إشكالية التأويل١

تحليل فينومينولوجي

(١) كيف يعرض المفكر العربي المعاصر لإشكالية التأويل؟

إذا ما أراد المفكر العربي اليوم تناول أي موضوع فإنه يواجه بأنه «عربي بين ثقافتين»، الموروث والوافد، ما يأتي من حضارته وما يأتي من حضارة الآخرين، في حين أن الباحث الأوروبي لا يعيش هذه الأزمة، تعدد الثقافات والمصادر العملية؛ لأن الغرب هو المصدر الوحيد للعلم، لا تتنازعه ثقافتان، ولا يدين بالغربي بالولاء إلا لثقافة واحدة، ولا ينشأ في وعيه تعارض بين الموروث والوافد بعد أن قطع مع الموروث اليوناني الروماني واليهودي المسيحي منذ عصر النهضة وآثر أن يبدأ بالعقل في مواجهة الطبيعة لاكتشاف قوانينها منذ كبلر وجاليليو ونيوتن، وفي قلب المجتمع لوضع العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم والذي يفسر نشأة السلطة في المجتمع.

أما العربي فإنه ما زال يحمل على عاتقه همَّيْن؛ هم الموروث القديم، المصدر الأول للعلم الممتد عبر أربعة عشر قرنًا والذي ما زال حيًّا في قلوب الناس في الوعي أو اللاوعي الفردي والجمعي؛ وهمِّ الوافد الحديث الذي بدأ يتراكم على هامش الشعور عند النخبة والجماهير على حد سواء منذ قرنين من الزمان، فإن لم يعِ هذه الازدواجية في الثقافة والمعرفة وآثر أن يشطر بينهما، لصالح الأول كان سلفيًّا «أزهريًّا» أو لصالح الثاني أصبح علمانيًّا «أفنديًّا»، وإن آثر الجمع بينهما فكيف؟ الموروث مرة، والوافد مرة متجاورين في زمن واحد أم تحقيق وحدة عضوية بينهما لصالح الموضوع نفسه وهو الهدف، والثقافتان مدخلان له ومصدران معرفيان لإنارته؟ وهذه هي الجبهة الثالثة، القاعدة التي يرتكز عليها ضلعا المثلث، الموروث والوافد، والقادرة على التحول من النص إلى الواقع، ومن المعلومات إلى العلم ومن النقل إلى الإبداع، هي القدرة على التنظير المباشر للواقع واستعمال الثقافتين، الموروث والوافد لإبداع وصف جديد للموضوع، يتحد فيه كلاهما في التفلسف الجديد القائم على الاتحاد بالموضوع ورؤيته رؤية مباشرة.

ويحتار الباحث أي موروث يختار؟ إذ يتعدد الموروث بين التأويل العقلي عند المعتزلة وابن سينا وابن رشد، فقد أول المعتزلة آيات التشبيه دفاعًا عن التنزيه، وآيات القدرة إثباتًا للحرية الإنسانية، وآيات الإرادة حرصًا على قانون الاستحقاق فالعقل أساس النقل.

وأوَّل ابن سينا المعوذتين، والحروف الهجائية في أوائل السور إثباتًا لحق العقل في الفهم وتجاوزًا للحرفية التي قد توقع في التشبيه أو في السحر إلى ما يرتضيه الفيلسوف والعاقل.

ووضع ابن رشد قانونًا للتأويل حتى يبعده عن الشطحات والنسبيات والأهواء وتقلب الأمزجة.٢

ومارس الصوفية التأويل بامتياز، إرجاع الشيء إلى أصله طبقًا للمعنى الاشتقاقي للفظ، والأصل إما في أعماق التجربة الإنسانية أي في الشعور «عن قلبي عن ربي أنه قال» كما يروي ابن عربي، أم في الطبيعة الخارجية في الوجود أم في الملأ الأعلى، عالم المثل وصوره الفنية المختلفة كاللوح المحفوظ أو التصورات الدينية كالذهن الإلهي.

ومارسه أيضًا علماء أصول الفقه حفاظًا على المصالح العامة، ووضعوا له القواعد فيما يسمى بعلم القواعد الفقهية، قواعد عامة تحفظ التأويل من الوقوع في المصالح الشخصية مثل «عدم جواز تكليف ما لا يطاق»، «الضرورات تبيح المحظورات»، «لا ضرر ولا ضرار»، «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، «الأمور بمقاصدها»، «الأعمال بالنيات»، وهو أيضًا علم «الأشباه والنظائر».

وقد يعتمد الباحث على الوافد الغربي القديم اليوناني الروماني أو الوسيط الكنسي المدرسي أو الحديث والمعاصر حتى إنه قد استأثر بالموضوع، وحوله إلى أحد علومه «الهرمنيطيقا»، ونظَّره أكثر مما مارسه عمليًّا في حين أن الموروث مارسه عمليًّا أكثر مما نظَّره، فظن الناس أن الهرمنيطيقا علم غربي له أصوله اليونانية في «بيري هرمنياس» أي مبحث العبارة، الكتاب الثاني من منطق أرسطو.

مارسه فيلون اليهودي في الإسكندرية وأوغسطين في روما، وظهرت نظرية «المعاني الأربعة» للكتاب مسيطرة على التأويل في العصر الوسيط المسيحي، المعنى الحرفي في مقابل المعنى الروحي، أي الظاهر والباطن، الحقيقة والمجاز بلغة الموروث، ويشمل المعنى الأخلاقي والمعنى الصاعد Anagogique والمعنى المجازي.
وازدهر العلم في العصر الحديث بعد اكتشاف الذاتية، مارسه اسبينوزا وكانط في تفسير الكتاب المقدس، خرج عند اسبينوزا من النقد التاريخي، وعند كانط من النقد العقلي.٣ وأسَّسه شليرماخر نظريًّا بأن أنزله من السماء إلى الأرض، من «الهرمنطيقا المقدسة» إلى «الهرمنطيقا الإنسانية»، من اكتشاف المعنى الإلهي إلى اكتشاف المعنى الإنساني، وحوله الرومانسيون إلى أداة لنسج الأسطورة، وإطلاق العنان للخيال بلا حدود.
وفي الفلسفة المعاصرة ازدهر التأويل بعد اكتشاف النص حتى إنه أصبح علمًا «علم النص»،٤ نظره دلتاي في أول دراسة معاصرة «محاولة في التأويل»، وبعد تأسيس الفينومينولوجيا في أوائل القرن ازدهر علم التأويل لدى «مدرسة الأشكال الأدبية» عند بولتمان وديبليوس في أواخر العشرينيات من القرن الماضي٥ وأصبح جزءًا من تحليل الوجود الإنساني عند هيدجر، ثم تطبيقه في التجربة الجمالية عند جادمر، وفي «الأشكال الرمزية» للمعرفة عند كاسيرر، وفي «الأساطير الدينية» عند بول ريكير.

فهل يحتاج المفكر إلى هذين «العكازين»، الموروث والوافد حتى يساهم في التأويل أم أنه يستطيع أن يستقل بنفسه ويتعامل مع موضوعه تعاملًا مباشرًا، ويقوم بفعل التفلسف والاقتراب منه وعيشه ويحلله باعتباره قصدًا في الشعور، ويعود إلى «أصل» التأويل في الشعور ما دام التأويل هو الرجوع إلى الأصل «الأول» ويعيد توظيف الموروث والوافد باعتبارهما رؤًى في الموضوع؟

(٢) ماذا يعني التأويل؟

التأويل اشتقاقًا من فعل «أوَّل» أي الرجوع إلى المصدر الأول، العودة من الفروع إلى الجذور، ومن الأوراق إلى الجذوع، وبلغة التأويل، الذهاب من الظاهر إلى الباطن، ومن الخارج إلى الداخل، ومن المكان إلى الزمان، ومن الحرف إلى الروح، ومن اللفظ إلى المعنى، ومن الحقيقة إلى المجاز، ومن القضية الحملية إلى الصورة الفنية.

والسؤال هو: أين الأصل، في الذهن أم في الواقع أم في الشعور؟ هل هو بتعبير القدماء في عالم الأذهان أو في عالم الأعيان أو في النفس؟ وبتعبير المحدثين، هل هو في العقل أم في العالم أم في التجربة الإنسانية؟

والتأويل عادة ما يكون لنص، والنص اشتقاقًا هو خروج وبروز وظهور كما ينص البعير أو الناقة أي إظهار رقبتها وبروز رأسها، فالنص بهذا المعنى تعبير عن شيء، وإظهار لحقيقة، وبروز لمعنى، النص مدلول له دلالة، علامة لها معنى.

ولما كان المدلول في الطبيعة فإن التأويل قد يتجاوز النص باعتباره علامة إلى جميع أنواع العلامات الاجتماعية والطبيعية، فالسواد علامة الحداد، والبياض علامة الإيمان، والإشارة الخضراء للعبور، والحمراء للتوقف، وفي الطبيعة آيات أي علامات دالة، والآية نص وعلامة في آن واحد.

وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
وهناك فرق بين التفسير والتأويل؛ فالتفسير Exegesis هو مجرد إخراج النص من حيز العبارة إلى حيز اللغة والإعراب، تفسير النص إلى الخارج كما يعني ذلك حرفا Ex، في حين أن التأويل هو إدخال النص إلى الداخل إلى أعماق النفس كما يقتضي بذلك حرفا In، التفسير موضوع علم التفسير وعلم أصول الفقه عن طريق اللغة العربية وأسباب النزول، وكلاهما في العالم الخارجي، في حين أن التأويل في علم أصول الدين عند المعتزلة، وعلوم الحكمة، عند الفلاسفة وعلوم التأويل عند الصوفية، التفسير أقرب إلى التنزيل، النزول من النص إلى العالم في حين أن التأويل صعود من العالم إلى النص، التفسير لأهل الظاهر، المؤرخون والفقهاء والنحاة، والتأويل لأهل الباطن، الصوفية.

والنص متعدِّد الأنواع، فهناك النص الديني الذي يتضمن معرفة بالصورة الفنية أو بالتشبيه، قياس الغائب على الشاهد على مستوى التصورات، ومعرفة بالأمر على مستوى الفعل والتحقيق، الأول عقيدة، والثاني شريعة، الجهل بالأول كفر، وعدم الالتزام بالأمر الثاني عصيان، الأول له جزاء، والثاني له عقاب، والثواب والعقاب في الدنيا والآخرة على حد سواء.

وهناك النص الأدبي القريب من النص الديني على مستوى الصورة والخيال، والغاية ليست المعرفة عند المتلقي بل التعبير عند الأديب أو الفنان، لا يتطلَّب فعلًا كما هو الحال في النص الديني بل يهدف إلى التذوق الجمالي، متعة الذهن في الأدب، ومتعة الأذن في الموسيقى، ومتعة العين في الفنون التشكيلية، ليس له مقياس للخطأ والصواب إلا الصدق في التعبير وجمالياته، وليس له صدق نظري أو عملي بل له القدرة على التأثير الجمالي في النفس.

وهناك النص القانوني التشريعي الَّذي يشارك النص الديني ليس في الجانب المعرفي بل الجانب العملي الأمري، فليس الهدف من النص القانوني المعرفة التي هي موضوع نظرية القانون أو فلسفة القانون بل الأمر والطاعة والتنفيذ وإلا أدى العصيان إلى العقوبة في الدنيا دون الآخرة، يخلو من الثواب المباشر إلا حسن المواطنة.

وهناك النص التاريخي، سجل الأحداث الماضية، الهدف منه المعرفة الخالصة، هو خبر مدون، يقوم مقام الرواية الشفاهية التي يغلب عليها التمدد والانكماش طبقًا لقوانين الرواية عبر الأجيال وزيادة الخيال فيها من جيل إلى جيل، وقد يقع المؤرخ في التدوين أيضًا، فالذاكرة تخون إذا كان شاهد عيان، والخيال يكمل السببية في وصف الأحداث.

وللتأويل وظيفة معرفية، تحقيق الوئام النظري بين الأنا والعالم، والاتساق بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، الذات تريد المعرفة بحواسها وذهنها، والواقع عصي عليها بعلاماته ودلالاته، هنا يأتي التأويل ليبني الجسور المعرفية بين الذات والموضوع حتى يصبح العالم مفهومًا تستطيع الذات أن تعيش فيه وتتعامل معه.

التأويل هو ما يعادل نظرية «المعرفة التقليدية» ولكن هذه المرة بتوسط النص بين الشعور والعالم، فالنص يعكس العالم، والشعور يلتقط الصورة ويحاول فهمها من خلال النص والعودة إلى العالم، الفهم بالنص يقتضي اللغة والعودة إلى العالم تتطلب التجربة المعاشة لما يعكسه النص، وهذا هو التأويل الفلسفي.

وقد يتعامل الشعور باعتباره وجدانًا مع العالم مباشرة باعتباره صورًا فنية وإحساسًا بالجمال، وقد يتوسط العمل الفني بين الشعور والعالم كما هو الحال في التذوق الجمالي والنقد الأدبي، فالطبيعة شعر كما هو الحال عند باشلار، وهذا هو التأويل الجمالي.

وقد يتعامل الشعور باعتباره عقلًا مع العالم مباشرة من أجل فهمه واكتشاف قوانينه والسيطرة عليه والانتفاع به، وقد تتوسط بين العقل والطبيعة معادلة رياضية أو قانون علمي سابق أو تجربة معملية، الطبيعة لا تتحدث عن نفسها بل يقرؤها العالم بعد إدراكها، بل إن المنهج التجريبي نفسه في حاجة إلى أسس نظرية، كما حاول لاشيلييه في «أسس الاستقراء»، وكلود برنار في «المدخل إلى الطب التجريبي»، ومحمد باقر الصدر في «الأسس المنطقية للاستقراء»، وهذا هو التأويل العلمي.

والسؤال هو: هل العنصر المتوسط، النص أو العمل الفني أو المعادلة الرياضية لها معنى ثابت في الداخل لا يتغير أم أن معناه متغير بتغير العلماء والفنانين والنقاد والفلاسفة؟ وما الضامن إذا تعددت القراءات والتفسيرات للعناصر المتوسطة من عدم الوقوع في النسبية المطلقة وإسقاط المعيارية، وبالتالي استحالة وجود تفاهم مشترك بين البشر وفهم متقارب حول موضوع واحد؟ هل تدخُّل الشعور كعنصر متوسط بين النص والعالم يقضي على موضوعية النص وإطلاقه لصالح ذاتية الشعور أي نسبيته؟

ليس للنص معنى ثابت نظرًا للتعددية في الفهم، والمجاز في اللغة، والاشتباه في الوجود الإنساني، والمستويات في الثقافة والسلوك، وطبقات الفهم عند الناس، إذا ما ثبت معنى النص فإنه يوقع في القطعية وأحادية النظرة بل والتسلط إذا ما تمثلته السلطة السياسية أو العلمية أو الثقافية واعتبرته هو الصحيح وكل فهمٍ آخر باطل فتضيع حرية الفكر الممثلة في القول المأثور «فيها قولان».

ليس للفظ معنًى قاموسي من خلال معاني الألفاظ في المعاجم بل اللفظ سياق، والسياق علاقات داخل النص وخارجه، وقد يوجد معناه في التجربة الإنسانية، الفردية والجماعية، فلا يفهم النص لغويًّا إلا باستعادة تجربته معاشيًّا، وداخل التجربة معانٍ وماهيات ودلالات سماها الفقهاء الأصل، والاجتماعيون «الأنماط المثالية»، وفلاسفة العلم «النماذج الإرشادية»، وعلماء التحليل النفسي «الأنماط الأولية»، نوع من مثل أفلاطون داخل الشعور وليس خارجه.

(٣) تأويل النص

فإذا ما توسط النص بين الذات والموضوع ظهرت ضرورة تأويل النص الذي يقوم بدور المرآة المزدوجة، يعكس رغبات الذات اللانهائية وتصوراتها الذهنية، كما يعكس واقع العالم ومحدداته وإمكانياته الفعلية، يقوم التأويل بتحقيق التوافق بين الذهن والنص حتى يصبح النص مفهومًا ومصدرًا للمعرفة، وبين النص والواقع حتى يصبح الواقع تحت السيطرة كميدان للفعل، وبلغة القدماء يحقق التأويل هذه الهوية بين العقل والنص وهذا التماهي بين النص والواقع حتى تتحقق وحدة المعرفة والسلوك وإلا وقع التعارض بين العقل والنقل أو بين النقل والمصلحة. فالعقل والوحي والطبيعة نسق واحد يكتشفه التأويل، وهو ما سماه الكرماني علم الميزان، وما سماه إخوان الصفا التقابل بين العالم الأصغر والعالم الأكبر.

ويقوم التأويل على التعددية في الفهم، والاشتباه في الواقع، والتشابه في اللغة، فلا يوجد معنى واحد للنص، ولا فهم واحد للدلالة، ولا يرجع ذلك إلى أبعاد في اللغة أو إلى مستويات في الواقع بل إلى أعماق الشعور ومستويات المعرفة؛ لذلك تم التمييز في كل حضارة بين طبقتين معرفيتين، العامة والخاصة، الأولى تدرك الظاهر بينما تغوص الثانية في بواطن الأمور، وقد تكون القسمة ثلاثية لثلاث طبقات معرفية: العامة وخاصة العامة والخاصة، العامة وهم الناس أو الجمهور، وخاصة العامة هم المثقفون، أصحاب المواقف والرؤى المتعددة، والخاصة وهم أهل المعرفة الباطنية، الأولى لا تأويل لهم، والثانية تأويلهم ظاهري، في حين أن الثالثة أصحاب التأويل الباطني، وأحيانًا تكون القسمة رباعية عن طريق تضعيف القسمة الثنائية، العامة، وخاصة العامة، والخاصة، وخاصة الخاصة، ويمكن تضعيف القسمة أكثر من ذلك طبقًا لمستويات التعليم عند الناس.

وقد يكون هذا هو معنى الحديث المشهور «أنزل القرآن على سبعة أحرف.» لا تعني الأحرف هنا اللهجات أو القراءات أي الصوتيات؛ فالقرآن ليس فقط صوتًا بل معنى، والمعنى في النفس، إنما تعني سبعة مستويات في الفهم طبقًا لمستويات التعليم والثقافة، أي طبقًا للطبقات المعرفية للبشر، وقد تكون سبعة، عامة العامة، العامة، خاصة العامة، عامة الخاصة، الخاصة، خاصة الخاصة، عامة العامة هم الدهماء، والعامة هي التي تتمتع بثقافة شعبية تقوم مقام المعرفة النظرية، وخاصة العامة هم الذين لديهم الوعي العامي وبداهة الفطرة، وعامة الخاصة هم حملة العلم وناقلوه دون وعي به، والخاصة هم أهل العلم، وخاصة الخاصة هم الراسخون في العلم، وما زالت السابعة قيد البحث والنظر.٦

لذلك تناولت عديد من العلوم الإنسانية ظاهرة التأويل؛ أولها الفلسفة بطبيعة الحال كتطور طبيعي لنظرية المعرفة بعد رد الاعتبار للنص الذي أصبح موضع نقد خاصة النصوص المقدسة بعد نشأة النقد التاريخي، وكانت نظرية المعرفة التقليدية الحسية أو العقلية قد جعلت الذات مباشرة في مواجهة الموضوع دون عنصر وسيط وهو النص، وبعد إزاحة سلطة النص لصالح سلطة العقل، بل لقد استقلت «الهرمنيطيقا» عند شليرماخر وريتشل ودلتاي وهيدجر وجادمر وبول ريكير وأصبحت بديلًا عن نظرية المعرفة التقليدية.

وتناولها علم النفس بكل فروعه، علم التحليل النفسي في تفسير الأحلام، وعلم النفس الوصفي لوصف الظاهرة الشعورية، والفينومينولوجيا باعتبارها تطويرًا له، والاستبطان، وقلب النظرة، والتحول من الخارج إلى الداخل، ومن الزمان إلى المكان، ومن التعالي إلى المحايثة.

وتعرضت لها العلوم الاجتماعية، فالنص كاشف لقوى المجتمع والصراع الاجتماعي، ليس النص نظرية مجردة بل هي لحظة تجسيد لصراع اجتماعي؛ فمعارك التفسير هي في أصلها معارك اجتماعية، المجتمع شفرة، والتأويل فك لها.

كما تناولها علم المنطق خاصة منطق اللغة، فالتأويل هو منطق اللغة، للتعبير والإيصال، ومهما حاول المنطق الرمزي تجاوز اللغة إلى شفرات من أجل القضاء على الاشتباه، فإنه يعود إلى تعريف الشفرة، والبحث عن أسس الرياضيات المغروزة في النفس كما تقول المدرسة النفسية.

وللتأويل وظيفة عملية أخرى وهي التنفيذ والتحقيق والممارسة؛ فالتأويل النظري ليس هدفًا في حد ذاته ولكن يعطي معيار السلوك العملي، وهذا هو معنى اللفظ الأجنبي الحديث Interpret أي يعزف كالموسيقى، فالعزف تأويل للنوتة الموسيقية، وإخراجها من العلامة المدونة إلى الصوت الجميل بإحساس العازف وقدرته على فَهْم أصل اللحن قبل تدوين المؤلف له.

وبالمثل في المجتمعات التقليدية التي يقوم فيها النص بدور الشرعية تكون وظيفة التأويل تحويل النص إلى معيار للسلوك توفيقًا بين القصد الإلهي ومصالح الناس؛ فقد وضعت الشريعة ابتداءً، كما يلاحظ الشاطبي، دفاعًا عن المصالح العامة، وهي أداة التوافق بين النص والواقع بدلًا من التضحية بالنص في سبيل المصلحة كما هو الحال في القوانين الوضعية أو التضحية بالمصلحة في سبيل النص كما تفعل أحيانًا بعض الاتجاهات السلفية.

لذلك تكشف معارك التأويل عن الصراع الاجتماعي بين قُوَى التقدم وقوى المحافظة في كل مجتمع؛ فهي ليست معارك نظرية لغوية عن «صدق» هذا التأويل أو «صحة» هذا التفسير بل هي صراع مصالح، بين مصالح الحكام ومصالح المحكومين، مصالح الأقلية أو مصالح الأغلبية.

لذلك كانت حركات الإصلاح ومعارك التقدُّم في المجتمعات التراثية النصية تقوم كلها حول «حرية التفسير»، تود قوى المحافظة احتكار التفسير كما فعلت الكنيسة في العصور الوسطى، وتريد قوى التقدم حرية التفسير حتى تُخرج النص من يد الحكام وتفك الارتباط بين السلطتين الدينية والسياسية كما فعل لوثر في الإعلان عن بعض المبادئ البروتستانتية «الكتاب وحده» ضد سلطة الكنيسة، «حرية التفسير» ضد احتكارها للتفسير.

وفي الحضارة الإسلامية حاول المعتزلة عن طريق التأويل الحفاظ على «التنزيه» ضد «التجسيم» و«التشبيه»؛ فاليد في يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ تعني القدرة وليس اللحم والدم والأصابع والأظافر والعروق والأعصاب، كما حاولوا الدفاع عن حق الإنسان في كمال العقل واستقلال الإرادة.

كما دافع الفلاسفة عن التنزيه، انتقالًا من الإله المشخص في الذات والصفات والأفعال إلى واجب الوجود، ومن الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا، ومن الخلق من عدم إلى الفيض أو القدم، ومن الحجج النقلية إلى الأدلة العقلية، ومن السجال والجدال إلى الدليل والبرهان.

وجعل الأصوليون المصلحة أساس التشريع، وكما يؤوَّل النقل لصالح العقل في حالة التعارض، كذلك يؤوَّل النقل لصالح المصلحة في حالة التعارض، ووضعوا قواعد أصولية تأكيدًا لهذا المبدأ مثل «لا ضرر ولا ضرار»، «الضرورات تبيح المحظورات»، «عدم جواز تكليف ما لا يطاق»، «العادة محكمة».

وأخيرًا فضل الصوفية العودة إلى مصدر النص الأول، وصولًا إلى المرسِل بعد تلقي الرسالة، والنهل من النبع الأول وليس من المصب، فالرسالة علامة دالة، والغاية الدلالة وليست العلامة، ومن ينهل من نبع النص يفهم النص من أصله، من المعنى وليس من اللفظ، من الدلالة وليس من المدلول، مباشرة دون توسط اللغة.

مهمة التأويل هي القدرة على تحريك المستويات، والانتقال من مستوى إلى آخر، وغالبًا ما يكون الانتقال من السماء إلى الأرض بلغة الشرق، ومن الإلهيات إلى الإنسانيات بلغة الغرب؛ فقد قام كونفوشيوس بقراءة جديدة لكتاب التغيرات، كتاب الصين المقدس، من أجل تحويل الدين الإلهي إلى دين إنساني، وتعدد الآلهة إلى مبادئ خلقية عامة تضع قواعد للسلوك لتنظيم العلاقات الاجتماعية بين الفرد وأهله وأصدقائه ومواطنيه وموظفي الدولة والحاكم.

وفي الهند حوَّل بوذا الدين الهندوكي من تعدد الآلهة إلى وحدانية الآلهة، ومن الشعائر والطقوس الخارجية إلى يقظة الضمير وقوة الإرادة الذاتية بالسيطرة على انفعالات النفس.

ولدى اليونان نقد سقراط تعدد الآلهة كما هو الحال في الأساطير اليونانية، ودعا إلى إله واحد يتجلى في عالم الفضيلة والخير والمعرفة، فالإيمان بالله يتطلب ممارسة الفضيلة، وهو تأويل إنساني أخلاقي للدين اليوناني القديم.

وفي عصر آباء الكنيسة أوَّل أوغسطين الدين المسيحي تأويلًا روحيًّا وجوديًّا، فأكبر دليل على صدق المسيحية ليس في الصحة التاريخية للأناجيل ولا في صدق العقائد المسيحية بل في تطابقها مع التجربة الإنسانية، وهو ما أعلنه أيضًا كيركجارد في العصور الحديثة، كما أن تأويل أبيلار والرشديين اللاتين للعقائد المسيحية جعلها تتفق مع العقل والبداهة من أجل إرساء قواعد للدين العقلي قبل أن ترسي العصور الحديثة قواعد الدين الطبيعي.

بل إن العصور الحديثة كلها قراءة أخلاقية روحية ذاتية عقلية تنزيهية للمسيحية الكنسية العقائدية المدرسية، اقترابًا من تصورات المعتزلة والفلاسفة المسلمين في نظرية الذات والصفات والأفعال أو في نظرية واجب الوجود، لقد استطاعت العصور الحديثة تحويل المسيحية من الخارج إلى الداخل، ومن العقائد إلى الأخلاق، ومن الشعائر إلى الفضائل، ومن الأسرار إلى بداهات العقول عن طريق التأويل.

إن التأويل هو القاسم المشترك بين الحضارات، لا تكاد تخلو أي حضارة منه، هو عصب الحضارة، وعمودها الفقري، تتجمع فيه نظرية المعرفة وأساليب الحراك الاجتماعي، لا تقطع مع الماضي كما هو الحال في الاتجاهات العقلية الجذرية والحداثية وما بعد الحداثية بل تتواصل معه وتعيد قراءته، تطويرًا للماضي وتأصيلًا للحاضر، وتحقيقًا للتغير من خلال التواصل، تتوحد فيه المناهج اللغوية والتحليلية والظاهراتية (الفينومينولوجية) حتى أصبح علم الهرمنيطيقا هو أهم ما يميز الفلسفات المعاصرة، بل إن اللسانيات وعلومها مثل السميوطيقا والسمانطيقا والأسلوبية، كلها تدخل ضمن علوم التأويل، ونظرًا لمركزية النص في الفكر الغربي المعاصر، وفي التراث الإسلامي برزت علوم التأويل وكأنها هي العلوم بالأصالة، واقتربت الفلسفة من الأدب في علم النص، قراءة النص، تأويل النص، رواية النص، لذة النص، التناص … إلخ.

أعاد التأويل إلى الفلسفة الغربية حيويتها وقدرتها على التأمل والتساؤل والتفلسف من جديد منذ «التأملات في الفلسفة الأولى» لديكارت و«الآلة الجديدة» لبيكون. لم يقدم مذاهب فلسفية مغلقة، ولا أنساقًا فلسفية تفسر كل شيء، بل أعطى منهجًا للتفكير والبحث، يغوص في أعماق النص فيكتشف أعمال النفس، ويبصر آفاق العالم، كما أعاد إلى الفكر العربي الإسلامي حيويته، ودفعه إلى تأسيس نهضةٍ عربية ثانية تبدأ من تأويل النص بدلًا من القطيعة معه أو الإغراق فيه وشق الثقافة إلى علمانية وإسلامية، عقلية ونصية، ويقتتل الإخوة الأعداء فيما بينهم صراعًا حول سلطة النص أو سلطة الحكم. التأويل قادر على الحوار بين الماضي والحاضر، وبين الفِرَق المتنازعة، يقوم على الاشتباه بالرغم من بحثه عن الإحكام، لا يرفض أحدًا بل يحاور كل الناس، يعود بالناس إلى تواضع العارف بعيدًا عن غرور المعرفة.

(٤) تأويل الذات

وقد يكون التأويل فهمًا ذاتيًّا لمعرفة النفس قبل معرفة الآخر موضوعًا أو ذاتًا، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ؛ لذلك كان مطمح الفلاسفة دائمًا؛ فتحقيق الوئام المعرفي مع النفس يسبق تحقيقه مع الآخر.

كانت الأحلام والسير الذاتية والاعترافات وأحاديث النفس (المونولوجات) بل والصمت مادة خصبة للتأويل؛ ففي الحلم يعبِّر الإنسان عن مكمونات النفس عندما يغيب الرقيب الذاتي والاجتماعي في حالة النوم ويستيقظ عالم اللاشعور، وظهر في كل حضارةٍ تفسير الأحلام منذ شيشرون وابن سيرين حتى فرويد.

وفي «الاعترافات» لأوغسطين استرجاع بالذاكرة للسيرة الذاتية منذ أشكال الوعي الأول بالنفس وبالعالم حتى لحظة القص، تكشف عن معاني التجارب الإنسانية ودلالات مسار الحياة؛ لذلك حرص عديد من الفلاسفة على كتابة سِيَرهم الذاتية كنوع من تفسير أعمالهم في الشعور مثل السيرة الذاتية للغزالي، والكاردينال نيومان، وياسبرز، وجابريل مارسل، ورسل، وعبد الرحمن بدوي أخيرًا، وقبله عثمان أمين.

والتأمُّلات نوعٌ من السيرة الذاتية رأسيًّا وليس أفقيًّا في الحديث مع الله أكثر من الحديث مع النفس أو مع العالم، ومنها «الإيمان باحثًا عن العقل» لانسيلم، و«التأملات في الفلسفة الأولى» لديكارت.

ويقوم تحليل النفس على القدرة على الاستبطان، وقلب النظرة من الخارج إلى الداخل، والتعبير عن مضمون الشعور، والمنهج الفينومينولوجي قادر على ذلك بعد أن بدأه دلتاي وبرنتانو باعتباره منهجًا وصفيًّا للتجارب الحية قبل أن يصيغه هوسرل منهجًا محكمًا، ويطبقه شيلر في وصف الظواهر الخلقية والاجتماعية، ومعظم فلاسفة الوجود، في الجسم عند ميرلوبونتي، وفي الوجود الإنساني عند جابريل مارسل وهيدجر وياسبرز، وفي التجربة الجمالية عند جادمر، وفي التجارب الدينية عند بول ريكير.

الذات أيضًا نص ولغة ومنطق وتركيب، هي نص لأنها مقروءة، ولغة لأن لها أشكالها في التعبير، ومنطق لأن لها تداعياتها الخاصة، وتركيب لأنها المكون الرئيسي للشخصية الإنسانية، بل إن قراءة النص بالمعنى الدقيق تعتمد على قراءة الذات باعتبار الذات مرآةً كاشفة للنص في عمليات الفهم والقراءة والتأويل.

تأويل الذات سابقٌ على تأويل الموضوع نصًّا أو علامة أو حدثًا، وإذا كان «التأويل» اشتقاقًا يعني الرجوع إلى الأول، فإن الأول هنا ليس في تجربة المفارقة أو التعالي، الأول في اللوح المحفوظ أو العلم الإلهي، كما يقول الصوفية، بل في الذات، ومعرفة الذات سابقة على معرفة الغير، ومن لا يعرف ذاته لا يستطيع أن يفهم الغير؛ لذلك بدأ إقبال بالذاتية كما بدأت بها الفلسفة الترنسندنتالية في الغرب عند ديكارت وكانط.

وفي الذات يتم انكشاف الآخر في القصدية، فالذات ليست فقط وجودًا في العالم بل العالم أيضًا وجود في الذات، وبعد فَهْم الذات صورة ومضمونًا، عقلًا ومعقولًا بلغة القدماء يمكن استئناف التأويل مع العالم الخارجي، عالم الآخرين أو عالم الأشياء.

(٥) تأويل العلاقات بين الذوات

ولما كانت الذات وجودًا من أجل الآخرين أصبح التأويل ليس فقط فهمًا للذات بل أيضًا فهمًا للعلاقات بين الذات؛ علاقات المحبة والصداقة، والزمالة والجيرة من ناحية أو علاقة الكراهية والعداوة، والمنافسة والوقيعة، والحسد والحقد من ناحية أخرى. فالعلاقات الاجتماعية تدور حول معانٍ وعواطف وانفعالات ومصالح، وكل سلوك هو تأويل عملي بمعنًى ما؛ لذلك كان التأويل موضوعًا للعلوم السلوكية والعلوم الاجتماعية.

بل إن الجسد له لغته الخاصة فيما يُعرف بلغة الجسد، حركات الإيماء والإشارة، وتحريك الأصابع والأيادي، والأذرع والرأس بل والجسد كله كما هو الحال في التمثيل الصامت والرقص الإيقاعي من أجل الإيحاء بالمعاني إلى المشاهد، ونقل التجربة الجمالية له.

ليس التأويل حرفةً أو صنعة، حرفة تأويل النصوص للمفسر أو صنعة تحليل المضمون للأستاذ الجامعي، لا تخرج عن النص والكتاب، تخصص دقيق في الجامعات، تقام حوله الرسائل وتصدر عنه الكتب بل هو شأن يتعلَّق بالحياة اليومية وطريقة تعامل، إحداث أفعال وردود أفعال. التأويل عمل يومي مع الذات ومع الغير، مع النفس ومع الآخرين، هو أسلوب تعامل ومنهج حوار، يتنفس الناس التأويل كل يوم، ويذهبون إلى ما وراء الألفاظ، فقد تعني «نعم» «لا»، وقد تعني «لا» «نعم»، وسكوت البنت دليل على رضاها.

لقد جعل هوسرل العلاقات بين الذوات مجرد تجربة معرفية مشتركة، نوعًا جديدًا من الموضوعية تعني تطابق تجربة الفرد مع الفرد الآخر في تحليل مشترك لعالم الماهيات وليس تطابق الفكر مع الواقع المادي كما هو الحال في التطابق التقليدي في العلوم الطبيعية.

لذلك كان التأويل موضوعًا للعلوم الاجتماعية، وكانت الظاهرة الاجتماعية تكوينًا ذهنيًّا Mental construct، الواقع بنية اجتماعية، والبنية الاجتماعية تكوين ذهني، والسلوك الاجتماعي تعبير عن هذا التكوين الذهني.
التأويل إذن له طابع عملي، الخروج من الفهم إلى الفعل، وهو معنى العزف في الموسيقى؛ فالعازف هو المؤوِّل للنوتة الموسيقية Interprete، والرسول عندما كان يتهجد ليلًا كان «يتأول القرآن»، أي يحوله من نصٍّ مدوَّن أو مقروء إلى حركة وفعل وسلوك.

الصراعات الاجتماعية كلها صراعات تأويلات وليس مجرد اختلاف رؤًى أو صراع مصالح، والعلاقات الاجتماعية كلها تحققات لمفاهيم وتصورات، وكما يولد الإنسان فنانًا وشاعرًا ثم يتحوَّل الفن إلى دين فإنه يولد أيضًا مؤولًا عندما يعود الدين إلى نشأته الأولى في الفن.

(٦) تأويل الطبيعة

ولما كانت الذات وجودًا في العالم فإن الشعور أيضًا يكون في علاقة مع الطبيعة بتوسُّط الظواهر الطبيعية مباشرة أو بالعلامات التي تشير إليها؛ فالنص ليس فقط النص المدون في صياغة وقول بل قد يكون العلامة المقروءة، والإشارة الدالة، فإشارات المرور تقوم بوظيفة اللغة في الأمر والنهي، وبالرغم من أن عالم الطبيعة خارج الذات إلا أنه في علاقةٍ معها على التبادُل، وهو ما سمَّتْه الفينومينولوجيا القصدية أو الإيحاء المتبادل، وقد تتعدد المعاني، وتتشعب الدلالات وفي نفس الوقت تتجه كلها إلى دلالة واحدة؛ فالتنوع يقود إلى الوحدة، وهو ما اعتمد عليه علماء الكلام في إثبات وجود الله.

بل إن ظواهر الطبيعة كلها علامات لها دلالات كما هو معروف في علم العلامات (السيميائية) أو الدلالات (السيموطيقا)، الأرض والنبات والحيوان والأفلاك والإنسان بينها علامات لها دلالات، الأرض للسعي والكد والكدح والإعمار، والنبات للطعام والزينة، والحيوان أيضًا للغذاء والانتقال، والأفلاك للإنارة ليلًا والاهتداء بها في السير، والإنسان مركز الكون، وكل شيء فيه مسخر له، وقد لاحظ ذلك إخوان الصفا والشعراء، وكل الاتجاهات الهرمسية، والقبالا اليهودية بل واستمر التيار في الغرب في بدايات العصر الحديث عند يعقوب البوهيمي وسويدنبرج.

وبلغ التيار الذروة في الرومانسية التي وحدت بين الروح والطبيعة كما هو الحال عند شلنج في فلسفة الهوية، والروح والتاريخ كما هو الحال عند هيجل في «ظاهريات الروح».

إن فلسفة العلم تأويل مؤقت للطبيعة طبقًا لمعطيات العلم، تقف عند مستوى التصورات والمفاهيم، هو نوع من التأويل العقلي المحدود دون أن يتحول إلى «شاعرية العلم» باستثناء باشلار وبعض الغنوصيين الجدد.

إن التأويل هو الَّذي يحمي الطبيعة من التحول إلى نماذج رياضية ومعادلات حسابية ونماذج رياضية. فهذا إعمال للعقل الصوري في الطبيعة المادية، طرف في مواجهة طرف، وكلاهما نقيضان وقرينان، مختلفان ومتشابهان، متغايران ومتحدان، الصورة والمادة، الشكل والمضمون، الرياضيات والفيزياء كما هو الحال في الفيزياء المعاصرة منذ النظرية النسبية.

وهو الذي يحمي الطبيعة أيضًا من التجريبية الساذجة والمباشرة في التعامل معها، التأويل هو الذي يحول الطبيعة المادية إلى صورة فنية أو تصور فلسفي حتى يستطيع العقل أن يتعامل معها فتقل المسافة بين الذات والموضوع.

التأويل هو القادر على إدراك دلالات الطبيعة وفهم معانيها حتى يعيش الإنسان فيها في وئام معرفي، وألفة سلوكية، لا يكون فيها غريبًا، ولا تكون هي غريبة فيه، أما تسخير قوانين الطبيعة، وسيطرة الإنسان على الطبيعة طبقًا لنموذج «الإنسان سيد الطبيعة»، فهو قفز على التأويل واتجاه مباشر نحو المنفعة مما يدمر الطبيعة ويلوثها، ويوقع الإنسان في الاغتراب الطبيعي الذي لا يقل أهمية عن الاغتراب الديني.

(٧) تأويل الزمان (التاريخ)

ولما كانت الذات وجودًا زمانيًّا في التاريخ وكان الزمان متصلًا بين الماضي والحاضر والمستقبل مع توهُّم الانفصال كانت مهمة التأويل تحقيقَ هذا التواصلِ بين الماضي والحاضر وإعادة قراءة القديم في مرآة الجديد، وتراءي الجديد في مرآة القديم؛ فالظاهريات حركةٌ مزدوجة تقدُّمية-تراجعية Progressive-Regressive في آنٍ واحد، من البداية إلى النهاية، ومن النهاية إلى البداية، التأويل هنا ضد القطيعة المعرفية التي وردت من باشلار وفوكو في الثقافة العربية المعاصرة خاصة في المغرب ثم أصبح تعبيرًا سحريًّا مع «النظام المعرفي» و«الإبستيمة» في المغرب والمشرق.

مهمة التأويل هنا تجاوز مسافة الزمن والتطور والتاريخ، والعيش في البنية من الزمان إلى الخلود، ومن التاريخ إلى الميتافيزيقا.

وتلك وظيفة قصص الأنبياء في مسار واحد في التاريخ، من آدم حتى محمد لرؤية البنية والاكتمال، ومن محمد إلى آدم لرؤية النشأة والتطور؛ فقد أوَّل المسيح الوصايا العشر، وقدَّم قراءة مسيحية لليهودية، وهذا هو معنى الإكمال «ما جئت لألغي الناموس بل جئت لأكمله.» وقدَّم محمد قراءةً شاملة لتاريخ الوحي في آخر مرحلتين كبيرتين له، اليهودية والمسيحية، الشريعة والمحبة وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.

إن أحد مكتسبات الفلسفة المعاصرة بل وأحد أسباب نشأتها وازدهارها هو رؤية القديم في مرآة الجديد بعد أن حاول ديكارت أن يفصل بينهما من أجل إنهاء العصر الوسيط والبداية ببداية جديدة خالصة، من العلم وليس من المعلومات، من اليقين الداخلي وليس من الصدق الإلهي، وكان عصر النهضة قبل ذلك بقرن قد جاهد في سبيل القطيعة لاستحالة المصالحة بين القديم والجديد، بين أرسطو وبطليموس من ناحية وبين مكتشفات العلم الحديث عند كبلر وجاليليو من ناحية أخرى، وبين الحق الإلهي أو الثيوقراطية في العصر الوسيط من ناحية والعقد الاجتماعي والدستور والبرلمان في العصر الحديث من ناحية أخرى.

ونظرًا لقوة الانقطاع بين القديم والجديد في عصر النهضة وبداية النقد التاريخي للكتب المقدسة في القرن السابع عشر وبلوغه الذروة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في «مدرسة الأشكال الأدبية» بدأ العود إلى اكتشاف النص ورد الاعتبار له وإنشاء علم بأكمله خارجًا من الهرمنيطيقا التقليدية وهو «علم النص» وبعض علوم اللغة المساندة مثل «علم العلامات» «السميوطيقا»، وعلم الدلالات «السيمانطيقا»، ودراسة ظواهر «التناص»، والقص.

وتتم «القراءة» داخل الحضارة نفسها وداخل المدرسة نفسها لإثبات وحدتها الثقافية مثل تأويل اسبينوزا لديكارت في «مبادي فلسفة ديكارت»، وتأويل الفلاسفة بعد كانط لكانط مثل فشته وهيجل وشلنج وشوبنهور، ثم تأويل الكانطيين الجدد لكانط مثل كوهين وناثورب وكاسيرر وجادامر وماركوز، وتأويل الهيجليين الشبان لهيجل مثل شترنر وماركس وباور وشتراوس، وتأويل هيدجر لنيتشه وهوسرل وشلنج ودنز سكوت وهيلدرلين وهيجل، وتأويل فلاسفة الوجود للظاهريات عند هوسرل مثل هيدجر وياسبرز وميرلو بونتي وسارتر ومارسل وغيرهم.

وقد يكون التأويل بين ثقافتين متعاصرتين كالفرنسية والألمانية داخل الحضارة الواحدة، الحضارة الغربية مثل تأويل ميرلو بونتي لجولد شتين في «بنية العضو الحي»، وتأويل رينوفييه في فرنسا لكانط في «الكانطية الجديدة»، وكروتشه في إيطاليا لهيجل، وبوزانكيه وماكتاجارت لهيجل في بريطانيا، وروزميني لكانط في إيطاليا، وكيركجارد لهيجل في الدنمارك … إلخ.

وقد يمتد التأويل كي يصبح بين حضارتين، حضارة جديدة تؤول حضارة قديمة؛ فالفكر الإنساني جامع بين الحضارات وذلك مثل تأويل ناثورب لنظرية المثل عند أفلاطون، وتأويل جادمر لأفلاطون، وتأويل هيدجر لأرسطو، وتأويل مارسل لسقراط وتسمية فلسفته «السقراطية الجديدة»، وتأويل حكماء المسلمين لفلاسفة اليونان.

إن الغاية الباطنية من التأويل هو التأكيد على وحدة الذات والموضوع من خلال النص الذي يصور الموضوع من خلال المؤلف ويفهمه الوعي من خلال القارئ، سواء كان الموضوع هو الله والتعالي أو الطبيعة والعالم أو الإنسان والمجتمع، التأويل هو حوار بين المؤلف والقارئ حتى لو اختفى الموضوع وأصبح التأويل مجرد حوار بين الذوات.

١  الفلسفة والعصر، لجنة الفلسفة، المجلس الأعلى للثقافة، العدد الثالث، ٢٠٠٤.
٢  انظر الملحق الأول: قانون التأويل عند ابن رشد.
٣  انظر الملحق الثالث: التأويل عند كانط.
٤  انظر دراستنا: قراءة النص، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٨٧، ص٥٣٩–٥٥٠.
٥  انظر دراستنا: «مدرسة الأشكال الأدبية»، السابق، ص٤٨٧–٥٢٢.
٦  انظر الملحق الثاني: التأويل الباطني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤