العَرَبِي شَرط لازم في القديم والجديد١

قرأتُ في جريدةِ «السياسة» فصلًا عنوانه: «القديم والجديد» لأديب لم أعرف اسمه؛ لأنه لم يضع إمضاءَه تحت ما كتبه، ولا أعلم هل يقصد من إبقائه رسالته غفلًا هكذا أنه يتكلم بلسان «السياسة»، وكل ما يرد فيها بدون إمضاء يُعتبر منسوبًا إليها أم هناك وجه آخر؟

أنا لم أقل في وقت من الأوقات إنه لا يوجد أسلوب جديد، وإنه يحرم على الناس التجدد، وإنه إن جاز في شيء فلا يجوز في البيان، وإنما قلت إن لِكلِّ لُغَةٍ أسلوبًا أصليًّا أو نصابًا معروفًا لا بد من المحافظة عليه، وليس هذا خاصًّا بالعرب وحدهم. وإن اللُّغَةَ العربيةِ يمكنها أن تَسَعَ مِن المعاني الجديدة ومن المواضيع العصرية كُلَّ ما يعن للكاتب ويتوخاه المؤلفُ مع مراعاة ديباجتها الأصلية التي إن خرج البيان عنها كان عند العرب مستهجنًا.

وقلت في موضوع التجدد: إن العقل البشري هو بنفسه لا يتغير؛ بل المعلومات هي التي تتغير، فأمَّا الميزان الذي هو الراجع إليه الحكم بأن هذا صحيح وهذا فاسد، وأن هذا أصحُّ من هذا، فإذا كان قابلًا للتغيير فقد بطلت جميع الأحكام. وإن رقم ٢ مع رقم ٢ مجموعهما أربعة، كان ذلك منذ عشرة آلاف سنة، وهو الآن كذلك وسيبقى إلى ما شاء الله، ولو مضت مائةُ ألف سنةٍ لا تصير الاثنان والاثنان خمسة.

وإن تناسب الأعضاء أو الأقسام هو الجمال أو الطلاوة استحسنهما الناس من زمان نوح كما استحسنهما الناس اليوم، ولا يمكن أن يصير الحلو مرًّا والمرُّ حلوًا بسبب تغيير الأيام وتجدد الأزمان؛ فالخَلق استحلوا العسلَ من زمانِ سيدنا آدم، واستمروا الصاب، ولا يزالون يستحلون هذا ويستمرون هذا إلى هذه الساعة، ولا يجوز أن يغمزوا من أجل ذلك بالجمود والنفور من كلِّ شيءٍ جديد؛ وذلك أن هناك ذوقًا خُلِقَ في فِطرةِ الإنسان لا يزول إلا بزوال هذه الفطرة أو استئناف فطرة ثانية مباينة للأولى. وليس المراد من ذلك حظر التجدد في الطرق والأساليب والزيادة والنقصان، ومراعاة المكان والزَّمان والتلون بصبغة الألوان المختلفة، كلَّا، إن التجدد في هذه العوارض هو مِمَّا لم يخلُ منه زمان ولا قال بمنعه عاقل، كما أن هذا لا يمنع القول بوجود مبادئ ثابتة راهنة لا تقبل التغيير ولا التبديل.

إذن لست مِمَّن يعترضون على أولئك الذين يريدون «أن يأخذوا بحظهم من الحياة ويريدون أن يفهموا الناس ويفهمهم الناس ويعيشون مع الجيل الذي هم فيه دون أن يقطعوا الصِّلة بينهم وبين الأجيال الماضية»، كلَّا لأني من هؤلاء القوم أنفسهم لي ماضٍ يشهد لي بذلك، و٣٨ سنةً في عَالم المطبوعات؛ من أهرام، ومؤيد، ومقتطف، ومقتبس، وجرائد ومجلات عديدة عِشت فيها مع الجيلِ الذي أنا فيه، واجتهدت أنْ أفهم الناسَ وأنْ يفهمني الناسُ، وجُلْتُ في أكثر المواضيع العصرية، وطالما ألبست يدي عند الكتابة قفازًا. ولكنني حرصت على أن يبقى أسلوبي عربيًّا، وأن أقتدي بنغمةِ السَّلفِ في دولةِ فصاحتِهِم، وأن لا أقطع علاقتي مع الأجيال الماضية كما يوصي الأديبُ الذي يكتب في «السياسة»، ولو أردت أن أعيد نشر ما سبق لي في معنى حضارة المعاني في بداوة الألفاظ لظهرت لكل قارئ صحة دعواي هذه.

ولست بمن يُنكر أن لكلَّ عصرٍ من الأعصر أسلوبًا يمتاز عن غيره متلونًا بلون ذلك العصر، ولا بمَن يجحد أنه لو تُلي الكلامُ المترجم في زمانِ بني العباس على أعرابي في الفلاة أو على من يَألف هاتيك الألفاظ والاصطلاحات الجديدة لَمَا فَقِهَ مِنه شيئًا. إلا أنني أقول إن ذلك النسق لم يفارق نصاب اللُّغة، وأن للنزوع إلى الجديد حدًّا ينبغي أن يقف عنده، وهو الحدُّ الذي لا يخرج به عن روح العربية ولا عن طريقة القوم أفصح وأبلغ ما كانوا.

وأما كون كل قديم في الأصل جديدًا، وكل جديد سيعود قديمًا، فقد سبق إلى هذا الشاعر القائل:

إن هذا القديم كان جديدًا
وسيبقى هذا الجديد قديمَا

ليس في ذلك مرية.

ولما كان اللهُ قد مَنَّ عليَّ بمعرفة بعض اللُّغات الأوروبية ومطالعة آدابها والبحث في كثير مِمَّا يبحث فيه الأدباءُ الذين منهم صاحبُ مقالة القديم والجديد في «السياسة» كان لي الحق بأن أقول: ليست لُغة من هذه اللُّغات فوضى يركب الكاتبُ فيها رأسه كما يشاء، ويغير ويبدل في آدابها وأساليب التعبير فيها ما يشاء بحُجة التجديد والمعاصرة؛ بل ثَمَّة قواعد وضوابط لا يمكن الكاتب عندهم أن يتعداها، وإن تعداها قيل لذلك «بربرية»، وإن شئنا أوردنا الشواهد. وأختم أسطري هذه بالاعتراض على جملة جاءت في مقالة كاتب السياسة، وهي: «إن شكيب أرسلان يرى الإطناب خصلة من خصال اللُّغَةِ العربيةِ قد عمد إليها أكبر الكتاب وأرفعهم قدرًا منذ كان النثر العربي إلى الآن، فمن الحق أن نتبع طريقهم في ذلك. ويرى الآخر — أي الأديب السكاكيني — أن الإطناب خصلة من خصال اللُّغَة العربية ولكن له مقامه.»

فليسمح لي الأديب في القول إن هذا تحريف للكلم عن مواضعه، وإن هذا غير جائز؛ خصوصًا لمَن أراد أن يحرر هذا الخلاف ويقف فيه موقفَ مَنْ يضبط الواقعة؛ إذ إن شكيب أرسلان لم يقلْ أصلًا ولا في موضع من المواضع إن الإطناب خصلةٌ من خِصالِ اللُّغَة العربيةِ مُلازِمَةٌ لها ولا بد منها، لا؛ بل شكيب أرسلان كرر عِدَّة مرَّات مِن قبل ومِن بعد أن كلًّا من الإطناب والإيجاز والمساواة له مقام إنْ عُدل به إلى غيره أخلَّ ذلك بالفصاحة، فمن أين جاز لصاحب مقالةِ السياسةِ أن يعزو إليَّ ما لم أقله؟! ويجعل غيري هو القائل لِمَا قُلته وأكدته؟ إن كان ذلك صَدَرَ مِنه بدون تثبُّتٍ ولا إمعانٍ فليس بجائز الحُكم قَبل مطالعة نصِّ كلٍّ من الفريقين، وإن كان بعد المطالعة والتدقيق فتكون المسألة أعظم، على كلِّ حالٍ فلم أفهم سببَ هذا الافتئات عليَّ ولا أنا مِمَّن يفتأت بالسهولة عليهم.

١  الرد الثالث على الأمير نشر في جريدة السياسة الغراء في العدد ٤٢٣ بتاريخ ٦ مارس سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤