المنهج الفلسفي١

(١) مقدمة: المنهج عند كل الشعوب

ليس المنهج حكرًا على شعب بعينه أو وقفًا على ثقافة بعينها أو قصرًا على حضارة خاصة، بل هو عام عند كل الشعوب، ومعروف في كل الثقافات، وموجود في كل الحضارات، ونظرًا لسيادة الثقافة الغربية في العصور الأوروبية الحديثة وتصدرها ثقافات العالم حتى أصبحت مركزًا، وثقافات العالم محيطها، ارتبط المنهج بالفلسفة الغربية، وتوارت المناهج في الفلسفات الأخرى شرقية أو إسلامية وذاعت المناهج الغربية خارج حدود الغرب في الثقافات الشرقية والإسلامية، فازدوجت الثقافات اللاغربية بين مناهج غربية ومناهج وطنية، مناهج تجزيئية ومناهج كلية، مناهج تميز بين المنهج والموضوع ومناهج توحد بين المنهج والموضوع، مناهج صورية عقلية أو تجريبية من أجل المعرفة ومناهج تجمع بين المعرفة والسلوك، بين النظر والعمل، بين الحق والخير والجمال، بين المعرفة والأخلاق والفن، بين الفكر والحياة.

ينشأ المنهج في كل حضارة بناء على ظروفها وتاريخها، ومن خلال نشأتها وتطورها، وطبقًا لتكوينها وبنيتها. فالحضارة الغربية عُرفت بأنها حضارة المنهج؛ لأنها في نشأتها القديمة سادها المنطق اليوناني خاصة في العصر الوسيط بعد التحوُّل من أفلاطون في عصر آباء الكنيسة إلى أرسطو في العصر المدرسي، وفي بداية العصور الحديثة بدأت القطيعة المعرفية بين الحاضر والماضي بعد أن اكتشف العقل وصدقته التجربة تعارض أرسطو والكتاب المقدس وأقوال الآباء مع بداهة العقل والحس، وتم إسقاط الغطاء النظري المعرفي الموروث، وأصبح الواقع عاريًا من كل نظريةٍ فتدخل العقل من أجل إيجاد بديل نظري والبحث عن طرق بديلة للمعرفة اعتمادًا على اليقين الجديد، يقين البداهة العقلية والبداهة الحسية، ولولا هذه القطيعة المعرفية في بدايات العصور الحديثة لَما نشأت الثورة المنهجية، ولَما بدا هذا القلق المنهجي في الغرب.

أما في الشرق، في الصين واليابان والهند، فلم تحدث هذه القطيعة المعرفية بين الماضي والحاضر، وتبنت الثقافات الشرقية نموذج التجديد والتطوير الَّذي انتهى إلى استبقاء المناهج التقليدية في الحياة الخاصة وتقليد المناهج الغربية في الحياة العامة. ولما كان الفن والصناعات الحرفية التقليدية وأساليب الحياة اليومية أقرب إلى الحياة الخاصة فقد سادتها المناهج التقليدية التي لا تهدف إلى المعرفة وحدها بل أيضًا إلى السلوك، جامعة بين النظر والعمل، بين النظرية والتطبيق. ارتبطت الأصالة بالمناهج التقليدية، وارتبطت المعاصرة بالمناهج الغربية، أصبحت المناهج التقليدية تعبيرًا عن الهُويَّة، والمناهج الغربية تعبيرًا عن الاختلاف، الأولى تعبير عن الصدق والثانية تحقيق للمنفعة.

ولفظ المنهج ليس غريبًا على الحضارة الإسلامية، فقد ظهر في كتاب ابن رشد الشهير في صيغة الجمع «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، والتعريف بما وقع فيها من الزيغ والبدع المضلة». «فالمنهج» هنا يعني الطريق، و«مناهج» طرق الاستدلال في فهم العقائد والتي تؤدي إلى التمييز بين الفهم الصحيح والفهم الفاسد، بين العقيدة والبدعة، وليس في الرياضيات والعلوم الاستنباطية أو في الطبيعيات والعلوم التجريبية، كما استعمل لفظ «نهج» في الثقافة الإسلامية كما هو الحال في «نهج البلاغة» المنسوب إلى علي بن أبي طالب، ويعني أيضًا الطريق؛ طريق الكلام. والكلام ليس مجرد صوت بل هو تعبير عن فكر ورؤية ومعايير للسلوك.

كما أن اللفظ ورد في القرآن الكريم: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، واستعمل لفظ المنهاج وليس المنهج؛ فالمنهاج هو الطريق أو الشريعة في حين أن المنهج مجرد طريقة في الاستدلال، المنهاج أسلوب حياة، نظام أخلاقي واجتماعي وسياسي في حين أن المنهج أقرب إلى طريقة النظر، وهو أقرب إلى اللفظ اليوناني µετασδος   (metahodos) أو طبقًا للطريق، وسلوكًا في الطريق، واتباعًا للطريق.

وفي الحضارات الشرقية كان المنهج والموضوع شيئًا واحدًا، فلا يوجد منهج مستقل عن الموضوع، آلة خارجة عن تطبيقها في ميدان، المنهج موضوع متحقق، والموضوع منهج مطبق، والوعي متحد بهما معًا، الموضوع يقرض منهجه من ذاته، والمنهج يقرض موضوعه من ذاته، هكذا كان يفعل صانع الخزف في الصين، والرسام في اليابان، والمثال في الهند، والفنان في مصر القديمة، وحدة المنهج والموضوع وحدة مبدئية، وحدة الذات والموضوع، الطريق والغاية، المقدمة والنتيجة، البداية والنهاية، الخلق والبعث، إذا وضع المنهج وضع موضوعه، وإذا وضع الموضوع فُرض منهجه.

وفي الغرب بدأ المنهج معاديًا للموضوع؛ لأن الموضوع كان معاديًا للمنهج قبل العصور الحديثة، كان الإيمان تسليمًا دون برهان، وكان أرسطو المعلم الأول، المعصوم الَّذي لا يخطئ، وكانت أقوال الآباء أيضًا تعبيرًا عن تجسُّد الروح القدس في التاريخ، ثم انهار كل ذلك بعد إعمال العقل والالتجاء إلى التجربة، ونشأت المناهج معادية لموضوعاتها في بداية العصور الحديثة، العقل متربص باللاعقل، والتجربة معادية للنظر، المنهج ضد الموضوع، والموضوع ضد المنهج، العقل لا يقبل إلا ما كان عقليًّا متسقًا مقدماته مع نتائجه، ووجد ضالته في الرياضيات، التجربة لا تقبل إلا ما كان محسوسًا قابلًا للقياس، فوجدت في المحسوسات والمجربات والظواهر الطبيعية ضالتها، مقياس الصدق في المنهج العقلي اتساق المقدمات مع النتائج، وفي المنهج التجريبي، تطابق الحكم مع التجربة، كان الموضوع ضد المنهج في العصر الوسيط فأصبح المنهج ضد الموضوع في العصور الحديثة، ولم يقع الوئام بين المنهج والموضوع إلا أخيرًا في الظاهريات في نهاية العصور الحديثة، والحضارة الغربية على وشك الأفول، والعصور الحديثة على وشك غلق الأقواس.

وفي الحضارة الإسلامية تتأكد وحدة المنهج والموضوع كما هو الحال في الحضارات الشرقية؛ فالوحي وهو الموضوع الأول لها هو في نفس الوقت منهج العقل والبرهان نظرًا لموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، والطبيعة أيضًا الموضوع الثاني لها تخضع لنظام العقل من خلال القانون، فنسق الطبيعة هو نسق العقل، والنظر في الآفاق وفي النفس يؤدي إلى نفس الحقيقة، وفي الأرض وفي النفس آيات اليقين، والتأويل هو أداة الربط بين العقل والوحي إذا ما بدا تعارض ظاهري بينهما من أجل التأكيد على وحدة المنهج والموضوع.

(٢) المنهج في الغرب

ارتبط المنهج في الغرب بمنطق اليونان بحيث لم يعد هناك فرق بين المنهج والمنطق، المنطق هو منهج الفلسفة لما كانت الفلسفة هي علم البرهان، ولما كان الغالب على منطق اليونان منطق القضايا الذي يقوم في معظمه على الشكل وليس على المضمون كان مقياس الحقيقة فيه اتساق النتائج مع المقدمات، يكون العلم صحيحًا ما دامت أشكال الفكر فيه صحيحة، وقد لخص المسلمون ذلك في قولهم: «المنطق إما تصور أو تصديق، والتصور يُنال بالحد، والتصديق يُنال بالبرهان.» أما الاستقراء فقد كان هامشيًّا في المنطق بالرغم من الاتجاه الطبيعي التجريبي عند أرسطو.

وكان المنطق نوعَيْن، وكما لخص المسلمون، منطق اليقين: المقولات، والعبارة، والقياس، والبرهان؛ ومنطق الظن: الجدل، والسفسطة، والخطابة، والشعر، كان الفلاسفة يستعملون منطق اليقين في حين كان السوفسطائيون والخطباء والشعراء يستعملون منطق الظن، ولم تكن هناك غلبةٌ لأحد المنطقين على الآخر، وكانت ممارسة التفلسف والكلام سابقة على تطبيق قواعد المنطق، وكانت هذه القواعد مجرد تجريد للتفكير وللكلام بالفعل.

فلما جاء عصر آباء الكنيسة في القرون الخمسة الأولى كان منطق الظن هو السائد على منطق البرهان؛ فقد كان آباء الكنيسة الأوائل في معظمهم خطباء، وكانت الخطابة إحدى وسائل الدفاع عن الدين عند المحامين والوعاظ الآباء، كانت أساليب البلاغة وطرق البيان أسرع في الإقناع، وأقوى في الإيحاء، وأقرب إلى الثقافة الشعبية وإيمان العوام، وقد قوَّى ذلك اعتماد عصر الآباء على أفلاطون الذي تسود فلسفته الأسطورة والشعر وفنون الأدب والبلاغة.

وفي العصر الوسيط المتقدم من القرن التاسع حتى القرن الحادي عشر أو المتأخر من القرن الثاني عشر حتى الرابع عشر تحول المنطق من منطق الظن إلى منطق البرهان، ومن الجدل والسفسطة والخطابة والشعر إلى المقولات والعبارة والقياس والبرهان؛ فقد تحول الاختيار من أفلاطون إلى أرسطو بعد أن اكتشفه بويتيوس في القرن الخامس في نهاية العصر الكلاسيكي، وقام بشرحه وتقديمه للناس، وكان لترجمة الفلسفة الإسلامية أثرٌ كبير في هذا التحوُّل من الخطابة إلى البرهان، ومن الإقناع إلى الاستدلال، فقد قدم الإسلام نموذج وحدة الوحي والعقل والطبيعة في مقابل النموذج السائد مفارقة الوحي للعقل والطبيعة وكبديل عنه.

سادت العصر الوسيط الفنون الحرة السبعة: الثلاثي، المنطق والنحو والبلاغة؛ والرباعي: الحساب والهندسة والموسيقى والفلك، ومن الثلاثي ساد المنطق على النحو والبلاغة، وفي الرباعي ساد نظام العقل تحت تأثير علماء المسلمين. كان المنهج هو التلقين والتعليم من أجل إعطاء ثقافة العصر. ثم بعد ذلك يبدأ الجدل دفاعًا عن العقيدة والنقاش بين الخصوم كما هو الحال في جدل المتكلمين.

وأضاف العصر الوسيط على المنهج الاستدلالي القديم منهج التأويل كما بدأ في نظرية المعاني الأربعة للنص الديني: المعنى الحرفي، والمعنى المجازي، والمعنى الأخلاقي، والمعنى الروحي، أصبح المنهج في مواجهة موضوع وهو الكتاب المقدس بعد أن كان في مواجهة عقيدة في عصر الآباء أو في مواجهة نفسه عند اليونان. ونشأ الصراع بين أنصار المعنى الحرفي من ناحية وأنصار المعاني المجازية والأخلاقية والروحية من ناحية أخرى كما هو الحال بين الأشاعرة والمعتزلة أو بين المتكلمين والفلاسفة دفاعًا عن اللفظ حتى ولو أدَّى إلى التشبيه أو دفاعًا عن المعنى حتى ولو أدَّى إلى التنزيه.

وفي العصور الحديثة بدأ المنهج في الظهور بعد القطيعة المعرفية بين الماضي والحاضر، ورفض المصادر القبلية للمعرفة، الكتاب المقدس، وأقوال الآباء، وأرسطو وبطليموس، وبدأ العقل يواجه نفسه، ما مقياس الصدق؟ ويواجه الطبيعة، ما مقياس التحقق؟ وبدأ الوعي الأوروبي يضع نفسه منهجيًّا على نحو ثنائي: منهج عقلي ومنهج تجريبي؛ الأول مستنبط من الرياضيات والثاني مستقًى من العلوم الطبيعية، أسس الأول ديكارت، والثاني بيكون.

قام المنهج العقلي على نقطة بديهية هي الكوجيتو «أنا أفكِّر فأنا إذن موجود.» ولكي يكون الفكر صحيحًا عليه اتباع قواعد أربع: الأولى الوضوح والتميز في إدراك الأشياء، الشيء الواضح بذاته، المتميز عن غيره. والثانية التحليل، تحليل الأشياء لو كانت مركبة من أجل إدراك كل جزء منها على حدة بوضوح وتميز. والثالثة التركيب، تركيب الأجزاء في كلها الأول، والرابعة المراجعة للتأكد من صحة القواعد وحسن التطبيق وعدم الخطأ أو النسيان، ويسبق ذلك الشك في كل الموروث من أجل تطهير العقل من كل التلقين السابق وتقليد القدماء.

وقام المنهج التجريبي على نقطة بديهية أخرى هي أن الحواس مصدر للمعرفة وأن صدق الحكم في مطابقته للواقع من خلال الحواس؛ وبالتالي تم استبعاد كل ما لا يمكن التحقُّق من صدقه في الواقع المشاهد والعالم المدرك، ويتم ذلك بعد تطهير الذهن من أوهام الجنس وكل ما يتعلق بأوهام الإنسان من حيث هو كذلك، ومن أوهام الكهف وكل ما يتعلق بالمزاج الفردي، ومن أوهام السوق وكل ما يتعلَّمه الفرد من الناس دون التحقق من صدقه، ومن أوهام المسرح وهو ما تراكم عبر المعارف التاريخية الطويلة من الروايات والمرويات.

ثم جاءت مرحلة ثانية في الفكر المنهجي الغربي عندما تحول العقل إلى جدل، والتجربة إلى تحليل؛ فقد كان العقل في القرن السابع عشر صوريًّا رياضيًّا فارغًا ثم تحول إلى خطابة ومقال وتنوير للجماهير في القرن الثامن عشر عند فلاسفة التنوير، فقامت الثورة الفرنسية؛ ومن ثم برز العقل الجدلي القادر على إدراك المتناقضات في الفكر بين الملكية والثورة، بين الشيء ونقيضه. وتأسس المنهج الجدلي عند هيجل من أجل الكشف عن المتناقضات في الفكر والواقع، في العقل والتاريخ، واستطاع المنهج الجدلي فهم كل شيء وتركيب كل تناقض، ثم تحول على يد ماركس إلى جدلي مادي في المادية الجدلية رادًّا الروح إلى المادة بعد أن ردها هيجل إلى الروح، كما تحول على يد إنجلز إلى جدل الطبيعة بعد رد العقل إلى الطبيعة.

ثم حدث رد فعل عليه في المنهج التحليلي من أجل العودة من جديد إلى الجزء لا الكل، وإلى المتناهي في الصغر وليس المتناهي في الكبر. فالتحليل رد فعل على التركيب، وطبق التحليل في المدركات الحسية فنشأت الوضعية، كما طبق في اللغة فنشأت الوضعية المنطقية، ثم تحول التحليل من مجرد منهج إلى فلسفة في الفلسفة التحليلية، وقد راجت حتى أصبح العصر كله عصر التحليل، والحضارة الغربية كلها حضارة التحليل.

وفي المرحلة الثالثة بدأ الوعي الأوروبي يتجاوز ثنائية المنهجية الأولى، المنهج العقلي والمنهج التجريبي، وثنائية المنهجية الثانية، المنهج الجدلي والمنهج التحليلي إلى وحدة المنهج، المنهج الظاهراتي أو المنهج الشعوري الذي يحلل الظواهر باعتبارها تجارب حية في الشعور، فالظاهرة معنى، يدركها الشعور إدراكًا مباشرًا لتحويل هذا المعنى إلى ماهية، ويتكون هذا المنهج من ثلاث خطوات، الأولى: التوقف عن الحكم على الأشياء المادية الموجودة في المكان، خارج الشعور قبل أن تتم عملية الإدراك، ووصفها بين قوسين، وإخراجها خارج دائرة الانتباه؛ والثانية: بناء الماهية في الشعور وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل، ومن المكان إلى الزمان، فيتحول الخارج إلى الداخل ويصبح الشعور ذاتًا وموضوعًا في نفس الوقت، قصدًا متبادلًا بين قالب الشعور ومضمون الشعور، بين العقل والتجربة، ثم تأتي التجربة المشتركة من أجل إعطاء اليقين لتحليل الشعور الفردي؛ فالموضوعية إنسانية وليست تجريبية، اتفاق الماهية بين الذوات وتطابق التجربة مع الآخرين؛ والثالثة: الإيضاح حتى لا تختلط الماهيات؛ فالظاهريات أيضًا نظرية في الوضوح في النهاية وليس في البداية، بعد عملية الإيضاح.

وفي المرحلة الرابعة والأخيرة عاد الفكر المنهجي الغربي إلى ثنائية العدمية من جديد في المنهج البنيوي الذي أراد التركيب من جديد، تركيب الظواهر في بنيات صورية مجرد في الذهن أم في الواقع، ثم في المنهج التفكيكي الذي أراد تفكيك البنية والانتهاء إلى لا شيء، واتجه المنهج البنيوي إلى اللغة والأساطير والفكر البدائي كما وضح ذلك في الأنثروبولوجيا، ثم تحول إلى علم النفس والتحليل النفسي، وتاريخ العيادات النفسية والجنون ودراسة المرضى والمهمشين والخارجين على القانون.

ثم حدث رد الفعل الأخير على البنيوية في المنهج التفكيكي الَّذي يريد إنهاء العقل وآلة العقل والانتهاء إلى لا شيء؛ فالفكر كتابة، والكلام صوت، والمعنى حرف، والأشياء كلمات، والوجود عدم. انتهى التركيب والنظام والنسق إلى غير رجعة، ولم يعد يبقى إلا التحليل والفوضى والعدمية، ينخر التفكيك في كل شيء حتى لا يبقى ما يفككه فيفك ذاته، وينتهي العالم كما بدأ أول مرة دون بعث أو حساب.

(٣) المنهج عند المسلمين

استعمل المسلمون كلمة طريق، وغالبًا في صيغة الجمع «طرق» للدلالة على المنهج والمناهج في «طرق النظر»، بالرغم من استعمال ابن رشد للفظ «مناهج» وعلي بن أبي طالب لفظ «منهج» والقرآن الكريم لفظ «منهاج».

ظهر المنهج عند المتكلمين في نظرية العلم، المقدمة الأولى في علم الكلام، إجابة على سؤال كيف أعلم؟ وتستبعد الشك والظن والوهم والجهل والتقليد، وتستبقي العلم كمطابقة مع المعلوم، والعلم بديهي ضروري أو استدلال نظري، والطريق إليه النظر؛ فالنظر الصحيح يفيد العلم، والنظر واجب بالسمع والعقل، بل هو أول الواجبات، وطرق النظر: التعريف، والاستدلال، والقياس، وقياس الغائب على الشاهد أو التمثيل، والمقدمات قد تكون قطعية أو ظنية، والأدلة نقلية أو عقلية والدليل النقلي وحده ظني؛ لأنه يعتمد على اللغة وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والظاهر والمؤول، والمجمل والمبين. وقد ظهر هذا المنهج بوضوح في مشكلة العقل والنقل بين المعتزلة والأشاعرة، العقل أساس النقل عند المعتزلة؛ لذلك وجب التأويل في حالة التعارض حفاظًا على التنزيه، والنقل أساس العقل عند الأشاعرة ولو أدَّى ذلك التشبيه. وفي كلتا الحالتين المنهج الكلامي منهج دفاعي، يعقل الإيمان ولا يتساءل عنه، كل فرقة تجادل في فَهْمها وتأويلها للعقائد دفاعًا عن نفسها وهجومًا على الفرق الأخرى، فتحول الجدل إلى مقارعة للخصوم من أجل الانتصار عليهم وإثبات الفرقة الناجية في مقابل الفرق الضالة؛ لذلك ذم الفقهاء الكلام والمتكلمين، وأدانوا الجدل والمجادلين اعتمادًا على نقد القرآن للجدل: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا.

ثم حول الفلاسفة الجدل إلى برهان، واستعملوا المنطق طريقًا إلى اليقين، وأصبحت المقولات والعبارة والقياس مقدمات إلى البرهان، فإذا ما نقص البرهان ظهر الجدل والسفسطة والخطابة والشعر. وقد أحكم الفلاسفة المنهج العقلي البرهاني وعرف ابن رشد الفلسفة بأنها النظر في الموجودات بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان، ولم تعد الفلسفة بحاجة إلى تبرير الدين كما كان الحال في علم الكلام؛ لأن الفلسفة والدين حقيقة واحدة وغاية واحدة وإن اختلف الطريق، الفلسفة عن طريق العقل، والدين عن طريق الوحي كما بيَّن الكندي، وفي حالة التعارض فإن التأويل يدرأ هذا التعارض. فلقد تم التعبير عن الوحي مجازًا من أجل مخاطبة أكبر عدد ممكن من الناس بصرف النظر عن مستوى تعليمهم، أما الخاصة فهم القادرون وحدهم على البرهان، وأصبح العقل مركز كل شيء، الله العقل الفعال، والإنسان العقل المنفعل أو العقل بالقوة أو العقل بالملكة، أو العقل المستفاد حتى يصير عقلًا بالفعل، والإنسان حيوان ناطق، وأهم قوة في النفس القوة الناطقة.

ثم حدث رد فعل على هذه العقلانية الشاملة، الجدلية عند المتكلمين والبرهانية عند الفلاسفة في منهج الذوق عند الصوفية، الذوق في مقابل النظر، والإشراق في مقابل الاستدلال، والقلب في مواجهة العقل، والبصيرة في مواجهة البصر، فالمعرفة على مستويات، المعرفة الحسية من خلال الحواس وتعطي ظاهر الموجودات، ثم المعرفة العقلية من خلال العقل وتعطي صورة الموجودات، والمعرفة الكشفية من خلال القلب وتعطي حقيقة الموجودات، الأولى علم اليقين، والثانية حق اليقين، والثالثة عين اليقين، وهو منهج عملي قبل أن يكون نظريًّا، يقوم أولًا على الرياضيات والمجاهدات قبل أن يكشف الله الحجاب، يبدأ بالطريقة كي يصل إلى الحقيقة. والناس على مراتب في العلم، العامة ولهم المحسوسات، والخاصة ولهم المعقولات، وخاصة الخاصة ولهم الهوامع والطوالع واللوامع، ويتكوَّن الطريق من الأحوال والمقامات؛ فالأحوال تحصل من عين الجود، والمقامات ببذل المجهود. الأحوال علامات على الطريق تنبئ السالك بعبور المرحلة، وهي علامات مزدوجة بين السلب والإيجاب، مثل: الخوف والرجاء، الهيبة والإنس، السكر والصحو، الفقد والوجد. السلب عندما يعبر إلى المرحلة التالية، والإيجاب بعد أن يتعود عليها، والمقامات مثل التوبة، الشكر، الفقر، الزهد، الرضا، الصبر، التوكل، الورع، الفناء. المنهج الصوفي إذن منهج صاعد، طريق إلى الله، إسقاط الأوصاف الدنية والتحلي بالأخلاق الإلهية، فلا يرى الصوفي إلا بعين الله مثل وحدة الشهود ثم يصبح صور الله والعالم شيئًا واحدًا كما هو الحال في وحدة الوجود.

ثم جاء رد الفعل على هذا كله في المنهج الأصولي في علم أصول الفقه الذي يرفض أن يجعل المنهج مجرد جدل أو نظر بل هو منهج عملي لتحقيق الشرع، وليس العمل هو الطريق الصوفي، فهو طريق فردي ذاتي، محفوف بالمخاطر، يُعنى بالتأويل ويترك التنزيل، يصعد بالإنسان إلى الله دون أن ينزل بالشرع إلى العالم. ويقوم المنهج الأصولي على وضع منطق للأفعال يسمى الأحكام التكليفية وجعلوها خمسًا؛ الفرض أو الواجب وهو الضروري إيجابًا، وعكسه المحرَّم أو المحظور وهو الضروري سلبًا، ثم المندوب وهو الاختياري إيجابًا وعكسه المكروه وهو الاختياري سلبًا، وما بين الإيجاب الضروري والاختياري، والسلب الضروري والاختياري هناك الحلال أو المباح، الطبيعي الذي تكمن الشرعية في وجوده، البراءة الأصلية والفطرة الأولى. هذه الأحكام التكليفية الخمسة من جهة الفاعل تقوم على أحكام وضعية خمسة أخرى من جهة ميدان الفعل، فكل فعل له سبب، وشرط، ومانع، ويؤتى عزيمة أو رخصة، ويكون صحيحًا أو باطلًا، السبب مثل الصلاة للتقوى، والشرط مثل الوضوء، والمانع مثل الحيض، والعزيمة وقوفًا والرخصة قاعدًا أو مستلقيًا، والصحة عدد الركعات والبطلان الزيادة عليها أو النقصان منها. فالفعل حر له عدة مستويات من الوجوب ويتحقق في ميدان متشابك وفي عالم ضروري.

ويقوم منطق الفعل من أجل تحقيق المقاصد، مقاصد الشارع ومقاصد المكلف، ومقاصد الشارع أربع: وضع الشريعة ابتداء تعبيرًا عن المصالح العامة فالمصلحة أساس التشريع، ثم وضع الشريعة للامتثال أي للاقتناع الحر، ثم وضع الشريعة للإفهام أي لفهمها دون إجبار وأخيرًا وضع الشريعة للتكليف أي للتحقيق كنظام طبيعي مثالي للعالم.

ومن أجل الحصول على هذه الثمرة يطبق منطق اللغة المزدوج على مصادر الشرع الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس مثل: الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، المطلق والمقيد، العام والخاص، الأمر والنهي لبيان أبعاد النص المختلفة كصورة فنية أو كتعدد في المواقف أو كتوضيح لمعنى أو كتطبيق على حالة خاصة فردًا أو جماعة أو توجيهًا لفعل إيجابي أو سلبي. ويؤخذ في الاعتبار أيضًا السياق، لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، والمسكوت عنه، ما لم يصرح به الشرع إلا بالإشارة.

أما مصادر الشرع فالكتاب الذي أعطى الوحي فيه، في المكان بدليل أسباب النزول، وفي الزمان بدليل الناسخ والمنسوخ، والسنة أولى تطبيق للوحي في التاريخ كتجربة نموذجية، والإجماع الوعي الجماعي في الاستدلال والمشورة، وأخيرًا الاجتهاد الوعي الفردي لإعمال النظر وإبداء الرأي القائم على تحليل العلل، وتعدية الحكم من الأصل إلى الفرع للتشابه بينهما في العلة.

هذا أيضًا منهج كلي شامل يجمع بين النظر والعمل، بين المنطق والسلوك، بين العقل والتجربة، بين الاستنباط والاستقراء، بين الاستدلال الفردي والاستدلال الجماعي، بين المعرفة المباشرة عن طريق الحس والعقل والوجدان، والمعرفة التاريخية عن طريق الرواية وهو المنهج الذي أبقى على المسلمين في التاريخ وحفظ لهم إبداعهم واستقلالهم الحضاري.

(٤) خاتمة: التنظير المباشر للواقع

والآن وبعد استعراض المنهج في الغرب وعند المسلمين، ما موقفنا من هذه الازدواجية المنهجية بعد أن سادت مناهج الغرب المتعددة ونقلنا في ثقافتنا صراعها التاريخي والعلمي حتى توارى فكرنا المنهجي القديم تحت دعوى الفكر الديني أو الفكر القديم في مقابل الفكر العلمي أو الفكر الحديث؟ ما العمل أمام هذه التجزئة المنهجية الوافدة من الغرب والإجحاف بالموروث تكرارًا للأفكار الشائعة أو استسهالًا للتقليد؟

مما لا شك فيه أننا منذ مائتي عام، ومنذ فجر النهضة العربية الحديثة نصارع التقليد وندعو إلى إعمال العقل سواء في تيار الإصلاح الديني أو في الفكر السياسي الليبرالي أو في التيار العلمي العلماني، وقد أصبح العقل والعقلانية والتنوير إحدى مطالب العصر. وإذا كنا ما زلنا نعاني من سيادة اللامعقول وغياب الترشيد والتخطيط فإن التنظير المباشر للواقع اعتمادًا على المنهج العقلي كحاجة من حاجات العصر بصرف النظر عن نشأته في وعينا المعاصر من الوافد أو الموروث ضرورة ملحة نظرًا لغياب التخطيط الكلي في الحياة الخاصة والعامة، وكثيرًا ما حكم المفكرون العرب المعاصرون على حياتنا الفكرية والثقافية بالخطابة الإنشائية والشعرية والصوفية والكلامية والانفعالية مع التركيز خاصة على الخطاب السياسي والخطاب الإعلامي. وهنا تبدو الحاجة إلى المنهج العقلي الواضح الخطوات من أجل المساهمة في الانتقال من مرحلة الخطابة إلى مرحلة التفكير، ومن بلاغة الإنشاء إلى منطق الفكر.

ولما كان العقل مجرد أداة فإن موضوع التفكير هو الواقع والتحديات العصرية من احتلال وتخلف وتجزئة وقهر وتبعية وسلبية وضياع، ولا يمكن معرفة هذا الواقع معرفة انطباعية كما يفعل الروائي أو الشاعر، معرفة كيفية خالصة لا يختلف عليها المبدع والمتلقي، المعرفة الإحصائية الكمية ضرورية لمعرفة مكونات الواقع والبنية الاجتماعية؛ فلغة الإحصاء خير دليل على صدق الفكر: آثار الاحتلال ومظاهر الكمية في فلسطين ولبنان، مدى التجزئة وعمقها ومظاهرها وأسبابها، ألوان القهر وأنواع القوانين المقيدة للحريات وكيفية صدورها، مدى التبعية في الغذاء والسلاح والتعليم، ومقدار السلبية في المشاركة في الحياة العامة بمؤشرات دقيقة خاضعة للقياس. لم يعد الفكر خطابة بل هو حكم كمي من أجل تغيير الواقع وإعادة التفاعل بين مكوناته وتوجيه مساره، هكذا فعل الأصولي القديم في مناهج البحث عن العلة مثل السَّبْر والتقسيم، إحصاء العلل إحصاء كاملًا ثم تحييدها إلا واحدة تخضع للتجربة لمعرفة هل هي العلة الفاعلة أو المؤثرة أو الملائمة أو المناسبة، ومن هنا لا يستبعد التنظير المباشر للواقع المنهج التجريبي الإحصائي الاستقرائي الذي يستطيع إعطاء صورة للواقع الذي يتم التعبير عنه بالقول والتنظير له بالفكر.

كما يتضمَّن التنظير المباشر للواقع بالإضافة إلى مناهج العقل والاستدلال من ناحية ومناهج الحس والتجربة من ناحية أخرى مناهج الإدراك المباشر، وتحليل التجارب الحية الفردية والاجتماعية، الإحساس بالناس والتاريخ، بالأزمة والعصر، بالماضي والحاضر، واحمل هموم المستقبل للعالم والمواطن، فالعلم قضية، والبحث التزام، والمعرفة تحقق.

إن التحدي الآن ليس هو الأزمة بل المدخل إليها، ليس القضية بل طريقة التعامل معها ومعالجتها، فالأزمة في المنهج قبل أن تكون في الموضوع، فالموضوع واحد منذ مائتي عام، لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم كما سأل شكيب أرسلان، أسباب التخلف وشروط النهضة كما عرض مالك بن نبي، والأزمة في كيفية المقاربة، التشخيص والحل، الوصف والمخرج، الإدراك والتغيير؛ لذلك كانت معظم الاكتشافات الفكرية والعلمية ونقاط التحول في تاريخ الحضارات اكتشافات المنهج وتحولات المنهج، وقديمًا قال عمر بن الخطاب: إن نصف الإجابة في طريقة وضع السؤال.

١  قضايا العلوم الإنسانية، إشكالية المنهج، إعداد: د. يوسف زيدان، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة ١٩٩٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤