الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام١
(١) الموضوع والقصد
كانت الندوة الفلسفية الحادية عشرة للجمعية الفلسفية المصرية في العام الماضي «الفلسفة في مصر في مائة عام» والندوة الفلسفية الثالثة العام القادم ربما «الفلسفة في العالم»، الغرب والشرق على السواء، في مائة عام من أجل وضع مسار الوعي الفلسفي العربي في مسار الوعي الفلسفي العالمي، غربًا وشرقًا أسوةً بما قام به الحكماء السابقون، أسلافنا الأقدمون، عندما ظهر الوعي العربي الإسلامي بين الوعي الفلسفي عند اليونان والرومان غربًا, والوعي الفلسفي في فارس والهند شرقًا.
والغاية من ذلك كله محاولة الإجابة على سؤال عصرنا: في أية مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ وإلى أي جيل نحن ننتسب؟ خشية أن نقوم بدور أجيالٍ مضَتْ فنقع في السلفية، أو بدور أجيال قادمة فنقع في «العلمانية»، ويشق الصف الوطني، وتقع الحرب بين الإخوة الأعداء والتي قد تصل إلى حد النزاع المسلح الشامل كما هو الحال في الجزائر، أو العنف المحدود كما هو الحال في مصر واليمن والعراق، أو التوتر المكبوت في المغرب وليبيا وتونس وسوريا والكويت وشبه الجزيرة العربية باستثناء لبنان وتجربتها التعددية ونجاح حزب الله في تحرير الجنوب، والأردن وتجربتها البرلمانية وإعطاء الشرعية للحركة الإسلامية كتنظيمٍ سياسي له الحق في المشاركة السياسية وممارسة التجربة الديمقراطية.
هل نحن جيل النهضة العربية الأولى منذ القرن الماضي، ورثناها في مدارسنا وجامعاتنا وثوراتنا الوطنية ضد الاستعمار أولًا والقصر ثانيًا؟ هل نحن جيل التحرُّر الوطني الذي استأنف فجر النهضة العربية الأولى وأراد استكمال مشروع النهضة وتحويله من الفكر إلى الواقع ومن العقل إلى الثورة؟ هل نحن جيل الثورة العربية التي قامت منذ أوائل الخمسينيات واندلعت في معظم أرجاء الوطن العربي وازدهرت في القومية العربية والاشتراكية العربية؟ هل نحن جيل بناء الدولة الوطنية المستقلة، جيل التحديث والتصنيع؟ أم أننا جيل تعثُّر هذه الدولة وتحوُّلها إلى نظم تابعة إلى أعداء الأمس الاستعمار والصهيونية، وانقلاب حركات التحرر الوطني إلى نقيضها في التعاون مع الاستعمار والاعتراف بالكيان الصهيوني؟ أم أننا جيل تفكك الأوطان وتجزئة الوطن العربي وتشرذمه في عصر العولمة، جيل حصار العراق وليبيا وإيران والسودان والتهديد بتفتيت المغرب إلى عرب وبربر، والعراق إلى سنة وشيعة وأكراد، والخليج إلى سنة وشيعة، وسوريا إلى عرب ودروز وعلويين، واليمن إلى زيدية وشوافع، والسعودية إلى وهابيين قدامى ووهابيين جدد، ولبنان إلى طوائف وملل ونحل وعشائر، وتهميش مصر وإخراجها من قلب الوطن العربي لتحل إسرائيل محلها، أداة للتحديث وجسرًا مع الغرب؟
وقد تشعر الأجيال الحالية بأنها جيل نهاية النهضة العربية الأولى وبداية صبح النهضة العربية الثانية، نهاية الثورة العربية الأولى وبداية الثورة العربية الثانية، بداية بالانتفاضة الفلسطينية الأولى التي أحضرت السلطة الوطنية الفلسطينية، والثانية التي تحضر الآن الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، قد يشعر هذا الجيل أنه جيل مخاض جديد، القديم لم ينتهِ بعد، والجديد لم يبدأ بعد، جيل مخضرم بين عصرين، جيل انتقال بين فترتين، جيل تحول بين عهدين. المخاض عسير ولكن الولادة قادمة في أوانها وربما قبل الأوان، طبيعية أو قسرية، ذكرًا أو أنثى، ثورية أو محافظة، سليمًا معافًا أم بتشويه خلقي. ذلك محكوم بالقدرة على تحليل الوعي التاريخي ولحظته الراهنة في مساره الطويل الحديث أو القديم.
(٢) الحوامل التاريخية والأوعية الثقافية
(٣) معايير التصنيف
وتتداخل «الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام»، مع الفكر العربي المعاصر، من داخل الجامعات وخارجها؛ فالأفغاني ومحمد عبده لم يكونا فلاسفة بالمعنى التخصصي، ولكن كان لهما اجتهادهما في الفلسفة الإسلامية وأثرهما على مصطفى عبد الرازق مؤسس الدراسات الفلسفية المعاصرة، وأحمد لطفي السيد فيلسوف الجيل ومفكر الأمة المصرية، وقاسم أمين تلميذ محمد عبده، وعلي عبد الرازق القاضي الشرعي ومحمد فريد وجدي وخالد محمد خالد وغيرهم لهم أبلغ الأثر في الفكر الفلسفي السياسي المعاصر. وشبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى لم يكونوا في أقسام الفلسفة في الجامعات المصرية لكنهم كانوا رواد الفكر العلمي العلماني كما ظهر عند زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا داخل الجامعات.
كما اتسع الفكر الفلسفي ليضم العلوم الإنسانية خاصة اللسانيات (محمد أركون، طه عبد الرحمن)، وعلم النفس (مصطفى حجازي، علي زيعور، مصطفى صفوان)، والجغرافيا (جمال حمدان)، والأنثروبولوجيا (أحمد أبو زايد)، والتاريخ (عبد الله العروي)، والسياسة (أحمد لطفي السيد)، والأدب (طه حسين)، والاجتماع (محمود إسماعيل)، واللغة (نصر حامد أبو زيد)، والقانون (كمال أبو المجد). وكانت أقسام الفلسفة قد ضمَّت منذ نشأتها الأولى علم النفس وعلم الاجتماع قبل أن ينفصل العِلْمان عنها كعلوم مستقلة في مصر والجزائر وقبل أن ترتبط بأقسام الدراسات الإسلامية والعقيدة في الكليات الأزهرية والجامعات الدينية وفروع الجامعات السعودية في موريتانيا والمغرب وعدد من الأقطار العربية والإسلامية الأخرى حتى الملايو، وقد كان الجمع بين الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والفن أحد عوامل قوة مدرسة «فرانكفورت».
ولا ينفصل الفكر العربي عن الفكر الإسلامي فهما لفظان على التبادل؛ إذ إن رائده الأول ومؤسس الإصلاح الديني جمال الدين الأفغاني ليس عربيًّا، ويدخل فيه محمد إقبال (الهند-باكستان)، وأحمد خان (الهند)، وقاسم أحمد (الملايو)، وسعيد النورسي (تركيا)، وعلي شريعتي وطالقاني والإمام الخميني (إيران)، ومن الجيل الحالي فريد إسحق، وعبد الله الطيب، وإبراهيم موسى (جنوب أفريقيا)، ومعظم التيارات في الفكر العربي المعاصر لها إمداداتها خارجة في العالم الإسلامي، فالعروبة قلب الإسلام ومهبط وحيه، ومصدر فكره، ولغته وثقافته.
والسؤال هو: ما هي معايير التصنيف؟ يمكن وضع أربعة:
-
(أ)
الأجيال والمراحل، فهناك أربعة أجيال على الأقل في مصر وثلاثة في سوريا، واثنان في العراق ولبنان والمغرب العربي، وجيل واحد في شبه الجزيرة العربية، كل جيل يمثِّل مرحلة؛ الأول في مصر جيل ثورة ١٩، والثاني جيل الأربعينيات، والثالث جيل الثورة في ١٩٥٢، والرابع جيل هزيمة حزيران ١٩٦٧، وفي سوريا؛ الأول جيل ما قبل الاستقلال في ١٩٤٥، والثاني جيل الثورة في أوائل الخمسينيات، والثالث جيل المشاريع العربية المعاصرة، وفي العراق ولبنان والمغرب العربي؛ الأول جيل الخمسينيات، والثاني جيل السبعينيات، وهي أجيال قصيرة إذا كان الجيل، كما يحدده القدماء وابن خلدون، أربعين عامًا، وتتداخل الأجيال ويتسارع التفاعل حيث يتعايش أكثر من جيل في زمن واحد،١١ كما تتواصل الأجيال في تيارات واتجاهات فلسفية واحدة.
-
(ب)
المناطق الجغرافية؛ إذ يزدهر الفكر الفلسفي في مصر والشام والمغرب ربما لبداية النهضة العربية في «بر» مصر و«بر» الشام، ولقرب المغاربة من الغرب الفرنسي، وقد تكو الدولة «التاريخية» أحد العوامل لازدهار الفكر الفلسفي السياسي، وقد يكون لاتصال هذه المناطق أكثر من غيرها بالغرب الحديث مما ساعد على «صدمة الحداثة» منذ الطهطاوي وخير الدين، ولعبة المرآة المزدوجة، رؤية الأنا في مرآة الآخر، والآخر في مرآة الأنا، والحقيقة أن المناطق الجغرافية متصلة فيما بينها ليس فقط عن طريق الهجرات، هجرات المفكرين الشوام إلى مصر مثل فرح أنطوان وشبلي شميل ورشيد رضا، أو عن طريق البعثات التعليمية إلى مصر مثل بديع الكسم،١٢ كما تظهر تيارات فلسفية واحدة في نفس الأقطار مثل الماركسية في مصر والشام والمغرب، والظاهراتية في سوريا ولبنان ومصر، والشخصانية في لبنان والمغرب، والبنيوية في مصر والمغرب.
-
(جـ)
الاتجاهات والتيارات: وهو واضح من ظهور الاتجاهات وهو أعم من التيارات الفلسفية في شتى أنحاء الوطن العربي مثل الماركسية في مصر والشام، والشخصانية في لبنان والمغرب، والعقلانية في مصر والمغرب، والظاهراتية في مصر وسوريا ولبنان؛ فقد كان اختيار هذه التيارات تعبيرًا عن حاجات واقع عربي واحد.١٣
-
(د)
المذاهب والمناهج؛ إذ انتشرت المذاهب والمناهج الغربية في الدراسات الفلسفية والفكر العربي المعاصر في كل أرجاء الوطن العربي مثل المثالية والوضعية والوجودية في مصر، والماركسية في مصر والشام والمغرب، والبنيوية في المغرب، والشخصانية في لبنان والمغرب، والظاهراتية في مصر ولبنان، وقد تأتي المذاهب والمناهج من الفرق القديمة مثل السلفية الجديدة والرشدية الجديدة في مصر والمغرب، والاعتزالية الجديدة والأشعرية التقليدية والماتوريدية التقليدية في مصر.
(٤) الاتجاهات والتيارات
لا يتجاوَز هذا المعيار للتصنيف إلى المذاهب الفلسفية؛ فالفكر الفلسفي العربي المعاصر لم يصل بعد إلى مرحلة بناء الأنساق الفلسفية الكبرى، كما حدث ذلك في الغرب الحديث مثل مذهب اسبينوزا في السابع عشر، وكانط في الثامن عشر، وهيجل في التاسع عشر؛ فقد تم ذلك بعد عصر النهضة، ونقد القديم، وانتصار المحدثين على القدماء في الفكر والعلم والفن والأدب والسياسة والدين، وتمَّت تعرية الواقع من كل غطاء نظري قديم، الموروث من أرسطو أو بطليوس أو الكنيسة أو الوافد من العرب نصارى ومسلمين، وكان من الضروري إيجاد تصورات نظرية جديدة للإنسان والحياة والكون فنشأت الأنساق الفلسفية تطبيقًا للمناهج التي نشأت أولًا، المنهج العقلي بفضل ديكارت، والمنهج التجريبي بفضل بيكون.
هناك اجتهادات لإحياء القديم كما فعل محمد بن عبد الوهاب مع ابن تيمية، وكما فعل ابن تيمية مع أحمد بن حنبل في إحياء السلفية التي أحياها رشيد رضا. وهناك اجتهاد آخر لإحياء الماتوريدية كما فعل محمد عبده، الأشعري في التوحيد، المعتزلي في العدل، وهناك محاولات ثانية في مصر والمغرب لإحياء الرشدية الجديدة أو الاعتزال الجديد، وهناك محاولات ثالثة في مصر والمغرب أيضًا لإحياء المالكية (الطوفي) ومقاصد الشريعة (الشاطبي) عند علال الفاسي وحسن حنفي، وهناك محاولات رابعة لإعادة النظر في علوم القرآن في مصر (نصر حامد أبو زيد)، والحديث (حنفي)، والفقه (القرضاوي)، والسيرة (طه حسين، هيكل، الشرقاوي)، والتفسير (سيد قطب)، ولإعادة قراءة تاريخ العلوم الرياضية والطبيعية عند العرب (رشدي راشد، عبد الحميد صبرة، سويدان، حمارنة). وقد نشأت مثل هذه المحاولات أيضًا قبل بدايات العصور الحديثة في الغرب في عصر الإحياء، إحياء الآداب القديمة في القرن الرابع عشر قبل عصر الإصلاح الديني في الخامس عشر، وعصر النهضة في القرن السادس عشر قبل بداية العصور الحديثة في السابع عشر «أنا أفكر فأنا إذن موجود».
وقد تنشأ تيارات واتجاهات إحياء لفرق من الموروث القديم مثل الرشدية والاعتزال (محمود قاسم) أو السلفية (الجليند) أو الأشعرية (النشار) أو الخوارج (سيد قطب بعد «معالم في الطريق») أو الشيعة (بعض الحركات الإسلامية السرية) أو المرجئة (بعض فقهاء السلطان) أو المالكية الجديدة تطويرًا لمقاصد الشريعة عند الشاطبي (الفاسي) أو الحنبلية الجديدة (الوهابية)، فهناك فلاسفة ومتكلمون وأصوليون وصوفية جدد، كما أن هناك علماء قرآن جددًا (نصر حامد أبو زيد)، ومفسرين جددًا (رشيد رضا، سيد قطب)، ومحدثِّين جددًا (قاسم أحمد)، ومتكلمين جددًا (محمد عبده، حنفي)، وأصوليين جددًا (شلتوت، مدكور) وصوفية جددًا (السنوسية، المهدية)، وفقهاء جددًا (القرضاوي).
- (أ) المثالية بكل أنواعها، سواء المثالية الترنسندنتالية كما صاغها كانط ابتداء من ديكارت (عثمان أمين، نجيب بلدي) أو المثالية المعتدلة مطبقة في علم الأخلاق، أخلاق الواجب وأخلاق الضمير، وأخلاق الحاسة الخلقية، وأخلاق الإرادة الخيرة والفطرة (توفيق الطويل) أو المثالية العقلانية في الثنائية اليونانية الإسلامية القديمة عند الفلاسفة والحكماء أو الغربية الحديثة عند ديكارت (محمود قاسم) كسبيل للإصلاح.١٦
- (ب)
الوضعية بكل أنواعها خاصة الوضعية المنطقية (زكي نجيب محمود) والمنهج التحليلي من أجل حسن استعمال اللغة والفلسفة العلمية بوجه عام (عادل ضاهر).
- (جـ)
الماركسية التقليدية والمنهج الجدلي التاريخي الذي تقوم عليه (محمود أمين العالم، صادق جلال العظم، الطيب تيزيني) أو الجديدة، الماركسية الليبرالية أو الماركسية العربية (عبد الله العروي) أو المادية التاريخية (حسين مروة ومجلة «الطريق»).
- (د)
البنيوية في تركيب العقل العربي (الجابري) أو اللغة العربية (أركون، نصر حامد أبو زيد) أو في الأدب (كمال أبو الديب، صلاح فضل، جابر عصفور).
- (هـ)
الظاهراتية البنيوية في وصف الثقافة العربية بين الثابت والمتحول (أدونيس) أو الشعورية لإعادة بناء العلوم القديمة بناء على ظروف العصر (حنفي)، ثم ذاعت في الجيل الجديد وتطبيقاتها في الفلسفة (يوسف سلامة، محمود رجب)، والجمال (سعيد توفيق)، والعلوم الإنسانية (علا أنور).
- (و)
الوجودية بكل أنواعها ابتداء من الوجود – الإرادة – القوة عند نيتشه بالإضافة إلى هيدجر وبرجسون (بدوي) أو الظاهراتية عند مارسل وياسبرز (زكريا إبراهيم).
(٥) تمثل الوافد الغربي الجديد
كانت الأجيال الماضية أكثر وعيًا في اختيارها الفلسفي للترجمة والعرض من الجيل الحالي الذي أصبح يترجم كل شيء ما دام وافدًا من الغرب من أجل اللحاق بركب الحداثة ودون توظيف مما ساهم في الاستقطاب بين عنصري الثقافة، الوافد والموروث، واتساع الهوية بينهما ليس فقط في الفكر بل أيضًا في الواقع، في الصراع السياسي بين أنصار الوافد، العلمانية، وأنصار الموروث، السلفية، كانت الترجمات الأولى تصب في تيار النهضة في حين أن الترجمات الحالية مبعثرةٌ في الرمال.
وفي إطار العرض ألفت عدة قواميس فلسفية للأعلام وللمصطلحات همها إعطاء المعلومات السريعة مثل دوائر المعارف تيسيرًا للباحثين، وتثقيفًا للقراء، وهي جهود تجميعية لا أصالة فيها ولا ابتكار، بل إن من شروط المادة «القاموسية» عدم وجود أي رأي شخصي أو قراءة أو تأويل أو نقد أو تطوير، مجرد مادة موضوعية مصمتة لا حياة فيها، وغالبًا ما تكون مترجمة عن مثيلاتها في الغرب أو منقولة عن المعاجم القديمة، ويقوم بها الأفراد والمؤسسات على حد سواء، وما زالت تمثِّل طموحًا فلسفيًّا كبيرًا للجامعة العربية.
(٦) إعادة دراسة الموروث القديم
بدأ الرعيل الأول دراسة الموروث القديم برؤية إصلاحية فقد كان مصطفى عبد الرازق من تلاميذ الأستاذ الإمام، رد على المستشرقين مثل كارا دي فو كما فعل أستاذه في رده على هانوتو والأفغاني في رده على رينان، لإثبات أصالة الفكر الإسلامي دون تبعيته لليونان، وأن هذه الأصالة تبدو في علم الأصول، أصول الدين وأصول الفقه، ووجه تلميذه علي سامي النشار لدراسة «مناهج البحث عند مفكري الإسلام ونقد المسلمين للمنطق الأرسطي» قبل أن يتحول إلى أشعري في «نشأة علم الكلام» ناقدًا المعتزلة والحكماء، ووجه مصطفى حلمي لدراسة «العشق الإلهي» عند سلطان العاشقين ابن الفارض، وأبا العلا عفيفي لدراسة «فصوص الحكم» عند ابن عربي، وتوفيق الطويل لدراسة الشعراني إمام التصوف في عصره، واستمر في هذا التيار علي عبد القادر وعبد القادر محمود وأبو الوفا التفتازاني عن ابن عطاء الله السكندري وابن سبعين، كما وجه مدكور لدراسة «منطق الشفاء» لابن سينا وعثمان أمين لمحمد عبده أستاذ الجميع، وأعطى الرائد الأول نموذجًا لأصالة الفكر الفلسفي في «الكندي فيلسوف العرب» و«الفارابي المعلم الثاني»، و«الشافعي واضع علم الأصول»، ومعطيًا نموذجًا للأصالة في اتفاق الفلسفة والدين عند حكماء الإسلام، واستمرت الدراسات الأصولية (حسن حنفي، وعبد الحميد مدكور، وسحبان خليفات، ورابح مراجي)، والكلامية (الجليند وعلي مبروك) والإصلاحية (حسن الشافعي وعبد المعطي بيومي)، والصوفية (هالة فؤاد) وقد خرجوا كلهم من عباءة شيخ الإسلام.
واستأنفت الدراسات الرشدية في المغرب العربي (جمال الدين العلوي، محمد مصباحي، محمد عابد الجابري) وابن خلدون (علي أومليل، الجابري) لخصوصية عقلانية مغربية متميزة وربما منقطعة عن الفلسفة «المشرقية» المرتبطة بإيران وتركيا، مع أن الإشراق كان أيضًا في الأندلس عند ابن باجه وابن طفيل أساتذة ابن رشد وفي مدرسة ابن مسرة وعند ابن عربي والتصوف الأندلسي، والعراقية المغربية، وحضور الغزالي في المغرب عند ابن تومرت لا يقل عن حضوره في المشرق.
وازدهرت الفلسفة السياسية نظرًا لحاجة العالم العربي لتأصيله أيديولوجياته السياسية المعاصرة سواء في «الأحكام السلطانية» و«قوانين الوزارة والملك» عند الماوردي (صلاح رسلان) أو عند ابن الأزرق والحضرمي (النشار) أو الجويني (سعيد بن سعيد) أو تأسيس مجلة خاصة لذلك «الاجتهاد» (رضوان السيد).
وإذا كان القدماء قد اجتهدوا في العلوم النقلية العقلية الأربعة، الكلام والفلسفة والتصوف والأصول، كما اجتهدوا في العلوم العقلية الخالصة، الرياضية والطبيعة والإنسانية إلا أنهم تركوا العلوم النقلية الخالصة بلا إعمال للعقل واكتفوا فيها بالنقل، دون دراية واقتنعوا فيها بالرواية، وتقدم المحدثون لإعادة النظر في هذه العلوم معتمدين على العقل والتاريخ؛ ففي علوم القرآن برزت اتجاهات جديدة في «مفهوم النص» (نص حامد أبو زيد)، وفي علوم الحديث بدأ نقد المتن بالإضافة إلى نقد السند في تركيا، وماليزيا ومصر (قاسم أحمد، خيري، حنفي) حتى لا يترك المجال وحده للاستشراق، وفي علوم التفسير ظهر التفسير الموضوعي للقرآن في موضوع فلسفة التاريخ (محمد باقر الصدر)، وفي علوم السيرة دخل الأدباء والمفكرون لإعادة كتابة سيرٍ عصرية للرسول مثل «حياة محمد»، «في منزل الوحي» (محمد حسين هيكل)، و«على هامش السيرة» (طه حسين)، و«عبقرية محمد» (العقاد)، و«محمد رسول الحرية» (عبد الرحمن الشرقاوي). وساهم في ذلك أقباط مصر مثل «محمد رسول الله» (نظمي لوقا)، كما ساهم المسلمون في كتابة سير للسيد المسيح مثل «عبقرية المسيح» (العقاد). وفي علوم الفقه بدأت إعادة النظر في قانون الأحوال الشخصية (فتحي نجيب)، وفي أبواب الفقه القديم مثل العبيد والغنائم والصيد والنساء والذبائح (عبد المعطي بيومي)، وفي الثروة وتوزيع الدخل وملكية الأرض (القرضاوي).
وتمت ترجمة بعض دراسات المستشرقين في الكلام (فان إس. شاخت)، والفلسفة (دي بور، أوليري)، والتصوف (ماسنيون، نيكلسون)، والتفسير (فلها وزن، جولدزيهر)، والترجمة (ماكس مايرهوف)، وبلغت الذروة في ترجمة «دائرة المعارف الإسلامية».
وتمت الترجمة بمنهج النقل عن الغرب، ونادرًا ما يحدث التعليق إلا في حالة الدفاع عن الإسلام باستثناء حالات قليلة التي تكون فيها الترجمة إعادة كتابة النص الاستشراقي مثل ترجمة «تاريخ الفلسفة في الإسلام» لديبور و«مذهب الذرة عند علماء المسلمين» لبينيس (أبو ريدة) و«مذاهب التفسير الإسلامي» لجولدزيهر (النجار)، وكذلك الترجمة الجماعية لدائرة المعارف الإسلامية.
ومع ذلك ما زال الكم الغالب على الدراسات الإسلامية هو عرض المادة القديمة دون رأي أو قراءة أو تأويل أو تطوير باستعمال مناهج جديدة خاصة في مصر من أجل المقررات الجامعية أو الترقيات العلمية، تغلب عليها الإيمانيات بهدف تجديد عقود العمل في جامعات شبه الجزيرة العربية، فساد الموضوع بلا منهج، والتكرار بلا تجديد، والعرض بلا موقف، والمادة بلا روح، والكم بلا كيف، وعم ذلك الدراسات الإسلامية القليلة في شبه الجزيرة العربية، وفي المركز والأطراف، ويستثنى من ذلك المغرب العربي الذي فاق المشرق في الجرأة الفكرية والمنهجية بصرف النظر عن الصعوبة والغربة والنخبوية وإعطاء الأولوية للمنهج على الموضوع، وللجديد على القديم، وللحداثة على التراث، ووقف الشام والعراق وسط بين مصر والمغرب.
(٧) قراءة الموروث من خلال الوافد، والوافد من خلال الموروث
- (أ) المثالية خاصة عند ديكارت وكانط وفشته ورواد المثالية الغربية، وهي فهم عقلي روحي للدين سهل انبثاقها من الفارابي والغزالي ومن الحركات الإصلاحية الحديثة عن الأفغاني ومحمد عبده وإقبال. اجتمع المصدران في «الجوانية، أصول العقيدة وفلسفة الثورة»، تعطي الأولوية للداخل على الخارج، وللفرد على الجماعة، وللفكر على الواقع، وللماهية على الوجود (عثمان أمين)، ولما اتهمت المثالية الأخلاقية الكانطية بالتزمُّت والصورية في تصوُّره للواجب تم تعديلها إلى مثالية عقلية إسلامية فطرية تقوم على الاعتدال والتوسط والواقعية في المثالية «المعتدلة» أو «المعدلة» (توفيق الطويل).٢٤
- (ب) الوضعية المنطقية: وقد راجت في الفكر العربي المعاصر بفعل أحد روادها العرب «زكي نجيب محمود» ثم تطبيقها بعد عرضها ابتداء من عام ١٩٧١ في موضوعات تراثية مثل الثنائية التقليدية في «تجديد الفكر العربي»، والتصوف في «المعقول واللامعقول» وفي الأخلاق في «قيم من التراث» وإصدار أحكام عامة على الفكر العربي مثل ارتباطه بالوجدان والدين قدر ارتباط الغرب بالعلم. وإذا ارتبط الشرق بالوجدان والدين، «الغرب العالم والشرق الفنان» فالعرب جمعوا بين الاثنين. فالعلم ظاهرة غربية وكأن حضارات الشعوب القديمة لم يكن لها علم، وقد كان هذا التطبيق الجديد للمنهج التحليلي في التراث عرضًا بعد إعارة إلى الكويت بعيدًا عن مكتبته الغربية وفي وسط مكتبة الجامعة العربية، وبأسلوب ثقافي عام يجمع بين الأدب والفلسفة من خلال الصحافة (مقال الأهرام)، فكان «أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء»، ولم يكن التراث غريبًا على العلم مثل «جابر بن حيان».٢٥واستمر في هذا التيار، ولو بطريقة أخرى، ما يسمَّى بالتفسير العلمي للقرآن (طنطاوي جوهري) أو علوم الطبيعة في القرآن إحساسًا بالنقض أمام الآخر العالم وأخذ مناط قوته ثم قراءة أصل التراث من خلاله، «تلك بضاعتنا ردت إلينا»، فنأخذ الحسنيين، الآخرة من التراث، والدنيا من الغرب، فنفوز مرتين، ويخسر الغرب بدنياه بعد أن سخره الله لنا لخدمتنا وسعادتنا. مع أن تاريخ العلم في التراث متوافر، ويمكن دراسته لمعرفة كيف تحولت العقلية التوحيدية إلى عقلية علمية خاصة، وأن الوحي يقوم على العقل والطبيعة، فتأسَّست العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية.٢٦
- (جـ)
الماركسية العربية أو الماركسية الليبرالية (العروي) التي تتبنَّاها الطبقة المتوسطة التي ما زالت مناط التحديث، الماركسية غاية، والليبرالية وسيلة، وهو منهج تاريخي قادر على دراسة التراث ومعاركنا معه (العالم) وإعادة كتابة تاريخه في مشروع «من التراث إلى الثورة» (الطيب تيزيني) و«النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» (حسين مروة) وفي علم الكلام (غالب هلسا)، الماركسية هي الفلسفة (صادق جلال العظم). ويمكن أن ينبع من داخل التراث الثوري الإسلامي في «الحسين ثائرًا» و«الحسين شهيدًا» و«الأئمة الأربعة» (الشرقاوي)، هناك يمين ويسار في الإسلام (أحمد عباس صالح)، و«يسار إسلامي» (حنفي)، و«اشتراكية عربية» أو «تطبيق عربي للاشتراكية» (ناصر، وحزب البعث) وحياد إيجابي إسلامي «لا شرقية ولا غربية» و«اشتراكية ديمقراطية» وسطية (عبد الحميد إبراهيم) ترويجًا للأيديولوجيات المتعاقبة للنظم السياسية.
- (د) البنيوية لم يُطلَق عليها لفظ عربي أو إسلامي ولكنها هي المنهج المعلن عنه في مشروع «نقد العقل العربي» (الجابري)، ويطبِّقها جيل جديد في علم الكلام في موضوعات في النبوة والإمامة (علي مبروك)، وذاع صيتها على أيدي النقاد العرب ترجمةً (جابر عصفور) وتنظيرًا (صلاح فضل) وتطبيقًا في الأدب (كمال أبو الديب)، والاعتراضات على صوريتها (شكري عياد، عبد العزيز حمودة)، ولما خرجت البنيوية من اللسانيات فإنها ارتبطت باللسانيات الحديثة في قراءة القرآن والعقل الإسلامي والقانوني (أركون)، واعتمادًا على علوم التأويل، الهرمنيطيقا والسميوطيقا والسمانطيقا في علوم القرآن والتصوُّف الإسلامي كابن عربي، والتأويل عند المعتزلة وتحليل الخطاب اليومي (نصر حامد أبو زيد).٢٧
- (هـ)
الظاهراتية وقد تم تطبيقها في الشعر العربي خاصة والثقافة العربية عامة في مشروع «الثابت والمتحول» (أدونيس)، وربما مشروع «التراث والتجديد» (حنفي) دون تسميتها بالعربية أو الإسلامية، تساعد على فَهْم البنية الثقافية أساس البنية الاجتماعية، كما تم تطبيقها من جيل جديد لفَهْم الفكر الطوباوي في الإسلام (يوسف سلامة).
- (و)
والإنسانية والوجودية والشخصانية كانت لها النصيب الأوفر نظرًا لذيوعها وبساطتها وتنوُّع أساليب تعبيرها؛ فالإنسانية والوجودية موجودان في الفكر العربي في الشخصيات الفلسفية في الإسلام عند ابن الراوندي وعند الصوفية المسلمين (عبد الرحمن بدوي) وأبي حيان التوحيدي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء (زكريا إبراهيم)، و«الشخصانية الإسلامية» وأبعادها في المفارقة والحرية والفعل قادرة أن تُحقِّق للمسلمين ما يصبون إليه من تأكيدٍ لحقوق الإنسان وحريته واستقلاله (الحبابي)، وهي سمة عامة لثقافة البحر الأبيض المتوسِّط لا فرق بين شماله وجنوبه (رينيه حبشي).
ثم انهارت هذه المحاولات فيما يسمى بتيار «أسلمة العلوم» والذي أصبح له مجلاته ومعاهده، يقوم على أخذ آخر ما وصل إليه الفكر الغربي من نظريات ونتائج، ثم قراءة أصول التراث من خلالها. هذه الأصول النصية، القرآن والحديث خاصة مجرد قالب تصبُّ فيه العلوم الغربية أو نظارة تُرى من خلالها، وتكون النتيجة إما الاتفاق بين الوافد والموروث «تلك بضاعتنا ردت إلينا»، نحن أسبق، وإما الاختلاف وهنا يبدأ الدفاع عن الموروث والهجوم على الوافد، وتكثر هذه الدراسات في شبه الجزيرة العربية خاصة من الأساتذة المعارين كثمنٍ لعقود العمل إبرامًا وتجديدًا، وكثرت المواد الجامعية المقررة بعنوان «نحن والغرب» أو «الثقافة الغربية من منظور إسلامي» تأكيدًا على التمايز أو التعارض خاصة في الجامعة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية وباكستان وماليزيا.
صحيح أن الفلسفة ليست لحظة واحدة في التاريخ، اللحظة اليونانية الأولى التي كانت الفلسفة فيها تنتقل من الغرب إلينا أو اللحظة اللاتينية الثانية التي كانت الفلسفة تنتقل منَّا إليهم بل هي لحظات متجددة عبر التاريخ في كل مرةٍ تلتقي فيها الحضارة الإسلامية مع الحضارات المجاورة تأثرًا وتأثيرًا، ولما كنا في علاقةٍ جديدةٍ مع الغرب الحديث، فالتعامل معه نقلًا واستيعابًا وتمثلًا شيء طبيعي، ممكن إلى فترة، يتم بعدها انقطاع.
ثم يتغير النموذج، تحويل الغرب من مصدر العلم كي يصبح موضوعًا للعلم كما هو الحال في علم «الاستغراب» حتى يتم التحرُّر منه، وإيقاف مد التغريب أي الانبهار بالغرب، وتجاوز عقدة النقص التي تربَّت فينا تجاهه، وعقدة العظمة التي تربَّت فيه تجاهنا، ووضع نهاية لأسطورة الثقافة العالمية؛ فالعالمية تعني المركزية، والهيمنة والقوة، وكل ثقافة هي ثقافة تاريخية بالضرورة.
ثم تأتي مرحلة جديدة تتغيَّر فيها موازين القوى بيننا وبين الغرب وتصبح الثقافة العربية الإسلامية هي الإطار المرجعي الذي يُحال إليه الغرب، والوعاء الذي يصبُّ فيه كما كان الحال في العصر الوسيط المتأخِّر عند «الرشديين اللاتين» عندما كان الفيلسوف هو المسلم كما كتب أبيلار «حوار بين يهودي ومسيحي وفيلسوف»، وكانت الفلسفة الإسلامية نموذجًا للعلم والفكر، للطبيعة والعقل، الركيزتين الرئيستين للوحي، وهو النموذج الذي أصبح يسمَّى ابتداءً من عصر النهضة وطوال العصور الحديثة قبل بداية نهايتها، النموذج «الأوروبي».
(٨) أين مواطن الإبداع؟
تظل «الفلسفة العربية في مائة عام» تتعامَل مع معطياتٍ تراثية، الوافد أو الموروث وإن كان همها في بعض جوانبها هو الواقع المعاش، والرغبة في الإصلاح والتغيير، والمساهمة في المشروع القومي العربي في التحرُّر والتحديث؛ ومن ثم يبرز سؤال: أين مواطن الإبداع في الفلسفة العربية أو حتى في الفكر العربي أسوة بالإبداع الأدبي والفني خاصة في الشعر والرواية والقصة والمسرح والموسيقى بل وفي الفنون التشكيلية الرسم والتصوير والنحت والزخرفة والعمارة؟
وقد يكون السبب هو عصر الاستقطاب الذي تعيش فيه المجتمعات العربية حاليًّا بين التيارين الرئيسين المتنازعين، أنصار الوافد وأنصار الموروث اللذين تحوَّلا إلى قوتَيْن سياسيتَيْن متصارعتين، العلمانية والسلفية، كل فريق يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة؛ ومن ثم غاب الحوار والتزاوج والتفاعل، الشرط الضروري للإبداع، وكل منهما يعتبر نفسه المهدي المنتظر، بيده الخلاص، وريث النظام القائم التابع للخارج، الفاسد في الداخل، والنظام يعتمد على هذا الفريق مرة لضرب الفريق الآخر حتى يضعفه ثم يعتمد على الفريق الآخر مرةً أخرى حتى يضعف الفريق الأول فيقوى القلب بضعف جناحَيِ المعارضة وقص ريشيهما، لا إبداع دون حوار وطني بين مدارس الفكر والعمل في هذا الجيل من أجل تجميع القوى وحشد الطاقات وإقامة الجسور والبحث عن الطريق الثالث.
(٩) الحالة الراهنة للفكر الفلسفي
إن رصد «الفلسفة في الوطن العربي مائة عام» إنما الهدف منه معرفة الحالة الراهنة للفكر الفلسفي في الوطن العربي حتى يتحرَّك التاريخ، وينتقل من قرنٍ إلى قرن، ومن ألفيةٍ إلى ألفيةٍ عن طريق الوعي بالماضي واستشراف المستقبل بعد سبر غور طبيعة المرحلة الراهنة؛ إذ يزدهر الفكر بازدهار المرحلة.
والثانية: التجربة القومية الاشتراكية العربية التي أكملت حركات الاستقلال الوطني، وأعادت بناء الهياكل الاجتماعية بالإصلاح الزراعي والتصنيع وحقوق العمال وتدعيم الدولة للمواد الأولية، والقطاع العام ومجانية التعليم، وتذويب الفروق بين الطبقات، ومعاداة الاستعمار والصهيونية، وعدم الانحياز، وانتهت بهزيمة ١٩٦٧.
والآن يمر العرب بتجربةٍ ثالثة لا يدرون ما كُنْهها إلا أنها رد فعل على التجربة الثانية، ومنجرفة نحو الخصخصة والرأسمالية والعولمة واقتصاد السوق والتحالف مع أعداء الأمس، والوطن العربي مهدد بالتشرذم والتفكُّك والضياع ليصبح محيطًا لمركز آخر سواه، الغرب وإسرائيل وليس القومية العربية ومصر، يعبر عنها الأدباء أكثر مما يعبر عنها المفكرون، يشعر بها السياسيون أكثر مما يعيشها الفلاسفة.
وكما بدأ فجر النهضة العربية على غير ما انتهى إليه، وانتهى إلى غيرها ما بدأ منه، كذلك كانت بداية القرن غير نهايته، ونهايته غير بدايته، كانت الأمور واضحةً في البداية وأصبحت غامضة في النهاية، من الصديق ومن العدو؟ إنها مرحلة المخاض الجديد لجيلٍ من الفلاسفة أقل تكوينًا من الأجيال الماضية، وواقع أكثر تشابكًا، مع نقص في الإمكانيات اللغوية والبحثية، وغموض في الهدف والقصد، وصعوبة الحياة اليومية، وغلق باب الإعارات ومصادر الرزق الذي كان مفتوحًا على الأبواب للجيل الماضي، وسيادة الكتاب الجامعي المقرر وانتهاء عصر الروَّاد وتلاميذهم، ولولا آخر من بقي من جيلٍ مضى لما استمر التاريخ، ربما يحتاج الإبداع إلى نقلةٍ نوعية في مسار العرب التاريخي وهم على أعتاب تجربةٍ ثالثة لم تتحدَّد معالمها بعد.
وتكون النتيجة رد فعل «القدامة» فهي أكثر فَهْمًا من ما بعد الحداثة، وألصق بثقافة الناس وبالوعي التاريخي منها، وتغلق الأبواب ضد الحداثة وما بعد الحداثة بعد أن كانت الحداثة منذ فجر النهضة العربية على أوسع نطاق، ليست فقط وافدة من الغرب بل نابعة من التراث كما بيَّن الطهطاوي في الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة واللذين على أساسهما أقام مونتسكيو «روح القوانين»، وكلاهما؛ ما بعد الحداثة والقدامة، خارج الزمن الحاضر، وطبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع العربي.
(١٠) مسئوليات الجمعيات الفلسفية العربية
• الأولى: دور أقسام الفلسفة في مصر، كلية الآداب، جامعة القاهرة، ١٩٨٩.
• الثانية: دور مصر في الإبداع الفلسفي، كلية الآداب، جامعة القاهرة، يوليو ١٩٩٠.
• الثالثة: نحو علم كلام جديد، كلية أصول الدين، جامعة الأزهر، يوليو ١٩٩١.
• الرابعة: نحو مشروع حضاري جديد، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، يوليو ١٩٩٢.
• الخامسة: نحو فلسفة إسلامية جديدة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، يوليو ١٩٩٣.
• السادسة: مدرسة الإسكندرية عبر العصور، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، ديسمبر ١٩٩٤.
• السابعة: التأويل بين الفلسفة والعلوم الإنسانية، كلية الآداب، جامعة القاهرة، ديسمبر ١٩٩٥.
• الثامنة: فلسفة التاريخ والوعي بالتاريخ، كلية الآداب، جامعة القاهرة، ديسمبر ١٩٩٦.
• التاسعة: الخطاب الفلسفي، كلية الآداب، جامعة القاهرة، ديسمبر ١٩٩٧.
• العاشرة: قراءات ابن رشد، كلية الآداب، جامعة القاهرة، ديسمبر ١٩٩٨.
• الحادية عشرة: الفلسفة في مصر في مائة عام، كلية العلوم، جامعة القاهرة، ١٩٩٩.