تطور اللُّغَةِ في ألفاظِها وأساليبِها (١)١

أرجو من القارئ الكريم أن يعير هذه «المراجعات» التي دارت بيني وبين الأمير شكيب أرسلان — أحد أركان النهضة وأكبر زعماء الأدب في هذا العصر، حول المذهبين القديم والجديد في الكتابة — جانب اهتمامه.

***

تتطورُ اللُّغَةِ في ألفاظها وأساليبها تطورًا مستمرًّا في تؤدةٍ وخفاءٍ، فلكل عصر، بل لكل إقليم في كل عصر، لُغته وأسلوبه، حتى إنك لتستطيع أن تعرف القول من أي عصر أو من أي إقليم هو، وإن كنت لا تعرف قائله، وإذا كنت مِمَّن أولعوا بالأدب العربي فلا بد أن تكون قد رأيت آثار هذا التطور في كل عصر وكل إقليم.

وقد كان هذا التطور في العصور العريقة في القدم، أيام كانت الأمة الواحدة تنقسم إلى قبائل متعادية، تعيش في أقاليم مختلفة في الخصب والجدب، والاعتدال والانحراف، والشدة والرخاء، وما إلى ذلك من اختلاف المجاورات والحالات الروحية والعقلية والاجتماعية والسياسية، سببًا لتفرع اللُّغات بعضها من بعض. تنقسم به اللُّغَةُ إلى لهجات، ثم تستقل كلُّ لهجةٍ لُغةً بنفسها. كما ترى آثار هذا الاختلاف لعهدنا هذا في اللُّغتين المحكية والمكتوبة، فإن لكلِّ إقليم من الأقاليم العربية لُغَةً مَحْكِيةً ولُغَةً مَكتوبةً تخالفان ما لغيره كثيرًا أو قليلًا، واللُّغتان خاضعتان للتطور المستمر، فلُغتا مِصر المحكيةِ والمكتوبةِ اليوم غيرهما قبله، وكلتاهما غير لغتَي سوريا، من أمثلة ذلك في اللُّغَةِ المحكية أنهم يسألون في فلسطين إذا لقي الواحدُ الآخر عن حاله، وفي دمشق عن لونه، وفي مصر عن زِيِّهِ، وفي لبنان عن خاطره. وقد كان الناس قبل هذه النهضة الأخيرة، قبل انتشار لُغة المدرسة، ولُغة الصحافة، ولُغة التمثيل، ولُغة الغناء، لو سار السوري في مصر، أو المصري في سوريا، لسار بترجمان؛ بل لو تغيب السوري أو المصري عن بلاده إلى بلاد لا يسمع فيها لُغتَه لعشرين سنة أو أقل، ثم رجع إلى بلاده لرأى من تطور اللُّغتين المحكية والمكتوبة فيها ما لم يكن له به عهد، وما يحس معه أنه أصبح غريبًا في قومه.

ومن أمثلة ذلك في اللُّغَةِ المكتوبة أن السوريين يجمعون لفظة «ميل» بمعنى «الهوى» على «أميال» ﮐ «سيف» و«أسياف»، وقد شاع هذا الجمع في سوريا ومصر دهرًا طويلًا، ثم رأينا أن المصريين أخذوا يجمعون هذه اللفظة على «ميول» ﮐ «سيف» و«سيوف»، وكلا الجمعين صحيح. ولعل السوريين يعدلون مع الأيام عن «أميال» إلى «ميول» بحكم التقليد.

ومن ذلك أن السوريين يقولون: «بحث عن الأمر أو في الأمر»، ولكن رأينا كثيرين من كُتَّابِ مِصر يقولون: «بحث الأمرَ» بدون حرف جرٍّ.

ومن ذلك أن السوريين يقولون: «سَمَّى فلانٌ ولدَه كذا» على وزن «فَعَّلَ» بتشديد العين، ولكن المصريين عدلوا في الزمن الأخير عن وزن «فَعَّلَ» إلى وزن «أَفْعَلَ»؛ فهم يقولون: «أسمى فلانٌ ولدَه كذا»، وكلا الوزنين صحيح، وقد استعمل المتنبي وزنَ «أَفْعَلَ» في قوله:

يقولون لي ما أنتَ في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يُسمى

ولكن وزن «فَعَّلَ» أشهر.

ومن ذلك لفظة «فحسب»٢ فإنها درجت في هذه الأيام على ألسنة المصريين فتابعهم في استعمالها بعض السوريين، وقد كانوا يستعملون لفظة «فقط».

ومن ذلك النسبة إلى «طبيعة وبديهة»؛ فإن السوريين يقولون فيهما: «طبيعي وبديهي»؛ جريًا على الاستعمال دون القياس، وأما المصريون فجعلوا يقولون: «طبعيٌّ وبدهيٌّ»؛ جريًا على القياس دون الاستعمال.

ومن ذلك أن السوريين يقولون: «تمدَّن الرَّجُلُ» أي: تخلَّق بأخلاقِ أهلِ المدن وانتقل من حالة الخشونة والبربرية والجهل إلى حالة الظرف والأنس والمعرفة، أما المصريون فيقولون في ذلك: «تمدين». (راجع القاموس)

وهناك ألفاظ وتعبيرات كثيرة انفرد بها أحدُ الفريقين دون الآخر، مِمَّا تستطيع معه أن تعرف القول هل هو سوري أم مصري؛ بل قد تعدى هذا الاختلاف لُغةَ الأدبِ والصحافةِ إلى لُغةِ العِلم، فإذا قابلت كُتُبَ سوريا في الطبيعة أو الكيميا أو الحساب أو الجغرافيا أو غير ذلك بِكُتُبِ مِصر رأيت أنه يكاد يكون هناك لُغتان، ولولا وِحْدَةُ الأصلِ، واعتبارات كثيرة تربطنا بذلك الأصل فلا نخرج عنه إلا رجعنا إليه؛ لاتسعت مع الأيام شقة الاختلاف إلى أن تصبح اللُّغَةُ العربية لُغتين لا تكادان تتشابهان في شيء.

هذا في اللُّغةِ، وأمَّا الأساليب فهناك مذهبان: مذهبٌ قديمٌ ومذهبٌ جديدٌ، وإني أحاول هنا أن أشير إلى الفرق بين المذهبين على قدر ما تعين عليه البصيرة الضعيفة.

مِمَّا أولع به أصحاب المذهب القديم إلى يومنا هذا تكرار الكلام في غير مواطن التكرار، والإسراف في استعمال المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها، فهم لا يأتون بكلمة إلا أتبعوها بمرادفاتها، فإذا قالوا: «تمادى الرجل في ضلاله» قالوا: «ولج في غوايته وعمه في طغيانه ومضى على غلوائه»، وإذا قالوا: «أحزنني هذا الأمر» قالوا: «وشجاني وأمضني وأرمضني وأقلقني وأقضَّ مضجعي»، وإذا قالوا: «سَرَّني أمرُ كذا» قالوا: «وأفرحني وحبرني وأبهجني وأبلجني وأثلج صدري».

وهنا أستأذن القارئ الكريم بتقديم مثل على ذلك من رسالة أمامي لكَاتِبٍ كبير قال:

يا إخواننا إن الصارخة القومية، والنعرة الجنسية، قد بدأت في الأقوام، ونشأت مع الأمَمِ، مُذ الكيان ومنذ وجِدَ الاجتماعُ البشري، وتساكن الإنسانُ مع الإنسانِ»، وقال: «مهما انتبذ لنفسه مكانًا منزويًا، وتنحى جانبًا معتزلًا»، وقال: «مهما ترامت به عن منبته الأقطارُ وتباينت بينه وبين أهله الأوطانُ والأوطارُ»، وقال: «وإنَّ هذه النعرةَ الجنسية والحِمْيَةَ القومية وإنْ عَمَّ أمرُها جميعَ الأمَمِ، ولم يَخلُ منها عَربٌ ولا عجمٌ، فقد اختصَّ منها العرب بالشقص الأوفر والحظ الأكمل» فتأمل.

وسبب ذلك إمَّا قِلة البضاعة ونزارة المادة الفكرية، وأصحاب هذا المذهب يحسبون أن اللُّغَةَ هي كلُّ شيء، فإذا حمل أحدهم على ظهر قلبه مقامات الحريري وديوان الحماسة والمعلقات والمفضليات فقد صار كاتبًا نحريرًا. أو٣ أن يكون ذلك متابعة لما ورد في بعض أقوال العربِ من الترادف لضرورة؛ كقول الشاعر: «فألفى قولها كذبًا ومينًا» أو تقليدًا لأحمد فارس الشدياق في كتابه «الساق على الساق»، ولكن أحمد فارس لم يأتِ بالمترادفات لأنه يذهب إلى هذا النوع من الكتابة، وإنما أراد أن يضع كتابًا في المترادفات ككتابِ الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني، فبدلًا من أن يسرد المترادفات لغير مناسبة أتى بها في سياق كلام، على اعتقاد منه أن ذلك أشوق للقارئ … ومهما يكن السبب فإن هذا النوع من الكتابة غير طبيعي، أو غير عربي، أو على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر.

•••

الكلام ثلاثة أنواع: إمَّا أن يكون مساويًا للمعنى المراد لا ينقص عنه ولا يزيد عليه، وهو المساواة، وإمَّا أن ينقص عنه، وهو الإيجاز، وإمَّا أن يزيد عليه، وهو الإطناب. أمَّا المساواة فمقبولة مطلقًا، وأمَّا الإيجاز والإطناب فلهما مواطن وشروط نصَّ عليها البيانيون، وليس فيما نصُّوا عليه ما يُجيز أن يكيل الكاتب المترادفات كيلًا.

وأنت إذا تفقدت كلامَ العربِ في أشعارهم وأمثالهم وخطبهم ورسائلهم عَلِمتَ أنهم يميلون إلى الإيجاز، وأنهم يكرهون التطويلَ المُمل؛ بل إن عندهم نوعًا من الحذف يُقال له «الاكتفاء»، فبدلًا من أن يقولوا: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» قالوا: «لا حول ولا» ومنهم من يختصر هذه أيضًا فيقول: «لا ولا» … فما قولك في عصر كادت تتغلب فيه لُغةُ التلغرافات؟! فلو كان الكاتبُ يدفع ثمنَ كل كلمةٍ يقولها لمَا سَلك من طرق الأداء إلا أخصرها وأوضحها، ولو كان يُنقد عن كلِّ كلمةٍ يقولها لمَا وجد مَن يشتري له قولًا.

بل نحن في عصرٍ تغلبت فيه روحُ الاقتصاد، فإذا لم يراعِ الكاتب الاقتصاد فيما يكتبه — في وقته ووقت القارئ — لم يجد من يقرؤه.

بل نحن في عصرٍ المعنى فيه الأول واللفظ المحل الثاني، وبعبارة أخرى إذا لم يرتكز الأدب فيه على العِلمِ فلا قيمة له.

١  نشرت في جريدة السياسة في العدد ٢٨٣ بتاريخ ٢٦ سبتمبر سنة ١٩٢٣.
٢  استعملها ابن مالك في قوله في باب عطف النسق:
وأتبعت لفظًا «فحسبُ» بل ولا
لكن، كلم يبد امرؤٌ لكن طلا
٣  معطوف على قولي: «وسبب ذلك إما قلة البضاعة ونزارة المادة الفكرية»، وكان الأولى أن أجعل «إما» في موضع «أو»؛ لأن الأصل في «إما» أن لا تستعمل على اختلاف معانيها إلا مكررة، نحو: «أذهب إما راكبًا وإما ماشيًا» وإن جاز الاستغناء عن الثانية ﺑ «أو»، كما فعلت أنا هنا، كقول الشاعر:
وقد شفني أن لا يزال يروعني
خيالك إما طارقًا أو مغاديًا
وهو من شواهد النحو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤