من اللغة إلى الفكر١
عادة ما يظن الناس أن اللغة مجموعة من الألفاظ والتراكيب، تصح أو تشذ، تحسن أو تقبح، تنقى أو تختلط، وكأن اللفظ غاية في ذاته، وأن اللغة مجرد أصوات، وقد يقوِّي ذلك علم اللسانيات الحديث بتحليل اللغة إلى مقاطع صوتية أو بنيات يتم تركيبها أو تفكيكها، لا فرق بين لغةٍ ولغة، فالكل يخضع لقوانين علم اللغة العام، وغُلِّب علم فقه اللغة القديم على فروع علم اللغة الحديث؛ علم نفس اللغة، علم اجتماع اللغة، علم أنثروبولوجيا اللغة، علم تاريخ اللغة … إلخ.
أصبحت اللغة شكلًا بلا مضمون، لفظًا بلا معنى، صوتًا بلا إشارة إلى عالم خارجي أو وقائع مادية وكأن الإشارة مجرد شفرة من شخص إلى آخر لإيصال معانٍ دون أن تشير إلى وقائع، وإن كانت توحي بحقائق. وأصبح الكلام يؤدي وظيفة ملء الفراغ بين الإنسان ونفسه أو بين الإنسان والآخرين، مجرد صراخ للتعبير عن النفس وإثبات الوجود الذي لا يلتفت إليه أحد، أو تخفيفًا للتوتر أثناء حدة الانفعالات في الفرح أو الحزن، والعالم الخارجي لا وجود له ومُسقَط من الحساب.
ليست قضية اللغة قضية مصطلحات وكيفية نقلها من لغةٍ إلى لغة عن طريق الترجمة، تحويل المعنى إلى لفظ أصيلٍ أو التعريب، النقل الصوتي للفظ، وينشأ التفاخر والتناحر بين الطريقين إلى حد السخرية من «شاطر ومشطور وبينهما طازج» لصالح «سندويتش» أو من «الحاسوب» لصالح «كمبيوتر»، ويتبارى علماء اللغة في اختيار هذا الطريق أو ذاك، وتتنافس المجامع اللغوية في تفضيل البعض النقاء اللغوي على العجمة، وأخرى في تفضيل الاستعمال على الأصالة اللغوية العتيقة. كما أن قضية الترجمة أو التعريب تجعل مهمة اللغة مجرد نقل حضارة وافدة إلى حضارة موروثة، تجعل الوافد هو الأصل، والموروث هو الفرع. المعنى من الخارج واللفظ من الداخل، الإبداع من الآخر والنقل للأنا، فتلهث اللغة وراء المعاني الجديدة، وتتبع الحضارة الناقلة الحضارة المبدعة، ويصبح دور اللغة العربية كحائك الثياب، الجسم من الخارج والثوب الفضفاض أو الضيق من الداخل.
وتجتهد مجامع اللغة العربية في وضع القواميس والمعاجم حرصًا على نقاء اللغة، والتمييز الدقيق بين الألفاظ، واستخراج ألفاظ قديمة لاستعمالات جديدة أو قبول الألفاظ الجديدة الوافدة بعد أن تعرَّبت بالاستعمال في هذا القرن، وهو تواتر في كل معجم بين الأصيل والدخيل، ويتم تحديد معاني الألفاظ والكلمات، كل منها مستقل عن الآخر، في وحدات متفرقة، وجزئيات متجاورة، ويغيب السياق الذي قد يعطي اللفظ المفرد معناه، كما يغيب تطور معنى اللفظ في التاريخ وتغير استعماله من مجتمع إلى آخر، فندرت القواميس التاريخية للغة العربية، وعزَّت معاجم اللغة للاستعمال، وتباين معاني الألفاظ من قُطْر عربي إلى آخر.
واللفظ عرفي في أحد جوانبه، واللغة للاستعمال، وهي لغة الحياة اليومية التي يتم بها التفاهم والاتصال، والألفاظ لها حياة كما قيل «حياة الكلمات». اللغة بطبيعتها ضد التقنين والتعقيد والتنميط. فهذه عمليات منطقية خالصة يتم بها تجميع الجزئيات والمفردات في كليات وقوانين عامة، وما يند عن التقعيد يظل شاهدًا وقاعدةً بفرده كما هو الحال في وضع الشواذ في اللغة، وما دام العربي البدوي الصحراوي قد نطق بها فإنها تُصبح قاعدة على العربي الحضري المدني في البصرة أو بغداد قديمًا أو في دمشق أو القاهرة حديثًا. فالقاعدة استثناء والاستثناء قاعدة، وهي قضية القياس في اللغة بين الإثبات والنفي، وهي أيضًا قضية القياس في الشرع بين الوجوب والاستحالة.
وبدأت ازدواجية اللغة بين الفصحى والعامية، وانشغلت المجامع بالدفاع عن الفصحى، وانبرى الزجالون للدفاع عن العامية. وتتَّسع الشقة بين العلماء والشعراء الشعبيين، بين الفقهاء والزجالين. وتتسع المسافة بين لغة الكتابة والقراءة من ناحية ولغة الحديث والتخاطُب من ناحية أخرى. وبدأ اللحن في الفصحى عند الأساتذة والمثقفين، وفي خطب الرؤساء والسياسيين؛ لأنهم يقرءون نصًّا لا يتحدثون به، وينطقون لغة لا يتكلمون بها. واستقرت الفصحى على البرامج الدينية والترتيلات الإذاعية المسموعة والمرئية عن الإسلام والعروبة. أما الترتيلات والأعمال الفنية الشعبية فباللغة العامية. وأصبح المتكلم بالفصحى رجلَ دين أو أزهريًّا أو درعميًّا أو من الجماعة الإسلامية أو إخوانيًّا أو متحذلقًا، ونشأت دعواتٌ في الغرب لتقنين اللغة العربية الحديثة، لغات الصحافة والكتابة النثرية الشائعة كبديلٍ عن العربية الفصحى وكحل وسط بين الفصحى والعامية، ودون تأييدٍ لهذه الدعوة فإنها تمارس بالفعل، وواقعة عند كل المتحدثين والمتخاطبين.
واقتصر دور مجامع اللغة العربية على حماية الفصحى ضد طغيان العامية، فانغلقت على نفسها تبحث في أمهات الكتب القديمة عن حلول المشاكل المعاصرة أو تؤبن الراحلين الذين أفنوا عمرهم في خدمة اللغة، وتصوت على الأحياء الداخلين إلى مجمع الخالدين، وأصبحت صورة المجامع في الذهن الشعبي، العلماء الكبار، أصحاب العمم الملفوفة أو أصحاب الطرابيش الحمراء، عربًا وعجمًا، مواطنين وأجانب، أعضاء ومراسلين.
وانضمَّت إلى الجمعيات العلمية لسائر العلوم الطبيعية الكيمياء والطبيعة والأحياء … إلخ، وهي جمعياتٌ علمية متخصصة لا يدخلها إلا المتخصصون فأصبحت اللغة صنعة، وأصبح الكلام حرفة، وتحوَّلت اللغة من السوق إلى القاعة، ومن الطبيعة إلى الصنعة، يسري عليها ما يسري على الشعر من قانونٍ للتطور «طبيعة فصناعة فصنعة فتصنُّع».
والحقيقة أن اللغة ليست مجرد شكل كما يقول المحدثون، بل هي مضمون كما يقول القدماء، لفظ ومعنى، معنى وشيء يشير إليه اللفظ، وكما قال هوسرل مؤسس الظاهريات في تعريف فعل «يفكر» بثلاثة أشياء: يتكلم وهو اللفظ، يفكِّر وهو المعنى، والشيء موضوع التفكير؛ فاللغة عالم من المعاني كما هو الحال في «علم الدلالة»، وهو عالم من الإشارات كما هو الحال في «علم الإشارة». وإذا كانت الدلالة معنى فإن الإشارة توحي بفعلٍ من أجل الإتيان بشيءٍ دون استعمال صيغة الأمر بالضرورة فاللغة عالم مركب من الأصوات والدلالات والأفعال.
وفي كل لغةٍ عنصرٌ ثابت وعنصرٌ متحول، الثابت يضمن لها البقاء في التاريخ والاستمرارية عبر الأجيال، والمتحول يضمن لها التجدُّد المستمر والتكيف طبقًا لمعطيات الواقع المتغير، الثابت أشبه بجذع الشجرة والمتحول أشبه بالأوراق والثمار التي تسقط في الفصول والمواسم كي تعود من جديدٍ كل عام. واختلف فقهاء اللغة أي عنصر من عناصر اللغة الثلاث هو الثابت وأيها المتحول، هل يثبت اللفظ فيتغير المعنى أم يثبت المعنى ويتغير اللفظ؟ هل يثبت الشيء، فالطبيعة لا تتغير، الأرض أرض، والسماء سماء، والماء ماء، والهواء هواء، وتتغير الألفاظ طبقًا للغات وحياة الكلمات وتتغير المعاني طبقًا للتصوُّرات والنظريات وتقدُّم المعارف والعلوم؟
وقد تعرَّض القدماء للثابت والمتحول في نظرية المعاني الثلاث للفظ؛ فكل لفظٍ له معنى اشتقاقي يبين نشأة اللغة من تقليد أصوات الطبيعة؛ عواء القط ونباح الكلب وزقزقة العصافير، وله معنًى عرفيٌّ في الاستعمال اليومي، فالعادة هي التي تعطي المعنى، وتشمل العادة الاتفاق والمواضعة والعرف والتقاليد، وله المعنى الاصطلاحي وهو المعنى الجديد الَّذي يرتبط بالاشتقاق والعرف مع تثبيت أحد جوانب المعنى نحو معيارٍ دائم، فالمعنى الاشتقاقي مرتبط بحذر اللفظ في الطبيعة وهو أقرب إلى الثبات منه إلى التحول، والمعنى الاصطلاحي أيضًا هو المعنى الثابت المعياري الَّذي لا يتغير، والمعنى العرفي هو المتغير طبقًا للاستعمال من عصر إلى عصر وإن لم يكن من فرد إلى فرد أو من جيل إلى جيل.
ويبدو أن مجامع اللغة العربية أقرب إلى تغليب الثابت على المتحول؛ نظرًا لحرصها على تطابق اللفظ مع المعنى المعياري، وتطابق اللفظ مع الشيء أو بالأحرى تطابق الشيء مع اللفظ إذا كان الشيء جديدًا فاللفظ هو الثابت والمعنى هو المتغير في تصور مجامع اللغة العربية الأمينة على بقاء الألفاظ واستمرارها في التاريخ؛ حرصًا على نقاء اللغة وحياة الألفاظ في المعاجم والقواميس باسم «لسان العرب»، ويزاح الاستعمال جانبًا؛ لأنه يقال من ثبات اللفظ خاصة في مجتمع عربي متعدد الأعراف والتقاليد، من المحيط إلى الخليج، وفي إطار من الوحدة العربية التي تجسدها اللغة، وبباعث القومية العربية التي أحاطت بها الأخطار حتى توارَت عن الأنظار في الخطاب السياسي وفي الواقع العملي، أما المعنى فإنه أقرب إلى ثبات اللفظ، فهو الوحيد الباقي كطرفٍ للمعنى بعد استبعاد الاستعمال.
والحجة في ذلك أن تغليب المتحرك على الثابت فيه ضياع لثبات اللغة التي هي حامل الوحي، لغة الضاد، لغة القرآن الكريم، أداة التعبير عن الوحي الإلهي القديم المدون في اللوح المحفوظ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، كما أن بقاء اللغة ثابتٌ في التاريخ يحمي الأمة من الضياع والاغتراب؛ فاللغة هي الهوية الثابتة في الوعي التاريخي وإن تغيرت الثقافات وتعددت الحضارات، والحقيقة أن هذا افتراضٌ نظري صرف، وحجةٌ إنشائية؛ فالوحي مقروء ومكتوب ومحفوظ ومفهوم ومفسَّر ومُؤول، وأُنزل في مكان وزمان معينين لشعبٍ بعينه بلغةٍ محددة وفي ثقافةٍ خاصة هي الثقافية العربية قبل الإسلام، وكانت اللغة العربية، ليست فقط لغة القرآن، بل لغة مستعملة بين الأعراب، تنطق بها القبائل، وتوحي بأعراف وعادات ومعانٍ يعرفها العرب؛ فلغة القرآن أيضًا للاستعمال في بيئة ثقافية محددة، وللخطاب القرآني مستويات عدة بين الثبات في العلم الإلهي والتحوُّل في الفهم الإنساني بل إن الخطاب القرآني ذاته في العلم الإلهي إحدى مراحل الوحي الَّذي بدأ لآدم حتى محمد على فتراتٍ من الزمن، ولكن شدة الإيمان وضياع العرب المعاصرين جعلهم يتمسَّكون بالثبات حرصًا على وجودهم في التاريخ ووقاية لهم من تحولات الزمن. وإذا كانت الثقافة العربية قد غلبت المتحول على الثابت، وهي تمثل تحديًا لنا، وتعزز آثارًا سلبية على ثقافتنا وسلوكنا، فالأولى كرد فعل أن تكون لنا خصوصيتنا وثقافتنا إلى تغلُّب الثابت على المتحول: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.
والحقيقة أن التراث اللغوي القديم كله قد حاول الجمع بين الثابت والمتحول في اللغة، ففي علم أصول الفقه، للقرآن معانٍ أولية هي المعاني الثابتة التي يمكن ترجمتها إلى اللغات الأخرى غير العربية، أما المعاني الثانوية للألفاظ فهذه خاصية اللغة العربية وحدها ولا يمكن ترجمتها، وهي الخاصة بالوجدان العربي، وبالجمال العربي، وبالتصور العربي، كما بين علم الأصول في مبحث الألفاظ ثبات المعنى وحركته في ثنائيات الحقيقة والمجاز، والظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المقيد والمطلق، المبين والمجمل … إلخ، وعلى الفقيه أن يقوم بالانتقال من المحكم إلى المتشابه لإعطائه مزيدًا من حرية الفكر والقدرة على الاستنباط لصالح الزمن الجديد، واستعمل الفلاسفة والمتكلمون خاصة المعتزلة التأويل من أجل تحريك المعنى الحرفي بعيدًا عن اللفظ الثابت الأول إلى معنى آخر يتفق مع العقل عند المتكلم والفيلسوف، ومع المصلحة عن الأصولي والفقيه، أما الصوفية فإنهم رفعوا اللفظ كلية باعتباره سجنًا للمعنى، وقيد للحقيقة، وأثر لغة الصمت أو لغة الإشارة الرمزية الأكثر اتساعًا، والتي هي أقرب إلى الحركة منها إلى الثبات، فالتصوف حركة، والطريق إلى الله تحرك، بل إن الله نفسه حركة في القلب، وسيلان دائم في الشعور.
الكلام إذن أكثر اتساعًا من اللفظ، وأكثر رحابة من الحرف والكلمة والأداة، الكلام إيحاء وإيماء وإشارة وعلامة مثل حركات الوجه، وغمز العين، وهز الرأس، ومط الشفتين، وتحريك الحواجب، وإخراج اللسان، والتنهد بالرئتين، وتحريك اليدين والقدمين بل والجسد كله، كما هو الحال في التمثيل الصامت (البانتوميم) والرقص الإيقاعي أو الباليه، والصورة الفنية أبلغ من العبارات التقريرية الوصفية؛ لذلك اعتمد القرآن على التصوير الفني أكثر من اعتماده على الخطاب الأمري؛ فالصورة الفنية تقنع، والخطاب الأمري ثقيل على النفس، والقصص القرآني أبلغ من العظات المباشرة التي لا تؤثر في النفس، وتُنسى بمجرد سماعها.
فإذا كانت اللغة بمثل هذا الاتساع، فما هو برنامج مجامع اللغة العربية للتحول من اللغة إلى الفكر، ومن الفكر إلى العالم؟
-
(١)
تحليل الخطاب العربي المعاصر السياسي، والديني، والفلسفي، والاجتماعي، والإداري، والقانوني، والتاريخي من أجل معرفة إلى أي حدٍّ يدل على شيءٍ أو يفيد معنى أم أنه مجموعة من الألفاظ المنغلقة على ذاتها يتحول فيها اللفظ إلى معنى وإلى شيء، فاللفظ هو كل شيء أو على أقصى تقدير يحمل بأكبر قدر ممكن من الانفعالات في أقصى درجات حدتها لملء الفراغ اللغوي في اللفظ، فيصبح إنشاءً وخطابة وصخبًا وصرخًا. فالخطاب السياسي العربي المعاصر يعد ويتوعد، يُمنِّي ويتمنى، يُرهب ويُرغب، يكشف على السطح ويتستر في العمق، يخاطب الوجدان البطولي وكأنه خطاب عنترة بن شداد أو طارق بن زياد، الانفعال فيه عل، والإنشاء إخبار، والتمني تقرير، لا فرق بين الخطاب السياسي أو الخطاب الديني أو الخطاب الإداري. وأحيانًا ينغلق الخطاب على نفسه في مجموعة من الألفاظ، وكأنها توحي بذاتها كما هو الحال في الأيديولوجيات القطعية والمذاهب المغلقة دينية أو سياسية، سلفية أو ماركسية أو قومية أو حتى ليبرالية، ثم توجيه هذا الخطاب إلى عالم الأشياء والوقائع لإعادة قياسه عليه حتى لا يصبح فضفاضًا أكثر منه أو ضيقًا عليه أقل منه، وبدلًا من أن يمتلئ بالإنشائيات أو بالصراخ، حتى لقد وصف البعض العرب بأنهم ظاهرة صوتية، فإنه يتأسس على واقع إحصائي دقيقٍ حتى تستطيع الكلمات أن تصبح وقائع، ويتحد اللفظ بالشيء، والكلام بالعالم، ويقترب الخطاب الأدبي من الخطاب العلمي بدلًا من هذه الهُوَّة الشاسعة في الفكر العربي المعاصر بين الإنشاء والخبر.
-
(٢)
التحوُّل من تحليل الخطاب المدوَّن إلى تحليل الخطاب الشفاهي في ثقافةٍ بدأت شفاهيةً وكان التدوين فيها متأخرًا، وما زال مركزها يحفظ شفاهيًّا، وما يزال علمها في شعبٍ تبلغ الأمية فيه ٦٥٪، ينقل شفاهيًّا، وما زال نموذجها مبنيًّا أميًّا، وكما أن للخطاب المدوَّن قواعدَ وتراكيبه اللغوية فإن للخطاب الشفاهي آلياته وأساليبه.
وهنا تظهر أهمية الأمثال العامية وسير الأبطال الشعبيين المختلطة بسير الصحابة كملون رئيسي للوجدان الشعبي، يستمد منها قيمه ومثله، ويستشهد بها في أحزانه ومصائبه أكثر مما يلجأ إليها في أفراحه وانتصاراته، فالنصر لا يحتاج إلى تبرير مثل الهزيمة، النص الديني والمثل الشعبي يؤديان نفس الوظيفة، الأول كثقافة عامة والثاني كثقافة شعبية، الأول من الله، والثاني من تجارب البشر وحكمة الشعوب، الوحي والطبيعة نظام واحد، التنزيل والتأويل كما قال القدماء، تحيا اللغة في الذاكرة الجمعية ويستدعيها الناس كمجموعة من الأقوال المأثورة، لا فرق بين علي بن أبي طالب أو أبي زيد الهلالي، اللغة ما يتحدث به الناس، وما تثير في ماضيهم من نخوةٍ إذا ما تعثَّر الحاضر، وضاق الحال.
-
(٣)
إن مهمة مجامع اللغة العربية ليست فقط إقرار ما هو موجودٌ وصفًا وتحليلًا من استعمالات اللغة حديث الناس، اللغة كما تتخلق في الأسواق والطرقات بالإضافة إلى لغة المعاجم والقواميس، ولكن أيضًا توجيه اللغة واستبدال الألفاظ، فعالم اللغة مصلح اجتماعي يساهم بدوره مثل السياسي والمصلح الديني والمثقف الثوري في التغير الاجتماعي عن طريق فك رموزه وإعادة توجيه المسار اللغوي؛ فالألفاظ تهرم وتشيخ وتعجز أحيانًا عن التعبير عن المعاني المستجدة والوقائع المتغيرة وتبدل مستوى الثقافات، مثلًا: الحلال والحرام لفظان تشريعيان في الفقه القديم، ولهما مصادرهما في الأدلة الشرعية الأولى، ولما كان الإسلام دين الفطرة، وكانت صبغة الله أحسن صبغة، وأصبح التصور الشعبي لهذين اللفظين الموروثين يعنيان غير المقصود منهما، ومترادفين للأمر والنهي في مجتمعٍ مقهور يئنُّ من الأوامر والنواهي ويتوق إلى الحرية ويسعى إلى التحرُّر، فإنه يمكنه أيضًا القيام بعملية استبدالٍ لغوي مثل طبيعي وغير طبيعي، فطري وغير فطري، فالحلال سلوك طبيعي فطري والحرام سلوك غير طبيعي وغير فطري يساعد اللفظان الجديدان على عملية التحرُّر ويساهمان في التخلُّص من نفسية الإنسان المقهور، ولا يصبح اللفظان القديمان في يد الحاكم القاهر، يستعملهما للإيحاء بالطاعة العمياء له، فلا فرق بين الأوامر والنواهي الإلهية والأوامر والنواهي السياسية، فيتوحد في ضمير الناس الله والسلطان. مثل آخر لفظ «الدين» الموروث القديم بالرغم من وجوده في الأدلة الشرعية الأولى إلا أنه أصبح محملًا بمعانٍ تخالف القصد منه، فأصبح الدين في الموروث الثقافي يعادل العقائد والقطعية، والشعائر والشعائرية، فالدين عقيدة وشريعة، وأصبحت العقائد مقدسات وليست اجتهادات بشرية في فهمها، وتحولت الشريعة إلى مظاهر خارجية «طقوس» كما هو الحال في الديانات السابقة، وانفصلت العقيدة عن الفكر، كما انفصلت الطقوس عن العمل الصالح، وهنا يأتي عالم اللغة من أجل المساهمة في عملية الاستبدال اللغوي ليحل «الأيديولوجية» أو المذهب السياسي ليعبر عن مضمون التوحيد وهو أنه تصور عام نظري وعملي للكون، والمجتمع والفرد في السياسة والاقتصاد والأخلاق والقانون والاجتماع والجمال، وبهذه الطريقة قد يخف الصراع الحاد بين السلفيين أنصار اللغة القديمة وبين العلمانيين أنصار اللغة الجديدة، ويصبح عالم اللغة هو الأمين على تجديد اللغة والمسئول عن وحدة الثقافة.
-
(٤)
وهناك مجموعة أخرى من الألفاظ فرضتها حياتنا المعاصرة وكثر استعمالها إبان حركة التحرر العربي وإن خفت الآن في الخطاب السياسي السائد، مثل الأرض والوطن، الحرية والاستقلال، الديمقراطية والتعددية، العدالة والمساواة، النضال والمقاومة، حقوق الإنسان، ونظرًا لأنها في أصلها وافدة في المائتي عام الأخيرة منذ فجر النهضة العربية فإنها لم تستطع أن تحفر طريقها في الثقافة؛ نظرًا لأن الألفاظ المعروفة تمثل سدًّا منيعًا في الوجدان القومي تمنع من اختراقه مثل الأمة والجماعة، والشورى والجهاد، والرزق، والصحابة، والطاعة لأولي الأمر … إلخ، وهنا يظهر عالم اللغة ليجدد من معاني الألفاظ الموروثة حتى يجعلها أكثر قدرة على قبول الألفاظ الحديثة، فالحرية لفظ قديم تقال في مقابل العبودية في مجتمع ما زال الرق فيه سائدًا ولكنها تفيد الآن حرية الأفراد من القهر وحرية الشعوب من الاستغلال الداخلي والاستعمار الخارجي، كما أن مفاهيم العدالة والمساواة تعبر عن حاجات الناس ومطالبهم وتصطدم بمفاهيم موروثة من الدين أو من الثقافة الشعبية مثل الرزق، والقسمة والنصيب والرزق المقدر وجعل الناس طبقات، فتمنع الألفاظ القديمة من التغير الاجتماعي وتحاصر الألفاظ الجديدة على أنها وافدة مادية الحادية، هنا يأتي عالم اللغة ليقوم بتقليل المسافة بين اللغتين الموروثة والوافدة، ويظهر المعاني الجديدة المتضمنة في الألفاظ القديمة قدر الإمكان، كما يبين مدى تعبير الألفاظ الجديدة عن متطلبات العصر ومطابقتها للمعاني المتجددة للألفاظ القديمة حتى يرفع الحصار عنها، ويبدأ غرسها في الثقافة الشعبية أسوة بالألفاظ القديمة، وحتى يقوم الزرع الجديد النامي مقام الزرع القديم اليابس، وكذلك الأمر في ألفاظ الوطن والشعب، واستثارة الذاكرة الجمعية لاستعمالات لفظ الوطن وتراثه مثل رسالة أبي حيان التوحيدي في الحنين إلى الأوطان والأقوال المأثورة مثل حب الوطن من الإيمان حتى تقل المسافة بين المفاهيم الموروثة عن الأمة والجماعة والديار وبين المفاهيم المعاصرة التي ذاعت وما زالت محاصرة من الجذور مثل الوطن والأرض والهوية والثقافة، ويقوم عالم اللغة أيضًا باستخراج أدبيات مصر والشام وفلسطين والقدس عن فضائل الأماكن والشعوب مثل «فضائل مصر» للكندي من أجل إقالتها من عثرتها، ونهضتها من كبوتها وحتى تظل الشام وفلسطين والعراق حية في وجدان الأمة من خلال استعمال الألفاظ.
-
(٥)
وإذا كنا نحاول منذ فجر النهضة العربية إثارة الفكر وبداية حركة تنوير جديد فإن دور اللغة هنا يكون رئيسيًّا في إثارة معاني الألفاظ ونثر الغبار التاريخي عنها أو استعمال ألفاظ جديدة لتحريك المياه الراكدة، وبعث الناس على التساؤل حول صحة الأفكار الشائعة والمسلَّمات الاجتماعية، وذلك مثل ألفاظ الطبيعة، المادة، الإلحاد، الجنس، الدين، السلطة، وهي أقرب إلى المحرمات في الثقافة الشعبية، لا يجوز الاقتراب منها أو تحليلها مثل «التابو». وفي مقابل ذلك تُقبل ألفاظ أخرى مسموح الحديث عنها مثل الله، والروح، والإيمان، وألقاب الزعماء، فالطبيعة في الذهن الشعبي لا قوام لها من ذاتها، ولا قانون ضابط لها، فانية، أتت من لا شيء وتنتهي إلى لا شيء، تأتي من عدم وتنتهي إلى عدم، وبهذا المفهوم لا يمكن السيطرة عليها أو معرفة قوانينها أو تعميرها. وقد اتُّهِم الطبائعيون قديمًا بالإلحاد؛ لأنهم حاولوا جَعْلَها باقية، منظمة، عاقلة، فاعلة، أما لفظ المادة فما زال لفظًا مدانًا بنوع من التطهُّر الفردي والاجتماعي؛ لأنه غير مقرون بالروح، ويؤدي إلى إنكار وجود الله كما قال الأفغاني في الرد على الدهريين: «وكما يفعل بعض الدعاة في الرد على مادية القرن العشرين وإلحاده، والطبيعة خاضعة لقانون ينتظم حوادثها، وموضوع للتأمل والتفكر لإدراك دلالتها وجمالها كما فعل ابن رشد في فلسفته وإقبال في شعره، والمادة ليست قبحًا، وليست ضد الروح بالضرورة وقديمًا عرف النظام الروح بالجسم المتحرك، والإنسان بالبدن المرئي.»
وحديثًا حاول البعض رد الاعتبار إلى النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، وقد حلل الأصوليون العلل المؤثرة أي المادية في سلوك البشر لمعرفتها والقياس عليها، وحاول التيار العلمي العلماني في الفكر العربي المعاصر الدعوة للعلم الطبيعي والمجتمع المدني، وتبرير نظرية النشوء والارتقاء، وتبرير المادة الغربية ولكنه ظل محاصرًا مطرودًا لأنه لم ينفذ بالجذور، أما الإلحاد فإنه تيار في الفكر العربي يدعو إلى التنزيه ضد التجسيم والتشبيه، ويرفعه أن يجعل الله متجسدًا، حالًّا في التاريخ، أو متكلمًا لشعب خاص دون غيره أو أن يقام له تمثال أو ترسم له صورة، أو أن يكون أداة للقهر في يد رجال الدين، أما الجنس والدين والسلطة فهي المقدسات المحرمات في الثقافة الشعبية بالرغم من التفكير فيها في الأعماق دون الإفصاح، وبالرغم من أنها بواعث للسلوك الفردي الجماعي، مهمة عالم اللغة تحليل مثل هذه الألفاظ من أجل خلق حركة تنوير ابتداء من الحفر في اللغة.
-
(٦)
اللغة في النهاية ليست فقط مجرد أداة لتوصيل المعرفة بل هي «اقتضاء فعل» بمصطلح القدماء الأصوليين، بل إن الإخبار نفسه فعل معرفي لتغيير الذهن، اللغة باعث على الفعل، ودافع على السلوك، وإلا كان القول طائرًا في الهواء، مجرد أصوات وملء فراغ، وفي عام المجاعة كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص «القوت، القوت، النجاة، النجاة» لفظان مكرران لا يعطيان خبرًا بل يقتضيان فعلًا. وكلما كثر القول قل الاقتضاء، وكلما زاد الكلام نقص الفعل؛ لذلك كان الرسول يتهجد ويتعبد ليلًا تأويلًا للقرآن، وعازف الآلة الموسيقية مفسر للنوتة الموسيقية بعزفه.
وقد يقال أيضًا إن هذه المهمة خارج إطار علم اللغة بل أدخل في علم اجتماع الثقافة أو أنثروبولوجيا الثقافة، والحقيقة أن الثقافة لغة، وأن اللغة أصبحت علمًا شاملًا بل هو العلم الإنساني بالأصالة، فهناك علم اللغة النفسي، وعلم اللغة الاجتماعي، وعلم اللغة الأنثروبولوجي، وعلم اللغة التاريخي، وعلم اللغة الأخلاقي، وعلم اللغة السياسي، وعلم اللغة القانوني، فلماذا يقتصر دور المجامع على علم فقه اللغة وحده؟
إن دور المجامع يتطور بتطوُّر العلوم وإلا توقفت المجامع على فقه اللغة، وتطورات علوم اللغة، فتزداد المسافة اتساعًا بينهما، ويضيع الناس، وتصبح لغة التداول متأرجحةً بين الخاصة والعامة.
وقد يقال أخيرًا إن هذا الدور الجديد للمجامع يمارسه البعض وإن لم يكن على نطاق واسع. وقد يحتاج ذلك تصديقًا للحكم إلى دراسة مجلات المجامع عن طريق تحليل المضمون لمعرفة مدى تعبيرها عن دور المجامع القديم أو دورها الجديد، ومعرفة النفس خير وسيلة لمعرفة العالم: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.