أزمة الإبداع الفلسفي في مصر١
(١) الإبداع الفلسفي بين التجربة الذاتية والواقع الإبداعي
أزمة الإبداع الفلسفي في مصر مسئولية فردية وجماعية وتاريخية في آنٍ واحد؛ فالإبداع أولًا إبداع فردي حتى ولو كان المجتمع مقلدًا، وكانت المرحلة التاريخية كلها حفظًا وتدوينًا، الوعي الفردي له استقلاله عن الوعي الجماعي، وهو قادرٌ على خَلْق ظروفه الخاصة للإبداع حتى ولو كانت الظروف العامة غير مواتية أو أن المرحلة التاريخية كلها أقرب إلى النقل منها إلى الإبداع بصرف النظر عن مصدره، القديم أو الجديد، الأنا أو الآخر؛ لذلك كان المبدعون سباقين على عصرهم أو كانوا معبِّرين عنه، وقد يتم الإبداع في مرحلة الإفلاس التاريخي أو في مرحلة الزخم التاريخي.
والإبداع الفلسفي بطبيعته أكثر تعقيدًا وصعوبة من الإبداع الأدبي، في القصة والرواية والشعر، وهو الملاحظ في مسار الإبداع منذ فجر النهضة العربية حتى الآن، فبينما ازدهرت «فنون الأدب» إلا أن «أم العلوم» ما زالت متأخرةً عنها، وربما لأن الأدب وخاصة الشعر هو ثقافة العرب الأولى والأخيرة، قبل الإسلام وبعده في مرحلة الحضارة عن الإبداع عندما تمت صياغة العلوم الإسلامية في معظمها شعرًا حتى تَعِيَها الذاكرة بعد أن تم إبداعها عقلًا في فترة الازدهار الأولى؛ فغياب الإبداع الفلسفي الظاهر في الفلسفة لا يعني غياب الإبداع الثقافي والحضاري العام بل يعني فقط تأخُّر الإبداع في الخطاب الفلسفي المحكم كنوع أدبي.
ومن الصعب التمييز في الإبداع بين مظاهره ومؤشراته من ناحية وأسبابه ودوافعه من ناحية أخرى، فالإبداع عملية عضوية واحدة، لا يتمايز فيها الشكل عن المضمون، والمظهر عن الباعث، والمؤشر الخارجي عن الدافع الداخلي.
ومن الصعب أيضًا التفرقة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين الدراسة التقريرية الوصفية عن أزمة الإبداع الفلسفي كما يشعر به الكثير في مصر وبين الوضع المعياري لهذه الأزمة في حد ذاتها كموضوعٍ مستقل، ويمكن الجمع بين المستويين في علاقةٍ جدليةٍ بين الواقع والفكر، بين الوصف والمعيار.
ويصعب أيضًا التفرقة بين أوضاع أقسام الفلسفة في مصر، مقرراتها ومناهج التدريس فيها وتكوين أساتذتها وبين الإبداع الفلسفي النظري في حد ذاته، فالأولى الأساس المادي للثانية، والثانية النتيجة الطبيعية للأولى، ويمكن أيضًا الربط بين الاثنين في تفاعلٍ جدلي بين الحوامل المادية للإبداع وعمليات الإبداع ونتائجه.
وأخيرًا يصعب التفرقة بين التجربة الشخصية في الإبداع الفلسفي وبين أزمة الإبداع الفلسفي في مصر، بين الذاتي والموضوعي، ولما كان الموضوع تجربة ذاتية حية، وكانت الذات واعية بالموضوع فإنه يمكن وصف أزمة الإبداع الفلسفي في مصر بتحليل التجارب الحية التي تكشف عن جانبها الذاتي والموضوعي.
(٢) الشرط الأول للإبداع الفلسفي
فأحد مظاهر أزمة الإبداع هو حضور الشق الأول، العرض التاريخي، على حساب الشق الثاني، وهو الموقف الفلسفي، والحجة أن الموضوع مجهول، والعلم به واجب، والساحة فارغة، والطلب كثير ومهمة العالم نقل المعلومات، تأليفًا أو ترجمة أو تحقيقًا في بداية فترة حضارية جديدة تحتاج إلى مزيد من العلم والاطلاع، فلا جديد بلا قديم، ولا إبداع بلا مصادر، هو تراث الأمة الذي يخرج من الماضي السحيق ويعود إليها في الحاضر مؤثرًا فيها، ويعطيها العزة والفخر وهي تقاوم الاستعمار وتعمل على النهوض، وهو برهان لديها على أنها أبدعت في الماضي، مما قد يحقق لها تعويضًا عن أزمة الإبداع في الحاضر، والأجداد رصيد للأحفاد في حوار مستمر للأجيال.
والحقيقة أن هناك فرقًا بين المعلومات والعلم؛ فالمعلومات معروفة سلفًا، ومدوَّنة في المكتبات وفي طرق التدوين الإلكتروني الحديث، وتعني ثورة المعلومات هنا حسن تنظيمها وتسهيل سبل الحصول عليها دون إضافة جديد، أما العلم فهو الذي يستنبطه العالم من بين السطور، هي العلاقة الجديدة بين الظواهر المعروفة، المعلومات معروفة عند البعض دون البعض الآخر، والعلم غير معروف عند الجميع، مهمة الأولى نشر العلم، ومهمة الثانية تقدم العلم.
اكتفى البحث الفلسفي بنقل العلم دون إبداع المعلومات؛ لأنه أسرع في التأليف وأكسب في التوزيع، وظهر «الكتاب المقرر» الذي ينقل العلم من المدونات السابقة إلى كتاب الأستاذ المقرر، ومنه إلى «كشكول» الطالب ومنه إلى ورقة الإجابة ومنه إلى قارعة الطريق، وقامت دور النشر لتسعى وراء الكتب المقررة نشرًا وتوزيعًا فهي أربح من الكتاب الثقافي والعلمي، بل وقام بعض الأساتذة بالنشر على نفقتهم الخاصة وتوزيع الكتاب المقرر مع «فراشي» الأقسام أخذًا للربح كله دون مشارك الناشر صاحب رأس المال والذي يقوم بالتوزيع.
وإن استعصت الإعارات الخارجية لشدة التنافس عليها أو لاستكفاء الجامعات العربية الجديدة أو لخروج جيل وطني من بلدانها يكفي دون حاجة إلى هجرة العقول لم يبق إلا التوزيع الداخلي للكتاب المقرر خاصة في الأقسام ذات الأعداد الكبيرة، والانتدابات ليس من أجل نشر العلم أو حتى المعلومات بل من أجل زيادة نسبة التوزيع للكتاب المقرر، بل إن بعض الكليات يرفض فيه الأساتذة الإعارات؛ لأن الدخل من توزيع الكتاب المقرر أعلى وأكبر، بل إن البعض يتنازل عن أجر الساعات المنتدب لها؛ فتوزيع الكتاب المقرر فيه تعويض كبير بل إن البعض «يدفع» لأصحاب النفوذ حتى يتم انتدابه، كالتاجر الذي يدفع المصاريف من أجل الربح الوفير.
ليس المشتغلون بالفلسفة متفرجين وليسوا أصحاب دار، نقلة بضاعة وليسوا منتجي صناعة، وأخلاق التجار ليست كأخلاق الصناع كما يلاحظ ابن خلدون، ويمكن العيب على هذا ونقد ذلك وكأن الناقد ليس جزءًا من تاريخ العلم يحمل المسئولية كما حملها القدماء أو المحدثون إذا وجد عيبًا أصلحه، وإذا وجد نقصًا أكمله كما فعل القدماء في تراكم فلسفي متصل، ووعي تاريخي متزايد؛ فالغزالي يكتب تهافت الفلاسفة وابن رشد يكتب «تهافت التهافت» والخياط يرد على ابن الرواند الملحد، البعض يكفر ابن عربي والبعض الآخر يُبرِّئه، ابن باجه يعيد قراءة الفارابي، وابن طفيل يعيد تأويل ابن سينا، والمغرب يطور المشرق، بل لقد نشأ علم آداب المناظرة لذلك.
وقد فعل المحدثون في الغرب نفس الشيء، واسبينوزا يقرأ ديكارت، والكانطيون، فشته وهيجل وشلنج وشوبنهور يعيدون بناء كانط، والهيجليون اليساريون، فيروباخ وشترنر وباور وماركس يقلبون هيجل رأسًا على عقب، وفلاسفة الوجود يخرجون على هوسرل ويطلقون أحكامًا على الوجود.
فإذا كان الإبداع الفلسفي مشروطًا بالموقف الفلسفي أو الرؤية الفلسفية فإن أزمة الإبداع تتمثل في غياب هذه الرؤية وهذا الموقف، ولا يكفي في ذلك إعلان المحبة والكراهية أو المدح والهجاء للفلاسفة أو المذهب أو المناهج بل الموقف الفلسفي الذي يعبر عن العصر، والرؤية الفلسفية التي تعبر عن الموقف الحضاري.
ويسهل نقل العلم الجاهز من القديم أو الجديد، والجديد أفضل من القديم وأكثر ندرة لما يتطلبه من علم باللغات الأجنبية وصعوبة الحصول على المراجع، كما أن التعامل مع الغرب الحديث أكثر حداثة من التعامل مع الموروث القديم.
ويرجع ذلك إلى عدم إدراك دقيق للصلة بين علوم الوسائل وعلوم الغايات، بين علوم العجم وعلوم العرب، بين المنطق والنحو، بين الوافد والموروث؛ فعرض المذاهب والمناهج والشخصيات إنما هو نشر لعلوم الوسائل دون استعمالها لتطوير وفهم وتأويل علوم الغايات، فالوافد الغربي ليس موضوعًا للتأليف في حد ذاته؛ لأنه مجرد آلة، ولا يقرن في تأليف كموصوف، ثم توضع له صفة عربية أو إسلامية، بل هو مجرد أداة أو وسيلة لتطوير الموروث وجعله أكثر عقلانية إذا كان الوافد يونانيًّا، وأكثر سياسيًّا إذا كان الوافد فارسيًّا؛ ومن ثم يكون التعامل مع الفلسفة الغربية الحديثة ترجمة وشرحًا وتلخيصًا وعرضًا وتأليفًا ونقدًا جزءًا من علوم الحكمة القديمة في لحظة تاريخية ثانية، لحظة الغرب الحديث، وريث اليونان القديم.
وقد يصل الأمر في الممارسات العملية إلى أهواء البشر والصراع على ساعات الدرس والإشراف على الرسائل حتى تحوَّلت التخصُّصات إلى جزرٍ منعزلةٍ لكلٍّ منها ربان قديم ولا يجوز لمتخصص آخر مزاحمته أو الحط على شطآنه.
(٣) الشروط العرضية للإبداع الفلسفي
وغياب الإبداع الفلسفي الفردي الملموس قد يكون صورةً مصغرةً عن غياب التخطيط العام وإعداد خطة شاملة للبحث الفلسفي في مصر تقوم بها مختلف الأقسام في الجامعات أو قسم واحد في جامعة واحدة بناء على احتياجات العصر، لتفادي التكرار، والدخول في الموضوعات البكر والأكثر فائدة للمرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع، لم يكن الاختيار الفردي بالضرورة عشوائيًّا بل كان بناء على إحساس فردي بحاجات العصر، الوضوح والتميز للتأليف في ديكارت، أو إعلاء الداخل على الخارج لاختيار الفلسفة الترنسندنتالية، أو الدقة في تحليل الخطاب لإبراز الوضعية المنطقية، أو دفاعًا عن حقوق الإنسان، حياته ووجوده وراء التبشير بالإنسانية والوجودية، أو ترجمة اسبينوزا دفاعًا عن سلطة العقل في النظر والنقد وعن حرية الفكر وديمقراطية الحكم، «مواطن حر في جمهورية حرة».
ما زال الواقع العربي الراهن في حاجة إلى تخصيب جديد من «فشته فيلسوف المقاومة»، كي يعرف الفكر العربي كيف يقاوم في عصر الاستسلام وإلى «مدرسة فرانكفورت» ليعرف أهمية البحوث البينية بين الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والثقافة والسياسة والتاريخ والجمال، والرومانسية الألمانية لمعرفة كيفية التوحيد بين الروح والطبيعة، المثال والواقع بدلًا من الإغراق في الثنائيات الدينية القديمة: الله والعالم، النفس والبدن، الحياة والموت، الدنيا والآخرة … إلخ.
وما زال الواقع العربي الراهن في حاجةٍ إلى تفاعلاتٍ جديدة بين مدارس الموروث وتياراته الفكرية، نقد الأشاعرة بالمعتزلة، ونقد الاعتزال القديم بالاعتزال الجديد، ونقد الفقه النظري بالفقه المالكي، وتطوير الفقه القديم ونقله من فقه النساء والعبيد والغنائم والصيد إلى فقه الثورة والعدالة الاجتماعية والتنمية والعلاقات الدولية، ونقد الإشراقية عند الفارابي وابن سينا بالعقلانية عند الكندي وابن رشد ثم نقد العقلانية القديمة بالعقلانية الاجتماعية الجديدة.
وكما ظهر الإبداع القديم في رؤية الموضوع ذاته ثم مراجعة الأدبيات القديمة عليه كما هو الحال في «الجوامع» عند ابن رشد فقد يكون شرط الإبداع الحالي هو التحول من النص إلى الواقع، ومن الأدبيات حول الموضوع إلى الموضوع نفسه، ومن اللغة إلى الوجود. صحيح أن أحد مراحل الإبداع هو التأويل أي التخلُّص من أحادية النظرة في فهم النص والتحرُّر منه كسلطةٍ ثابتة من أجل إفساح المجال للتعدُّدية في الفهم طبقًا لحركة الواقع ومراحل التاريخ، والتأويل في النهاية خطوة نحو التحرر من النص كلية إلى رؤية الواقع نفسه دون توسط نظارة للتكبير أو التصغير أو التلوين، فالتأويل يتضمن حركتين العودة إلى الأصل الأول طبقًا للمعنى الاشتقاقي للفظ سواء كان ذلك في الوجود أو العودة إلى الأشياء ذاتها كتجارب حية في الشعور.
لا يتعلق الأمر بالإمكانيات العلمية والمادية وحدها بل يتعلق برؤية الباحث ووعيه الفلسفي. صحيح أن نقص الدراسة باللغات الأجنبية عامل مؤثر في معرفة الأعمال الفلسفية في مظانِّها الأولى، ومع ذلك هناك ترجمات متعددة للنصوص اليونانية باللغات الأوروبية الحديثة، كما وجدت ترجمات عربية قديمة لها قرأها قدماء الفلاسفة وأبدعوا دون معرفة باليونانية، كما ترجمت أمهات النصوص في الفلسفة الغربية إلى كافة اللغات الأوروبية وإلى العربية أيضًا، فليس القصور في الأدوات، وليست هي العامل الحاسم في أزمة الإبداع الفلسفي في مصر.
وصحيح أيضًا صعوبة الأحوال الاقتصادية للباحثين، وأن البحث العلمي لم يعد طريقًا للاستقرار المادي على عكس نشاطات اقتصادية أخرى تقوم على العمل اليدوي في أحسن الأحوال وعلى المضاربات وأسواق المال والتجارة والوكالة والعمولات في الأحوال الشائعة، ولكن وضع ذلك في إطار عام لسياسة الأجور في الدولة بالإضافة إلى الدخل الإضافي من النشاطات الثقافية الحرة تجعل المشتغلين بالفلسفة في إطارٍ من التوزيع الدخل القومي العام من الطبقة المتوسطة العليا التي يزداد دخلها عن الطبقة الدنيا عشرات المرات.
والتاريخ يشهد على أن الإبداع الفلسفي بل أي إبداع لم يكن مشروطًا بالمستوى الاقتصادي للمبدع، غادروا الدنيا وهم مثقلون بالديون، يعيشون عيشة الشظف والضنك، لا يتطلب الإبداع بالضرورة الحياة في القصور كأمير الشعراء بل قد يخرج من الحواري والشوارع والأزقة والنجوع، من حياة البؤساء ومعهم. صحيح أن الفلسفة كانت بنت القصور، وزينة البلاط، ومسرة الخلفاء، ولكن أئمة الشيعة، متكلِّمين وحكماء، شاركوا في الثورات الشعبية، عاشوا فقراء، واستشهدوا فقراء.
إن الأوضاع الحالية للفلسفة كمؤسساتٍ علمية قد تكون أحد عوامل غياب الإبداع الفلسفي في مصر لما يسودها من «شللية» خاصة شبكات الجامعات الإقليمية حيث لا معيار ولا محك علمي بل العلاقات الشخصية وإمدادات الصراع بين الكبار بين صغار الباحثين، فنشأت «الشللية» منذ الدراسات العليا حتى الأستاذية، وتحوَّلت الفلسفة في مصر إلى مهنةٍ وليست رسالة، إلى حِرْفة وليست قضية، إلى صناعةٍ كما يقال حاليًّا في مشاريع «صناعة الثقافة» في عصر العولمة واقتصاديات السوق، ومنظمة التجارة العالمية.
وبالرغم من كثرة الحديث عن الجامعات والمجتمع ومؤتمرات تطوير التعليم والمجلس القومي للتعليم إلا أن التوجُّه الرئيسي في البلاد ما زال هو الفصل بين الجامعة والمجتمع، بين هموم الفكر وهموم الوطن، لا جامعة في السياسة ولا سياسة في الجامعة مثل لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين؛ مما أحدث فراغًا سياسيًّا في الجامعة، وبالتالي في البلاد. فإذا ما نشطت الجامعة سياسيًّا، طلابًا وأساتذة وكانوا من المعارضة الإسلامية أو الناصرية التقدمية العامة بدأ التلويح بالعقاب بشطب المرشحين لانتخابات اتحادات الطلاب أو بالتنبيه على الأساتذة أو فصلهم كما حدث في الجمهورية الأولى في مارس ١٩٥٤ ثم في الجمهورية الثانية في سبتمبر ١٩٨٠.
وفي تاريخ الفكر البشري لا فرق بين هموم الفكر والوطن؛ فقد ناقش سقراط السوفسطائيين، وحاور البسطاء في الأسواق ونقد تعدُّد الآلهة ومظاهر النفاق في السلوك الاجتماعي، وحاول أفلاطون بناء مدينة فاضلة، وعارض اسبينوزا النُّظُم الثيوقراطية في التاريخ السياسي عامة واليهودي المسيحي خاصة، ودخل فلاسفة التنوير، مثل فولتير، السجون، وأحدثوا الثورة الفرنسية في العقول قبل أن تستوليَ جماهير باريس على سجن الباستيل، وكان ماركوز وراء ثورة الطلاب والمثقفين في مايو ١٩٦٨، ويحاكم رسل وسارتر أمريكا على جرائمها في فيتنام.
وتاريخ شهداء الفكر في الموروث الثقافي أيضًا ما زال حاضرًا في الأذهان، استشهاد المعتزلة الأوائل مثل الجعد بن درهم ضد اغتصاب الأمويين للسلطة، وصلب الحلاج دفاعًا عن المظلومين والمهمشين مثل القرامطة، ونكبة ابن رشد، وشنق سيد قطب، وقد كان مصير فقهاء المسلمين إما البلاط والخلعة والصرة من ناحية أو السجن والتعذيب من ناحية أخرى كما وقع لابن حزم.
وقد يكون غياب الجمعيات الفلسفية النشطة المؤثرة الفعالة والمنتديات الفكرية وحلقات البحث أحد أسباب أزمة الإبداع الفلسفي في مصر، ففي هذه الأروقة عادة تنشأ الاتجاهات الفلسفية، والآراء، والآراء المضادة، ويخلق الجو الفلسفي الذي ينشأ فيه المفكرون الشبان، ويسود الفكر الإعلامي الفكر الفلسفي، والخوف من تنشيط المجتمع فكريًّا مبني على الخوف من تنشيط المجتمع سياسيًّا؛ فالسياسة ثقافة، والثقافة سياسة.
وتشتد أزمة الإبداع الفلسفي في مصر كلما ضعف النظام السياسي، وكبا المشروع القومي الذي كان مرةً ليبراليًّا وطنيًّا منذ القرن الماضي ثم أصبح قوميًّا اشتراكيًّا في النصف الثاني من هذا القرن، ثم أصبح لا هذا ولا ذاك في مطلع القرن الجديد حيث تغيب الرؤية، ويضعف الأمل، ويسود الإحباط ويطول الانتظار.