ولِكُلِّ دولةٍ رجالٌ …١

كنا نظن أننا بعد الإتيان بنصوص علماء الأدب وشواهد فحول البلاغة، مثل الجاحظ والبديع الهمذاني وابن خلدون وأمثالهم، نأمن المناكرة والمكابرة ويقع التسليم بأن المترادف — هذا إذا كان ثمة مترادف حقيقي — مألوف في لُغةِ القوم قد يأتي في الأحايين لتمكين المعنى في نفس السامع، وأن للإطناب مقامات وللإيجاز مقامات، وأن وضع الواحد منهما موضع الآخر مخل بالفصاحة التي هي المطابقة لمقتضى الحال، إلى غير ذلك، فلم نستفد شيئًا، وإذا بصاحبنا لا يعييه شيء، ولا تقف في وجهه حجة ملزمة بل كل شيء له عنده جواب مهما كان ذلك الجواب كبيرًا عليه. وإذا وضعته بإزاء أولئك الأئمة الذين هم قدوة الناس في البيان قال لك ما محصله: ومن هم هؤلاء؟ ومن هو الجاحظ؟ ومن هو بديع الزمان؟ لا بل من هو علي؟ ومن هو عمر؟ ومن هو زياد ابن أبيه؟ ومن هو الحجاج؟ هؤلاء لهم مذهبهم في القول وأنا لي مذهبي … صاحبنا أصبح صاحب مذهب، ولا غرو فلكل زمان أبطال ولكل دولة رجال.

يقع واحد في الخطأ ويقول ما لم يقله الناس، فإذا ردوه إلى القواعد واستظهروا عليه بالشواهد أجاب: هذا مذهب أولئك ولكنه ليس مذهبي.

لا تظن أنني مبالغ في شيء؛ بل أدين صاحبنا من نفس كلامه، قال: «لم يكن مقصدي الانتقاد لأجل الانتقاد ولكن لأقرر مذهبًا جديدًا (كذا) إذا لم يقبلوه فهم وشأنهم لهم مذهبهم ولي مذهبي.»

وقال في موضع آخر: «ولولا خوفي أن أمل القارئ الكريم وأن أشغل من صفحة الأدب على حسابي ما لا يجوز لي أن أشغله لحللت تلك الأقوال وأظهرت أنها لا تعني ما يريد الأمير أن تعنيه لأنها لم تزد على أن للإيجاز مقامًا وللإطناب مقامًا» إلى أن يقول: «ولو فرضنا أنها تعني ما يريد فأرجو أن أنبه من الأمير غير غافل إلى أننا نتكلم عن مذهب جديد لا مذهب قديم.»

لا، بل والله كنت غافلًا عن أنك صاحب مذهب، ولم يخطر ببالي أن أسلوب الجاحظ صار قديمًا باليًا وأن مثلي ومثلك صرنا مجددين في اللُّغة. لا تحمل كلامي محمل التهكم فليس بتهكم أن يقال لك: لستَ بالجاحظ ولا علي بن أبي طالب، وإذا كان لهؤلاء مذهب فلستَ أنت بالذي يقدر أن يأتي بنقيضه … فاربع على ظلعك ولا تركب في غير سرجك، فلسنا وإياك من تلك الطبقة. أما قوله إنه لو شاء لحلل تلك الأقوال وأظهر أنها لا تعني ما أريده … إلخ، فليت شعري ماذا تعني تلك الأقوال؟ وقوله: «فهي في وادٍ ومسألتنا في وادٍ» فأي وادٍ نحن فيه غير هذا الوادي؟ أنكر جواز استعمال المترادف مطلقًا فأوردنا له نقطة من بحر من كلام الأئمة الذي فيه ما فيه من المترادف. زعم أن للإطناب مواطن غير المواطن التي أطلنا فيها فأوردنا له النصوص والشواهد التي هي مثل فلق الصبح على كون الإطناب مألوفًا في المناشير العامة — التي هي في موضوع منشورنا إلى الأمة العربية — فكيف تكون تلك الشواهد في وادٍ ومسألتنا في وادٍ؟ ورحم الله القائل:

وليس يصح في الأفهام شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل

وقال: «اعتمد الأمير في رده على أصول اقتبسها من كلام صبح الأعشى، وعلى شواهد اقتبسها من أقوال من يسميهم بلغاء وفصحاء.»

أنا اعتمدت على أصول البيانيين التي وردت في صبح الأعشى وغير صبح الأعشى؛ لأن الأصول أصول أينما وجدت، فهل يريد أن نأتي له بنصوص أخرى من غير صبح الأعشى على أن للإطناب مقامًا وللإيجاز مقامًا، وأن التأكيد غير منكر في المناشير العامة، لا، بل الإيجاز فيما يخاطب به الجمهور مخالف لشروط الكتابة. أنا استشهدت في ردي السابق بكلام الرسول وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وأبي عبيدة وزياد ابن أبيه والحجاج بن يوسف وعبد الملك بن مروان وسعيد بن عثمان بن عفان والزرقاء الهمدانية وأم الخير البارقية ثم الجاحظ وعلي بن الجهم وبديع الزمان والخوارزمي وابن خلدون والصابئ، وغيرهم. وهذا ما حضرني قبسة عجلان. أفهؤلاء الذين يقول صاحبنا «من يسميهم بُلَغاء وفُصحاء» أي إنني أنا أسميهم بُلَغَاء وفصحاء والحقيقة أنهم ليسوا كذلك.

نشدت الله كل قارئ منصف أليس مراد الأديب السكاكيني بقوله: «من يسميهم بلغاء وفصحاء» أنني أنا وحدي أسمي هؤلاء الرجال المار ذكرهم بلغاء وفصحاء وأنه لا يسميهم كذلك إِذْ لا يجد لهم بلاغة ولا فصاحة؟ لا جرم أن هذا هو مراده بهذه الجملة وكان الأولى أن أمسك القلم عن مناظرته من بعد هذا ولكنني أكمل هذا الفصل ليزداد القراء بصيرة بالأمر وبعد ذلك أترك هذا العناء في مناظرة من لا يعجبه إلا رأيه. وقال: «فأحالني على صبح الأعشى في كلامه على التفاضل بين المساواة والإيجاز والإطناب. ليسمح لي الأمير أن أتجرأ على فضله فأقول لا تفاضل بينها؛ لأن كلًّا منها غير الآخر ولأن لكلٍّ محلًّا لا يجوز أن يحل فيه غيره.»

والله قد أعيتني الحيلة، ما أصنع لأقنع مناظري بالعدول عن هذا المراء الذي لا يليق بأديب مثله. أعيد ما قلته بحرفه بعد إيراد النصوص.

«إذن ليست هناك مسألة تطويل مُمِل وإيجاز مخلٍّ؛ بل مسألة الإيجاز في محلِّ الإيجاز، والإطناب في محلِّ الإطناب، فإذا خوطب الحكماء والعظماء والملوك بالكلام المشبع المبسوط المؤكد كان ذلك خللًا بأصول الكتابة، ومنافيًا للذوق السليم، كما أنه إذا خوطب الجماهير الذين لا تجد فيهم خاصيًّا إلا كان بجانبه ألف عامي بدقائق من البلاغة وإشارات وكنايات تقتضي إعمال الفكر، ولا يدرك الجمهور مغزاها كان ذلك مخالفًا لآداب الكتابة، وفات الغرضُ المقصودُ من الخطاب. نعم كان العرب يميلون إلى الإيجاز، ولكن كانوا يميلون أكثر إلى وضع الشيء في محله.»

أفرأيت كيف يذكرني مناظري بنفس الشيء الذي كنت قلته ليوهم الناس أنني مكابر فيه، ثم قال وهو مِن أغرب ما جاء في ردِّهِ:

أمَّا الشواهد التي جاء بها الأميرُ على ذِمَّةِ راويها دليلًا على أن أسلوبَه عربيٌّ، فلست أظن أنه يجهل أني لا أعجز عن أن أورد له أضعاف أضعافها لا ترادف بها ولا تكرار من كلام من يوثق بعربيته.

كلا لا تعجز عن إيراد شواهد على الكلام الموجز الذي ليس فيه مترادف ولا تأكيد وأنا مع عجزي وتسميتي تلك الطبقة بلغاء وفصحاء، واعترافي بأنني لا أصلح أن أكون من تلاميذهم لا أعجز أيضًا عن الإتيان بأضعاف الأضعاف التي وعدت بها من الشواهد أيها الأستاذ، ولكن لم أفهم معنى كلامك هذا؛ هل أنكرت أنا فضل الإيجاز وقلت لا بهاء لكلام موجز ولا مكان له عند العرب حتى تأتيني بتلك الشواهد التي تبطل دعواي؟ وهل ورد في كلامي شيءٌ يدلُ على كون المترادف هو أصلًا من أصول البلاغة لا غنى عنه جاء في محله أو في غير محله؟ متى وأين ادعيت ذلك؟

تحرير القضية أنك أنت تنكر المترادف مطلقًا، وأنا أقول: بل له مواضع، وقد جاء في كلام أهل اللسان المقتدى بهم في البيان. ولا ينشأ من ذلك كما يفهم بالبديهة أنني أنكر بدائع الإيجاز أو أوجب الإطناب في كلِّ مكان حتى تورد لي شواهد على ما لم تسبق لي دعوى بإنكاره وتتكثر هذا التكثر بدون سائق له.

أما قوله «على ذِمَّةِ راويها» فتلك مسألة أخرى، يظهر أنه لا يعجزه شيء، وقد أخذ اللُّغَةَ بالجسارةِ والقوةِ، فإذا استشهدت له بكلام أساطين العربية قال لك: أنت تراهم بلغاء، أمَّا أنا فلا، أو: مذهبي غير مذهبهم، وإذا خاف أن ينكر عليه القراء كون الرسول لم يصب شاكلة البلاغة عندما قال عن علي: «أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنه»، وكون أبي بكر تكلم بعربي فصيح عندما قال: «لم يدع أحدًا من أصحابه إلا أبانه بفضيلة وخصه بمزية وأفرده بحالة» أو تذكر أن عليًّا صاحب «نهج البلاغة» لم يكن محتاجًا أدباء آخر الزمان أن يردوه إلى العربية الصحيحة عندما قال: «لولا سالف عهد وسابق عقد»، وعند قوله: «استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها.» وأن معاوية أيضًا كان لا بأس به في العربية، وهو القائل: «تواتر آلائكم عليَّ وتظاهر نعمائكم لديَّ.» وأن الجاحظ كان أكتب مني ومن الأستاذ السكاكيني وأمثالنا، وهو الذي يقول: «أمنعها من الدروس وأبعدها من الدثور» عاد فقال لك: وما يدريك فلعلهم لم يقولوا ذلك وحاول جرح الرواية ولو كانت القضية قضية جملة أو جملتين أو مائة أو مائتين من هذا القبيل لكان الأمر سهلًا، ولكن هناك ما لا يُحصى ولا يُعد (لا يحصى ولا يعد) هو أيضًا من كلام العرب، وهو من باب التأكيد وإشباع المعنى؛ لأن «يعد» هو نفس «يحصى»، فماذا عسى صاحبنا يجرح من الروايات وماذا عساه يتحمل من الأجوبة على أقوال لم يختلف في روايتها اثنان.

ثم قال: «كان يجب — على رأيه — إذا قيل رأس الحكمة مخافة الله، أن يقال ودليل العقل تقوى الخالق وعنوان الفضل خشية الباري» إذا كنت استشهدت بأقوال العلماء عن مواطن الإيجاز ومواطن الإطناب وأوردت شواهد من الخطب والكتابات التي وقع فيها مترادف لنكتة مقصودة أو لمعنى قريب من معنى أو لتمكين صورة في ذهن أفتكون نتيجة ذلك أنني أوجب أن لا يقال رأس الحكمة مخافة الله حتى يقال ودليل العقل تقوى الخالق؟ أومثلي أنا ينكر جوامع الكلم وينكر مزايا الإيجاز؟ وهل هذا هو مبلغك من الإنصاف أيها الأديب؟!

ثم قال: «أعيذ اللُّغَة العربية من مثل هذا» أي يعيذ العربية من مثل كلام الجاحظ ومن سبق ذكره … ويظهر أنه أحس بكونه لا مخرج له من تبعة قوله أن هذا الأسلوب غير عربي، فقال: «ثم ما باله اهتم كثيرًا بقولي إن أسلوبه غير عربي ولم يهتم بقولي إنه غير طبيعي أو على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر» أي إنه قد يكون عربيًّا ولكنه غير طبيعي، فكأن العرب ينقصهم في دولة فصاحتهم هذه صفاءُ القرائحِ وتجويدُ المنطق، فجاءوا بما يخالف الطبيعة، وجاء هو يبيِّن لهم أنَّ أسلوبَهم هذا غير طبيعي، فليطبقوا أسلوبهم على الطبيعة، ثم نزل عن ذلك العموم إلى دائرة أضيق فقال: «لا يستمرئه ذوق هذا العصر» فجعل نفسه ممثلًا لذوق العصر، وظن أنه بقوله: «هذا مذهب جديد» انقطعت الحجة وارتفع النزاع، ونسي أن الطبيعة البشرية في هذا العصر وفي كلِّ عصر واحدة تميل إلى الإيجاز في محلِّ الإيجاز، وتهتف بالمترادف في محلِّ التأكيد، وأن الذي قرره من ذلك علماء الأدب هو المنطقي المعقول الملازم للبشرية الذي ليس فيه قديم وجديد؛ لأن العقل ليس فيه قديم وجديد، وأن ذوق هذا العصر أيضًا وذوق أدباء أوروبا هو الإيجاز في محلِّه والإطناب في محلِّه، وأن وضع الواحد موضع الآخر مخالف للذوق. وأما أنه لو أراد الإنسان ترجمة المترادف إلى لُغة أجنبية للزم تكرار اللفظ بعينه فليس بوارد لأن كلَّ لُغة لها روح. ولا يقال إن هذا الفرنساوي ليس بفصيح؛ لأننا عندما ترجمناه إلى العربي بنصه لم يكن له طعم، ولا أن هذا العربي غير بليغ، أفلا ترى أننا عندما جعلناه فرنسويًّا ظهرت فيه كلمات مكررة فمن البديهيات أن معيار فصاحة اللُّغَةِ لا يكون إلا في نفس اللُّغة. خُذْ «فِكْتُور هُوغُو» وترجمه إلى العربية فماذا تجد فيه مِمَّا يستحق كل هذا الإعجاب؟ مع أنه في لُغَتِه هو السنام الأعلى.

ويقول: «إن الأمير لم يغضب لأن انتقادي جاء مباينًا لوجه الصواب، وإنما غضب لأنني استشهدت بأقواله» ثم ما مضى سطران حتى عاد فقال: «نعم لم يغضب لأنني انتقدت وإنما غضب لأنني استشهدت بأقواله» بالله عليك أيها القارئ اللبيب هل تجد في هذه الجملة الثانية معنى جديدًا لم يكن في الأولى؟ فلماذا أجاز هذا التكرار أستاذ المذهب الجديد؟ أم يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا؟! ثم أطال في تبيين سبب غضبي وانحصاره في انتقاده لكلامي يريد أنني لولا ذلك لكنت استحسنت جرأته على أربابِ اللُّغَةِ وما علمت من أين جاءه نبأ هذا السبب؛ إذْ ليس في جوابي ما يدل على شيء مِمَّا قال، فكيف اطلع على سريرتي من القدس إلى لوزان، أبمناجاة الأرواح أم بقراءة الأفكار، فعلم أنني كنت موافقه على ما قاله لولا كونه تعرض لي؟! بل والله ما غضبت لنفسي مثلما غضبت لأساطين اللُّغَةِ وسلاطين البلاغة أن يقوم اليوم واحد مثلي أو أعجز مني فيقول إن بلاغتهم صارت قديمة بالية وإنه هو سيغنينا عنهم بأسلوب جديد.

ومن جملة تكراراته التي يعيبها على الناس ويقع فيها قوله في رده الأخير: «ليس الإطناب إكثارًا، كما أنه ليس الإيجاز اختصارًا، قد توجز مع الإكثار، وقد تطنب مع الاختصار، فلا دخل للإطناب والإيجاز في إكثارك، وإنما الإكثار أن تضاعف معانيك، وتتبسط فيها ما شئت وشاء المقام»، ما بالك تزري على الناس تكرار الجمل للتأكيد ثم تقول: «ليس الإطناب إكثارًا كما أنه ليس الإيجاز اختصارًا؟» فعلى مذهبك قد انتهى هذا المعنى هنا، وصار من الحشو أن تقول فيما بعده: «قد توجز مع الإكثار وقد تطنب مع الاختصار»، فأي معنى جديد أتيتنا به في هذه الجملة التالية؟! وأي تبسط تبسطته في المعاني هنا؟! فأنت الذي بعد هذا ينتقد قولي: «المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة» ويهزأ بعبارتي: «إن اللُّغَة الفرنساوية التي هي أفصح لُغاتِ أوروبا لها أسلوبٌ خاص ونمطٌ قائم بها»، ثم يعيب قولي: «كلُّ دورٍ من أدوار اللُّغَةِ العربية؛ سواء دور الجاهليين أو المخضرمين أو العهد الأموي أو العصر العباسي أو القرون التي بعده»، ثم يقول: «فالدور والعهد والعصر والقرون مترادفات، أجمل بقوله: كل دور من أدوار اللُّغَةِ، ثم فصل بقوله: سواء دور كذا أو عهد كذا أو عصر كذا، ثم عاد فأجمل بقوله: والقرون التي بعده، لا لأنه يريد الإجمال ولكن ليأتي بمترادفاته.»

ثم أجملت بقولي: «كل دور من أدوار اللُّغَة العربية» ثم لزم أن أفصل هذه الأدوار وأُعَيِّنها ليُعرف أي الأدوار التي كانت لها ديباجة تعرف بها. فقلت: «دور الجاهليين أو المخضرمين أو العهد الأموي أو العصر العباسي» فما فهمت وجه الاعترض هنا أترى عنده دور الجاهليين هو نفس دور المخضرمين، والعهد الأُمَوي هو العصر العباسي، فلا يكون ازداد المعنى بهذا التفصيل أم ماذا؟! كما أني لم أفهم كيف أني بقولي: «والقرون التي بعده» لم أقصد إلا الإتيان بمترادفاتي، أراه ينكر فائدة هذه الجملة ويرى القرون التي بعد العصر العباسي وهي نحو ستمائة سنة هي نفس العصر العباسي؛ فلذلك يرى أن ليس من معنى جديد في ذكرها، أعترف أنني عجزت هنا عن حل معمى انتقاده، وأنا أستنجد القراء الكرام أن يفيدوني محل التكرار بدون فائدة في عباراتي هذه. كما أني أستنهض هممهم أن يشرحوا لي ما زاد الأستاذ من معاني في قوله: «قد توجز مع الإكثار وقد تطنب مع الاختصار» بعد قوله: «ليس الإطناب إكثارًا كما أنه ليس الإيجاز اختصارًا.»

ثم زعم أني قلت: «فللأندلس منزع ولليمن مذهب ولمِصر لهجة وللشام أسلوب وللعراق نمط.»

والحال أن عبارتي هي هذه: «فللأندلس منزعٌ يَعرفه مَن أَلِفَ مُطالَعَةِ كُتُبِ ذَلك القُطْرِ، ولليمن مَذْهَبٌ لا يُشبه مذهبَ المنشئين في العربية مِن فارس في كثيرٍ من الأمورِ، ولِمِصر لهجةٌ خاصةٌ يَعرف الناقدُ البصيرُ منها نسبةَ مُؤلِّفِ الكِتابِ ولو لم يكن اسمه عليه كما ترى ذلك من ألف ليلة وليلة، وللشام أسلوب يختلف شيئًا عن أسلوبِ أهل مِصر في الكِتابة وكثيرًا في الحديث، كما أن للعراق نمطًا غير نمطِ أهلِ الشام ومِصر وَهَلُمَّ جَرًّا.»

أنا أعرض هذه الجمل على كلِّ مَن شمَّ رائحةَ العربيةِ وأرجو منه أن يخبرني أين التكرار المُمِلُّ والحشو الزائد هنا؟ هل يا تُرى إذا قلنا: «فللأقطار العربية منازع مختلفة في الكتابة» نكون وفينا كلَّ المعنى الذي يستفاد من هذا التفصيل ولا يكون ذلك إيجازًا مُخلًّا بما نريد بيانه؟

فإن كان مثل هذا حشوًا، فماذا يكون قوله هو: «وانتقل من حالة الخشونة والبربرية والجهل إلى حالة الظرف والأنس والمعرفة» أم تكون البربرية بلا جهل، ويكون الأنس بدون معرفة؟ أو هناك فروق ودقائق لا توجد في المترادفات التي وقعت في كلامنا، وما هو المعنى الجديد المتبسط في قوله: «على غير حاجة إليها ولا فائدة منها»؛ إذ ما الفائدة مِمَّا لا حاجة إليه؟ لقد أعجبته جدًّا كلمته هذه حتى كررها مرارًا في رده الأخير.

قال في العمود الأول من ردِّه: «يكيلونها كيلًا على غير حاجة إليها ولا فائدة منها»، ثم بعد أسطر معدودات من موضعها الأول قال: «ما مِن كلمةٍ إلا ومرادفاتها معها على غير حاجةٍ إليها ولا فائدة منها» ثم بعد أسطر من هذا المكان عاد فكررها قائلًا: «دليلًا جديدًا على أن الأمير من أصحاب المذهب القديم وأنه لا يزال مولعًا بالمترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم جاء في العمود الثاني من مقالته فقال: «أعرف كثيرين من أدباء عصر الأمير وخريجي مدرسته وأستاذه ينحون نحوه في الإكثار من المترادفات يكيلونها جزافًا من غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم قال في العمود الثالث من مقالته: «انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم قال بعد ذلك بقليل في نفس العمود: «انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها فقال منشوري للعامة.» ثم قال بعد ذلك بنحو عشرة أسطر: «لا أن تضاعف ألفاظك على غير حاجة إليها ولا فائدة منها.» ثم قال بعد هذه الجملة بسطرين لا غير أي حين لم يحن له أن يشتاق إلى هذه الجملة: «انتقدت على الأمير إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها فأحالني على صبح الأعشى.»

وبالاختصار فإنه أورد جملةً هي في الحقيقة: «لا حاجة إليها ولا فائدة منها» ثماني مرات في مقالة هي ثلاثة أعمدة، ولم يكثر عليه أن يرميني بالمترادف لغير فائدة وأن ينكر أسلوب العرب الأولين أهل اللِّسانِ، وأنْ يُنَصِّبَ نفسَه إِمَامًا يجب على الناس أن يُصَلُّوا خلفه، وبهذا القدر كفاية.

•••

بعد تحرير هذه المقالة اطلعت على صحيفة الأدب من «السياسة» الغرَّاء المؤرَّخة في ٢١ نوفمبر فوجدت فيها مقالتين ممتعتين إِحداهما بإمضاء «صدقي» والثانية بإمضاء «علي أدهم»، كل منهما مِمَّن يتحدى الأسلوب الغربي ويُحاكي مذهبَ كُتَّابِ الإفرنجة على شرط المحافظة على ديباجةِ العربيةِ وإفراغ المعاني الجديدة والمنازع الأوروبية في القالب المتين مِمَّا هو نكتة المحيا والغاية القصوى.

فقد تصفحت هاتين المقالتين فوجدت في أولاهما ما يأتي في ذكر رسالة الغفران:
تطير نفسه شعاعًا إلى نعيمها وملاذها.
يعدد ألوان النعيم ويصف أفانين الملاذ بأقصى قصارى مبالغاته.
ليست رسمًا مسطورًا أو قصورًا جامدة لا حراك بها.
لا مندوحة إذن عن أن المخيلة تحدس وتفترض.

فعلى مذهب الأستاذ السكاكيني «شيخ الطريقة الجديدة» لا وجه لذكر ملاذها بعد نعيمها، ولا محل لأفانين الملاذ بعد ألوان النعيم. وأي معنى لقوله: «لا حراك بها» بعد قوله: «إنها جامدة»، وما هي الضرورة لكلمة «تفترض» بعد كلمة «تحدس»، ولا فائدة للتأكيد ولا حاجة للتأثير على السامع، ومَن قارن بين الاعتراضات التي اعترضها عَلَيَّ وبين هذه الجمل عَلِمَ أن اعتراضاته واقعة على هذه أيضًا وعلى العربية من أصلها.

وجاء في المقالة الثانية ما يأتي في وصف الكاتب الروسي الروائي إيفان ترجنيف.

«زيادة اتساع الإحساس وترامي حدود المعرفة والإحاطة»، «ظاهرة ذات شأن كبير وحادثة بعيدة التأثير»، «وهو من كبار مفسري النفسية الروسية ومترجمي أسرار القلب السلافي.» سيقول لك السكاكيني أن لا محل لترامي الحدود بعد الاتساع، ولا لزوم لجملة بعيدة التأثير بعد ذات شأن كبير، وسينكر عليك ترجمة أسرار القلب بعد تفسير النفسية.

ثم ورد:

من العبقريات الثرة الفياضة»، «وربما كانت حماسته وتأججه أكثر من فيضه وتدفقه وعمق نفسه وبُعد قرارها أكثر من اتساعها وانفراج ما بين أطرافها»، «ويدرس إشارة بذاتها ولمحة بعينها ويعي كلَّ ذلك في حافظته ويرسمه في لوح ذاكرته.» سامحك الله أيها الكاتب الأديب، كيف تجرؤ أن تقول: ثرة وفياضة؟ أليستا مترادفتين؟ وكيف تجيز وضع عمق النفس بجانب بُعد القرار، أوليسا شيئًا واحدًا؟ وما معنى لمحة بعينها مع إشارة بذاتها؟ وهل تحتاج أن تقول: «يعي كلَّ ذلك في حافظته» ثم تردفها بقولك: «ويرسمه في لوح ذاكرته»؟ ولعلك تقول إن هذا من باب تنويع الصور للمعنى الواحد وارتياد التأثير في النفس ولكن هنا من لا يُبيح لك هذا الأسلوب ومن يُعيذ العربية منه …

ثم ورد:

نفس سرية غير مسرفة ولا مبذرة.

الدائمة الحركة بلا ونية ولا انقطاع السائرة أبدًا إلى الأمام مبتلعة كل شيء غير مبقية على شيء.

وكانت هذه النغمة متأصلة في نفسه، عريقة في طبعه، فقد كان لتأمله قوة الطبيعة وهولها يغمر مشاعره الجميلة بسيل من الحزن والأسى ويثير في نفسه العطف والحب للبشر شركائه في الخطب وإخوانه في البلاء.

أبعث على الكآبة وأكثر إثارة للشجن.

لا سيما غابة الصنوبر؛ فهي متشابهة متماثلة الشكول.

والمحيط يهدد ويتوعد.

التي ترمقه بغير ما عطف ولا حنان.

في ذلك الموقف تتراجع الآمال وتنكص على الأعقاب.

هناك يشعر الإنسان بعزلته وقلة حوله ونفاذ حيلته.

وفي الدنيا التي خلفها يستشعر الراحة والطمأنينة وفيها يستطيع أن يثق بقدرته ويصدق بقوته.

بادي الكآبة والحزن.

أخذتْ الظلالُ تنمو وتتكاثف وتُخيِّمُ.

كيف أنتفع من عَطايَاك ومِنَحك.

وهَل أنَا هَذا الشَّيءُ الخَامدُ الهامدُ.

الصَّمْتُ المَلي بالحُزْنِ والشَّجْوِ.

تَهْفُو بِي أَشباحٌ خَادِعةٌ غَرَّارةٌ.

سُرعان ما تنفجر لها ينابيع السعادة وتجيش شآبيبها.

يَتَزَايَدُ حُزْنُكَ ويَطْغَى شَجَنُكَ.

أَرَدْتُ رَاحَةً وَنَشَدْتُ هُدُوءًا.

لا أظن القارئ البصير يحتاج إلى تبين ما في هذه الجمل البديعة من المترادفات التي تزيد المعنى توضيحًا وصبغة القول تلوينًا، والتي لولاها لا يتم التأثير المطلوب في النفس، ولكن قاعدةَ الأستاذِ السكاكيني تحظر كل هذا وتعده (غير عربي)، وإذا حاجَجْته بكلامِ السَّلَفِ الذين ورد في كلامهم مثله قال لك: «غير طبيعي، أو لا يستمرئه ذوقُ هذا العصر» وإذا قلت له إن هذا أسلوب الروائي الروسي إيفان ترجنيف ولا شك أنه أسلوب عصري أوروبي لا تقدر أن تقول فيه شيئًا، أجابك: إلا أن هذا ليس مذهبي، وجف القلم. ومن هنا تعلم أن صاحبنا ليس في القديم ولا الجديد.

١  الرد الثاني على الأمير، نشر في جريدة السياسة الغراء في العدد ٣٣٩ بتاريخ ٢٣ ديسمبر سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤