تحليل الخطاب١

(١) مقدمة: حاضرة الكلمة وحضارة الطبيعة

يبدو أن الحضارات نوعان: حضارة الكلمة مثل معظم الحضارات الشرقية باستثناء الحضارة اليابانية، وحضارة الطبيعة وهي الحضارة الغربية الحديثة باستثناء المرحلة الأخيرة بعد ظهور علم اللسانيات الحديث. في حضارة الكلمة، تكون الكلمة هي العنصر المتوسط بين الإنسان والطبيعة، فلا يفهم العالم إلا من خلال الكلمة ولا يضع له قواعد للسلوك إلا باستنباطها من الكلمة، وهي أيضًا العنصر المتوسط بين الله والعالم، فالله يتكلم، بل إنه يخلق العالم بالكلمة «كن فيكون»، الله هو الكلمة كما هو الحال في إنجيل يوحنا وعند فيلون؛ لذلك نشأت علوم التأويل لفهم الخطاب الإلهي الذي يصل الله بالعالم والخطاب الإنساني الذي يصل الإنسان بالله وبالعالم.

وفي حضارة الكلمة يمكن التمييز بين حضارة الكلمة عن طريق الفعل دون وَعْيٍ نظري بعلوم التأويل مثل حضارات الهند والصين التي تغيب فيها علوم التأويل، والتفكير الجديد على النص القديم، تكفي لذلك التجربة الروحية التأملية في الهند، فالحقيقة في الداخل وليست في الخارج أو التجربة الأخلاقية الاجتماعية في الصين، فالحقيقة في الأخلاق الاجتماعية وتربية الفرد في الأسرة والمجتمع والدولة كمواطن صالح، لا يقرأ أحدٌ الماضي لتجديده بل يضيف إليه لتجاوزه.

فأقوال كونفوشيوس تجاوز لكتاب التغيرات في حضارة الصين القديمة، والفيدا والفيدانتا متجاوران دون أن يكون أحدهما تأويلًا للآخر في الهند، والزند أفستا يضع الحقيقة ذاتها دون تأويل لها في فارس، ويضم إلى ذلك حضارات ما بين النهرَيْن في العراق، فملحمة جلجامش لا تجديد فيها، وقوانين حمورابي لا تأويل فيها، وكذلك يُضاف إلى ذلك «كتاب الموتى» في حضارة مصر القديمة، كتاب مقدس لا تخريجات فيه ولا شروح.

وحضارة الكلمة عن طريق الفهم والتفسير والتأويل كمقدمة للفعل مما يتطلب وعيًا نظريًّا لغويًّا ومنطقيًّا هو ما أضافته حضارات الكتب المقدسة في الشرق، اليهودية والمسيحية والإسلام، ففي اليهودية كل كتاب لاحق يخرج من الكتاب السابق شارحًا له، فالمدراش شرح للتوراة، والتلمود شرح للمشنا، وانتشرت مدارس التنزيل والتأويل، الحلقا والهاجادا، ونشأت طبقة الكهنة والأحبار ومناهج الاستدلال والفتاوى، وأصبح التراثُ اليهودي حلقاتٍ يخرج بعضها من البعض الآخر، نواته التوراة كحلقة أولى. والمسيحية نفسها قراءة روحية أخلاقية إنسانية لليهودية المادية القانونية الإلهية؛ لذلك نشأت علوم التأويل منذ عصر آباء الكنيسة عند أوريجين في «الديا تصيرون» وأوغسطين في «الفقيه المسيحي» وتم تقنينها في نظرية المعاني الأربعة في العصر الوسيط، ثم جاء الإسلام قارئًا للمسيحية واليهودية ودين إبراهيم ودين العرب قبل الإسلام مستخرجًا الجديد من القديم وواضعًا أسس الاجتهاد والتجديد والإصلاح، وواضعًا علوم التأويل قبل الغرب الحديث.

وقد حدث وعْيٌ نظري بتحليل الخطاب عند اليونان بعيدًا عن حضارة الكلمة والبعد الديني بالتأمل في اللغة والبرهان وصياغة ذلك في المنطق بأبحاثه الثمانية: المقولات والعبارة والقياس والبرهان كمنطقٍ لليقين، والجدل والسفسطة والخطابة والشعر كمنطقٍ للظن؛ فالخطاب ألفاظ وعبارات وأقيسة، له دلالات ومعانٍ، وله مقاييس صدقه في اتساق النتائج مع المقدمات، فإن غاب هذا النمط المثالي من الخطاب في منطق اليقين لم يبقَ إلا خطاب منطق الظن إما الدفاع عن النفس ودحض الخصم كما هو الحال في الجدل، أو التمويه بقَلْب الحق باطلًا والباطل حقًّا كما هو الحال في السفسطة، أو التأثير في النفس عن طريق الخطابة، أو التخييل عن طريق الشعر.

وقد كان هذا الوعي النظري بالخطاب أساس تحليل الخطاب في العصور الحديثة بعد أن تجاوز الإشكال الديني الشرقي، الكلمة كواسطة بين الله والعالم، وبين الله والإنسان، وبين الإنسان والعالم إلى الكلمة في ذاتها بمنطقها الداخلي وكعالم مستقل وليست مجرد واسطة بين عوالم؛ فاللغة منزل الوجود كما يقول هيدجر، والله كلمة، والعالم إشارة وعلامة ودليل، في البَدْء كانت الكلمة.

وقد كان ذلك أول مكسبٍ للعصور الحديثة عندما تحول تحليل الخطاب من المستوى الأدبي إلى المستوى الإنساني، فالله لا يتكلم إلا لإنسانٍ ولا يعبِّر عن قصده إلا بلغة الإنسان، ولا يفهم هذا القصد إلا بعقل الإنسان، وتجربته وفهمه وتأويله، فكل خطاب من الله Discours der Dieu هو خطاب عن الله Discours sur Dieu، وأصبح علم التأويل أو الهرمنطيقيا علمًا إنسانيًّا وليس علمًا مقدسًا بفضل شليرماخر، فالكلام يتكوَّن في وعي الإنسان، وهو الذي يحدِّد مقاصده؛ لذلك بدأ النقد التاريخي للكتب المقدسة في العصور الحديثة ليكشف عن الوضع الإنساني للنص المقدس لغة وقصدًا وبيئة، فالنبي والحواري والكاتب والراوي والمدوِّن والسامع والشارح والمُؤوِّل كلهم أبناء عصورهم، فما تصوره القدماء أنه من وحي الله أعيد اكتشافه على أنه من وضع الإنسان، وقد أدَّى ذلك إلى تغيُّر مفهوم الوحي والنبوة؛ فالمعنى من الله واللفظ والعبارة والصياغة والأفعال من النبي أو الكاتب، ولا يقع الخطأ في المعنى الروحي إنما يقع فقط في التدوين. الروح لا تخطئ ولكن الجسد ضعيف، وبدأ التحوُّل من الموضوعية إلى المثالية، ومن الموضوع إلى الذات، وانتهى النقاد إلى أن العقيدة لم تخرج من النص بل أن النص خرج من العقيدة. آمَنَ الناس أولًا ثم دونوا إيمانهم بعد ذلك في نصوصٍ اعتبرت مصدر الإيمان ومنشأه، وتحول النص إلى مجموعة من الوحدات لها أشكال أدبية مثل قصة أو أسطورة أو أمر أو نهي أو موعظة إلى آخر ما هو معروف في مدرسة الأشكال الأدبية.٢
وقد استأنفت العلوم الإنسانية موضوع الخطاب حتى أصبح موضوعها الأثير بعيدًا عن الدين والفلسفة، وأصبح غاية في ذاتها بصرف النظر عن العوالم الأخرى التي تكشف عنها اللغة، علم المعاني أو عالم الأشياء، وتحول إلى مناهج تحليلية مضبوطة، منهج تحليل المضمون في العلوم الاجتماعية لتحليل الخطاب الديني أو الخطاب السياسي، النبوات أو الزعامات، منهج التحليل اللغوي النفسي كما هو الحال في علم اللسانيات النفسي Psycho-linguistics من أجل معرفة دلالة الألفاظ على نفسيَّة قائلها، ومنهج التحليل اللغوي الاجتماعي من أجل معرفة الدلالات العرفية وآليات الاستعمال الاجتماعي للغة كما هو الحال في علم اللسانيات الاجتماعي Social linguistics، ومنهج التحليل اللغوي الخالص كما هو الحال في علم اللسانيات العام General linguistics من حيث علوم الأصوات والقراءات والتراكيب.

والسؤال الآن: هل تظهر الخصوصيات الحضارية في تحليل الخطاب أم أن هناك منطقًا واحدًا لتحليل الخطاب في كل الحضارات، خاصة حضارات الكلمة؟ وهل يمكن العثور على منطقٍ واحد لتحليل الخطاب تُقاس عليه كل حضارات الكلمة أم أن هذا المنطق بالضرورة إنما يعبِّر عن حضارةٍ خاصة؛ وبالتالي تصبح مقياسًا لجميع الحضارات؟ فالعام هو في حقيقته خاص، ولا يمكن استقراء منطق الخطاب في كل الحضارات من أجل الوصول إلى منطق عام واحد إلا افتراضًا.

ومع ذلك هناك بعض القوانين العامة في تحليل الخطاب من حيث هو خطاب بصرف النظر عن انتمائه الحضاري مثل التحوُّل من الخطاب الشفاهي إلى الخطاب المدون؛ فعادة ما ينقل الخطاب شفاهةً كما هو الحال في النص المقدس والنص الشعبي قبل التدوين، كما توجد بعض المؤلفات القديمة أمالي من الأساتذة على الطلاب مثل «المغني» للقاضي عبد الجبار بل ومعظم مؤلفات أرسطو وهيجل، كما أن النصوص المقدسة مثل العهد القديم والعهد الجديد كانت روايات شفاهية، ظلَّت التوراة خمسةَ قرون حتى دُوِّنت في بابل والبعض منها بعد ذلك في المشناه، وظلَّت الأناجيل روايات شفاهية بين نصف قرن في الأناجيل المتقابلة أو أكثر من قرنٍ في الإنجيل الرابع، والنص القرآني وحده هو الذي دُوِّن منذ لحظة الإعلان عنه، ولم يمر بمرحلةٍ شفاهية كما مر الحديث أكثر من قرنين.

ومع ذلك هناك أبعاد واحدة في كل خطاب بصرف النظر عن أنواعه وانتمائه الحضاري، هناك مستوى اللغة، حقيقةً أو مجازًا، كلامًا أو إشارة، ألفاظًا أو علامات، وهناك مستوى المعاني سواء كانت مستقلة عن الألفاظ أم مرتبطة بها، وسواء كانت مطلقة أو نسبية، اصطلاحية أو عرفية، وهناك مستوى الأشياء التي تحيل إليها اللغة، العالم خارج الكلام، والواقع خارج الألفاظ والذي يمكن أن يكون معيار الصدق الخطاب، سواء كان هذا العالم الخارجي عالم الأشياء أو عالم الأفعال.

ويظل سؤال آخر قائمًا: هل هناك إمكانية للعودة إلى الأشياء ذاتها دون توسط اللغة والقول، حتى لو كان فصل الخطاب؟ ألم تستطع حضارة اليابان القديمة التعامُل مع الطبيعة مباشرة بالرسم وتنسيق الزهور دون المرور بالكلام، فالرسم كلام، والورود والأزهار لغة وعبارات؟ أليست الحروف الصينية رسومًا والحروف الهيروغليفية صورًا؟ أليس الرقص والغناء وما يُسمَّى بلغة الجسد محاولةً للتعبير بالحركة والصوت دون المرور بلغة الكلام؟ أليس الصمت لغةً وقد يكون أكثر دلالة من الكلام كما فعلت مريم ثلاثة أيام لا تكلِّم الناس إلا رمزًا، وما في بطنها كان لغة وإشارة دون خطاب؟

هل يظهر علم اللسانيات الحديث ويوسع مفهوم الخطاب ولا يجعله فقط قاصرًا على الكلام؛ فاللغة نسق إشاري، مجموعة من العلامات الدالة. فاللغة أوسع من الكلام، والكلام أحد وسائل اللغة، هناك لغة الطبيعة ولغة الطير ولغة النمل، تلك التي فهمها سليمان. وما من شيء إلا ويسبح بلغة، ولكن الإنسان لا يفهمها، إنه تعود على لغةٍ واحدة، لغة الكلام؛ ومن ثم يصبح السؤال: ما اللغة؟ لغة الكلام أم لغة الطبيعة؟ وهما المعنيان اللذان يشير إليهما لفظ «آية» التي تعني النص المدوَّن والظاهرة الطبيعية في آنٍ واحد.

وتفرق الدراسات اللسانية المعاصرة حول تحليل الخطاب في وصف لغة الكلام الشفاهي في الحوار لمعرفة تركيب الجمل واستعمال المفردات وكأنها دروس في قواعد الكلام دون رؤية فلسفية للخطاب؛ أنواعه وأبعاده ومناهج تحليله، والحديث عن جزئيات في التكرار والنبرة وتغير الأصوات ونظام الكلمات.٣ وتحلل دراسة أخرى الصور اللغوية ووظائفها ودور السياق في التفسير، ومضمون الخطاب، موضوعاته وتصوراته، وبناء الخطاب وعرض مضمونه، وبناء الخبر، وطبيعة المرجعية في الخطاب، والاتساق في فهم الخطاب،٤ وتركز دراسة ثالثة على وصف الخطاب الشفاهي، وتركيب العبارات، وتبادل البنيات، وبواعثها واتساقها ونبراتها،٥ وتبين دراسة رابعة نظرية الخطاب الفعل وقواعد الخطاب، وأتنوجرافيا الكلام وتحليل الخطاب الشفاهي والنبرة وكيفية تحصيل الخطاب وتعلم صياغته وتطبيق ذلك على الخطاب الأدبي،٦ وتكشف دراسة خاصة عن الصلة بين اللغة والأيديولوجية والقوة، وعن البيئة الاجتماعية والثقافية للخطاب وعن أهمية تحليل النص في البحوث الاجتماعية، وعن الوعي اللغوي النقدي،٧ وكثير منها يكرِّر بعضه بعضًا حتى أصبح تحليل الخطاب حرفةً في أيدي اللغويين المحترفين.

(٢) أنواع الخطاب

وبالرغم من وجود بنيةٍ واحدة للخطاب إلا أنه على أنواعٍ متعددة يمكن إجمالها في أنواع ابتداءً من الأكثر إلى الأقل تعقيدًا، والأعمق إلى الأقل عمقًا، والأشمل إلى الأقل شمولًا على النحو الآتي:
  • (١)

    «الخطاب الديني»، سواء كان مقدسًا أو دنيويًّا، إلهيًّا أم إنسانيًّا، وحيًا أم إلهامًا، نقلًا أم عقلًا، وهو أكثر الخطابات عمومية؛ لأنه سلطوي أمري تسليمي إذعاني، يطالب بالإيمان بالغيب وبالعقائد ويعتمد على التصوير الفني وإثارة الخيال، والحياة المستقبلية، وما بها من وعود وخلاص من آلام البشر. قد يكون خطابًا عقائديًّا كما هو الحال في علم الكلام، أو باطنيًّا كما هو الحال في التصوف، أو تشريعًا كما هو الحال في الفقه وأصوله، يقدسه الناس حتى ليصبح بديلًا عن المقدس ذاته، له أصول وفروع، وله قلب وأطراف، وبه حق وباطل، فرقة ناجية وفرقة هالكة، يعتمد على سلطة النص أكثر من اعتماده على سلطة العقل، يعتبر نفسه حكمًا ومقياسًا لأنواع الخطابات الأخرى، يتوحد به الحكام بحيث يصبح الخطاب الديني والخطاب السياسي خطابًا واحدًا، تكثر المذابح والحروب ويتم تكفير المخالفين باسمه، يدل على مرحلة تاريخية قديمة قاربت على الانتهاء؛ لأنه أقدم أنواع الخطاب، يؤدي أحيانًا إلى الغرور والتعالي والتعصب ولا يقبل الحوار؛ لأنه خطاب أخلاقي يعتمد على سلطة القائل وإرادته، لا يحتاج إلى مقاييس للصدق إلا من صدق القائل.

  • (٢)

    «الخطاب الفلسفي»، وهو تطوير للخطاب الديني ووارث له، ينزع منه الجانب العقائدي القطعي النقلي السلطوي ويحيله إلى خطابٍ عقلي برهاني، يقبل الحوار، والرأي والرأي الآخر، ويحتوي على مقاييس صدقه، الاتساق، وتطابق النتائج مع المقدمات إذا كان استنباطيًّا، ومع الواقع إذا كان استقرائيًّا، ومع التجربة الإنسانية إذا كان خطابًا من العلوم الإنسانية. وهو قادر على التعميم والتجريد والصياغات النظرية للقوانين. إنساني النزعة، متفتح على الحضارات الأخرى، يخاطب جمهور العقلاء بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والسياسية، يعاديه الخطاب الديني؛ لأنه يعتبره منافسًا له على المعرفة والسلطة، واستشهد أصحابه مثل سقراط والجعد بن درهم والحلاج والسهروردي المقتول وجيوردا نوبرونو وسيد قطب، تقدمت البشرية من خلاله، أحيانًا لا يفهمه إلا الخاصة وأحيانًا تفهمه العامة إذا كان بسيطًا واضحًا بعيدًا عن المصطلحات الفلسفية. مثالي الطابع، يعتمد على التنزيه، أخلاقي النزعة يدعو إلى المُثُل الفاضلة، تزدهر به الحضارات وتعرفه مثل الحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية الحديثة.

  • (٣)

    «الخطاب الأخلاقي»، وهو قراءة للخطاب الديني والخطاب الفلسفي إلى الحد الأدنى الذي يتفق عليه الناس جميعًا وهو الفضائل والتمييز بينها وبين الرذائل، يختزل العقائد والنظريات إلى مجرد سلوك فاضل، ومعاملة حسنة؛ فقد أتى الرسول لإتمام مكارم الأخلاق. لذلك نشأت مدرسة دينية فلسفية تجعل الأخلاق جوهر الدين مثل مسكويه والراغب الأصفهاني والصوفية، والبروتستانتية الليبرالية عند هارناك، والكاثوليكية التجديدية عند لوازي، واليهودية الإصلاحية عند اسبينوزا ومندلسون. فالتقوى في القلب، والعمل الصالح جوهر الإيمان، قد تختلف الناس حول العقائد الدينية والنظريات الفلسفية ولكنها تتفق حول القيم والفضائل وقواعد الأخلاق، ولا تتطلَّب الأخلاق بالضرورة الإيمان بالدين أو بممارسة التأمل الفلسفي، بل قد يمارسها من لا يطيق الشعائر ولا العقائد من الصفوة ومن لا يعقل التعقيد والبعد عن البساطة والوضوح كما يفعل الجمهور، العقائد والفلسفات تفرق الفضائل والأخلاق تجمع. العقائد والفلسفات الحد الأعلى الَّذي قد لا يصل إليه أحد على وجه اليقين، والقيم والفضائل الحد الأدنى الَّذي يصل إليه كل الناس يقينًا.

  • (٤)

    «الخطاب القانوني»، وهو اختزال للخطاب الديني والفلسفي والأخلاقي، إلى مجموعة من الأوامر والنواهي؛ فالدين شريعة، والفلسفة مواعظ، والنظر عمل؛ لذلك ازدهر منطق القانون داخل الخطابَيْن الديني والفلسفي مثل القياس في الشريعة الإسلامية والحلقا في اليهودية والقانون الكنسي في المسيحية، بل توحَّدت الشريعة مع الدين وأصبحت أهم من العقائد والفلسفات النظرية مثل الشريعة اليهودية والشريعة الإسلامية، والخطاب القانوني خطاب عام للناس جميعًا يضع قواعد للسلوك وعقوبات في حالة خرق القانون، يعتمد على العقاب أكثر مما يعتمد على الجزاء، وقد يصل العقاب إلى حد الموت، وعادة ما تحدث المفارقات بين القاعدة والتطبيق، بين صورية القانون وماديته، بين الشدة واللين، بين حسن النية وسوئها، بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وقد نشأت المدارس السلفية والأرثوذكسية للتأكيد على هذا الجانب في الخطاب الديني، ووضعت في الشريعة الإسلامية العزيمة والرخصة طبقًا للقدرة، والتعزيز تقديرًا للعقوبة.

  • (٥)
    «الخطاب التاريخي»، وهو الخطاب البديل عن التوجيه والإرشاد المباشرَيْن إلى الاتعاظ بحوادث التاريخ ومساره واستعادة نماذج بطولاته ومفاخره؛ فالحاضر حله في الماضي، والمدينة الفاضلة كانت في عصر النبوة والخلافة وستعود بعد الموت في الحياة الأخرى، والحاضر دعاء وابتهال لانفراج الأزمة وتخفيف الكرب، وقد يكون الخطاب التاريخي وضعيًّا مهمته الإخبار؛ فالخبر أحد مصادر المعرفة، في هذه الحالة يتم التحقُّق من صدق الروايات أولًا كما بيَّن ابن خلدون في أول «المقدمة»؛ لذلك وضع علماء الحديث علمًا بأكمله من أجل التحقق من صدق الرواية عن طريق اتصال السند، النقد الخارجي، أكثر من تحليل المتن، النقد الداخلي،٨ وهو ما سماه المحدثون نقد المصادر ونقد النص.٩
  • (٦)

    «الخطاب الاجتماعي السياسي»، وهو الخطاب الَّذي يتحول من الخطاب الديني بعد اختزاله عدة مرات إلى الخطاب الإنساني الذي يبدأ بالمجتمع ويصدر عنه خاصة خطاب الزعماء السياسيين والقادة والرؤساء والوزراء ورجال الأعمال بل والخطاب في الحياة اليومية من بسطاء الناس؛ فاللغة اتصال، والاتصال بين الذوات، والذوات أعضاء في مجتمع وفي نظام سياسي، الغرض منه الترابط الاجتماعي، والصراع أحد مظاهره، أو التأثير في الناس وتوجيههم كما هو الحال في الخطاب الأيديولوجي، يكشف الخطاب عن صراع الأهواء والمصالح والإرادات والقوى الاجتماعية والتنظيمات السياسية في حراك اجتماعي بالرغم مما قد يبدو على المجتمع من فترات سكون وحركة تاريخية تدفع بالمجتمع إلى الأمام أو تجذبه إلى الخلف في مسار تاريخي يحكمه قانون التاريخ.

  • (٧)

    «الخطاب الأدبي الفني»، وهو الخطاب النقدي الَّذي يقوم بتحليل الأعمال الأدبية والفنية لبيان جمالياتها، صورها وأساليبها، وقدرتها على التأثير في الملتقِّي وإثارة خياله، ومقدار ما فيها من إبداعٍ من جانب الأديب والفنان. وهو خطاب يجمع بين الذاتية والموضوعية، بين رؤية الأديب والفنان وبين الواقع الَّذي يصورانه ويعبران عنه، وقد تكمن الحقيقة في الجمال أي على المستوى الوجداني الانفعالي وليس على مستوى التجريد العقلي كما هو الحال في الخطاب المنطقي الرياضي أو الطبيعي المادي كما هو الحال في الخطاب العلمي، صاغه النقاد العرب مثل عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني وأعاد صياغته علماء النقد والجمال المحدثون خاصة مدرسة فرانكفورت. العمل الأدبي أو الفني نفسه إبداع، وتحليله نقديًّا يدخل في إطار الخطاب النقدي الجمالي.

  • (٨)

    «الخطاب الإعلامي المعلوماتي»، وهو الخطاب الَّذي يهدف إلى الإخبار بالحوادث ليس بهدف العلم وحده بل أيضًا للتأثير على السامعين وتوجيههم في اتجاه خاص بكيفية تقديم الخبر والإعلام به وصياغته، فلا يوجد خبر إلا من وسائل الإعلان عنه، كما لا يوجد مضمون بلا صورة، وهو الخطاب السائد والشائع والذي تحول في هذا العصر إلى الخطاب الرئيسي؛ لأنه الطريق إلى القوة في السياسة والاقتصاد، وأشهر مثل على ذلك هو الإعلانات في وسائل الاتصال السمعية والبصرية، وقد تطور الإعلام نفسه حتى أصبح علمًا مستقلًّا هو المعلوماتية، وتحول من علم إنساني تقليدي إلى تكنولوجيا حديثة تهدف إلى تنظيم المعلومات والاستفادة منها في كيفية صنع القرار.

  • (٩)

    «الخطاب العلمي المنطقي»، وهو أشد أنواع الخطاب صرامة ودقة، يعتمد على تحليل القضايا العلمية والرياضية المنطقية، وهي نفس القضايا وإن كانت موضوعاتها أحيانًا تبدو متباينة، موضوعات صورية خالصة في المنطق والرياضة، وأخرى طبيعية مادية في العلوم الطبيعية؛ فالرياضة هي القاسم المشترك الجامع بينهما كما هو الحال في المنطق الرياضي وفي الطبيعة الرياضية، ويحاول تجاوز اشتباه اللغة العادية ووضع لغة رمزية جديدة أحادية المعنى، كما يحاول الوصول إلى أكبر درجة من الدقة والموضوعية والتخلص من كل الجوانب الذاتية والشخصية، وسائل التحقق من صدقه جزء منه حتى يمكن الوصول إلى قوانين عامة يتم من خلالها السيطرة على الطبيعة والتحكم في الذهن البشري عن طريق معرفة قوانين الفكر، وهو الخطاب الذي يزهو به الغرب الحديث ويعتبره من أهم إنجازاته بالرغم من مساهمة الحضارات القديمة فيه وبلوغه الذروة في الخطاب العلمي المنطقي العربي قبل أن يتحول إلى الخطاب العلمي المنطقي الغربي الحديث.

ويبدو أن أنواع الخطاب في الأدبيات المعاصرة قد تم استبعادها لحساب عمومية الخطاب وإخضاعه لمنطقٍ لغويٍّ ومنهج تحليلي واحد، وفي العمومية تختفي الخصوصية؛ فقد اتجهت المدارس اللغوية المعاصرة نحو الشكل دون المضمون؛ وبالتالي لم تُعنَ إلا بالألفاظ والتراكيب، والمضمون يعني أي مضمون، المضمون من حيث هو مضمون دون تخصيصه بديني أو فلسفي أو أخلاقي أو قانوني أو تاريخي أو اجتماعي سياسي أو أدبي فني أو إعلامي معلوماتي أو علمي منطقي؛ فالخطاب أصوات ونبرات أكثر منه معانٍ ودلالات، وتترك الدراسات اللغوية المعاصرة أنواع الخطاب إلى ميادينها خارج علم اللسانيات العام، فالخطاب الديني جزء من الفكر الديني، والخطاب الفلسفي أحد موضوعات الفلسفة، والخطاب الأخلاقي موضوع من موضوعات الأخلاق، والخطاب القانوني جزء من منطق القانون، والخطاب التاريخي يدخل في فلسفة التاريخ، والخطاب الاجتماعي السياسي جزء من العلوم الاجتماعية والسياسية، والخطاب الأدبي الفني جزء من علوم النقد، والخطاب الإعلامي المعلوماتي الموضوع الرئيسي لعلوم الاتصال، والخطاب العلمي المنطقي جزء من فلسفة العلوم، فأنواع الخطاب في اللسانيات المعاصرة تدخل في علومها الخاصة، وليس في علم اللسانيات نظرًا لسيادة النزعة الشكلية فيه، من الواضح أن علم اللسانيات قد استقلَّ بنفسه عن باقي العلوم الإنسانية، وأصبح الخطاب فيه خطابًا لغويًّا خالصًا بصرف النظر عن مضمونه وموضوعه وقَصْده وباعته.١٠

(٣) أبعاد الخطاب

  • (١)

    عالم اللغة، الألفاظ المستقلة عن المعاني أو المرتبطة بها.

  • (٢)

    عالم المعاني، المعاني المستقلة عن الألفاظ.

  • (٣)

    عالم الأشياء، العالم الخارجي المستقل عن الألفاظ والمعاني.

  • (٤)

    عالم الأفعال، الأوامر والنواهي.

وأبعاد الخطاب هي مستوياته أو مكوناته أو عوالمه وهي أربعة:

  • (١)
    عالم اللغة، الألفاظ المستقلة عن المعاني أو المرتبطة بها، وهو ما يعادل مباحث الألفاظ في علوم اللغة، تقسيم الجمل إلى اسم وفعل وحرف، والاسم إلى نكرة أو معرفة، مذكر أو مؤنث، مفرد أو مركب، والفعل إلى زمان وصيغة، والزمان إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل، والصيغة إلى متكلم ومخاطب وغائب إلى آخر ما هو معروف في علم النحو والصرف العربي القديم وفي اللسانيات المعاصرة التي استقر فيها التحليل الصوري للغة في علم الأصوات وعلم التراكيب،١١ كما وضح عند أرسطو في مبحث المقولات وعند علماء تحليل اللغة المعاصرين وزدم Wisdom وفتجنشتين Wittgenstein ومور Moore وكواين Quine وفي التفكيكية المعاصرة Deconstructionism عند دريد Derrida تحت هيدجر، فاللغة أصوات أو وحدات كتابية انتقالًا من الشفاه إلى التدوين، ومهمة التفكيك القضاء على قوة العقل Logomachos بحيث يتم اكتشاف أنه وراء عالم اللغة لا يوجد عوالم أخرى، لا معاني ولا أشياء ولا أفعال. «الكتابة في نقطة الصفر» كما يقول كارل بارت.١٢
    وإيجابيات هذا المستوى هو تجاوز لغة الدين ولغة الميتافيزيقا من أجل إخضاع اللغة باعتبارها لغةً إلى منطق محكم للألفاظ خاصة في مجتمع يغلب عليه الخطاب الإنشائي، وكثرة استعمال المترادفات وأشكال السجع العقلي؛ لذلك يغلب على هذه الدراسات المعاصرة الطابع التطبيقي العملي التعليمي الشفاهي بالرغم من صوريتها وعدم وضوح الغاية أو القصد، وخلوها من الإيماء والإيحاء والمجاز والبعد الجمالي التأثيري في اللغة،١٣ وسلبياته الوقوع في الصورية الخالصة وكأن عالم اللغة لا شأن له بباقي مستويات الخطاب، المعنى والأشياء والأفعال، وهو المستوى الَّذي ركزت عليه بعض الدراسات اللغوية المعاصرة في تحليل الخطاب والتي يغلب عليها التحليل الكمي.
    وقد ترتبط الألفاظ بالمعاني دون أن تستقبل المعاني عنها كما هو الحال في علوم البلاغة، البيان والبديع في علوم اللغة العربية القديمة، وفي مباحث الألفاظ عند الأصوليين مثل: الحقيقة والمجاز لإظهار بعد الصورة والخيال، الظاهرة والمؤول لاكتشاف أعمال النفس في فَهْمها للخطاب، المحكم والمتشابه لاكتشاف ضرورة الجهد الإنساني المتغير عبر الزمان لإيجاد دلالاتٍ متغيرة للخطاب بالإضافة إلى ثوابته، والمجمل والمبين لإخراج المسكوت عنه بالإضافة إلى المنطوق به، كما ظهر هذا البُعْد أيضًا في علوم القرآن في التساؤل عن إعجازه وكما هو معروفٌ في «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز» لعبد القاهر الجرجاني واضعًا نظرية «التخييل». كما ظهرت مشكلة النقل والعقل في علم أصول الدين والتفسير بالمعقول والتفسير بالمأثور، والخلاف بين أهل الرأي وأهل الأثر، وبين البصريين والبغداديين في القياس اللغوي، وبين جمهور الأصوليين وأهل الظاهر حول القياس الشرعي لتدخل العقل في فهم الخطاب، وهو ما حاوله أرسطو أيضًا في مبحث العبارة وتحليل الألفاظ المترادفة والمشتركة والمتواطئة، وأوغسطين في «الفقيه المسيحي»، وهوسرل في «منطق القضايا» في «المنطق الصوري والمنطق الترنسننتالي»، وفي علوم اللغة المعاصرة مثل علم الإشارات Semiotics وعلم الدلالات Semantics وهي أساس علوم التأويل،١٤ وإيجابيات هذا المستوى لتحليل الخطاب هو التوازن بين اللفظ والمعنى وإن كانت سلبياته في الوقوع في هذه الثنائيات المثالية القائمة على التمايز بين المعنى واللفظ مثل التمايز بين الله والعالم، وبين النفس والبدن؛ لذلك ركزت بعض الدراسات المعاصرة في التحليل للخطاب على الصور اللغوية ووظائفها ودور السياق والاتساق في التفسير.١٥
  • (٢)
    عالم المعاني المستقل عن الألفاظ: وهو أقرب إلى معاني العقل عند الفلاسفة، الإشراقات والإلهامات والنبوات، أو معاني النفس عند الصوفية، البرقات والهوامع واللوامع والتي لا يمكن صياغتها في لفظ أو عبارة إلا لغة الرمز والإشارة والمصطلحات التي لا يفهمها إلا أهلها، والصمت لغة قد تكون أبلغ من الكلام، وهو أقرب إلى عالم المثل عند أفلاطون، والمعاني في النفس عند أوغسطين، والأفكار الفطرية عند ديكارت وصور الحساسية ومعقولات الذهن ومثل العقل عند كانط، عالم الأفكار القبلية، وعالم الأنماط الأولية Archetypes عند يونج، والماهيات المستقلة عند هوسرل، وكما توجد النفس بلا بدن كذلك يوجد المعنى بلا لفظ كما يقارب الغزالي بين العلاقتين. ولا يمكن إدراك هذه المعاني إلا بالحدس أو الاستبطان إدراكًا ذاتيًّا؛ لذلك ارتبط هذا العالم بالسيرة الذاتية واليوميات والتأملات وبأحاديث النفس وبالمناجاة والنزعة الرومانسية التي وضحت في علوم التأويل عند ريتشيل وشليرماخر وعند بعض الفرق الصوفية مثل «المرتعشون» Quaker، ومذهب السكينة Quietism وتفسير الأحلام.١٦ ويمتاز هذا المستوى لتحليل الخطاب بأنه يركز على المعنى ورؤية الماهيات وحديث النفس وتجاوز الوسيلة إلى الغاية وعيبه الإيغال في النزعة الباطنية الصوفية، والتراسل الروحي بين الذوات دون حاجةٍ إلى أدوات اتصال مثل اللغة، واستبدال الرؤية بالصوت المسموع.
  • (٣)
    عالم الأشياء، العالم الخارجي المستقل عن الألفاظ والمعاني؛ وهو عالم التحقُّق من صدق القضايا التي تصدر أحكامًا على الواقع حتى تصبح أحكامًا علمية؛ لذلك ركز العلم على مبدأ التحقق Verification أو الصدق Veracity. الأشياء ليست لغة بل توجد في العالم الخارجي الذي يميل إلى اللغة، من المفهوم إلى الماصدق، وقد اعتبر هيدجر اللغة منزل الوجود، كما تبنت الوضعية الاجتماعية عند دوركهايم وليفي بريل هذه النزعة الشيئية واعتبرت الظواهر الاجتماعية أشياء، وتتم رؤية الأشياء في العالم الخارجي رؤية مباشرة عند برجسون، بالتعاطف معها، والتكيف مع العالم، والتوجه مع حركتها والتوقُّف مع مسارها، كما يمكن إدراكها بحركة الجسم نموها عند ميرلوبونتي، بالسباحة في بحر الأشياء وبالغوص في محيط العالم، وقد جعل هوسرل شعاره العودة إلى الأشياء ذاتها دون توسط اللغة أو حتى المعاني عودة للبراءة الأصلية في العالم وفي النفس، كما دعا روسو من قبل إلى «العودة إلى الطبيعة»، وقد ميزت الوضعية المنطقية بين القضايا التحليلية والقضايا التركيبية لهذا السبب؛ فمقياس الصدق في الأولى تطابق النتائج مع المقدمات، وفي الثانية تطابق الأحكام مع الواقع. الأولى يقين الرياضيات والثانية يقين العلوم الطبيعية التجريبية، وهو ما ركزت عليه أيضًا بعض الدراسات المعاصرة في تحليل الخطاب بالحديث عن فحوى الخطاب ونتيجة الخطاب والخبر ومرجعية الخطاب والاتساق في تفسير الخطاب، ولم يَغِبْ هذا البعد الَّذي اشتهر به التراث الغربي الحديث عن التراث الإسلامي القديم عند الصوفية وتمييزهم بين علم اليقين؛ مستوى المعاني، وحق اليقين؛ مستوى التصديق، وعين اليقين؛ مستوى الرؤية. كما ميز الأصوليون بين أنواع الخبر الذي يمكن التحقق من صدقه من ناحية، وكل الصيغ الإنشائية من تمنٍّ وتعجب واستفهام واستنكار وتعجُّب من ناحيةٍ أخرى. الأولى تعبِّر عن عالم الأشياء في مقابل عالم التمني. والآية في القرآن تعني العبارة والظاهرة الطبيعية في آنٍ واحدٍ من أجل إظهار مبدأ التحقُّق، تحقق الآية كلغة في الآية كطبيعة، كما تم استخراج الألفاظ الأعجمية في القرآن لبيان صلة اللغة بالواقع التاريخي في شبه الجزيرة العربية، وتم تحليل ألفاظ الرواية في الحديث للتمييز بين مستويات خمسة من صدق الخبر، السماع المباشر في «سمعت»، وغير المباشر في «قال»، وإبراز مضمون القول في «أمر» أو «نهى»، وتعيين المأمورين في «أمرنا» أو «نهانا»، ووصف الواقع الفعلي أثناء النبوة «كنا نفعل». كما ارتبط النص القرآني بالواقع المكاني في «أسباب النزول» وبالواقع الزماني في «الناسخ والمنسوخ» مما يدل على صدق الوحي، إجابة على سؤال أو استجابة لتطور. ويقاس القياس الأصولي على التحقق من وجود علة الأصل في الفرع عن طريق التجربة والمشاهدة. وقد أصبح من المشهور وضع العلماء العرب قواعد المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية قبل العلم الغربي الحديث،١٧ ويمتاز هذا البعد في تحليل الخطاب بإيجاد مرجعيةٍ له خارج اللغة؛ فاللغة وسيلة وليست غاية، وصدق الحكم في تحقيقه، ويعيبه أحيانًا ضيق الأحكام، وطابع التصديق الحرفي، وإسقاط الإنسان الَّذي يقوم بعملية التحقُّق، وغلبة الطابع النفعي البرجماتي من أجل السيطرة على الطبيعة.
  • (٤)

    عالم الأفعال، الأوامر والنواهي؛ وهو البعد الإنساني للخطاب الذي يبين أن الخطاب ليس مجرد صياغة لغوية، البعد الأول، وليس التعبير عن معانٍ، البعد الثاني، وليس التحقق من صدقه في الواقع، البعد الثالث، بل هو اقتضاء فعل كما يقول الأصوليون، نداء لسلوك، توجه نحو الممارسة، ودافع للحركة والتغير الاجتماعي؛ فالله تكلم، وكلامه فعل «كن فيكون». وقد خصص الأصوليون ضمن مباحث اللغة مبحثين للإشارة إلى عالم الأفعال هما الخاص والعام للتمييز بين الأمر الفردي والأمر الجماعي، والأمر والنهي للتمييز بين اقتضاء الفعل واقتضاء الترك، وقسموا أحكام التكليف وهي صيغ الأفعال إلى خمسة: الفرض أو الواجب ومقابله المحرم بين قطبي الفعل والترك الضروريين، الإيجاب والسلب الحتميين، والمندوب والمكروه أيضًا بين قطبي الفعل والترك ولكن على الاختيار دون إجبار، وأخيرًا المباح أو الحلال أو العفو أو البراءة الأصلية، وهو الفعل الطبيعي على الفعل أو الترك دون ما حاجة إلى تكليف إيجابي أو سلبي، كما أوَّل الصوفية النصوص تأويلًا عمليًّا وحولوها إلى رياضات ومجاهدات روحية صعودًا إلى مصدرها الأول لمعاينته بينما أنزل الفقهاء فيها استنباطًا أحكام التكليف في صراع مشهود بين التنزيل والتأويل، بين الفقهاء والصوفية.

وقد انتبه أخيرًا التراث الغربي إلى منطق الأفعال Deonticiogic، وظهرت نظرية الخطاب-الفعل عن أوستن J. Austin، وكذلك خطاب البروتوكولات Protocol Speech أو خطاب التنفيذ Performance speech، وصاغ بيرس Ch. S. Pierce   منطق السلوك Pragmatics اللغة فيه دعوى إلى الفعل، كما تناول عديد من الفلاسفة المعاصرين نفس القضية، فمصير النص وغايته الفعل عند ريكير، والمعرفة عند هابرماس فعل اتصال، والفعل أداة اتصال الله بالعالم عن طريق الكلام أو المعجزة، فالفعل عند بلوندل ظهور الفضل الإلهي في الإنسان ودليل على وجود الله، والفعل عن لافل هو سر الوجود، وكان ماركس من قبل قد جعل مهمة الفكر تغيير العالم وليس فقط فهمه متنقلًا من العقل Logos إلى الفعل Praxis.١٨ وقد أبرزت بعض الدراسات المعاصرة هذا البعد السلوكي للخطاب فاللغة أيديولوجية وقوة، والخطاب يهدف في النهاية إلى التغير الاجتماعي والثقافي؛ لذلك كان تحليل الخطاب جزءًا من الوعي النقدي للفرد ومرآة للصراع الاجتماعي. ويمتاز هذا البعد السلوكي للخطاب بأنه إنساني فعال يهدف إلى التكوير والتغيير ويقضي على الخطاب النظري المجرد المغلق على ذاته، ويميز بين الوسيلة والغاية، ولكنه أحيانًا يوحي بالقهر والإلزام، والأمر الخارجي، فيضيع السلوك الطبيعي بين الأمر والمأمور، وصيغة الأمر في اللغة العربية ثقيلة على النفس، وكثيرًا ما تصطدم بالشعور بالحرية.

(٤) مناهج تحليل الخطاب

لا توجد مناهج محددة لتحليل الخطاب؛ فالمنهج يتطلب التركيب وترتيب الخطوات وهو ما يتنافى مع التحليل؛ لذلك غلب على الدراسات المعاصرة في تحليل الخطاب التحليلات الجزئية المتناهية في الصغر والتي يصعب ضمها في مناهج كلية يمكن تطبيقها؛ لذلك غلب عليها الطابع النظري أكثر من الطابع العلمي، والوصف والسرد دون التعقيد والتوجيه، والدراسات الميدانية الإحصائية التجريبية دون بناء نظري أو نتيجة عملية. هي أقرب إلى الدراسات المهنية الحرفية التي ينتقل أعلامها عن بعضهم البعض فيؤسسون أدبيات خاصة يتناقلونها فيما بينهم في دوائر مغلقة تعرف باسم اللسانيات التطبيقية، تقوم على تحليل لغة التداول والخطاب الشفاهي، والخطاب في الحياة اليومية والحوار والمشافهة وأحيانًا حديث النفس وليس النصوص العالمة الدينية أو الفلسفية أو الأدبية أو التاريخية إلى آخر ما هو معروف من أنواع الخطاب. وتحليل لغة التداول هو عود إلى الكلام الشفاهي قبل التدوين، عود إلى البدائية، كما أن التفكيكية تحول الكلام إلى وحدات كتابية، وكلاهما خروج عن بؤرة الخطاب باعتباره قصدًا وغاية وحركة وباعثًا وصراعًا. تغيب الغاية من التحليل والقصد منه وكأن اللغة مجرد أشكال وتراكيب، صياغات فارغة، فقرات وأصوات، علامات ورموز، قلب وعدل للعبارات في الحوار بلا مضمون وقصد. كل ذلك على المستوى الأول في تحليل الخطاب أي اللغة المستقلة عن المعاني والأشياء والأفعال، كما ارتبط تحليل الخطاب في الدراسات المعاصرة بتعلم الكلام وتحصيله وباضطرابات الكلام أي بعلم النفس المرضي. أصبح التحليل شكلًا بلا مضمون فكري أو نفسي أو أساس اجتماعي؛ لذلك يغيب الخطاب الفكري أو المقال الفلسفي لإثبات التحليل والتركيب وكأن التحليل غاية في ذاته وليس وسيلة للكشف عن مضمون فكري أو نفسي أو اجتماعي. غاب الفكر باعتباره قصدًا، والقصد باعتباره إحالة متبادلة إلى العالم ومعه، كما أدى التجريد والتعميم واللغات المقارنة إلى القضاء على خصوصية اللغات وتعبير كل منها عن بنية ثقافية وتراكم تاريخي طويل، وطبيعة الفروع اللغوية، خاصة السامية والآرية وسيادة اللغات الآرية خاصة الإنجليزية وتعميم نتائجها على باقي اللغات، كما أن مادة التحليل مستمدة معظمها من نصوص شفاهية أو مدونة غير دالة لا معنى لها تصل إلى حد اللغو وإزاحة النصوص الدالة مثل النصوص الدينية التي تهدف إلى توجيه الأفعال وتقنين قواعد السلوك.

ومع ذلك يمكن التمييز بين أربعة مناهج في تحليل الخطاب:
  • (١)

    تحليل الألفاظ؛ وينصب هذا المنهج أساسًا على البعد الأول للخطاب، ويهدف إلى ضبط استخدام الألفاظ والتراكيب، وربما استبدالها ووضع رموز بدلًا منها دفعًا للاشتباه وسوء استخدام الألفاظ، وقد استعمل المناطقة هذا المنهج ابتداءً من مبحثي المقولات والعبارة لأرسطو في الوضعية المنطقية المعاصرة. كما استعمله المناطقة الرياضيون في المنطق الرمزي.

  • (٢)

    تحليل اللغة؛ وهو نفس المنهج ولكن على المستوى الثاني والثالث من أبعاد الخطاب، المعاني والأشياء، وهو المنهج الغالب في تحليل النصوص الفلسفية، يبدأ من المنهج الأول ويوسع مجاله، ولا يتوقف عنده بل ينتقل من اللفظ إلى المعنى، ومن المعنى إلى الشيء، ويقوم على التمييز بين الإنشاء كما هو الحال في القضايا الأدبية والخبر كما هو الحال في القضايا العلمية، بين التحليل والتركيب، الأول في القضايا الرياضية والثاني في القضايا العلمية.

  • (٣)

    تحليل الأحلام بالذهاب إلى ما وراء الألفاظ والصور والخيالات لمعرفة دلالاتها النفسية الواعية واللاواعية؛ ويقوم بذلك صاحب الحلم نفسه أو المحلل النفسي، ومثال ذلك تحليل السيرة الذاتية وأحاديث النفس (المونولوج)، وهو منهج يكشف البعد النفسي الغائب في منهج تحليل الألفاظ ومنهج تحليل اللغة؛ فاللغة ليست مجرد تراكيب وبنيات بل هي مؤشرات على مقاصد ودلالات أعمق، المسكوت عنه هو أساس المنطوق.

  • (٤)
    منهج تحليل المضمون؛ وهو المنهج الأشمل والأعم الَّذي يضم المناهج الثلاثة السابقة؛ تحليل الألفاظ، وتحليل المعاني وتحليل الأشياء من أجل تحليل الأفعال ووصف علاقة الإنسان بالكون، العالم الإنساني أو العالم الطبيعي، فالكلام اسم وفعل وحرف أي أشياء وأفعال وعلاقات، يحيل بالضرورة إلى العالم الخارجي ويكشف عن الأبعاد الأربعة للخطاب، والاسم نكرة أو معرفة، النكرة يتكرر بلا هوية خاصة والمعرفة مفرد لا يتكرر، علم بارز. وهو بسيط أو مركب يشير إلى شيء واحد أو إلى شيئين مضافين، وهو مفرد أو جمع، مثنى أو مذكر أو تكسير، والمفرد لا يجمع مثل الله، ويضاف إلى ضمائر الملكية في حالة الملكية أو يظل جوهرًا فرادًا في العالم لا يمتلكه أحد مثل الله والأرض والسماء والجبال والأنهار والمحيطات والرياح وكل مظاهر الطبيعة التي يعيش الناس فيها ولا يمتلكونها. وضمائر الملكية لها دلالات خاصة إذا كانت للمتكلم أو للمخاطب أو الغائب، للفرد أو الجمع؛ فالمال فلا يضاف إلى ضمير المتكلم إلا مرة واحدة وبصيغة السلب «هلك عني سلطانيه» في حين أنه يضاف جمعًا إلى ضمير الغائب عشرات المرات «أموالهم» مما يدل على أن الأموال للملاك الغائبين، وقد يرفع الاسم أو ينصب أو يجر حسب وضعه فاعلًا أو مفعولًا أو مجرورًا، والفاعل أقوى من المفعول، والمفعول أضعف من الفاعل، والفعل له زمان، ماضٍ وحاضر ومستقبل لسرد التاريخ أو وضع الحقائق أو التحذير من العاقبة، ويضاف أيضًا إلى الضمائر، المتكلم والمخاطب والغائب، المفرد أو الجمع وأكثرها الغائب تلبية لمجموع البشر، كما أن للتكرار دلالته على أهمية الموضوع؛ فالاسم الذي لا يتكرر ليس محورًا في الفكر مثل لفظ «زهد» الذي ذكر واحدة سلبًا وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، واسم الفاعل أقوى من اسم الفعل لأنه يدل على الفاعلية، والمصدر الصريح أقوى من المصدر المؤول، والاسم مثل «توحيد» أقوى من «واحد»؛ لأنه يدل على فعل التوحيد، والحرف له دلالته على العلاقة مثل لفظ «المال» الذي يتكون من حرف صلة «ما» وحرف الجر «ل». فالمال ليس جوهرًا بل علاقة أي وظيفة اجتماعية مما ينفي شكل الملكية المباشرة، كما أن للسياق معناه الَّذي تنتج تحته معاني الألفاظ، وهو ما يسمى فحوى الخطاب، المعنى المباشر له أو لحن الخطاب، ما يستفاد من إيحاءاته وإيماءاته وإشاراته. والجملة الاسمية تبدأ بالجواهر، والفعلية بالأفعال للدلالة على العالم الموضوعي ثم العالم الذاتي. وتكشف صيغ الكلام عن الجملة الشرطية للدلالة على توقف الفعل على فعل آخر، الاعتماد المتبادل، والجملة الرئيسية والجملة الفرعية؛ لأن الكلام له قلب وأطراف. والصيغ الإنشائية كلها، الاستفهام والتمني والتعجب تدل على الجانب الذاتي في الكلام في حين تدل الصيغة الخبرية على الجانب الموضوعي فيه. والتقديم والتأخير لهما دلالتهما في أهمية المقدم، اسمًا أو فعلًا أو حرفًا.

    إن الهدف من منهج تحليل المضمون هو أخذ كل الدلالات اللغوية والمعنوية والواقعية والفعلية للخطاب طبقًا لأبعاده الأربعة، ووضع النص في سياقه الاجتماعي وفي آلياته الاتصالية، ومعرفة النص بأكبر قدر من الموضوعية والشمول من أجل العثور على بنية الفكر وهي نفسها بنية الموضوع، وهو نوع جديد من التطابق كضمان للموضوعية، بين الفكر والواقع، بين المعرفة والوجود.

    الهدف إذن من تحليل الخطاب هو ضبط اللغة من أجل إحكام معاني الألفاظ دون الوقوع في الإنشاء، ومعرفة المعاني الواضحة ضد مخاطر الاشتباه، ورصد البواعث والمقاصد في الخطاب لمعرفة مساره وتوجهاته؛ ومن ثم يمكن المساهمة في إحكام الخطاب العربي المعاصر ودفع الاتهامات بأن العرب ظاهرة صوتية، وأن حضارتهم نصية، وأن عقليتهم عقلية تأويلية، وأنهم لا يحسنون الكلام وبضاعتهم الكلام. وعلى أفضل تقدير سيظلون شعراء لا علماء.

١  جامعة فيلادلفيا، المؤتمر العلمي الثالث، ١٢ آذار (مارس) ١٩٩٧، «تحليل الخطاب العربي»، ص١٧–٣٨.
٢  انظر دراستنا: مدرسة الأشكال الأدبية في دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٧.
٣  John Myhill: Topological Discourse Analysis. Quantitative Approaches to the study of Linguistic function, Blackwell, USA 1992.
٤  Gillian Brown. George Yule: Discourse Analysis, Cambridge University Press, USA 1983.
٥  Malcolm Coulthard, Martin Montogomry, ed: Studies in Discourse Analysis. Routeledge & Kegan Paul, London 1981.
٦  Malcolm Coulthard: An Introduction to Discourse Analysis, Longman, London 1981.
٧  Norman Fariclougih: Critical Discourse Analysis, the critical Study of language, longman, London 1995.
٨  انظر دراستنا: «من نقد السند إلى نقد المتن»، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الخامس، القاهرة ١٩٩٦.
٩  وأيضًا: Langlois & Seignobos: Introduction, aux etudes historiques.
١٠  تكاد تخلو الدراسات الخمسة السابقة الرائدة في علم تحليل الخطاب من فصل واحد عن أنواع الخطاب أو أقسامه، بالرغم من أن فوكو مؤسس البنيوية التي خرجت منها اللسانيات المعاصرة عند دي سوسير De Saussure وجاكبسون Jakoposon قد كتب «الخطاب الفلسفي» Le Disours Philosophique وأسس «حفريات المعرفة» كلها على تحليل وحدات الخطاب المعرفي:
Faucault: Le Discours Philosophique, Paris, Gallimard.
Faucault: L’ archelologie du Savoir, Paris, Gallimard.
١١  وقد وضح ذلك في المبادئ اللغوية في مقدمة «المستصفى» للغزالي.
١٢  Jacques Derridda: La Grammtologie, Ed. De Seuil, Paris.
R. Baruth: L’Ecrnititure au point Zero.
١٣  وهو مستوى بحث هادي النعمان: الظواهر اللغوية الحديثة في الخطاب الإعلامي العربي، المنشور في هذا المجلد.
١٤  John Myhill: Topological Discourse Analysis. Quantitative Approaches to the study of Lingusitic function.
Malcolm Coulthard, Martin Montogomry. ed: Studies in Discourse Analysis.
١٥  Saint Augrstin: Le Magistere Chretien.
Husserl: Logique Formelle et Logique Transeendentale.
١٦  انظر بحث عصام نجيب: الأسس النفسية للخطاب.
Gillian Brown. George Yule: Discourse Analysis.
١٧  انظر دراسات:
• صالح السنوسي: أزمة المصداقية في الخطاب السياسي العربي.
• د. أسمهان عقلان: دور الأحداث التاريخية في صياغة الخطاب السياسي.
• نور الدين الأسد: مفارقة الخطاب للمرجع.
• محمد خرماش: مفهوم المرجعية وإشكالية التأويل في تحليل الخطاب.
١٨  P. Ricoeur: De Texte A l’eaction.
P. Habermass: The orny of communicative action.
M. Blondel: L’ Action. (2 vols).
L. Avelle: L’ Acte.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤