لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ١

بينما أنا أسرِّح الطرف في صحيفة الأدبِ من «السياسة» الغرَّاء إِذْ وقَع نظري على مقالةٍ لأحدِ أدباءِ فلسطين، عنوانها: «تطورُ اللُّغَةِ فِي ألفاظِها وأساليبِها»، وهو موضوعٌ طالما نازعني إليه خاطري وشعرتُ بافتقارِ الأدبِ العربيِّ إلى بَحثٍ وافٍ بمكانه؛ إِذ كان كلُّ دورٍ مِن أدوارِ اللُّغَةِ العربيةِ — سواء كان دور الجاهليةِ والمخضرمين أو العهد الأموي أو العصر العباسي أو القرون التي بعده — لا يخلو من ديباجة خاصة تظهر على ألسن خطباء ذلك الدور وأقلام كُتَّابه، وإن كان النِّصَابُ الأصلي لِلُّغة لا يزال واحدًا.

ولم ينحصر اختلافُ الأسلوبِ وتداول طائفةٍ خاصةٍ من الألفاظ بالأدوار والأعصار؛ بل إنك لتجده بين الأقاليم والأمصار، فللأندلس مَنْزَعٌ يَعرِفُه مَن أَلِفَ مُطالعة كُتب ذلك القُطرِ، ولليمن مَذهبٌ لا يَشبه مَذهبَ المنشئين في العربية مِن فارس في كثير من الأمور، ولمِصر لهجةٌ خاصةٌ يَعرف الناقدُ البصيرُ مِنها نِسبةَ مُؤَلف الكِتابِ ولو لم يكن اسمه عليه كما ترى ذلك مِن ألفِ ليلةٍ وليلةٍ، وللشام أسلوب يختلف شيئًا عن أسلوب أهل مِصر في الكِتابة وكثيرًا في الحديث، كما أن للعراق نمطًا غيرَ نمطِ الشامِ ومِصر وهلم جرًّا، ولعلنا نُلِمُ بهذا الموضوع في وقتٍ آخر.

ولقد أمعنت النظر في مقال «تطور اللُّغَةِ في ألفاظها وأساليبها» فوجدت الكاتبَ الأديبَ صاحبها أتى بشيءٍ منه وأصاب بعضَ شواكله، ولكنه خرج فيه أحيانًا عمَّا هو من باب تطور اللُّغَةِ باختلاف الأعصر والأمصار إلى ما ليس منه؛ كتمثيله لهذا التطور بقوله إن السوريين كانوا يجمعون لفظة «ميل» بمعنى «الهوى» على «أميال» ﮐ «سيف وأسياف»، وقد شاع هذا الجمع في مصر وسورية دهرًا طويلًا ثم رأينا أن المصريين أخذوا يجمعونه على «ميول» ﮐ «سيف وسيوف»، وكلا الجمعين صحيح، ولعل السوريين يعدلون مع الأيام عن «أميال» إلى «ميول» بحكم التقليد.

والحقيقة أن ليس هذا العدول عن «أميال» إلى «ميول» أثرًا من آثار التطور الذي أراده؛ بل كانت العامةُ ومَن لا يحقق في اللُّغَةِ مِن الخاصةِ يجمعون «ميلًا» بفتح الميم على «أميال» يجرونها مجرى «ميل» بكسر الميم، فجاء من قال لهم إن «فَعلًا» بفتح الفاء لا يُجمع على «أفعال»؛ بل على «فعول»، وإن كان ورد شيءٌ مِن ذلك فمَن الذي لا يقاس عليه. فعدل عِند ذلك الكُتَّابُ عن جمع «ميل» بالفتح على «أميال» إلى جمعه على «ميول» نظير «بيع وبيوع»، وقد سبق أنهم كانوا يجمعون «خصمًا» على «أخصام» وقد رأيت هذا الجمع في كلام كَاتبٍ مِصري من الأدباء الراسخين الذين نبغوا منذ نحو نصف قرن فلما نُبِّه بعضُهم إلى أن جمع «خصم» على «أخصام» غلط عدلوا إلى جمعه الصحيح على «خصوم»، فلا نجد كاتبًا الآن إلا وهو يقول «خصوم» ويتجنب «أخصام». ثم إنه قد ورد في كلام اليازجي الكبير جمع «فَعْلٍ» بفتح الفاء على «أَفْعَالٍ» وذلك في قوله: «مضى يجمع الأفضال وهي عبيده» فعابوه فيه وذكر ذلك أحمد فارس في مناقشة مع ابنه؛ فلذلك لا يجمع «فضلًا» على «أفضال» اليوم إلا العامة يقولون لا ننكر أفضالك، فأنت ترى أن السبب في ذلك التطور هو متابعة القاعدة واعتقاد تنكب الخطأ، على أنَّ الخطبَ يسير، فإن «فَعْلًا» بفتح الفاء إذا كان من الأجوف كثيرًا ما يُجمع على «أفعال» وله أمثال لا تحصى.

وكذلك «بدهي وطبعي»، أخذ المصريون يستعملونها ذهابًا إلى أن «بديهي وطبيعي» هو غلط في النسبة، مع أن السوريين يرونه غلطًا مشهورًا هو أولى من الصواب المهجور، ويرون له في «ولكن سليقي أقول فأعرب» شاهدًا مؤنسًا. فالعدول عن «أميال» إلى «ميول»، وعن «طبيعي» إلى «طبعي» كان في اعتقاد مَن فعله مجرد اتباع للقاعدة لا مجرد عدول عن اصطلاح إلى آخر إذ كلاهما صحيح. ثم وصل الكاتبُ إلى قوله: «هذا في اللُّغَةِ وأمَّا في الأساليب فهناك مذهبان؛ مذهبٌ قديمٌ ومذهبٌ جديدٌ، وإني أحاول هنا أنْ أشيرَ إلى الفرقِ بين المذهبين على قدرِ ما تُعين عليه البصيرة الضعيفة، مما أولع به أصحابُ المذهبِ القديم إلى يومنا هذا تكرار الكلام في غير مواطن التكرار (اعتراف منه هنا بأن للتكرار مواطن) والإسراف في استعمال المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها، فهم لا يأتون بكلمة إلا أتبعوها بمرادفاتها، فإذا قالوا: «تمادى الرجلُ في ضلاله» قالوا: «ولج في غوايته وعمه في طغيانه ومضى على غلوائه»، وإذا قالوا: «أحزنني هذا الأمر» قالوا: «وشجاني وأرمضني وأقلقني وأقضَّ مضجعي»، إلى أن يقول: «بل أستأذن القارئ الكريم في تقديم مَثلٍ على ذلك من رسالة أمامي لكاتبٍ كبير قال: يا إخواننا، إن الصارخة القومية والنعرة الجنسية قد بدأت مع الأقوام، ونشأت مع الأمم مُذ الكيان ومنذ وجد الاجتماع البشري وتساكن الإنسان مع الإنسان» وقال: «مهما انتبذ لنفسه مكانًا منزويًا وتنحى جانبًا معتزلًا» وقال: «ومهما ترامت به عن منبتهِ الأقطارُ وتباينت بينه وبين أهله الأوطانُ والأوطارُ … إلخ.»

ثم قفى على ذلك صاحب المقالة بقوله: «تأمل، وسبب ذلك إمَّا قلة البضاعة ونزارة المادة الفكرية (كذا ولعله سها عن وضع «إما» في الجملة الثانية سهوًا؛ إِذْ «إما» هذه لا بد من تكرارها عند التخيير كما لا يخفى). وأصحاب هذا المذهب يحسبون أن اللُّغَةَ هي كل شيء، فإذا حمل أحدهم على ظهر قلبه مقامات الحريري وديوان الحماسة والمعلقات والمفضليات فقد صار كاتبًا نحريرًا، أو يكون ذلك متابعة لما ورد في بعضِ أقوالِ العربِ مِن التكرارِ لضرورةِ؛ كقول الشاعر: «فألفى قولها كذبًا ومينًا» أو تقليدًا لأحمد فارس الشدياق في كتابه «الساق على الساق»، ولكن أحمد فارس لم يأتِ بالمترادفات لأنه يذهب إلى هذا النوع من الكِتابة، وإنما أراد أن يضعَ كِتابًا في المترادفات ككتابِ الألفاظِ الكتابيةِ لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني» إلى أن قال: «ومهما يكن السبب فإن هذا النوع من الكتابة غير طبيعي أو غير عربي (كذا) أو على الأقل لا يستمرئه ذوقُ هذا العصر» ثم قال: «وأنت إذا تفقدت كلامَ العربِ في أشعارِهم وأمثالِهم وخطبِهم ورسائلِهم عَلِمتَ أنهم يميلون إلى الإيجاز وأنهم يكرهون التطويلَ المُمِل»، ثم عاد فاستدرك بقوله: «إن للإطنابِ مواطن وشروطًا نصَّ عليها البيانيون وليس فيما نصُّوا عليه ما يجيز أن يكيلَ الكاتب المترادفات كيلًا … إلخ.»

فظاهر أن هذا الكاتب الأديب يقصدني في تعريضه، لاستشهاده ببعضِ جُملٍ من نِداءٍ كان الوفدُ السوري وجَّهَهُ إلى الأمةِ العربيةِ قَاصِيها ودَانِيها وحاضِرها وبادِيها وخاصيها وعاميها، مُراعيًا حالةَ مَن يُخاطبهم وضرورة تمكين المعاني من نفوسهم وتحريك عواطف حميتهم مِمَّا هو في كلِّ لُغةٍ وفي كلِّ منطقٍ وفي كلِّ أدبٍ موطن التكرار الأكبر ومحل التأكيد الألزم؛ إذ كانت المناشير العامة والرسائل الموجهة إلى الجماهير دائمًا على هذا النسق، ولم تكن قاعدة «خير الكلام ما قَلَّ ودَلَّ» موضوعةً لمثلها، إلا إذا اختلت قاعدة أخرى هي أعمُّ منها، وهي: «لِكُلِّ مَقامٍ مَقَال»، والفصاحة هي المطابقة لمقتضى الحال.

وقد كُنت فكرت في أن أترك هذا الكاتب وشأنه، وأن أعرض عنه وأتجاهل انتقاده تاركًا اللُّغَة العربية ونظمها ونثرها ومتونها وأصولها وأمثلتها ترد عليه وتقنعه بخطئه، لولا أنني رأيتُه — وأرجو منه أن لا يؤاخذني على هذا القول — واضعًا نفسه موضع أستاذ اللُّغة، وشيخ الصناعة، والجهبذ الذي يقبل هذا ويزيف ذاك، والقاضي الفيصل الذي يحكم ولا معقب لحكمه، ماضيًا في غلوائه مسرورًا بآرائه راضيًا عن أنحائه، فحرصت على أن لا يتمادى في وهمه، وأشفقت من أن يتصل وهمه إلى غيره، وعولت على أن أُبين له مناهجَ اللُّغَةِ في بابِ الإيجاز والمساواةِ والإطنابِ ومقام كل منها لِيعْلَم أن مقام منشورنا المرسل إلى الأمةِ العربيةِ جمعاء في آفاق الأرض ومناكبها ومشارق الشمس ومغاربها هو مقامُ إطنابٍ، كما لا يخفى على كل من شدا شيئًا من الأدبِ أو طالع شيئًا من آثارِ هذه الأمة.

ولكنني قبل الشروع في موضوعي أحِبُّ أن أسأله عن قوله: «وأما الأساليب فهناك مذهبان؛ مذهبٌ قديمٌ ومذهبٌ جديدٌ»، فإنني لا أعلم مذاهب جديدة إلا في العِلمِ والفنِّ، وأمَّا في الأدبِ واللُّغةِ فلا أعرف إلا مذهبًا واحدًا هو مذهبُ العرب، وهو الذي يريد أن يسميه بالمذهب القديم، وهو الذي يجتهد كلُّ كاتبٍ في العربية أن يحتذي مثاله ويقرب منه ما استطاع؛ لأنه هو المثل الأعلى والغاية القصوى، وإذا أراد الكاتب العصري أن يجول في المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة، استنفد جميع منتهِ في إلباس هذه المعاني الجديدة حلل الأساليب العربية القديمة التي هي أصل اللُّغَةِ والطراز المنسوج على منواله. وقصارى الأديب العربي اليوم أن يتمكن من إفراغ الموضوع العصري في قالب عربي بحت لا يخرج باللُّغةِ عن أسلوبِها ولا يُهجِّن لَهجتَها ولا يجعلها لُغةً ثانيةً؛ إذ كان التباعد عن الفصاحة والحرمان من حظِّها هُمَا على مقدار التجانف عن أسلوبِ العربِ عندما كانوا عربًا لم تخامر لُغتهم العجمة ولم تفسد منهم السليقة. وإن القمة العليا من ذلك هي لُغة الجاهلية وصدر الإسلام، ثم ما يليه نوعًا عندما كانت العربية في عنجهيتها والفصاحة في إبان سورتها. فأما المذهب الجديد الذي أشار إليه في الأدب والإنشاء العربي فلا نعلمه في المذاهب ولا وصل إلينا خبرُه، فحبَّذا لو أتانا صاحبُنا بتعريفِ المذهبِ الجديدِ هذا ودَلَّنَا على أمثلةٍ منه وكُتبٍ مُؤَلَّفة فيه، وأخبرنا مَن هُم أساطين هذا المذهب وحملة أعلامه، فإننا نُقِرُّ بكوننا لا نعرف في العربي إلا مذهبًا واحدًا كلما قرب إلى نسق الأولين كان أقرب إلى الفصاحة. وأما في العلوم والفنون فذاك موضوع آخر كلُّ يومٍ نحن منها في شيءٍ جديد، فلا يجوز أن نخلط هذا بذاك.

إن اللُّغَةَ الفرنساوية التي هي أفصح لُغات أوروبا لها أسلوب خاص ونمط قائم بها قد رَسَتْ عليه قواعدُها مُنذ نحو ثلاثِ مائة سنة، وبلغ كماله في عصر لويس الرابع عشر الذي يماثل صدر الإسلام في العربية، فكل كاتبٍ في اللُّغَةِ الفرنسوية يخالف أسلوبها الذي اصطلح عليه أدباءُ الفرنسيس يقولون له: هذا ليس بفرنساوي، ولا ينفعه عند ذلك أن يقول لهم: هذا مذهب جديد في الكِتابة، فإنهم يجاوبونه أن التجدد في الكِتابة لا بد لأجل أن يكون مقبولًا أن يتمشى على الأسلوب الفرنساوي المصطلح عليه.

إنني أريد أن أنزه حضرة الكاتب صاحب مقالة «التطور في اللُّغةِ» عن أن يكون مقصده الانتقاد لأجل الانتقاد، ولإثبات فضله وإظهار طوله على غيره. ولكنني من جِهة أخرى أعجب مِن كَوْنِ أديبٍ بارعٍ مثله متصدٍّ للفتيا في اللُّغَةِ تصدي حضرته يذهب عنه ما يليق بكلِّ أديبٍ أن يطلع عليه.

قال في صبح الأعشى في باب الإطناب: وهو الإشباع في القول وترديد الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، وقد وقع منه الكثير في الكتاب العزيز، مثل قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، وقوله عزَّ وجلَّ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا كرر اللفظ في الموضعين؛ تأكيدًا للأمر وإعلامًا أنه كذلك لا محالة (تأمل) إلى أن يقول: وقد وقع التكرار للتأكيد في كلامِ العربِ كثيرًا كما في قول الشاعر: «أتاك أتاك اللاحقون.»

ثم ذكر ما قيل في المساواة والإيجاز والإطناب والتفاضل بينها، فقال: وذهب قوم إلى أن الإطناب أرجح، واحتجوا لذلك بأن المنطق إنما هو بيان، والبيان لا يحصل إلا بإيضاحِ العبارةِ، وإيضاح العبارة لا يتهيَّأ إلا بمرادفةِ الألفاظ على المعنى حتى تُحيط به إِحاطة يُؤمن معها من اللبس والإبهام، وإنَّ الكلام الوجيز لا يُؤمن وقوع الإشكال فيه، ومن ثم لم يحصل على معانيه إلا خواص أهلِ اللُّغَةِ العارفين بدلالات الألفاظ.

(ليتذكر القارئ أن منشور الوفد السوري لم يكن موجهًا إلى خواص أهلِ اللُّغَةِ فقط؛ بل العوام من قُرَّائِه أكثر من الخواص) بخلاف الكلام المشبع الشافي؛ فإنه سالم من الالتباس لتساوي الخاص والعام في جهته.

ويؤيد ذلك ما حُكِيَ أنه قيل لقيس بن خارجة: «ما عندك في جمالات ذات حسن؟» قال: «عِندي قِرى كُلِّ نَازلٍ وَرِضَا كُلِّ سَاخِطٍ وخُطبةٌ من لَدُن تطلعُ الشَّمسُ إِلى أن تغرُبَ، آمُر فيها بالتَّواصُلِ وأنهَى عن التقاطُعِ.» فقيل لأبي يعقوب الجرميِّ: هلَّا اكتفى بقوله: «آمر فيها بالتواصل» عن قوله: «وأنهى عن التقاطع»، فقال: «أوما علمت أن الكناية والتعريض لا تعمل عمل الإطناب والتكشف؟ ألا ترى أن اللهَ تعالى إذا خاطَبَ العربَ والأحزابَ أخرج الكلامَ مخرج الإشارةِ والوحي، وإذا خَاطَبَ بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطًا، وقلما تجد قِصةً لبني إسرائيل في القرآن إلا مطولة مشروحة ومكررة في مواضع معادة لِبُعد فهمهم وتأخر معرفتهم، بخلاف الكلام المشبع الشافي فإنه سالم من الالتباس لتساوي الخاص والعام في فهمه.»

قال: وذهبت فرقةٌ إلى ترجيح مساواة اللَّفظِ المعنى واحتجوا لذلك بأن منزع الفضيلة من الوسط دون الأطراف، وإنما الحسن إنما يوجد في الشيء المعتدل» قال: قال في «مواد البيان» والذي يوجبه النظر الصحيح أن الإيجاز والإطناب والمساواة صفاتٌ موجودةٌ في الكلامِ، ولكلٍّ منها موضع لا يخلفه فيه رديفه إذا وضع فيه انتظم في سلك البلاغة ودلَّ على فضل الواضع، وإذا وضع غيره دلَّ على نقص الواضع وجهله برسوم الصناعة.

ومنه يستنتج أن منشورًا طبعت منه ألوف وألوف من النسخ ليوزع على ملايين من الأمةِ العربيةِ في المدر والوبر لو جاء يكتبه الإنسان كما يكتب رسالة إلى رجلٍّ من طبقةِ عبد القادر الجرجاني ويجتهد في إيداع أوسع المعاني أقصر الألفاظ لكان ذلك من بابِ وضع الشيءِ في غير موضعهِ ولَدَلَّ على نقصِ الواضع وجهله برسوم الصناعة.

ثم قال في صبح الأعشى: «فأما الكلام الموجز فإنه يصلح لمخاطبة الملوك وذَوي الأخطار العالية والهمم المستقيمة والشئون السنية، ومن لا يجوز أن يشغل زمانه بما همته مصروفة إلى مطالعة غيره.»

إذن ليست هناك مسألة تطويل مُمِل وإيجاز مُخِل؛ بل مسألة الإيجاز في محلِّ الإيجاز، والإطناب في محلِّ الإطناب، فإذا خُوطب الحكماء والعظماء والملوك بالكلام المشبع المبسوط المؤكد كان ذلك خللًا بأصول الكتابة ومنافيًا للذوقِ السليم … كما أنه إذا خُوطب الجماهير الذين لا تجد فيهم خاصيًّا إلا كان بجانبه ألف عامي، بدقائق من البلاغة وإشارات وكنايات تقتضي إعمال الفكر، ولا يدرك الجمهور مغزاها كان ذلك مخالفًا لآداب الكتابة وفات الغرض المقصود من الخطاب. نعم كان العرب يميلون إلى الإيجاز، ولكن كانوا يميلون أكثر من ذلك إلى وضع الشيء في محله.

قال في صبح الأعشى: «وأمَّا الإطناب فإنه يصلح للمُكَاتبات الصادرة في الفتوحات مِمَّا يقرأ في المحافِلِ والعهودِ السلطانيةِ ومُخاطبة مَن لا يصل المعنى إلى فهمِه بأدنى إشارة … إلخ.»

إلى أن قال نقلًا عن «مواد البيان» قال: «أمَّا أنَّه لَو استعمل كَاتبٌ ترديدَ الألفاظِ ومُرادفتها على المعنى في المُكَاتَبَةِ إِلى مَلِكٍ مَصْرُوفِ الهِمَّةِ إِلى أُمُورٍ كَثيرةٍ مَتى انصَرَفَ مِنها إِلى غَيرِهَا دَخَلَهَا الخَلَلُ لرتب كلامه فِي غَيرِ رَتْبِهِ، وَدَلَّ على جَهْلِهِ بِالصِّنَاعَةِ. وَكَذَا لَو بَنَى عَلى الإِيجَازِ كِتَابًا يَكْتُبُهُ فِي فَتحٍ جَلِيلِ الخطر حَسُنَ الأَثَرِ يُقْرَأُ فِي المَحَافِلِ والمَسَاجِدِ الجَامِعَةَ عَلى رُءُوسِ الأَشْهَادِ مِنَ العَامَةِ وَمَنْ يُراد مِنهُ تَفخِيمُ شَأن السُّلْطَانِ فِي نَفْسِهِ لَأوْقَعَ كَلَامَهُ فِي غَيرِ مَوقِعِهِ وَنَزَّلَهُ فِي غَيرِ مَنْزلِهِ؛ لَأنَّه لَا أَقبَح وَلَا أَسْمَج مِن أَنْ يَسْتَنْفِرَ النَّاس لِسَمَاعِ كِتَابٍ قَد وَرَدَ مِن السُّلْطَانِ فِي بَعْضِ عَظَائِمِ أُمُورِ المَمْلَكَةِ أَو الدِّينِ، فَإِذَا حَضَرَ النَّاسُ كَانَ الذي يَمُرُّ عَلَى أَسْمَاعِهِم مِن الأَلفَاظِ وَارِدًا مَوْرِد الإِيجَازِ والاخْتِصَارِ لَمْ يحسن مَوْقِعه وَخَرَجَ مِن وَضْعِ البَلَاغَةِ … إلخ.»

ولا أظن منتقدنا يقول إنما هذا ينطبق على الكتب الواردة من السلطان في أخبار الفتوحات، ومنشوركم هذا ليس عن السلطان ولا هو في فتح، فالجواب عند ذلك أن المنشور الذي يوجه إلى أمَّةٍ كبيرةٍ من وفد من وفودها في الاستنفار إلى تلافي خطْبٍ أو سدِّ خرقٍ أو مقصدٍ من تلك المقاصد العالية التي تتعلق بها حياةُ تلك الأمَّةِ هو أيضًا في حُكم كُتبِ الفتوحات وأجدر منها بمراعاة أصول المناشير العامة.

ولقد ورد في رسائل أبي إسحق الصابئ الذي كان رئيسَ كُتَّاب ديوان الخلافة في بغداد كثيرٌ من الكتب التي تتشابه في المعنى أسجاعها وتتوالى مترادفاتها، وقد أوضحت يومئذ في حاشية تلك الرسائل التي طبعتها أن هذا المذهبَ هو خلاف قاعدة الإيجاز، ولكنه مِمَّا يستحب في خطاب الأمة ونداء الجمهور مِمَّن لا بد للكاتب أن يعيد المعنى عليهم ويصقله مِرارًا حتى يتشربوا معناه ويشتفوا مغزاه.

بقي علينا أن نأتي بشواهد على مذهب فصحاءِ العربِ في استعمال المترادف وإبراز المعنى الواحد بصورٍ مختلفةٍ، وهذا هو أكثر من أن تحيط به المجلدات، وما على المكابر فيه إلا أن يقرأ خطب العرب ونخب رسائلهم وغرر أقوالهم ويتصفح كتابات فحول البلاغة، مثل: الجاحظ، والزمخشري، وبديع الزمان، والخوارزمي، والصاحب بن عباد، وابن العميد، وأبي إسحق الصابئ، والقاضي الفاضل، وابن خلدون، ولسان الدين ابن الخطيب وغيرهم، فيجد في كل صفحة من صفحات كُتبهم شيئًا يحقق له كون هذا المذهب مذهبهم عندما يقتضيه المقام، ولكن لما كان المثل الحاضر أوقع في النفس توخينا أن نأتي بشيء من الأمثال مِمَّا حضرنا على طريق المصادفة، فنقول: قال أبو الهلال العسكري في «الصناعتين» وهو من أساتذة الصناعة: «فإن صاحب العربية إذا أخلَّ بطلب هذه العلوم وفرط في التماسها؛ فاتته فضيلتُها، وعلقت به رذيلة قوتها، وعفى على جميع محاسنه، وعمى سائر فضائله.»

فأنت ترى المشابهة في المعنى بين «أخلَّ» و«فرَّط» والطلب والالتماس وفوت الفضيلة وعلوق الرذيلة، وكذلك بين «عفى، وعمى، والمحاسن، والفضائل» وليس الفرق بين هذه الألفاظ ومدلولاتها أعظم من الفرق بين الصارخة القومية والنعرة الجنسية وأنها بدأت مع الأقوام ونشأت مع الأمم منذ الكيان … إلخ، وبين مدلولاتها؛ بل كل ذلك من قبيل إشباع المعنى وتمكينه في ذهن السامع بالصور المختلفة.

وقال الشيخُ شهاب الدين محمود الحلبي صاحب حسن التوسل: وهذه العلوم وإن لم يضطر إليها ذو الذهن الثاقب، والطبع السليم، والقريحة المطاوعة، والفكرة المنقحة، والبديهة النجيبة، والروية المتصرفة، لكان العالم بها متمكن من أزمة المعاني وصناعة الكلام، يقول عن عِلم، ويتصرف عن معرفة، وينتقد بحجة ويتخير بدليل ويستحسن ببرهان … إلخ.

فإن قيل: إلا أن هذا ليس من الترادف لوجود فروق دقيقة بين «قريحة وروية، وفكرة وبديهة، وحجة ودليل وبرهان، ويتخير ويستحسن»، فالجواب أن هذه الفروق الدقيقة هي أيضًا في الجمل التي عابها علينا صاحبُ مقالة التطور، مثل: «الانتباذ»، و«التنحي»، و«الانزواء»، و«الاعتزال»، و«ترامت به عن منبته الأقطار»، و«تباينت بينه وبين أهله الأوطان والأوطار». وإن كثيرين من أئمة اللُّغَةِ ينكرون وجود مترادف حقيقي فيها، ويقولون إن الناس صاروا يعدون بعض الكلام مترادفًا لجهلهم بأصل معناه وإنما هو تشابه لا غير. ولا ينبغي أن ننسى أن صاحب حسن التوسل لا يتكلم عن جمهور أكثرهم ليسوا من أهل الفن بل كلامه موجه إلى الخواص دون غيرهم، ومع هذا فقد مرَّ بك إطنابه.

وانظر إلى قول أبي طالب حين خطب النبي خديجة: الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبرهيم وذرية إسماعيل، وجعل لنا بيتًا محجوجًا وحرمًا آمنًا ثم إنَّ محمدَ بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي من لا يوزن بأحد إلا رجحه ولا يعدل بأحد إلا عدله.

هاك مثلًا مِن قولِ عثمان بن عفان — رضي الله عنه: إن لكلِّ شيءٍ آفةً، وآفةُ هذا الدين وعاهة هذه المِلَّةِ (تأمل في: آفة وعاهة ودين وملة) قومٌ عيَّابون طعَّانون (تأمل أيضًا) يظهرون لكم ما تُحِبُّون ويسرُّون ما تكرهون. أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار لقد عِبْتُم عَليَّ أشياء ونقمتم مني أمورًا (تأمل أيضًا) قد أقررتم لابن الخطاب بمثلها ولكنه وقمكم وقمًا ودمغكم (انظر إلى تقارب: وقم ودمغ وكلاهما بمعنى: أذلَّ وقهر) حتى لا يجترئ أحد منكم يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إلا مسارقةً إليه (وهنا المعنى واحد أشير إليه بصورتين مختلفتين ليزداد رسوخًا في فكر السامع).

فنظن أن عثمان بن عفان كان عربيًّا، لا بل من الطبقة الذين تؤخذ عنهم لُغة العرب، وخطبته هذه معدودة من غرر الخطب التي يستشهد بها في البلاغة.

فانظر كم ثمة من الجرأة عندما يقول صاحبنا: «هذا النوع من الكتابة غير طبيعي أو غير عربي»، فإن هذا النوع الذي وصفه بكونه غير عربي هو هذه الطريقة بعينها كما مر بك وكما سيأتيك.

وإليك من كلام زياد ابن أبيه الذي ضرب المثل بفصاحته فقيل «أخطب من زياد»: فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي على النار ما فيه سفهاؤكم. إلى أن يقول: من ترككم الضعيف يقهر والضعيفة المسلوبة في النهار لا تنصر والعدد غير قليل والجمع غير متفرق. إلى أن يقول: إني لو علمت أن أحدكم قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعًا ولم أهتك له سترًا … إلخ.

عندك هنا: الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والضعيف يقهر، والضعيفة لا تنصر، والكشف والهتك، والقناع والستر، فماذا يقال لهذا إن لم يكن مترادفًا؟! ولماذا هذا يجوز ويستشهد به في أنموذجات البلاغة ويعاب قولنا: «وأمَّا هذه النعرة الجنسية والحمية القومية وإنْ عَمَّ أمرُها جميع الأمم ولم يخلُ منها عربٌ ولا عجمٌ … إلخ.»

ولعبد الملك بن مروان ومكانه من البلاغة والفصاحة مكانه: فتنزل بكم جائحة السطوات، وتجوس خلالكم بوادر النقمات، وتطأ رقابكم بثقلها العقوبة فتجعلكم همدًا رفاتًا، وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتًا … إلخ. ما هو المعنى الجديد بين «جائحة السطوات» و«بوادر النقمات»، وبين «تجعلكم رفاتًا» و«تشتمل عليكم الأرض أمواتًا؟» أم تقول هذا حشو ولو صدر من عبد الملك بن مروان. كلا أيها الأديب هذا تكرار وتأكيد من سلطان يريد أن يرهب رعيته وينذر قومه حتى يستقيموا على الطاعة، وهو أبلغ وأوفى بالغرض من الكلام الذي قلَّ ودلَّ والذي ليس فيه تكرار معنى؛ بل هو أوقع في نفوس السامعين مِمَّا لو اقتصرنا على قوله: «فتنزل بكم جائحة السطوات وتطأ رقابكم العقوبة فتجعلكم رفاتًا.»

وإليك من الحجاج بن يوسف من خطبة على أهل العراق: إنني لأرى رُءوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله كأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. إلى أن يقول: لقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وأجريت من الغاية، وإن أمير المؤمنين عبد الملك نثر كنانته بين يديه فجمع عيدانها عودًا عودًا فوجدني أمرها عودًا وأشدها مكسرًا، فوجهني إليكم ورماني بكم يا أهل الكوفة يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق؛ لأنكم طالما أوجفتم في الفتنة واضطجعتم في منان الضلال وسننتم سننَ البغي، وايم الله لألحونَّكُم لَحوَ العودِ ولأقرعَنَّكُم قَرعَ المروة. والله لا أحلف إلا صدقت، ولا أعد إلا وفيت … إلخ. ثم يقول: فاستوثِقُوا واعتدلوا ولا تميلوا واسمعوا وأطيعوا وشايعوا وبايعوا. ا.ﻫ.

تذكر تهكم صاحب المقالة بمن تمادى في ضلاله ولجَّ في غوايته، وقابل ذلك بقول الحجاج هنا وتكريره ثلاث فقر متتابعة في معنى الفتنة والضلال والغي، ثم تدبر قول الحجاج: اعتدلوا ولا تميلوا، فإن الاعتدال وعدم الميل شيء واحد، ثم قوله: اسمعوا وأطيعوا وشايعوا وبايعوا، وكل هذا متقارب المعنى من قبيل الشقص الأوفر والحظ الأكمل» التي عابها علينا.

وخذ ما قاله أبو بكر الصديق لأبي عبيدة بن الجراح حينما أرسله إلى علي — رضي اللهُ عنهم جميعًا — عندما تلكأ عليٌّ عن المبايعة وهو مِن جُملة كلامٍ: «ولَئِنْ لَم يَنْدَمِلْ جرحه بِيَسَارِكَ وَرفقك وَلَم تجب حيته برقيتك وَقَعَ اليأسُ وَأعضل البأسُ واحتيج بَعدَ ذَلِكَ إِلى مَا هُو أمرُّ مِنه وأَعْلَق وأَعْسَر مِنه وأَغْلَق، والله أسأل تمامه بك ونظامه على يديك، فتأت له أبا عبيدة وتلطف فيه وانصح لله — عزَّ وجلَّ — ولِرسُولِه غير آل جهدًا ولا قال حمدًا والله كالئك وناصرك وهاديك ومُبصرك إن شاء اللهُ. امض إلى عليٍّ، أخْفِضْ لهُ جنَاحَكَ، واغْضُضْ عِنده صَوتَك، واعلم أنَّه سُلالة أبي طالب ومكانه مِمَّن فقدناه بالأمسِ مكانه، وقُلْ لَهُ: البحر مغرقه والبر مفرقه، والجو أكلف والليل أغدف، والسماء جلواء، والأرض صلعاء، والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق عطوف رءوف، والباطل عنوف عسوف، والعجب قداحة الشرِّ، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والقحة ثقوب العداوة.» إلى أن يقول: «ما هذا الذي تسول لك نفسك، ويدوي به قلبك ويلتوي عليه رأيك ويتخاوص دونه طرفك، ويسري فيه ظعنك، ويتراد معه نفسك، وتكثر عنده صعداؤك، ولا يفيض به لسانك. أعجمة بعد إفصاح، أتلبيس بعد إيضاح.» إلى أن يقول: «زمان كنت فيه في كن الصبا وخدر الغرارة وعنفوان الشبيبة.» ومثله قول الرسول عن عليٍّ: «إني أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنه.» فقال له أبو بكر: «متى كنفته يدك ورعته عينك حفت بهما البركة وأسبغت عليهما النعمة.» وميعة الشباب وحداثة السن ثم البركة والنعمة وكله من باب واحد. ومن جملة قول أبي بكر في تلك الرسالة إلى علي عن رسول الله «إنه لم يدع أحدًا من أصحابه وأقاربه وسجرائه (جمع سجير وهو الخليل الصفي) إلا أبانه بفضيلة وخصه بمزية وأفرده بحالة أتظن أنه ترك الأمة سدى بددًا عباهل مباهل (عباهل مهملة مسيبة، ومباهل من أبهل الوالي الرعية: تركهم يركبون ما شاءوا) طلاحي مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق لا رائد ولا ذائد، ولا ضابط ولا حائط، ولا ساقي ولا واقي، ولا هادي ولا حادي. كلا ما اشتاق إلى ربه ولا سأله المصير إلى رضوانه وقربه إلا بعد أن ضرب المدى وأوضح الهدى وأبان الصوى وأمن المسالك والمطارح وسهل المبارك والمهايع، وإلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله وشرم وجه النفاق لوجه الله … إلخ.» إلى أن انتهى بقوله: «دعنا نقضي (كذا) هذه الحياة بصدور بريئة من الغل ونلقى الله بقلوب سليمة من الضغن.» هل نحن محتاجون إلى التنبيه على ما مرَّ بك من المترادفات والمعاني المبرزة في صيغ مختلفة اللفظ متحدة المآل أم تغنينا دراية القارئ عن الإيضاح؟!

ومن كلامِ عُمر في رسالة إلى علي: «إن أكيس الكيس من منح الشارد تألفًا، وقارب البعيد تلطفًا، ولا خير في عِلْمٍ مُستعمل في جَهل، ولا خير في معرفة مشوبَة بنكر.» إلى قوله: «بل نحن في نورِ نبوةٍ وضياءِ رسالةٍ، وثمرةِ حكمةٍ وأثرةِ رحمةٍ، وعنوانِ نعمةٍ وظلِّ عظمةٍ.» (تأمل في قوله: نور نبوة وضياء رسالة … إلخ).

وكان من جملة جواب علي: «لما وقذني به رسول الله وأودعني من الحزن لفقده؛ وذلك أنني لم أشهد بعده مشهدًا إلا جدد علي حزنًا وذكرني شجنًا.» (قابل هذه الجمل بما قاله صاحب مقالة التطور في هذا المقال وتأمل).

وما على القارئ إلا أن يأخذ نهجَ البلاغة ويتصفح ما فيه من الخطب التي تتقطع من دونها الأعناق لِيَعلمَ ما فيها من هذا النوع الذي يزعم صاحبنا أنَّه ليس بعربي … ومن كلام عمر: «ومن أعجب شأنك قولك: ولولا سالف عهد وسابق عقد لشفيت غيظي. وهل ترك الدين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو بلسان؟! تلك جاهلية قد استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها.» ا.ﻫ.

سبحان الله بعد أن قال: «سالف عهد» فما الحاجة إلى «سابق عقد»؟ ثم ما هو الفرق بين «استأصل شأفتها» وبين «اقتلع جرثومتها»؟ ولا أظنه أعظم من الفرق بين «انتبذ مكانًا» وبين «تنحى جانبًا» أوكان عمر غير بصير بالعربية؟!

ومِن كلامِ أمِّ الخير بنت الحريش البارقية يوم صفين في الانتصار لعليٍّ: «إنَّ اللهَ قَد أوضَحَ الحقَّ، وأَبَانَ الدليلَ، ونور السبيل، ورَفَعَ العِلْمَ، فَلَم يَدَعْكُم فِي عَمْيَاء مُبهَمَة، ولا سَودَاء مُدلهمةٍ.»

ومِن كلام الزرقاء بنت عديِّ بن قيس الهمدانية يوم صفين أيضًا: «أيُّها الناس، ارعووا وارجعوا؛ إنكم أصبحتم في فِتنة، غشتكم جلابيبُ الظلمِ، وجارتْ بِكُم عَن قَصدِ المحجَّةِ، فيَا لَها فِتنة عَمْيَاء صمَّاء بكْمَاء، لا تسمع لِنَاعِقِهَا، ولا تسلس لِقَائِدِها.»

وقال سعيدُ بن عثمان بن عفان حين دخل على معاوية: «ائتمنك أبي واصطنعك حين بلغك باصطناعه إياك المدى الذي لا يجارى والغاية التي لا تسامى … إلخ.» فقال له معاوية: «أمَّا ما ذكرت يا ابن أخي من تواتر آلائكم علي وتظاهر نعمائكم لدي فقد كان ذلك ووجب علي المكافأة والمجازاة.» ا.ﻫ.

فانظر أيها القارئ إلى: المدى الذي لا يجارى، والغاية التي لا تسامى، وإلى: تواتر الآلاء وتظاهر النعماء، وإلى: المكافأة والمجازاة، هل ترى في هذا الترادف فرقًا عن: «ترامت به عن منبته الأقطار وتباينت به عن أهله الأوطان والأوطار» أم أسلوب سعيد بن عثمان ومعاوية بن أبي سفيان غير عربي؟

والعربي هو أسلوب الأستاذ صاحب مقالة التطور! الذي هو مع هذا كله ينسى أنه قال في هذه المقالة ما يأتي: وانتقل من حالة الخشونة والبربرية والجهل إلى حالة الظرف والأنس والمعرفة، فما هو يا ترى ذلك الفرق العظيم بين البربرية والجهل، وبين الظرف والأنس، وما هو البون بين هذه المترادفات هنا، وقوله أحزنني وأمضني وأقض مضجعي على فرض ورودها على الشكل الذي أورده.

وكُنَّا نُحبُّ أنْ نطَّلِعَ على كِتابات هذا الفاضل ونقرأ له أكثرَ من مقالةٍ واحدةٍ (كذا)؛ لننظر هل تمكَّن من جعل كلامِه كُلِّه من قبيل (كلا ولا)؟ وهل راعى شروط الاقتصاد الذي يقتضيه هذا الزَّمان؟ وهل أفرغ جميع فصوله في قالب تلغرافات؟

فليعلم أن الاقتصاد في غير موضعه هو تبذير وتفريط وهو أشبه باقتصاد من يهمل استدعاء الطبيب وشراء العلاج حُبًّا في التوفير فتطول علته ويتعطل عمله ويخسر أضعاف ما وفَّر. وكذلك لُغة التلغرافات تبقى إلى الأبد لُغة تلغرافات لا تصلح لتفصيل مجمل ولا للإحاطة بموضوع ولا لشفاء غليل من مبحث. ومن قرأ كُتب الغربيين وطالع مقالاتهم اليومية وسمع محاضراتهم المستمرة علم أنهم يذهبون مذهب التطويل أكثر منا، وأن لا وجه للمقايسة بيننا وبينهم في الإطناب والشرح.

وربما يعترض بأن تطويلهم هذا إنما هو لتوفية الجزئيات حقها وإيضاح الغوامض وتشريح الدقائق العلمية حال كون العرب إنما يعيدون المعنى فيقولون: أمضني وأرمضني وأقلقني وأقضَّ مضجعي. والجواب ماذا نقول في كتب القصص «الرومان» التي تصدر بالألوف وليس فيها شيء من المباحث الفنية، نجد الكاتب إذا أراد أن يصف لك أقل منظر أو أدنى حادث أو أخف حالة نفسية لم يزل يعيد لك المعنى ويصقله ويقربه إلى الفهم ويبدي فيه ويعيد حتى تمر الصفحات بعد الصفحات وأنت لم تزل في ذلك المعنى نفسه. أفهذه لُغة التلغرافات؟!

ولنأتِ لك بشيءٍ من كلام الجاحظ الذي كان يعرف أن يكتب العربية … قال في وصف الكتاب: «نعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، الكِتابُ وعاءٌ مُلِئَ عِلمًا وظرفٌ حُشِيَ ظرفًا.» ثم يقول: «فما رأيت بُستانًا يحمل في ردن وروضة تنقل في حجر.» ثم يقول: «ولا أعلم جارًا أبر، ولا خليطًا أنصف، ولا رفيقًا أطوع، ولا معلمًا أخضع، ولا صاحبًا أظهر كفاية وعناية، ولا أقل إملالًا ولا إبرامًا، ولا أبعد عن مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا شجرة أطول عمرًا ولا أطيب ثمرًا، ولا أقرب مجتنى ولا أسرع إدراكًا، ولا أوجد في كل إبان من كتاب. ولا أعلم نتاجًا في حداثة سنه وقرب ميلاده، ورخص ثمنه وإمكان وجوده، يجمع من التدابير العجيبة والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة.» إلى أن يقول: «ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من الجلوس على بابك ونظرك إلى المارة بك … إلخ.» إلى أن يقول: «ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمها، ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها من غاب عنا وفتحنا بها كل منغلق علينا … إلخ.»

ثم يقول في جواب شرط: «علم أن ذلك أتم وأبلغ وأكمل وأجمع.» ويقول في محل آخر: «فرأى الكتاب أبهى وأحسن وأكرم وأفخم.» ويقول في مكان آخر: «وربما كان الكتاب هو المحفور إذا كان ذلك تاريخًا لأمر جسيم أو عهدًا لأمر عظيم كما كتبوا على قبة غمدان وعلى باب قيروان.» ويقول أيضًا: «ويضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس.»

ويقول: «وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء يكتبون كتب الظرفاء والملحاء وكتب الملاهي والفكاهات وكتب أصحاب المراء والخصومات … إلخ.»

كان يقدر الجاحظ أن يقول في الكتاب: بستان يحمل في ردن ما رأيت جارًا أبرَّ ولا رفيقًا أطوع ولا صاحبًا أظهر كفاية ولا أقل إبرامًا ولا أبعد عن مراء من كتاب. ويختصر كثيرًا مِمَّا جاء على معنى واحد تقريبًا، ولكن لم تكن النفس لتشبع من الموضوع شبعها منه بعد هذا التكرار والتأكيد.

وقال علي بن الجهم: «إذا غشيني النعاسُ في غير وقت النوم تناولت كتابًا فأجد اهتزازي فيه من الفوائد والأريحية التي تعتادني وتعتريني من سرور الانتباه وعز التبيين، وإني إذا استحسنت كتابًا أو استجدته … إلخ.»

ومن كلام بديع الزَّمان: «والموت أمر عظم حتى هان وخشن حتى لان … إلخ.» ومن أقواله: «ما وقع من حرب وحدث من خطب، وكان من يابس ورطب … إلخ.»

ومن كلام الخوارزمي: «ويموت سيد من آل بيت المصطفى وشريف من عترة المجتبى فلا تشهد جنازته ولا تجصص مقبرته، ويموت مسخرة لهم (أي لبني العباس) أو لاعب أو زامر أو ضارب … إلخ.»

وأول مقدمة ابن خلدون:

الحمد لله الذي له العزَّة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وله الأسماء الحسنى والنعوت، القادر فلا يعزب عنه شيء في السموات والأرض ولا يفوت، العالم فلا يخفى عنه ما تظهره النجوى أو يخفيه السكوت، خلقنا من الأرض نسمًا، واستعمرنا فيها أجيالًا وأُمَمًا، ويسر لنا فيها أرزاقًا وقسمًا تكتنفنا الأرحام والبيوت، ويكفلنا الرزق والقوت، وتتداول آجالنا الأيام والوقوت، ويجري علينا ما خط علينا كتابها الموقوت، وهو الحي الذي لا يموت … إلخ.

إنْ صحَّ رأيُ صاحبنا فما معنى: «يعزب ويفوت، وأجيالًا وأممًا، وأرزاقًا وقسمًا، ورزق وقوت، وأيام ووقوت» أفليس كل زوج منها واحدًا؟

ومن ترسل الصابئ في التهنئة بمولود: فأخذ ذلك عندي مأخذ الاغتباط ونزل عندي أعلى منازل الابتهاج، وسألت الله أن يختصه بالبقاء الطويل والعمر المديد. إلى أن يقول: ويحرس هذه السعادة من خلل يعترض اتصالها، أو فترة تخترم زمانها، أو نائبة تشوبها أو تنغصها، أو رزية تثلمها أو تنقصها إلى انتهاء الأمد الأبعد والعمر الأطول. إلى قوله: الأيام التي استشعرت نورًا من سنائه، وآنست جمالًا من بهائه، وثابت مصالحها ببركته، وتوافت خيراتها بيمنه، واعتقدت أن السعادات طالعة علي بمطلعه أسبابها ناجمة إلي بمنجمه … إلخ.

وفي الموضوع نفسه لعلي بن حمزة بن طلحة: فاستفزتني غبطة استحوذت على جوامع لبي، وتملكتني بهجة ثوت في مرابع قلبي، وطفقت مبتهلًا وتضرعت متوسلًا أن يجمع له بين العمر المديد والجد السعيد وأن يجعل للحياة أياديه لدى سيدي الأمير متضاعفة الأعداد مترادفة الأمداد … إلخ. إلى أن يقول:

وأنْ يَقِيَهُ مِن كَيْدِ عاندٍ إِذا عَند، ويَحْميه مِن شرِّ حاسد إذا حسد، وأن يؤتيه عائدتي العاجلة والعقبى ويحظيه بسعادتي الآخرة والأولى … إلخ.

وماذا عسى الإنسان أن يستشهد مِمَا ليس له نهاية؟! وأرجو الأستاذ المنتقد ألا يؤاخذني على الإطناب؛ لأنه ضروري لإيجاد صورة تامة في الذهن، ولإقناع من كان مكتفيًا برأيه، وأن يتغمد «قلة بضاعتي ونزارة مادتي الفكرية» بوفرة بضاعته وغزارة مادته، وفوق كل ذي عِلم عليم.

١  رد الأمير في جريدة السياسة الغراء في العدد ٣١٩ بتاريخ ٧ نوفمبر سنة ١٩٣٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤