الحروف الهجائية١

لا أتعرض هنا للكلام عن أساليب تعليم الحروف الهجائية؛ فإني سأتكلم عنها في كتاب «أساليب التعليم» الذي سيظهر بعد حين، وسيكون الكتاب الأول من كتب القراءة التي أشتغل بوضعها الآن مبنيًّا على أحدث تلك الأساليب … ولا للكلام عن مخارج هذه الحروف وقسمتها إلى طوائف كالحروف المهموسة، والمجهورة، والشديدة، والرخوة، والمتوسطة، والمطبقة، والمنفتحة، والمستعلية، والمستفلة أو المنخفضة، وغير ذلك مما تكفَّل به علمُ الصرف والتجويد، ولا غنى لمن يتولون تدريس اللُّغَةِ العربية في الفصول الابتدائية عن معرفته ومراعاته إقامة للفظ على الوجه الصحيح … ولا للكلام عن صور هذه الحروف وكيفية تركيبها خطًّا، مما وفاه حقه كثيرون، منهم: «القلقشندي» في كتابه «صبح الأعشى»، ولا غنى لأساتذة الخط ولمن يضعون كتبًا للقراءة عن الاستبصار به، ولكنني سأقتصر على ثلاثة أبحاث أخرى: في الأول: أتكلم عن الحروف الهجائية العربية نفسها، وفي الثاني: أقابلها بغيرها وأذكر بعض مزاياها، وفي الثالث: أتكلم عن تاريخها والأطوار التي مرَّت بها إلى أن وصلت إلى صورتها الحاضرة.

البحث الأول: الحروف الهجائية العربية

تسمى الحروف التي تتركب منها الألفاظ حروف الهجاء، أو حروف التهجي، أو حروف المبنى، أو حروف المعجم، ويسميها سيبويه والخليلُ بن أحمد حروف العربية. وقد اختلف الصرفيون بين أن تكون ثمانية وعشرين حرفًا أو تسعة وعشرين حرفًا، ولكنها في الحقيقة تُقسَّمُ إلى أربعةِ أقسام: حروف مفردة، وحروف مركبة، وحركات، وضوابط.

الحروف المفردة

أ. ب. ت. ث. ج. ح. خ. د. ذ. ر. ز. س. ش. ص. ض. ط. ظ. ع. غ. ف. ق. ك. ل. م. ن. ه. ﺔ. و. (مثل الواو في: ثوب) ي. (مثل الياء في: بيت) وعددها تسعة وعشرون حرفًا.

الحروف المركبة

الحروف المركبة نوعان: إما أن تكون مركبة من حرف وحركة، وهي:

آ: أي همزة وألف في نحو: «مآكل»، وأصل كتابتها هكذا «أا».

لا: أي لام وألف.

وإما أن تكون مركبة من حركة وحرف، وهي:

تنوين ضم، وعلامته ـٌ.

تنوين فتح، وعلامته ـًا بألف، أو ـً بدونها.

تنوين كسر، وعلامته ـٍ.

فالأول مركب من ضمة ونون، والثاني من فتحة ونون، والثالث من كسرة ونون، ولكنهم لم يكتبوا النون استغناءً بمضاعفة الحركة عنها، وعدد الحروف المركبة على نوعيها خمسة.

الحركات

وهي تقسم إلى ثلاثة أقسام: قصيرة، وطويلة، وممدودة.

القصيرة تقسم إلى: الضمة والفتحة والكسرة.

الطويلة تقسم إلى: الألف.

الواو، مثلها في «عود».

الياء، مثلها في «عيد».

الممدودة: وهي «الألف، والواو، والياء» إذا وقعت قبل همزة أو شَدَّة، فالألف في «ماء ومادة» أطول من الألف في «باب»، والواو في «وضوء وقوص مجهول قاص» أطول من الواو في «عود»، والياء في «بريء» أطول من الياء في «عيد»، وعددها على اختلاف أقسامها تسع.

الضوابط

السكنة أو السكون، وعلامته ـْ.

الوصل، وعلامته ا، وهي مأخوذة من كلمة «صل».

المد، وعلامته آ، وهي مأخوذة من كلمة «مد».

التشديد، وعلامته ـّ وهي مأخوذة من كلمة «شد».

فعدد الجميع من حروف مفردة، وحروف مركبة، وحركات، وضوابط سبعة وأربعون حرفًا، إلا أن البعض منها قد يكتب على أشكال مختلفة معروفة.

وهنا استدعي انتباه الأساتذة الكرام إلى النقاط الآتية:
  • (١)
    لا يزال الصرفيون يعتبرون الألف والواو والياء حروفًا، والحقيقة أن الألف ليست إلا حركة، وأما الواو والياء فمن الأشكال المشتركة بين الحروف والحركات؛ فالواو في «ثوب» حرف، وفي «عود» حركة، ويقابل الأول عند الإفرنج حرف W، والثاني حرف O. والياء في «بيت» حرف، وفي «عيد» حركة، ونجد مثل هذا الاشتراك في الحروف الإفرنجية؛ فحرف Y يكون تارة حرفًا؛ مثله في كلمة yes، وتارة حركة؛ مثله في كلمة truly وحرف W يكون تارة حرفًا مثله في كلمة was، وتارة حركة؛ مثله في كلمة saw.
  • (٢)

    الألف والواو والياء قد تكون حركات طويلة، مثل: الألف في «باب»، والواو في «عود»، والياء في «عيد». وقد تكون حركات ممدودة إذا وقعت بعدها همزة أو شدة؛ مثل الألف في «ماء ومادة»، والواو في «وضوء وقوص مجهول قاص»، والياء في «بريء» — كما تقدم — وقد كان يجب أن يكون للحركات الممدودة شكل خاص لها غيره للحركات الطويلة — وقد تكون كراسي للهمزة، مثل: «رأس وسؤل وبئر».

  • (٣)

    اصطلحوا على كتابة الألف الممدودة الواقعة قبل همزة بِرَسْمِ مَدةٍ فوقها، مثل: «مآء وسمآء»، وكان يجب أن توضع علامة المد على الحركات الممدودة سواءٌ كانت ألفًا أم واوًا أم ياءً، وسواءٌ وقعت قبل همزة أم قبل شدة حسب اصطلاح القرآن، ولكنهم اقتصروا عليها مع الألف الواقعة قبل همزة لكثرة ورودها في الكلام، ثم لما كان موضع الألف الممدودة معلومًا جاز إهمال هذه المدة في الخط اعتمادًا على فطنة القارئ، ولكنَّ هناك موضعًا آخر لكتابة المَدة لا يجوز فيه إهمالها، وهي المدة التي تكتب فوق الهمزة التي بصورة الألف، نحو: «مآكل»؛ لأنها هنا ليست للمد مثلها في «مآء وسمآء»، وإنما هي ألف طويلة مثلها في «مدارس ومكاتب». وكان حقها أن تكتب هكذا «مأاكل»، ولكنهم استبشعوا أن تتوالى ألفان في الكتابة فكتبوا الثانية فوق الأخرى، فأشبهت المَدة، وهي ليست كذلك. ولهذا يكون قولهم إن المَدَّةَ مقتطعة من كلمة «مُدَّ» — لأنهم كانوا يكتبون فوق الألف الممدودة لفظة «مُدَّ»؛ إشعارًا بأنها ممدودة تمييزًا لها عن الألف الطويلة، ولفظة «مُدَّ» تشبه «المَدَّةَ» — لا يصدق إلا على المَدَّةِ التي تكتب فوق الألف الممدودة الواقعة قبل همزة، مثل: «مآء» لا على المَدَّةِ التي تكتب فوق الهمزة التي بصورة الألف، مثل: «مآكل». وتكون الألف الممدودة مع المَدَّةِ فوقها؛ مثل «مآء» حرفًا مستقلًّا بسيطًا، والهمزة مع المَدَّةِ فوقها، في مثل «مآكل» حرفًا مركبًا من همزة وألف، وكان يجب أن يذكروا هذا الشكل بين الحروف ويسموه: «همزة ألف» كما ذكروا شكل كتابة اللام مع الألف وسموه «لام ألف».

    الخلاصة أن المدة في مثل «مآء» هي مدة مقتطعة من كلمة «مدَّ» وفي مثل «مآكل» هي ألف، ولا يجوز في كتب القراءة أن يجمع بين المدتين في مكان واحد.

  • (٤)

    الألف تكتب على أربعة أشكال غير شكلها مع اللام؛ فهي تكتب قائمة مثل الألف في «عصا»، وأفقية مثل الألف في «مآكل»، وبصورة الياء بدون نقطتين، مثل الألف في «فتى»، وألفًا صغيرة فوق الحرف لا بعده في بعض الكلمات، مثل الألف في «الله» و«ذلك». وكلها تسمى الألف الهاوية، أي ذات الهواء أو الملساء أي اللينة. ولكن لا يزال كثيرون حتى بعض المؤلفين يسمون الألف في مثل «فتى» ألفًا مقصورة، وهذا خطأ؛ لأن الألف المقصورة هي الألف على كل أشكالها الأربعة السابقة. وسميت مقصورة؛ لأنها أقصر في اللفظ من الألف الممدودة في مثل «حمراء ومادة»، وإن جاز في بعض المواقف مد الألف وأختيها الواو والياء في غير مواضع المد كما تمد الألف في «لا» إذا أردت تأكيد النفي، وكما يمد المنادي صوته في أداة النداء «يا» إذا كان المنادى بعيدًا أو غير منتبه، وكما تمد الألف في لفظة واسع في قولهم «الله واسع الرحمة»، والياء في لفظة «كبير»، والواو في لفظة «غفور» في قولهم: «الله كبير غفور» للتأثير على السامعين في مواقف الوعظ وغير ذلك، ولكن هذا المد لا يكون إلا إذا اقتضاه الحال.

  • (٥)

    إذا اعتبرنا الألف التي هي أول الحروف الهجائية همزة، فقد كان يجب أن تكتب فوقها همزة هكذا «أ» وتسمى همزة لا ألفًا؛ لأن الألف ليست إلا كرسيًّا لها. وإذا اعتبرناها حركة فنكون قد أهملنا ذكر الهمزة بين الحروف، على أنه يظهر من ترتيب الحروف الهجائية على طريقة نصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني في زمن عبد الملك — وهو الترتيب المتبع الآن — أنهما ابتدآ بالألف والباء؛ لأنهما أول الحروف في «أبجد»، ولكن الحرف الأول في «أبجد» هو همزة لا ألف؛ لأن الألف لا تقع ابتداءً، ولعلها سميت ألفًا لأنها قد تكتب على الألف في بعض المواضع كما تكتب على الواو والياء في مواضع أخرى، فيكون ذلك على حد تسمية الكل باسم الجزء، وتكون الألف اسم شكلها لا اسم حكمها. أما سيبويه فإنه ابتدأ في ترتيبه بالهمزة بدون كرسي، ثم ذكر الألف وحدها بين الحركات الطويلة في آخر الحروف. ومن الترتيبين يظهر أن الحرف الأول من الحروف الهجائية هو همزة لا ألف، أما الألف التي هي حركة فقد ذكرت في الترتيب الأول في لام ألف، وفي الترتيب الثاني وحدها.

البحث الثاني: في مقابلة الحروف العربية بغيرها

للحروف العربية مزايا عديدة، أذكر منها ما يأتي:
  • (١)

    أنها تكتب وتقرأ من اليمين إلى اليسار كالسريانية والعبرية وسائر اللغات التي اقتبست الحروف العربية بخلاف الحروف الإفرنجية، فإنها تكتب من اليسار إلى اليمين، وبخلاف الحروف الهيروغلوفية فإنها — وإن بدئ بها من اليمين في أول سطر — يجوز أن يبدأ بالسطر الثاني من اليسار، وهكذا يبدأ كل سطر من حيث انتهى سابقه، وعليه قول الشاعر:

    لصاحب الأحباس برذونة
    بعيدة العهد من الربط
    تمشي إلى خلف إذا ما مشت
    كأنها تكتب بالقبطي

    وبخلاف الحروف الصينية فإنها تكتب من أعلى لأسفل …

    ومن الغريب اصطلاح الإفرنج على الكتابة من الجهة اليسرى دون اليمنى، على حين نراهم في كل أمورهم وأعمالهم يجرون من اليمين إلى اليسار، فمنازل الأعداد عندهم تتدرج من اليمين إلى اليسار — وإن كانوا يقرءونها بالعكس — وعلى حين أن الرسام أو النقاش إذا أراد أن يبدأ بعمله ابتدأه من اليمين، ولا سيما إذا كانت الرسوم متقابلة؛ بل «إذا كان أمامك درهمان على مائدة، وكلاهما على بعد متساوٍ منك، وأردت أن تتناول واحدًا منهما فإن كنت أيمن انقدت بالسليقة إلى أن تأخذ الذي إلى جهة يمينك» كما قال بعض العلماء في بحث تحت عنوان «الأعسر والأيمن». وكان ذلك كذلك؛ لأن نحو ٩٨ في المائة من الناس يعملون باليد اليمنى دون اليسرى، وقد أثبت بعض علماء منافع الأعضاء أن ذلك أمر فطري في الإنسان ناشئ عن تركيب البنية مما ليس من شأننا الخوض فيه، وإنما يهمنا هنا أن نقول إن اصطلاح العرب أقرب إلى الطبع وأسهل تناولًا، فإذا استسهل الإفرنجي الكتابة من الجهة اليسرى بحكم العادة والتربية والتعليم، استسهلناها من الجهة اليمنى بحكم العادة والتربية والتعليم وفوق ذلك بحكم الفطرة.

  • (٢)

    من مزايا الحروف العربية أنها قليلة الأشكال بالنسبة إلى الحروف الإفرنجية مع أنها أكثر عددًا. الحروف العربية تقسم إلى قسمين: كبيرة وصغيرة، فإذا تعلم التلميذ الحروف الكبيرة عرف الصغيرة؛ لأنها مقتطعة منها، إلا حروفًا قليلة ليس لها إلا صورة واحدة، وهي الألف والواو والدال والذال والراء والزاي والطاء والظاء، فكأن القسمين قسم واحد، ولا فرق في ذلك بين حروف الكتابة وحروف الطباعة. وأما الحروف الإفرنجية فتُقسَّمُ إلى قسمين: حروف طباعة وحروف كتابة، وكلٌّ منهما يُقسَّمُ إلى قسمين آخرين: حروف كبيرة وحروف صغيرة، ولا شبه بين الواحد والآخر في الجميع فتكون الحروف الإفرنجية مضاعفة أربعة أضعاف.

  • (٣)

    إذا تتابع حرفان متجانسان أو متقاربان في المخرج في كلمة واحدة وكان أولهما ساكنًا، والثاني متحركًا كتب الحرفان حرفًا واحدًا فوقه شَدة للاختصار، وأما الإفرنج فإنهم يدغمون الحروف المتجانسة أو المتقاربة ولكن بتكرار الحرف إذا كان من جنس الحرف الذي قبله أو باللفظ إذا كان قريبًا منه، وليس عندهم علامة على التشديد أو الإدغام.

  • (٤)

    العرب يكتبون الحرف الكبير من حروفهم في آخر الكلمة إيذانًا بأن الكلمة انتهت، وأما الإفرنج فيكتبون الحرف الكبير في أول الكلام، أو في أول بعض كلماتهم ولا دليل على أن الكلمة انتهت إلا فصلها عن الكلمة التي بعدها فيضطرون إلى ترك جزء من القرطاس خاليًا.

  • (٥)
    أن الكلمة في اللُّغَةِ العربية تأخذ فسحة أصغر من الفسحة التي تأخذها الكلمة الإفرنجية لأسباب:
    • (أ)

      لأن حروفنا أدق شكلًا، ولا سيما الحروف الابتدائية والوسطى.

    • (ب)

      لأننا نكتب الحرفين المتجانسين أو المتقاربين في المخرج إذا تتابعا في كلمة واحدة وكان أولهما ساكنًا والثاني متحركًا، حرفًا واحدًا فوقه شَدة كما تقدم.

    • (جـ)

      لأن حروفنا متصلة بعضها ببعض إلا حروفًا قليلة، وأما حروفهم فكلها منفصلة.

    • (د)

      لأن الحركات القصيرة عندنا — وهي الضمة والفتحة والكسرة — والضوابط — وهي السكنة والوصلة والمَدة والشَّدة — والتنوينات على اختلاف أنواعها، تكتب كلها فوق الحرف أو تحته، لا في صلب الكلمة، وقد نستغني عنها؛ لأن لها مواضع معلومة مطردة، بخلاف اللغات الإفرنجية؛ فإنه لا بد من رسم حركاتها في صلب كلماتها؛ لأنها لا تجري على قياس مطرد.

  • (٦)
    قال ابن فارس: «انفردت العرب بالهمز في عرض الكلام، مثل: «سأل، وقرأ»، ولا يكون في شيء من اللغات إلا ابتداءً»، ولكن مع وجود الهمزة ابتداءً في اللغات الإفرنجية، لم يضعوا لها صورة بين حروفهم، فهم يقرءون همزة القطع ولا يكتبونها، ويسقطونها في درج الكلام وليس عندهم علامة للوصل، فهمزة القطع عندهم واردةٌ فيما كان من كلماتهم مبدوءًا بحركة، مثل: on أو at أو it فيلفظونها ولا يكتبونها، أي إنهم استخدموا الحركة لأمرين: للهمز، وللحركة، وكان الحق أن نقرأ هذه الكلمات بالإشمام، وهو عبارة عن الإشارة بالشفاه إلى الحركة من غير تصويت، أو بالروم، وهو عبارة عن حركة مختلسة مخفاة (راجع الإشمام والروم في القاموس)، أو كان يجب أن يضعوا قبل كلِّ حركةٍ في هذه الكلماتِ وغيرها حرفًا يدل على الهمز، كما نفعل نحن، فإننا نكتب كلَّ كلمةٍ من هذه الكلمات المتقدم ذكرها بثلاثة أحرف، وهم يكتبونها بحرفين، فالكلمة الأولى نكتبها هكذا «أُن» أي بهمزة وضمة ونون. والكلمة الثانية هكذا «أَت» أي بهمزة وفتحة وتاء، والكلمة الثالثة هكذا «إِت» أي بهمزة وكسرة وتاء … بل هم إذا أرادوا أن يكتبوا كلمة «سأل» العربية مثلًا كتبوها هكذا sa-al، فهذا الخط الصغير بين الحركتين ناب عندهم مناب الهمزة.
    وأما همزة الوصل عندهم فهي ذات همزة القطع إذا وقعت في درج الكلام، فهم يلفظون هذه الكلمات put it on موصولة معًا بدون أن تكون هناك علامة للوصل، كما كان يفعل العربُ قبل أن اصطلحوا على كتابة علامة الوصل، فتكون الحروف العربية من هذه الجهة أتم من الحروف الإفرنجية … والشأن هنا ليس في اختصار الكتابة بل في ضبطها، وما كان أحراهم لو كانوا يتوخون الاختصار في الكتابة أن يتركوا الحروف الكثيرة التي يكتبونها ولا يقرءونها — ولا سيما في اللُّغَةِ الإنكليزية — بِحُجَّةِ أنها كانت في وقتٍ ما ملفوظة، فهي في كلماتهم كالأعضاء الأثرية في جسم الحيوان. وكانت القراءة عندهم مع هذه الزيادات على طريقة «انظر وقل» look and say أي إنهم يقرءون بدون أن يتنبهوا لكل حرف من حروف الكلمة؛ بل يرون لها صورة مجملة، كما أن من ينظر إلى أخيه لا يدقق نظره في شكل عينيه وحاجبيه وتقاطيع وجهه، بل يرى له صورة مجملة تنطبق على الصورة الكلية التي في ذهنه. ولسنا ننكر عليهم أن القارئ الحاذق في كلِّ لُغَةٍ يقرأ الكلمات ولا يتهجى الحروف، فقد تكون الكلمة مغلوطًا فيها بزيادة أو نقصان فيقرؤها على الوجه الصحيح بدون أن يتنبه إلى ما فيها من الغلط، وهذا من غرائب النظر، فقد يصور لك الأشياء بغير صورتها، يريك الصحيح خطأً، والخطأ صحيحًا، والصغير كبيرًا، والكبير صغيرًا، وهذا سرُّ أكثر ما يقع من الأغلاط المطبعية.

    ولا ننكر عليهم أيضًا أن الكاتب في كل لُغَةٍ يكتب الكلمات كما اعتادت يده كتابتها لا كما يتهجاها. قد تسأل الإنكليزي كيف تتهجى الكلمة الفلانية فلا يعرف إلا إذا أخذ قلمًا وكتبها بسرعة وإذا تمهل في الكتابة فقد يخطئ. ولكن ذلك كله لا ينفي أن الكتابة المضبوطة أسهل تناولًا وأضمن للصحة في القراءة والإملاء؛ فالكتابة عندهم من هذه الجهة أشبه بالكتابة الصينية التي هي كتابة أشكال ورموز يدل بها على المعاني المختلفة، لا كتابة حروف يتركب منها لفظ الكلمات، وقد حاول الأمير «كيون» بتر هذه الأعضاء الأثرية من جسم كلماتهم، ولكنهم لم يوفقوا. ويستثنى في اللُّغَةِ العربية بعض كلمات تُكتب فيها بعض الحروف ولا تُقرأ أو تُقرأ ولا تُكتب، وهي قليلة لا يعتد بها.

    وهناك فرق آخر، وهو أن همزة الوصل عندنا محصورة في مواطن معدودة، وأما همزة الوصل عندهم، فهي كل همزة وقعت في درج الكلام كما رأيت، فلغتهم من هذا القبيل كَلُغةِ قريش الذين كانوا يكرهون الهمزة، قال عليٌّ: «نَزَلَ القرآنُ بِلُغَةِ قريش، وليسوا بأصحابِ نَبْرٍ، وَلَوْلَا أَنَّ جِبْرِيلَ — عَلَيْهِ السَّلَامُ — نَزَلَ بالهَمْزَةِ عَلَى النَّبِيِّ مَا هَمَزْنَا»؛ لأنَّ للهمزةِ نبرةً في الحلق تَجري مجرى التهوع. وقد كاد العرب أنفسهم يلغون كلَّ همزةٍ في درج الكلام، أي الهمزة الابتدائية إذا سبقتها كلمة، وكل همزة في عرضه، أي الهمزة الواقعة في وسط الكلمة أو آخرها. فقد وصلوها في مواطن الوصل المعروفة، وأجازوا للشاعر أن يصل همزة القطع عند الضرورة، كأَنْ يقول في «لو أَن»: «لو ان». ولولا القليل لوصلوا كلَّ همزةٍ في الشعر والنثر، وأوجبوا إبدالها إذا سكنت بعد همزة فإن كانت حركة الهمزة الأولى فتحة أبدلت الثانية ألفًا، نحو: «آثر»؛ فإن أصلها: «أَأْثر»، وإن كانت ضمة أبدلت واوًا، نحو: «أُوثر»؛ فإن أصلها: «أُؤْثر»، وإن كانت كسرة أبدلت ياءً، نحو: «إِيثار»؛ فإن أصلها: «إِئْثار». وأجازوا فيها الإبدال والتحقيق إذا انضمت الهمزة الثانية أو انكسرت وانفتح ما قبلها، فأجازوا في مضارع «أَمَّ» أن تقول: «أَؤُمُّ أَومُّ»، وفي مضارع «أَنَّ» أن تقول: «أَئِنُّ وأَينُّ»، وفي جمع «إمام» أن تقول: «أَئِمَّة وأَيمَّة» … بل إذا سكنت بعد غير الهمز فإن كان ما قبلها مفتوحًا أبدلت ألفًا، فتقول في «رأس»: «راس»، وإن كان مضمومًا أبدلت واوًا، فتقول في «سؤل»: «سول»، وإن كان مكسورًا أبدلت ياءً، فتقول في «بئر»: «بير» … بل أجازوا الإبدال والتحقيق إذا تحركت بعد غير الهمزة، فقالوا في «تأمم»: «تيمم» أي: توضأ بالتراب، والثانية أَشْيَع وإن كانت الأولى هي الأصل، وقالوا في «قرأ»: «قرا»، وفي «قرئ»: «قري»، وفي «التجرؤ»: «التجري» كأنه مصدر «تجرَّى» لا «تجرَّأ»، وبسبب ذلك كانت القاعدة الغالبة لكتابة الهمزة «أن تكتب بحسب (ما تلين)» أي إذا كانت تلين بالواو كتبت على واو، أو بالألف كتبت على ألف، أو بالياء كتبت على ياء.

    وكل همزة على ألف أو واو أو ياء تهمز وتلين على الغالب، فهي على أشكالها هذه مثل التاء المربوطة التي يجوز فيها أمران: إما أن تكون تاء، وأن تكون هاء. ولولا القليل لوجب إبدال الهمزة وبطل تحقيقها في كل المواطن التي ذكرناها. وقد أجازوا قصر كل ممدود، فقالوا في «سماء»: «سما»، وفي «حمراء»: «حمرا»؛ بل قد ابتدأ إلغاء الهمزة في عرض الكلام في غير المواطن السابقة، من ذلك قولهم: «سَلْ ولا تسل» بدلًا من: «اسأل ولا تسأل»، وقولهم في مضارع «رأى» وأمره: «يَرَى رَ» بدلًا من: «يرأى إِرْأَ» على الأصل، مثل: «نأى ينأى إِنْأَ»، وقولهم في الأمر من «أكل وأخذ وأمر»: «كُلْ وَخُذْ وَمُرْ» بإسقاط الهمزتين معًا: همزة الأمر، وهمزة الفعل. ومن ذلك أنهم أجازوا حذف همزة التسوية فتقول: «سواءٌ عليَّ أكان كذا أم كذا» بالهمزة، و«سواءٌ عليَّ كان كذا أم كذا» بدونها …

    وقد كانت قريش تنطق بالهمزة حرفًا بين الهمزة وبين حرف حركتها ويسمى هذا الحرف «بين بين» … فأنت ترى من كل ما أوردته لك من الأمثلة أن اللُّغَةَ كانت تتدرج إلى إلغاء الهمز في درج الكلام أو عرضه، إما بالوصل، وإما بالإبدال، وإما بالحذف، كما وقع في اللُّغَةِ العربية العامية إلا قليلًا. واندثار بعض الأصوات في اللغات مألوف، فهذه اللُّغَة الآشورية السامية يُقال إنها فقدت حروفها الحلقية منذ أربعة آلاف سنة.

  • (٧)
    أن لكل حرف في اللُّغَة العربية صوتًا خاصًّا له لا يتغير، كما أن لكل صوت حرفًا خاصًّا له يدل عليه؛ إذ إن الأصل في الخط العربي أن يكون مطابقًا للفظ فتكتب كل كلمة كما ينطق بها، وينطق بها كما تكتب، بخلاف بعض اللغات الإفرنجية التي تصور الصوت الواحد بصور عديدة، فصوت الكاف يُصوَّر عندهم تارة بحرف k، وتارة بحرف q، وتارة بحرف c، وتارة بحرف x ممزوجًا بحرف s، أو تجعل للحرف الواحد أصواتًا عديدة، مثل حرف s؛ فإنه ينطق به في بعض الكلمات سينًا، وفي غيرها شينًا، وفي غيرها زايًا، وفي غيرها صادًا.
  • (٨)
    ومن مزايا الحروفِ العربيةِ أنَّ للصوتِ المُفَخَّمَ فيها صورةٌ خاصةٌ له، وللصوتِ الرقيق صورةٌ أخرى، مثل: السين والصاد، والتاء والطاء، والدال والضاد، والذال والظاء، والكاف والقاف، بخلاف اللغات الإفرنجية؛ فإن في بعضها حركات مُفَخَّمةٌ وحركاتٌ رقيقةٌ توضع بعد الحرف فيُفَخَّم أو يُرقَّقُ كما في اللُّغَةِ الروسية، وأما في غيرها فلا تجد إلا حرفًا واحدًا يستعمل تارة مُفَخَّمًا وتارة رقيقًا بدون ضابط، فحرف s في الإنكليزية قد يكون رقيقًا؛ مثله في: sow، وقد يكون مُفخَّمًا؛ مثله في saw، وحرف d قد يكون رقيقًا؛ مثله في do، وقد يكون مُفخَّمًا؛ مثله في: doll، وعليه فليس العرب وحدهم هم الناطقين بالضاد. وحرف L قد يكون رقيقًا؛ مثله في: low، وقد يكون مفخَّمًا؛ مثله في: law. وحرف c الذي يكون في بعض الكلمات كافًا، قد يكون رقيقًا؛ مثله في: cold، وقد يكون مُفخَّمًا؛ مثله في: called. وحرف t قد يكون رقيقًا؛ مثله في: tell، وقد يكون مُفخَّمًا؛ مثله في: tall.
  • (٩)
    في اللُّغَةِ العربية صورٌ معلومةٌ للحركاتِ الطويلةِ وصورٌ أخرى للحركاتِ القصيرةِ، على حين لا تجد في بعض اللغاتِ الأخرى قياسًا مُطردًا للحركاتِ الطويلةِ والقصيرةِ فيها، فقد يضاعفون الحركة في اللُّغَةِ الإنكليزية بقصد تطويلها، مثل: food، ولكنهم قد يقصرونها مع مضاعفتها، مثل: foot، فضلًا عن أن الحركة الواحدة؛ مثل: a قد تستعمل مثل o، كما في قولهم: tall، وقد تستعمل على لفظها في مثل هذا التركيب، كما في shall وغير ذلك.
  • (١٠)

    لعل الحروف العربية أجمل، وقد حلَّت في التمدن الإسلامي محلَّ التصوير والنقش من الفنون الجميلة، فَزيَّنوا بها أبنيتهم ورياشهم وآنيتهم وأسلحتهم وأعلامهم، ومن زار الحمراء في إسبانيا رأى من الزخارف الكتابية على جدرانها ما يروعه ويغترق بصره؛ لأن الحروف العربية تتألف من كلِّ الأشكال؛ ففيها الخطوط المنحنية والمستقيمة والمستديرة والبيضية والهرمية والمجوفة والمحدبة والقوسية والمستنة والطويلة والقصيرة والذاهبة صعدًا أو نزولًا، متصلة أو منفصلة، فوقها أو تحتها من النقطِ والحركاتِ والشدَّاتِ والتنويناتِ والمدَّاتِ وهمزاتِ الوصلِ والقطعِ مما لا تشبهها فيه لُغةٌ أخرى، وقد كانوا في قديم الزَّمان يلونون كتابتهم بألوان مختلفة، فالسواد للحروف، والحمرة للشكل، والصفرة للهمزات، والخضرة لألفات الوصل فيخالها الرائي قطع الرياض أو قطع الفسيفساء. يقال إنهم في بعض مُدن أوروبا في الأجيال الوسطى بنوا كنيسة على طراز شرقي، وإذ أحبوا أن يزيِّنُوا جدرانها على الطريقة الشرقية نقلوا فيما نقلوه من الزخارف أسماء الصحابة وهم يحسبونها زخارف ورسومًا، فكُنت ترى على جدران تلك الكنيسة اسم عَلِيٍّ وحمزةَ وأبي بكر وغيرهم كأنها من أسماء قديسيها؛ بل قد استخدم الشعراءُ بعضَ الحروفِ العربيةِ في غزلهم على سبيل التشبيه، فشبهوا القامة الهيفاء بالألف، وعطفة الصدغ بالهمزة، والعارض باللام، والحاجب بالنون، والطرة المصففة من الشعر بالسين الواقعة غير طرف؛ لأنها تستوي على شكلها، وغير ذلك.

  • (١١)

    من الفروق بيننا وبينهم أن الإفرنج قد يكتبون نصف الكلمة أو جزءًا منها في آخر السطر والجزء الآخر في أول السطر الذي يليه، وهذا مكروه في اللُّغَةِ العربية، حتى الواو فإنهم يحسبونها جزءًا من الكلمة فلا يفصلونها؛ بل كرهوا فصل المضاف عن المضاف إليه.

البحث الثالث: تاريخ الحروف الهجائية وتطورها

لم يصل الخط إلى ما هو عليه الآن إلا بعد أن قطع أربعة أدوار:
  • (١)

    دور التصوير الذاتي: كانت تصور فيه الحوادث والأشياء التي تقبل التصوير، فكانوا إذا أرادوا أن يكتبوا مثلًا كلمة «أسد» صوروا أسدًا، أو كلمة «وردة» صوروا وردة.

  • (٢)

    دور التصوير الرمزي: اصطلحوا فيه على اتخاذ رموز للمعاني التي لا يمكن تصويرها، كأن يرمز عن المحبة بالحمامة، وعن البغض بالحية.

  • (٣)

    الدور المقطعي: وتدل فيه الصورة على أول مقطع من اسمها، أي إنَّ الشكل الواحد بعد أن كان يدل على كلمة في الدور التصويري الأول استعمل في هذا الدور للدلالة على حرف وحركة معًا، فصورة الحصان التي كانت تدل على حصان استعملت للدلالة على مقطع مؤلف من حاء مكسورة، وصورة الغراب التي كانت تدل على غراب استعملت للدلالة على مقطع مؤلف من غين مضمومة مثلًا، ولعل كتابة الهمزة عندنا على الألف والواو والياء — فتفتح مع الألف بدون أن تكون هناك فتحة، وتضم مع الواو بدون أن تكون هناك ضمة، وتكسر مع الياء بدون أن تكون هناك كسرة — من الأشكال المقطعية.

  • (٤)

    الدور الهجائي: استعملوا فيه المقاطع حروفًا مستقلة، فصورة الحصان التي كانت تدل على حاء مكسورة مثلًا في الدور المقطعي استعملت في هذا الدور للدلالة على الحاء الساكنة، وهو أقل الأدوار أشكالًا وأسهلها استعمالًا.

والفضل في وضع الحروف الهجائية راجع إلى الفينيقيين، وإذا كانت الكتابة هي الجسر الذي مرَّت عليه الإنسانيةُ من الهمجية إلى المدنية، كان الفينيقيون أهمُّ سببٍ في تمدُّنِ أكثر أُمَمِ الأرض، وإذا صحَّ رأيُ فريقٍ من المؤرخين أنهم من العرب أبناء إسماعيل بن إبرهيم كان للعرب اليد البيضاء — التي لا تُؤدى — على الإنسانية جمعاء.

•••

لا شك أن الكتابة في أدوارها الأولى كانت مقروءة من تلقاء نفسها، حتى في أول الدور الهجائي؛ لأن العلاقة بين الأصوات والنقوش الموضوعة لها كانت معقولة واضحة، فكان كلُّ الناس قُرَّاءً، ولكنَّ تلك العلاقة لم تلبث في الدور الهجائي أن أخذت تخفى شيئًا فشيئًا إلى أن أصبحت دلالة النقشِ على الصوتِ اعتباطية، وعادت الحروفُ الهجائيةُ لا تُؤخذ إلا بالدرسِ، فانقسم الناسُ بسبب ذلك إلى أُمِّيِّين ومتعلمين.

•••

الحروف المعروفة اليوم، أصلها فينيقي بدليلين: الأول؛ أنَّ أسماءَها لا تزال إلى اليوم فينيقية، بعضها بلفظه الأصلي، وبعضها بتصرف قليل، والثاني؛ أنَّ أكثرَ أشكالها تكاد تشبه الأشكال الفينيقية. ولا شك أننا استعملنا الحروف الفينيقية بعينها لأول عهدنا بالكتابة، ثم مع توالي الأيام تغيرت حروفنا شيئًا فشيئًا حتى بعد الشبه بينها وبين الحروف الفينيقية، وليس من السهل تتبع هذا التغير؛ فنكتفي بالإشارة إلى شيءٍ منه على قدر ما تيسَّر لنا من الأشكال عند الطبع.

من ذلك الألف والواو والياء؛ فقد كانت الألف في الأصل تكتب على شكل يشبه رأس ثور حسب أصل كتابتها في القلم الهيروغليفي، وكانت الواو والياء تكتبان على شكلين آخرين لم نوفق إلى صورة لكل منهما عند الطبع، فاستبدلوا أشكالها هذه بأشكالها المعروفة، والذي يخطر لنا أنهم راعوا في هذا الإبدال شكل الفم عند التلفظ بها، فجعلوا الألف خطًّا عموديًّا هكذا «ا»؛ لتكون فتحة الفم عمودية، وجعلوا الواو على شكل دائرة؛ ليكون الفم عند قراءتها مضمومًا، وهي تشبه حرف o الإفرنجية في الخط، إلا أننا زدنا لها ذنبًا، ولعله كان قصيرًا في أول عهده ثم طولناه حسب عادتنا من مشق الحروف ومطها في أواخرها عند الإسراع في كتابتها؛ بل إن الإفرنج أنفسهم يضعون مثل هذا الذنب لحرف o، ولكن الفرق بيننا وبينهم أنَّ الذنب عندنا في ذيلِ حرفنا والذنب عندهم في رأس حرفهم، وجعلوا الياء على صورة دائرة مستطيلة عرضًا لتكون على شكل الفم عند قراءتها، ثم فتحوها قليلًا من الأعلى وجعلوا لها منقارًا، ووضعوا نقطتين تحتها للتزيين أو ليميزوها عن غيرها. فإذا صح استنتاجنا كانت الألف والواو والياء من أدل الحروف على شكل الفم؛ بل كانت مقروءة من تلقاء نفسها.
ثم إن هناك أحرفًا أخرى نقلوها عن شكلها الفينيقي إلى شكل آخر، صوَّرُوا به شكلَ الفم، وهي: الباء والتاء والثاء والنون، فإن الباء والتاء والثاء تشبه الفم المطبق، وهو يكاد يكون كذلك عند التلفظ بها، إلا أنه ينفرج قليلًا جدًّا عند خروج الصوت، وقد كانوا يعتمدون في التمييز بينها على ما يقتضيه المعنى، ثم ميَّزوا بينها بالنقط، ولعلهم اختاروا أن تكون نقطة الباء من تحتها؛ إشارةً إلى حركة الشفة السفلى عند التلفظ بها، ووضعوا للتاء نقطتين فوقها إما لمجرد التمييز وإما إشارةً إلى إظهار سنَّين عند التلفظ بها، والنقط تشبه الأسنان. وميَّزوا الثاء بثلاث نقط؛ إشارةً إلى إظهار طرف اللسان بين الأسنان العليا والسفلى. وأما النون فهي تشبه غار الفم، وقد جعلوا في وسطها نقطة؛ إشارةً إلى التصاقِ طرف اللسان بأعلى الحنك عند التلفظ بها، وهي تشبه النون السامرية إلا أنهم يكتبونها بالطول هكذا على شكل الفم عند التلفظ بها، ونحن نكتبها بالعرض. وأصل كتابة حرف «نون» في اللُّغَةِ الفينيقيةِ واللغةِ اليونانيةِ القديمةِ على شكل أشبه بالحرف نفسه في اللغات الإفرنجية إذا كان مكتوبًا لا مطبوعًا. ومن الاتفاق الغريب أن الاصطلاح الأخير في كتابتها ردَّها إلى أصلها؛ إذ يكتبونها اليوم هكذا ن.
وهناك حروف نقلناها عن اللُّغَةِ الفينيقيةِ بعد أن جعلنا أعلاها أسفلها، مثل الكاف؛ فهي في اللُّغَةِ الفينيقيةِ هكذا 𐤊 فقلبناها وكتبناها هكذا «ك»، وأما الإفرنج فقد غيروا هذا الحرف من جهتين؛ أولًا: جعلوا أعلاه أسفله، ثم جعلوا يمينه يساره، فجاء هكذا: k.
ومن الحروف ما غيرنا جهة كتابته من اليسار إلى اليمين؛ مثل اللام، فهي في اللُّغَة الفينيقية واليونانية القديمة هكذا L على صورتها في اللغات الإفرنجية اليوم فغيرنا جهتها وكتبناها هكذا «ل».
ومن الحروف ما غيرناه من الوضع العمودي إلى الوضع الأفقي؛ مثل الياء، فإنها تكاد تشبه الياء في اللُّغَةِ اليونانية القديمة، إلا أنهم كانوا يكتبونها هكذا ʎ، فقلبناها وكتبناها هكذا «ي»، وأما الإفرنج فجعلوها عمودية هكذا ʏ.

وأما حرفُ العين فقد كان في أصلِه دائرةٌ تُشبه حَاسة البصرِ، ولا نزال نكتبه كذلك إلا أنه إذا وقع طرفًا زِدنا له نصف دائرة مستطيلة على شكل نصف دائرة الوجه لتكون قرينة على أننا نقصد به العين التي هي حاسة البصر، وهو من الحروف التصويرية الواضحة في لغتنا.

وقد كان هذا التغيير من أعلى لأسفل أو من اليسار إلى اليمين أو من العمودية إلى الأفقية تسهيلًا للكتابة؛ لأننا نبتدئ من الجهةِ اليمنى.

•••

كانت حروفنا في أصلِ وضعها مُنفصلة فجعلناها مع الأيام مُتصلة إلا «الألف، والواو، والدال، والذال، والراء، والزاي»؛ فإنها لا تزال إلى اليوم تُكتب مُنفصلة عمَّا بعدها. وكانت مُهملة — أي بدون تنقيط — فأعجمناها — أي نقطناها — والهمزة في «أعجم» للسلبِ — أي أزلنا عجمتها وإبهامها — فإذا كان التنقيط حادثًا في العربيةِ، فالحروفُ التي وضعت في الأصلِ لَمْ تكنْ تسعةً وعشرين أو ثمانيةً وعشرين، ولكنَّها كانت تسعةَ عشرَ أو ثمانيةَ عشرَ شكلًا على عددِ أشكالها بدون تنقيط، فكيف تكفي هذه الأشكال القليلة لكتابةِ اللُّغةِ؟ استخدموا الشكلَ الواحدَ لِعِدَّةِ أغراض.

استخدموا الألف همزة وحركة طويلة وحركة ممدودة، واستخدموا الواو والياء حركتين طويلتين وحركتين ممدودتين وحرفين.

واستخدموا الألف والواو والياء حركات قصيرة — أي بدلًا من الضمة، والفتحة، والكسرة — ولعل الواو في «أولئك» وفي «عمرو» من آثار ذلك العهد. ومن العجيب أنهم عادوا فاستعملوا الحركات القصيرة بدلًا من الطويلة في مثل: «إسحق»، و«إبرهيم»، و«الرحمن»، و«سليمن»، و«السموات»، و«الملئكة»، و«رؤس»، و«أنبؤني»، و«إياي فارهبون» — أي فارهبوني — وغير ذلك.

واستخدموا شكل الباءِ ﻟ «الباء، والتاء، والثاء»، وللياء إذا وقعت أولًا أو وسطًا.

وشكل الجيم ﻟ «الجيم، والحاء، والخاء».

وشكل السين ﻟ «السين، والشين».

وشكل الصاد ﻟ «الصاد، والضاد».

وشكل الطاء ﻟ «الطاء، والظاء».

وشكل العين ﻟ «العين، والغين».

وشكل الفاء ﻟ «الفاء، والقاف».

ومع ما في ذلك من الصعوبة فإنهم كانوا يقرءون ويكتبون، فما أشبه كتابتهم في أول عهدها بكتابةِ هذا العصرِ التي يُسمُّونَها بالخطِّ المختزل، والتاريخ يعيد نفسه.

١  ألقيت هذة المحاضرة في الجامعة المصرية شهر فبراير من سنة ١٩٣١ ولم تنشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤