فقراء فنجد أن أواني الفخار التي كانت تُوضع في المقابر قد انكمش عددها حتى أصبح لا يزيد عن بعض طرز من الأواني المحزوزة بحزوز حادة، ولا يوجد بينها إلا بعض أوانٍ فخارية من أصل مصري. وإذا استثنينا هذه العناصر فإن الروابط التي كانت بين البلدين تنتهي عند هذا الحد. وقد بقيت القطع الرئيسية من الأواني الفخارية التي من ذلك العهد كما هي، وقد اختفت عند ظهور أوانٍ جديدة يمكن أن تكون دليلا على أصل حضارة المجموعة الثقافية C الخاصة، وهي التي كانت وقتئذ آخذة في السعي وراء الكمال والاستقرار. وفي تلك الأثناء أخذت تظهر في مصر سياسة معارضة في عهد الأسرة الحادية عشرة شيئًا فشيئًا، ومنذ هذه الفترة كانت الخطة الثابتة لمطامح فراعنة مصر تنحصر في قهر بلاد النوبة والقبض عليها بيد من حديد. ولا غرابة في أن نجد في تلك الأوقات المليئة بالمقاومة والحروب تبادل التجارة الذي كان يسوده الوئام والسلام قد تأثر تأثرًا سيئًا كما أن التأثير المصري الثقافي أصبح بمقتضى الأحوال غير ممكن وقف تياره.
ويحتمل أن الأستاذ «ينكر» كان على حق عندما قال إن العلاقات كانت ودية في بادئ الأمر بين هؤلاء الوافدين من القبائل الجدد وبين مصر، هذا إذا كانت الجملة التي أوردها دليلًا على ذلك تشير حقًّا إلى بلاد النوبة أي «بلاد الجنوب» ولا تشير إلى الجنوب بمعنى الوجه القبلي،١٤ لأن ذلك يكون التفسير الطبيعي لوجود أوانٍ مصرية بحالة ثابتة في أواني مجموعة C، ولكن يظهر أن التجارة كانت قد تأثرت هناك ولم تكن هناك كذلك حكومة مصرية قوية يمكن أن يَعتمد عليها قائد الحملة، ومن أجل ذلك كان لا بد من إرسال حملة تأديبية من وقت لآخر لوضع الأمور في نصابها عندما كان يصيب التجار المصريين أيُّ أذى. ولدينا ما يدل على وجود تجارة صغيرة يقوم بها صغار السكان في هذا العهد.١٥
ولا نزاع في أنه ما دامت بلاد النوبة في حملتها كانت مجدبة لا يزرع منها إلا أجزاء قليلة، وأن هذه الهجرة العظيمة إلى أرض الجنوب قد استقرت في الأراضي الخصبة لوادي النيل فإنه لا يمكن تفسير ذلك إلا أن قوم مجموعة C قد باءوا بالفشل بعد محاولة غير مجدية لدخول وادي النيل الخصيب. والحروب الدفاعية التي قامت في الجنوب من جراء ذلك لم تلعب فيها حكومة «منف» أي دور، وأعنى بذلك الحكومة التي عاشت بعد الاضطرابات التي كانت في عهد «بيبي الثاني» وبعده، وهي التي كانت قد فقدت كثيرًا من سلطانها. وكان يحكم في الوجه القبلي في هذه الفترة أسرات مختلفة محلية، غير أن الأسرة التي اتخذت مقرها «قفط» كانت صاحبة المكانة العليا في تلك الجهة. ولا نعرف عن ملوك هذه الأسرة إلا القليل فقد وصل إلينا بطريق الصدفة بعضهم، فنجد في نقوش منشور «قفط» الذي عُثِرَ عليه من قبل اسم ملك يدعى «وازكارع».١٦ على أن هذا الاسم ليس هو اسم الملك الذي أصدر المنشور، والواقع أن الاسم الحوري لصاحب المنشور هو «دمز-اب-تاوى» وهو الذي كتب في أول نقش المنشور١٧ وفضلًا عن ذلك فإن لقب «وازكارع» كان يؤلف جزءًا من اسم علم لشخص ما من عامة الشعب يريد أن يضيف إلى اسمه هذا اللقب مثل اسم «وازكارع-سنب»، وعلى ذلك فإن اسم «وازكارع» الذي مزج بالأسماء الأعلام على ما يظهر لا بد أنه كان ممن خلفوا هذا الملك، والظاهر أنه من ملوك «قفط».
واسم الملك «وازكارع» قد وُجِدَ في نقش مزدوج عُثِرَ عليه في نقوش «خوردهميت».١٨ وأحد النقشين يشمل الصيغة الجنازية المعتادة، أما الثاني فقد جاء فيه الحملة (أو الأمر) التي قادها ابن الحاكم الذي هزم عدو والده «حور الذهبي» «خنم رع» ملك الوجه القبلي والوجه البحري «وازكارع» بن «رع» «سجرسنتي» في الشمال من بلدة «برسنبيت»: تفتيش أراضي «سخع» و«واعج»١٩ (؟). ومما جاء في النقش الأوَّل نفهم أن «ابن رع» «سجرسنتي» ليس اسم الملك «وازكارع» بل هو اسم «ابن الملك». أما على حسب ترجمة الأستاذ «ريدر» فكان «سجرسنتي» هذا الذي يحمل الصِّلَّ على جبينه فهو على رأيه أمير نوبي صغير كان على اتصال بملك مصر.٢٠ غير أن البرهان الذي ذكره «ريدر» مدللًا على أن هذا اسم ليس مصريًّا وأن الثائر قد هُزِمَ في الشمال لا يمكن الأخذ به؛ فلا بد من التروِّي والحيطة عند الحكم على الاسم إذا كان مصريًّا أصليًّا أو أجنبيًّا، لأنه توجد أسماء لم نصِل حتى الآن إلى معرفة اشتقاقها اللغوي، وأنه لم يصل إلينا منها إلا مثال واحد وهو الذي نحن بصدده. وفي هذه الحالة يكون الحكم في إرجاعه إلى أصله صعبًا جدًّا، يضاف إلى ذلك أن «سجرسنتي» لم يقل إنه هزَم العدو في الشمال، بل إن المقصود هنا في الجملة السالفة موقع المكان في شمالِي «برسنبيت».
وإذا كان «وازكارع» — كما هو المرجح — ينتسب فعلًا إلى أسرة «قفط» على حسب ما يُفهم من المنشور السابق ذكره فإن الوجه القبلي حتى ما وراء «إلفنتين» كان تحت سلطانه، وعلى ذلك فإن هذين النقشين يُعَدَّانِ وثيقة تثبت أن أسرة «قفط» كانت طليعة المحاربين من المصريين في بلاد النوبة السفلى. وإذا كان لزامًا علينا أن نعترف بأن قوم مجموعة C هاجروا فعلًا نحو مصر فإنه من الجائز أن الملك كان قد أرسل ابنًا له — يحتمل أنه كان ولي العهد — إلى الجنوب ليصدَّ تقدُّم هؤلاء القوم المهاجرين في زحفهم على الأراضي المصرية.
أما في الوجه البحري فقد تولى الحكم بعد الأسرة المنفية الأسرة الأهناسية وهي التي أوجد ملوكها من الفوضى نظامًا نسبيًّا؛ وبذلك بدأت مصر عصر ثقافة زاهر.٢١ ولا نعرف على وجه التأكيد إلى أي حد امتدَّ سلطان هذه الأسرة نحو الجنوب، ولكن المؤكد أن سلطانها كان ممتدًّا حتى «طيبة» ولو اسمًا. وتدل شواهد الأحوال على أن الطِّيبِيِّينَ كانوا قد انضموا إلى أسرة «قفط» وشنوا حربًا على ثلاث المقاطعات الواقعة في أقصى جنوب مصر. ولما كانت الأسرة القفطية قد اختفت لأسباب غير معروفة فإن ملوك «طيبة» قد أصبحوا هم الحامون للأراضي الواقعة جنوب «طيبة»، ثم أخذت قوتهم تزداد في هذه الجهة باستمرار كما كانت لهم السيادة على مملكة «أهناسية المدينة»، وهذه التطورات السياسية كانت في الواقع بشيرًا بقيام الأسرة الحادية عشرة التي وضعت العراقيل شيئًا فشيئًا في سبيل الأسرة الأهناسية إلى أن قضت عليها نهائيًّا ووحدت البلاد جمعاء.٢٢
هذا ولدينا نقش من العهد الذي لم يكن فيه أمراء «طيبة» الأقوياء على عداء ظاهر مع حكومة الدلتا وهو من الأهمية بمكان إذ يدلنا على العلاقة التي كانت بين مصر والجنوب وقتئذٍ.٢٣ وهذا النقش مدوَّن على لوحة عثر عليها على ما يظن في «طيبة» وهي لفرد يدعى «زمي» ويلقب المشرف على الجنود والمشرف على التراجمة (رئيس القافلة) وهو يقص علينا حملات مختلفة قام بها في أثناء حياته وفيها يقول: «لقد جعلت «واوات» بلادًا خاضعة وكل حاكم مقاطعة ثار في هذه المقاطعة قضيت … وبذلك كنت محبوبًا». غير أنه من الصعب فهم عبارة «جعلتها بلادًا خاضعة». إذ ليس لدينا مادة أخرى تساعد على الإدلاء برأي قاطع في معنى هذه العبارة، ويجوز أنها مبالغة من الكاتب المصري كما هي الحال غالبًا في وصفه للعلاقات المصرية مع البلاد الأجنبية، وعلى ذلك يمكننا أن نتطرف في تفسيرنا إلى القول بأن هذا القائد يشير إلى حملة للاستيلاء على بلاد النوبة.
ولا يدل تاريخ البلاد فيما بعدُ على أن هذه كانت حملة لاستعمار البلاد النوبية، بل في الواقع كانت غزوة من الغزوات الصغيرة المعدَّة التي كان يقوم بها المصريون ليحملوا النوبيين على توريد السلع إلى مصر، ومن المحتمل أن هذه الحرب كانت قد وقعت في جنوب الحدود حيث كان أهل ثقافة مجموعة C قد وَطَّدُوا أقدامهم هناك، وذلك أنه على حسب نتائج الكشوف التي قام بها الأستاذ «ينكر» في «الكوبانية الشمالية» نعلم أنه كانت تسكن هناك جماعات صغيرة كانت تزحف نحو شمالِي «أسوان».
هذا ولا نعرف إذا كان للأهناسيين أنفسهم نشاط عند الحدود في مراقبة التخوم والتجارة، إذ إن ذلك موضوع يحيطه الشك والإبهام.٢٤
حقًّا وجد اسم الملك «خيتي الأول» والملك «مرى-اب-رع» عند الشلال الأول، ولكن يمكن تفسير ذلك بأن هذه النقوش كتبها أحد أمراء مقاطعة «طيبة» الذين لم يكونوا قد اعترفوا بأمراء «أهناسية» ملوكًا على مصر. والواقع أن الطيبيين كانوا يعتبرون عند الحدود الجنوبية بمثابة أبطال مصر الذائدين عنها كما يدل على ذلك نقش «زمي»، ونقش آخر،٢٥ وقد وجد مكتوبًا عليه اسم أمير مقاطعة يُدعى «أنتفي الطيبي» ويحمل لقب: «الذي يملأ قلب الملك عند باب الجنوب الضيق».

وإنه لمن المهم أن نجد الآن وثيقة ذكر فيها هذا اللقب القديم المحترم الذي يدل على أن حامله كان يراقب الهجرة من الجنوب إلى مصر عند الحدود. ولا نزاع في أن حاكم المقاطعة هنا كان يمثل الملك كما يدل على ذلك الكتابة التي أمام «أنتف» الأول وتعدُّ من عصر واحد هي ونقش «زمي»، وقد كان الأخير ضابطًا في خدمة حاكم مقاطعة.

والألقاب التي تأتي بعد هذا في اللوحة السابقة تُعَدُّ من الألقاب الخاصة بهذا العهد وهي: «العمود العظيم الذي يحمي أرضه» وهذا اللقب له رنين خاص عند حاكم المقاطعة، ويدلنا على أن الوقت قد اقترب لأن يصبح حاكم المقاطعة مناهضًا للملك. وهذا التغير بالفعل، مضافًا إليه اسم «أنتف الأول» وهو «سهرتاوى» (مهدئ الأرضين) يقابلان اسمي ملكين لم يوجد اسمهما إلا في بلاد النوبة وهما من الأهمية بمكان. وأحد هذين الاسمين هو «حور» مجمل أرضيه، حور الذهبي الجميل ملك الوجه القبلي والوجه البحري «كارع كا» ابن رع «أن». وقد جاء ذكر اسم هذا الملك سبع مرات على صخور بلاد النوبة من الشمال إلى الجنوب.٢٦
وقد وضع «إدوارد مير» هذا الملك في الأسرة الحادية عشرة وذلك بسبب مشابهته لاسم الملك «منتوحتب» «سعنخ كارع» (أي الذي يحيي روح «رع») حور ونبتي «سعنخ تاوي» (الذي يحيي الأرضين).٢٧ أما الأثري «جوتييه» فإنه وضع هذا الاسم مع اسم ملك وضعه «لبسيوس» في كتابه الذي ألَّفه عن ملوك مصر ولكن بدون سند.٢٨
ونجد نفس الاختصار لاسم «أنتف» موجودًا كما أشار إلى ذلك «إدوارد مير» وكذلك على لوحة الكلب المشهورة وفي ورقة «آبوت».٢٩ وعلى ذلك فإنه لا مانع من وجوده مع أحد الملوك الذين تَسَمَّوْا باسم «أنتف» في عهد الأسرة الحادية عشرة، كما أن توحيد الاسم الحوري واسم نبتي يجعل هذا التاريخ في العهد الذي قبل الدولة الوسطى ممكنًا.

أما اسم الملك الآخر الذي لم تجد ذكره للآن إلا في بلاد النوبة فهو:

«حور جرج تاوي ف» ملك الوجه القبلي والوجه البحري (أي- ب-خنت-رع» وقد وجد اسمه في نقشين من نقوش بلاد النوبة أحدهما على مقربة من «أبو هور»٣٠ والآخر في «المضيق».٣١ ونجد في الحالة الأخيرة أن اسمه قد ذكر مع اسم «سارع أنتف» ولهذا السبب يكون معاصرًا، ويعضد ذلك التكوين الخاص للاسم الحوري الذي يشبه كثيرًأ أسماء الملوك الآخرين.
ويشك «جوتييه» في أن هذين الملكين مصريان وقد تبعه في ذلك «دريتون» و«فندييه»٣٢ ولكن «سيف زودربرج» قد برهن على خطأ هذا الرأي.٣٣
وقد أنكر كذلك «ينكر» رأي «جوتييه» وأكد أن أسرة مثل هذه لو وجدت خارج مصر وكانت صاحبة سيادة هنا لحرمت كل معاضدة في بلاد النوبة. ولما لم يكن هناك ثقافة مشتركة ولا تبعية ثقافية للبلاد فإنه لا يمكن للإنسان أن يفكر في أن ملوكًا مناهضين قد فروا إلى بلاد النوبة واتخذوها ملجأ لهم كما حدث ذلك مع الملك «نقطانب» الذي ينسب إلى ملوك الأسرة الثلاثين.٣٤
ولا يمكن القول بأن أهل ثقافة مجموعة C كان لهم ملك ليس له قوة يستند عليها في بلاده الأصلية. وعلى الإنسان أن يفكر في المصاعب التي لاقتها مصر فيما بعدُ عندما أرادت استعمار بلاد النوبة.
والواقع أن الموضوع لا يخص ملكًا مؤقتًا حكم البلاد بل يخص عدة ملوك، فينبغي أن يكونوا قد خلفوا وراءهم بعض بقايا المدنية المصرية محفوظة لنا سواء أكان ذلك في المقابر أم غيرها، ولكن لم نجد في ثقافة مجموعة B ولا في ثقافة مجموعة C أي أثر يدل على السيادة المصرية. هذا ولم يوجد قبر مصري في كل العصر الذي نحن بصدده، كما لم يوجد به بقايا لمقر ملك أو أي شيء من أشياء حاشية الملك.
ويوجد مع اسم الملك «حور-جرج-تاوي-ف» ملك الوجه القبلي والوجه البحري «أي-أب-خنت رع» السالف الذكر في بلدة «المضيق» نقش لكاهن يُدْعَى «خنوم حتب» كتب بنفس الطريقة وبنفس الأسلوب الذي كتب به اسم هذا الملك وهذا النقش هو بلا شك من عصر هذا الملك.٣٥
ويوجد في نقوش «أبو هور» اسم مدير مكتب يدعى «سبك محثب» (؟) والظاهر أن هذا الرجل بعينه كتب اسمه في «المضيق».٣٦ ويلاحظ في «أبو هور» أن نقوش هذا الرجل متصلة باسم الملك، وقد كتبت في الصورة بنفس الأسلوب. وعند قرن هذه النقوش باسم الملك المعاصر له وهو يحمل لقبًا مصريًّا خالصًا يتضح أن هذا الملك كان مصري الأصل. وعلى ذلك فإن القول بأن ملوك النوبة في هذا العصر قد ذهبوا بعيدًا في ثقافتهم إلى أن تمصروا وأنهم حملوا أسماء مصرية وكان لهم موظفون يحملون ألقابًا على النمط المصري لا يتفق مع نتائج الحفائر التي عملت في هذه البلاد.

وإذا كانت الأسماء الأخرى التي توجد مع أسماء الملوك في «المضيق» يُعَدُّ بعضها معاصرًا لبعض فإنها تؤكد لنا تاريخ الكتابات الملكية. وفضلًا عن ذلك تقدم لنا نقطة يُعتمد عليها في معرفة كنهها. ففي هذا العهد نجد عدة شخصيات يحملون اسم «منتوحتب» و«أنتف» وثلاثة من هذه الأسماء كان كل منها يحمل لقب المشرف على التراجمة (أو رئيس القافلة)، وهذا اللقب يدل غالبًا على أن النقوش كانت خاصة برحلات تجارية أو حملات حربية كما كانت الحال في عهد الدولة القديمة.

ويمكن تأكيد الرأي القائل بأن هؤلاء الذين كانوا في دائرة حكام مقاطعة «طيبة» كانوا تابعين لملوك. فقد رأينا من مصادر أخرى من البلاد المصرية نفسها النشاط الذي أظهره الطِّيبيون في الجنوب في هذا العهد. أما عدم ذكرهم في نقوش «طيبة» فقد يكون ذلك من باب الصدفة، وبخاصة عندما نعلم أن جبانة «طيبة» التي دفن فيها الملوك الأناتفة قد خُرِّبَتْ وحُطِّمَتْ منذ زمن بعيد. وما نعلمه عن علاقة الأسرة الحادية عشرة وسابقتها قليل جدًّا، ولا نزاع في تتابع أسماء الأناتفة الآتية: «حور-واح-عنخ-أنتف-الثاني» و«حورنحت نب تب نفر أنتف الثالث» و«حور سعنخ أب تاوي منتحتب الثالث». إذ قد أكد لنا هذا الترتيب النقوش. ولا نعلم على وجه التأكيد إذا كان هناك ملك آخر وهو «أنتف الأول» قد حكم «طيبة» إذ قد جاء ذكره فقط في نقوش «طود» باسم «سهرتاوي أنتف الأول».٣٧ وعلى أية حال لا نعلم شيئًا على وجه التأكيد بالنسبة لترتيب هؤلاء الملوك في الأسرة الحادية عشرة إلا ما ذكرناه في الجزء الثالث من هذه الموسوعة ص ٨.
الجنود المرتزقون: ذكرنا من قبل أنه كان يوجد جنود نوبيون يحترفون امتشاق الحسام في عهد سقوط الدولة القديمة، وليس لدينا بعد عهد الدولة القديمة وثائق عن وجودهم في مصر ولا عن الدور الذي لعبوه في الحروب التي كانت بين الأسرات المحلية أي في عهد الإقطاع، ولكن من الجائز أن ذلك قد حدث عن طريق المصادفة لأننا وجدنا — كما تدل الآثار العديدة — أن النوبيين في هذه الحروب الداخلية كانوا يُسْتَعْمَلُونَ جنودًا مساعدين، وبوجه خاص كانوا يقومون في ساحة القتال بدور الرماة، ولا أدل على ذلك من مجموعة نماذج الجنود التي عُثِرَ عليها في إحدى مقابر العصر الأهناسي.٣٨ وقد عُثِرَ على هذه المجموعة في «أسيوط» التي بقيت مشتركة في الحروب القائمة بين «طيبة» و«هيراكليوبوليس» حتى النهاية وكانت منحازة إلى أهل الشمال، أي إن الجنود المرتزقين كانوا يحاربون في صف «إهناسية». وقد برهن الأستاذ «ينكر»٣٩ على أن هؤلاء الجنود ليسوا من سلالة الزنوج بل كانوا من السلالة الحامية النوبية ولونهم أسمر قاتم، ولكنه ليس أسود فاحمًا، غير أنهم يظهرون أشد سمرة عندما يقفون بجانب الجنود المصريين، هذا إلى أنهم أقصر قامة من المصريين، وهذا يتفق مع ما ظهر من نتائج الحفائر التي عملت في النوبة. وكانوا مسلحين بالسهام والأقواس ويرتدون قمصانًا قصيرة مزينة برسوم مختلفة يميل إليها أهل مجموعة C الثقافية كثيرًا.٤٠ وكان بعض هذه القمصان أبيض ويحتمل أنها كانت مصنوعة من الكتان المصري وكان معلقًا فيها من الأمام شرابة طويلة مزينة برسوم متشابهة. وهذه الشرابة نراها فيما بعدُ في الرسوم المتأخرة العهد يتحلى بها الجنود المرتزقون النوبيون كما يلحظ ذلك في الجنود المرتزقين النوبيين في عهد «تل العمارنة».٤١
وقد عثر في مقابر مجموعة ثقافة C على قمصان من الجلد مزينة، وليس لدينا ما يبعث على الشك في أنها تمثل هذه الثقافة أو أنها أقرب شيء إليها، ولكن الشيء الغريب أننا حتى الآن لم نجد أي قبر نوبي مثل المقابر القعبية الشكل التي جاءت بعد في هذا العهد في مصر. ومن المحتمل أن النوبيين كانوا يهاجرون ثانية بعد انتهاء خدمتهم في مصر إلى وطنهم في بلاد النوبة كما هي الحال في عصرنا الحالي إذ نجد أن النوبي أو البربري عندما يتقدم في السن ويصبح غير قادر على العمل يعود إلى بلاد النوبة موطنه الأصلي حيث كان يفضل أن يُدْفَنَ بين أهله وعشيرته.

على أن وجود مقابر جنود مرتزقين نوبيين من وجهة نظرنا يُعَدُّ من الأمور الهامة إذ من ذلك نعلم إذا كانوا يُدْفَنُونَ في جبَّانات خاصة بهم أو كانوا يُدْفَنُونَ في مقابر متفرقة بسيطة من المقابر المصرية. وقد يجوز إذن أن خصائص مقابرهم القليلة المتفرقة لم يكن من المستطاع ملاحظتُها، وقد يكون السبب في عدم تمييزها هو التخريب الذي أصابها فأصبحت كأنْ لم تَغْنَ بالأمس. وليس لدينا من بين الجبانات النوبية التي عُثِرَ عليها في مصر ما يرجع إلى العهد الأول المتوسط من تاريخ أرض الكنانة.

ومن المحتمل أن هؤلاء الجنود النوبيين المرتزِقة كانوا قد وفدوا فعلًا في عهد مبكر نحو الشمال، ولكن ذلك لا يحتم أنهم كانوا وقفًا على مساعدة حزب الشمال قبل قيام الحرب بين «طيبة» و«أهناسية». والواقع أن هؤلاء الجنود لم يكن لهم أية منفعة شخصية في ذلك؛ لأنهم كانوا يحاربون مع أية طائفة تدفع لهم أجورهم، ومن أجل ذلك كانوا ينتقلون من معسكر لآخر على حسب زيادة الأجر الذي يتقاضونه، ولدينا عن ذلك مثال حديث وقع في عهد الحروب السودانية فقد حارب بعض هؤلاء الجنود مع الجيش المصري بقيادة «كتشنر» وكانوا من قبل يحاربون مع «المهدي». وكان هؤلاء الجنود يَتَحَيَّنُونَ كل فرصة ضعف في الحكومات وينهبون أموال المصريين كما يدلنا على ذلك مصادر مصرية مختلفة.٤٢ على أن أمثال هؤلاء الجنود لم تقتصر على النوبيين بل كان من بينهم أجانب آخرون ومصريون، وليست النماذج التي عُثِرَ عليها في «أسيوط» هي الدليل الوحيد الذي يبرهن على أن هؤلاء الجنود المرتزِقة كانوا يحاربون إلى جانب مملكة «أهناسية» بل لدينا بعض نقوش عُثِرَ عليها في «حتنوب» من عصر «أهناسية» المتأخر تُحدِّثنا عن حرب الأمير «نحري» الذي أوقد نارها على «طيبة» فيقال عنه «كانت المحبة له (أي لنحري) عند المزوي والأسيويين والأراضي الجبلية (؟) نافذة في قلوبهم».٤٣

وكذلك يذكر لنا أمير يُدعى «كاي» في نقش من السنة الخامسة من عهد «نحري» نفسه قوم «المزوي» وأهل «واوات» و«نحسيو» (؟) والأسيويين وربما كان ذكرهم هناك على أنهم أعداء.

على أن عصر ظهور الجنود المرتزِقة بصورة بارزة لم يكن قد حَلَّ بعدُ وأعني بذلك العصر الذي نجد فيه هذا الصنف من الناس يذكرون كثيرًا، ونجد لهم كذلك مقابر في مصر.

ولم نجد حتى الآن بين النقوش التي عثر عليها ذكر للجنود المرتزقين محاربين في جانب الطيبيين، ومن الجائز أن ذلك قد حدث عن طريق الصدفة. وهذا ليس بغريب عندما نعلم أن المصادر المبكرة كانت قليلة جدًّا.

ولم نجد في الصور التي بقيت لنا من معبد الملك (منتوحتب) صورة واحدة يمكن أن يقال عنها بحق إنها تمثل رجلًا نوبيًّا، والعلامة الخاصة للجنود المرتزِقة من النوبيين هي شريط على هيئة صليب مرسوم على الصدر. والمثال الوحيد الذي يمكن أن يدل على ذلك هو الذي نشاهد فيه الرامي يحمل الشريط المصلب ولا يحمل أية ريشة على الرأس في حين أن رماة آخرين كانوا يحملون هذه الريشة،٤٤ ومع ذلك فإنه لا الريشة التي تكون على الرأس ولا الشريط المصلب كان كافيًا لتمييز المحارب النوبي بل على العكس نجد أن الشريط المصلب لا يُعْرَفُ بأنه لباس نوبي أو على الأقل لم نجد متنًا مع شخص يلبس هذا الشريط قيل فيه إن المتحلي به نوبي الأصل.

هوامش

(١) راجع الأدب المصري القديم للمؤلف الجزء الأول ص 295 وكذلك راجع: Chronique d’Egypt, No. 52 (1951), p. 299.
(٢) راجع مصر القديمة الجزء الثاني ص ٤٧١–٤٨٧.
(٣) راجع: Gardiner, Admonitions of an Egypt sage, 14, 2.
(٤) راجع: Firth. Ibid, Vol. II, p. 20
(٥) راجع: Junker, Kubanieh Nord, p. 35 f
(٦) راجع: Reisner, Kerma, II, p. 555.
(٧) راجع: Emery, W. B. and Kirwan, Es Sebua and Adendan (Service des Antiquites de I’Egypt, Mission Archeologique de. Nubie (1929-1934), Cairo (1935), p. 8.
(٨) راجع: Reisner, Kerma II, p. 555.
(٩) راجع مصر القديمة الجزء الثالث ص ٢٢٣ إلخ.
(١٠) راجع: Kees, Kult., p. 345
(١١) راجع: Aniba, I, p. 65 ff., pls 33-51& 64, 32
(١٢) راجع: Aniba I, p. 86
(١٣) راجع: Junker, Ermanne, p. II ff.
(١٤) راجع: Save Soderbergh, Agypten and Nubien, p. 42, Note 1
(١٥) راجع: Aniba, I, p. 6.
(١٦) راجع: Weill, Les Décrets Royaux de L’Ancien Empire Egyptien, p. 65
(١٧) راجع: Gothingische Gelebrte. Anz., 1912, No. 12, 719 ff. and Urk., I, p. 306, Journal Asiatique Ser., 11, 10 (1917), p. 385.
(١٨) راجع: Roeder, Debod Bis Bab Kalabsche, p. 306, p. 108.
(١٩) وقد ترجم الأستاذ «ريدر» هذه الجملة ترجمة أخرى Roeder, Ibid, p. 307.
(٢٠) راجع: Roeder, Ibid, p. 116.
(٢١) راجع مصر القديمة الجزء الأول ص ٤١٤.
(٢٢) راجع مصر القديمة الجزء الثالث ص ١ إلخ.
(٢٣) راجع: The American Journal of Semetic Languages and Literatures (1921), p. 55 ff.
(٢٤) راجع: Kees, Beitrage zur Altagyptischen Provinzialverwaltung, p. 102 ff.
(٢٥) راجع: Petrie, season, PI, XII, No. 310.
(٢٦) راجع: Save Soderbergh, Ägypten und Nubien, p. 47
(٢٧) راجع: A.Z., 44, p. 115
(٢٨) راجع: Lepsius, Konigsbuch, No. 166, Taf. XI, and Gauth., L.R., I, p. 247
(٢٩) راجع: Moller, Hierat. Lesest. III, p. 17
(٣٠) راجع: Weigall, Report, Pl. 32,1
(٣١) راجع: Weigall, Report, P1, 50,1; Breasted., A.J.S. L.(1906); 57
(٣٢) راجع: Drioton et Vandier, L’Egypte, p. 238
(٣٣) راجع: Save, Ibid, p. 48
(٣٤) راجع: Gauthier: Precis De, L’Histoire de L’Egypte, p. 224
(٣٥) راجع: Breasted, A.J.S.L. (1906), P. 57, Weigall, Report, P1. 50, 4.
(٣٦) راجع: Weigall, Report, P1, 50, 15.
(٣٧) راجع مصر القديمة الجزء الثالث صفحة ٨ إلخ. عن تتابع ملوك الأسرة الحادية عشرة.
(٣٨) راجع: Le Musèe Egyptien I, PI. 33 ff
(٣٩) راجع: Kubanieh Nord, p 16.
(٤٠) راجع: Aniba I. P1. 25; Grab., 487 Note 3
(٤١) راجع: Wresz., Atlas II, P1. 11.
(٤٢) راجع: Kees, Kulturgesch, p. 232.
(٤٣) راجع: Anthes, Die Felseninschriften Von Hatnuh, Insch, No. 25, L. 14. p. 56 ff.
(٤٤) راجع مصر القديمة الجزء السابع ص ٥٧ إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤