المصادر الفكرية للعقلانية في الفكر العربي المعاصر١
أولًا: الموضوع والمفاهيم
لا تعني «المصادر» الجذور وحدها بل المصادر والتكوين، الجذور والثمار، البدايات والنهايات؛ فالمصادر قد تم تفعيلها في الثقافة العربية المعاصرة، ولم تعد فقط مصادر بل تحولت إلى نتائج، وإذا كانت المصادر تأتي من التاريخ فقد تحولت على مر التاريخ إلى بِنًى ثقافية مستقلة عنه ومؤثرة فيه.
كما لا تعني المصادر النقل من الخارج أو النقل من الداخل بل تعني أيضًا حاجة الواقع العربي المعاصر ومتطلباته التي يتم تلبيتها عن طريق البحث في المنابع الخارجية أو الداخلية؛ فالواقع هو الباعث على استدعاء المصادر، والحاضر هو الذي يستلهم الذاكرة البعيدة في التراث الإسلامي القديم أو الذاكرة القريبة في التراث الغربي المعاصر.
ويضم الفكر العربي المعاصر القرنين التاسع عشر والعشرين دون تفرقةٍ بين الحديث في القرن التاسع عشر، وربما الثامن عشر في الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية أو حركة الاستنارة العقلية لدى علماء الأزهر ممثلة في الشيخ حسن العطار أستاذ الطهطاوي، وبين المعاصر في القرن العشرين، في النصف الأول أو في النصف الثاني منه، ليس المهم هو البداية الزمنية في التاريخ بل البداية المعرفية في العقل.
وقد اتسمت العقلانية بطابع كل تيار: العقلانية الإصلاحية التي تحاول فهم الدين فهمًا عقلانيًّا؛ والعقلانية الليبرالية التي تحاول تأسيس الحرية على مقتضيات العقل؛ والعقلانية العلمية التي نموذج العقل فيها هو العقل الطبيعي المرتبط بالحس والواقع.
ويعتمد كل تيار على مصدرين؛ المصدر الداخلي في جذور العقلانية القديمة في التراث الإسلامي، والمصدر الخارجي في جذور العقلانية الحديثة في التراث الغربي مع تفاوت في النسب؛ فالعقلانية الإصلاحية أقرب إلى جذور العقلانية القديمة في التراث القديم منها إلى جذور العقلانية الحديثة في التراث الغربي، والعقلانية الليبرالية حاولت الجمع بين المصدرين الداخلي القديم والخارجي الحديث على نحو متعادل ومتوازن، تقرأ الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة في «الشرطة» لنابليون، وتقرأ علم العمران عند ابن خلدون في مرآة «روح القوانين» لمونتسكيو، ويكتب محمد حسين هيكل «حياة محمد» في مرآة جان جاك روسو. أما التيار العلمي فإنه أقرب إلى المصدر الخارجي في العقلانية العلمية الغربية الحديثة منه إلى المصدر الداخلي الإسلامي في التراث القديم بالرغم من محاولة شبلي شميل بيان جذور نظرية التطور في القرآن الكريم من أجل الترويج لها في الثقافة المحلية، ومحاولة فرح أنطون تأصيلها في «ابن رشد وفلسفته»، ثم اختل الميزان عند يعقوب صروف في «المقتطف» وسلامة موسى في «هؤلاء علموني» فلا يوجد منهم عربي مسلم واحد ولا حتى ابن رشد أو ابن خلدون، وإسماعيل مظهر قبل أن ينقلب على التيار في أواخر حياته إلى التيار الإسلامي في «الإسلام أبدًا»، أما محاولة زكي نجيب محمود في «جابر بن حيان»، فإنها ليست تأصيلًا للعقلانية العلمية في الوضعية المنطقية بل مجرد كتابة عارضة لأحد أعلام العرب.
ويصعب القيام بإحصاء شامل لحصيلة العقلانية على مدى قرنين من الزمان مهما كان كاملًا، إنما المهم هو النصوص التكوينية عند الرواد في القرن التاسع عشر وتفريعاتها عند الأجيال اللاحقة في القرن العشرين استمرارًا فيها أو نقدًا لها أو انقلابًا عليها. وقد لا يتساوى قدر العروض كيفًا ولا كمًّا، إنما هي نماذج ممثلة للتيار مع وجود نماذج أخرى، ويستحيل إيراد إحصاء شامل، قد يكون التركيز أحيانًا على القرن التاسع عشر؛ لأن به جيل الرواد، وقد يكون أحيانًا على القرن العشرين، فهو أقرب إلى المعاصر، وقد يغلب التيار الإصلاحي التيارين الآخرين في العرض؛ لأنه أكثر التيارات شيوعًا وحضورًا في الفكر العربي المعاصر.
وقد أخذت العقلانية بالمعنى الدقيق وتحليل أهم نصوصها وليس بمعناها الواسع إيجابًا الذي يضم الاجتهاد والمعاصرة والتجديد والتحديث والإصلاح والنهضة، أو سلبًا مثل نقد التقليد والقديم والمحافظة والسلفية والجمود والتعصب؛ فقد اتسعت العقلانية حتى أصبحت تضم كل شيء، واستعملت كشعار أكثر منها كمفهوم خاصة في الفكر العربي المعاصر الذي ما زال يغلب عليه الطابع الفكري العام في المنابر العامة، ولم يتحول بعد إلى فكر دقيق ومفاهيم محددة، ما زال الخطاب الإنشائي هو الغالب، وهو أحد التحديات للفكر العربي نفسه، جيلًا وراء جيل.
ثانيًا: العقلانية الإصلاحية
وتعني محاولة فهم الدين فهمًا عقلانيًّا وتأصيل ذلك الفهم في التيارات العقلانية في التراث القديم عند المعتزلة وابن رشد بل وبعض الفقهاء الذين يعتبرون من مصادر الفكر الإصلاحي الحديث مثل ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» و«موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول»، وهي أكثر التيارات حضورًا وشيوعًا، تنهل من الثقافة الموروثة التي أصبحت الرافد الرئيسي في الثقافة الشعبية، كما تبنتها النخبة الوطنية، وأصبحت إحدى أيديولوجيات التحرر الوطني.
-
(١)
بدأت الحركة الإصلاحية عند محمد عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية تيارًا نصيًّا لا عقليًّا، وانتهَت كذلك منذ كبوة الإصلاح من الأفغاني إلى محمد عبده إلى رشيد رضا إلى الجماعات الإسلامية المعاصرة نصية لا عقلية، والتحدي الآن هو كيفية تحويلها إلى حركةٍ إصلاحيةٍ عقلية تتجاوَز عقلانية الإصلاح الأول من نصف الأشعرية ونصف الاعتزال عند محمد عبده إلى الاعتزال الكامل عند أصحاب الطبائع، ومن ديكارت وكانط عند عثمان أمين إلى اسبينوزا وفولتير.
-
(٢)
وفي الشام بدأت حركة إصلاحية لا تعتمد على تحليل العقل بل على تحليل ظاهرَتَي الاستبداد والفتور؛ استبداد الحكام وفتور المحكومين، ففي «طبائع الاستبداد» لا يذكر العقل مباشرة بل يذكر التناقض بين الاستبداد والعلم، فليس غرض المستبد أن تنور الرعية بالعلم، ومن العلم الحكمة النظرية والفلسفة العقلية، والمستبد لا يخاف من العلوم كلها بل تلك التي توسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه؛ لذلك كان العوام قوات المستبد قوته، يذبحون أنفسهم بأيديهم.٩وفي «أم القرى» في الاجتماع الخامس يتحدث الكواكبي عن الاجتهاد والتقليد دون الحديث عن العقل صراحة، فأقام الشافعي مذهبه على مبادئ اللغة وحدها، وأدخل أبو حنيفة في مذهبه بعض القواعد المنطقية، ثم توسع الأصوليون في ذلك حتى ابتعدوا عن روح الدين العملية، فأضروا أكثر مما نفعوا.١٠ وتعصب كل فريق لمذهبه وقلده، فضاع الاجتهاد لحساب التقليد،١١ ولا فرق بين القدماء أو بين من قلده من المحدثين الغربيين، فالتقليد واحد مع اختلاف المقلد، لا فرق بين أنصار المذاهب الفقهية أو الفئة المتفرنجة.
-
(٣)
أما المدرسة الإصلاحية الأكثر تأثيرًا واعتمادًا على العقل فهي المدرسة المصرية التي أسسها الأفغاني وتلاميذه، محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا والتي انتهت إلى جماعة الإخوان المسلمين، ففي «الرد على الدهريين» للأفغاني تتم سعادة الأمم بعدة أمور منها «صفاء العقول»، من كدر الخرافات وصدأ الأوهام، فلو تدنس العقل بعقيدة وهمية لقامت حجب كثيفة بينه وبين الواقع، وقد تُوقِف خرافةٌ العقلَ عن حركته الفكرية فيصدق كل وهم وظن مما يبعده عن الكمال، وصفاء العقول هو أول ركن بُنِي عليه الإسلام بفضل التوحيد وتطهيرها من الأوهام؛١٢ لذلك قامت عقائد الأمة على البراهين القويمة والأدلة الصحيحة اعتمادًا على العقل بعيدًا عن الظن والوهم، وقيد الأغلال أهون من قيد العقول بالأوهام، والعقل أشرف مخلوق؛ فهو عالم الصنع والإبداع لا يعطله إلا الوهم والجبن، وكل شيء في هذا العالم خاضع للعقل، والمستحيل اليوم يصبح ممكنًا غدًا.١٣ والفضائل حسنة في ذاتها، والرذائل قبيحة في ذاتها،١٤ والعقل قادر على إدراكهما معًا، والإرادة قادرة على فعل الأولى وترك الثانية؛ فالعقل وحرية الاختيار كلاهما ركنا أصل العدل عند المعتزلة.
-
(٤)
وتمثل «رسالة التوحيد» لمحمد عبده التحول إلى منتصف الطريق، من الأشعرية إلى الاعتزال؛ فقد ظل محمد عبده أشعريًّا في التوحيد، نظرية الذات والصفات والأفعال، ولكنه تحول إلى معتزلي في العدل، في الحسن والقبح العقليين؛ فعلم التوحيد لا ينشأ بالتقليد،١٥ والعقل قادر على التمييز بين الحسن والقبيح في المحسوسات والمعقولات والنافع والضار في الشرعيات أو الفضيلة والرذيلة في الأخلاقيات حتى ولو كان عددًا قليلًا عن أصفياء البشر، وقد أجمع عليه العقلاء في كل ملة. كمال الله يعرف بالعقل، والأفعال الاختيارية تعرف أيضًا بالعقل، بل إن مبدأ العقل يبقى للإنسان بعد موته للحساب والعقاب، وقد وهب الله للإنسان ثلاث قوى: الذاكرة والمخيلة والمفكرة، وكلها مظاهر للعقل، وليست عقول الناس سواءً في معرفة الله أو الحياة بعد الموت؛ نظرًا للتربية والتكوين والاستعداد. ومع ذلك، قد لا يستقل العقل البشري في كل شيء ويحتاج إلى عون خارجي وهو النبوة،١٦ إن منزلة النبوة من الاجتماع هي منزلة العقل من الشخص أو منزلة النظر من العمل،١٧ والأصل حمَلَ الإسلام على التقليد ودافع عن العقل،١٨ وأعلن استقلال العقل والإرادة، وهما أصلا العدل.١٩وردًّا على سؤال تلميذه محمد رشيد رضا عن الحاجة الماسة إلى تأليف كتب تناسب حاجة العصر في الترتيب والسهولة، ومراعاة عقول المسلمين، رد الشيخ ضاربًا المثلَ بعلم الكلام الذي كتب فيه «رسالة التوحيد» تحقيقًا لهذا المطلب، فما هو موجود تكرار لما عرفه الناس من واصل بن عطاء مؤسس الاعتزال باعتزاله مجلس الحسن البصري دون معرفة هذا الفكر الجديد ومنشئه وما سبب قول الأشعري بأن الوجود عين الموجود؟ ومتى دخلت الفلسفة في كتب العقائد؟ وما الهدف من ذلك؟ وهو ما قد يوجد في الكتب الإفرنجية.٢٠وفي «الإسلام بين العلم والمدنية» تقوم دعوة الإسلام، التوحيد، على النظر العقلي وتوجيه العقل نحو النظر إلى الكون واستعمال القياس الصحيح، فأطلق العقل البشري الفطري دون قيد للتفكُّر في السموات والأرض؛ لذلك كان النظر أول واجبات المكلف، بل إن الإعجاز القرآني أيضًا يعرف بالاستدلال وليس فقط بالتأثير في النفس، الأصل الأول للإسلام هو النظر العقلي والإذعان له.٢١ والأصل الثاني تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض؛ فالعقل أساس النقل كما هو الحال عند المعتزلة بل والفقهاء مثل ابن تيمية في «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول»، و«درء تعارض العقل والنقل»،٢٢ فإذا لم يحل التعارض فإما التفويض وإما التأويل. والأصل الثالث البعد عن التكفير احترامًا لاجتهاد الآخرين وحق الاختلاف. والأصل الرابع الاعتبار بسنن الله في الخلق، فالعقل والطبيعة نظام واحد. والأصل الخامس القضاء على السلطة الدينية؛ فالعقل والثورة نظام واحد كذلك. والأصل السادس حماية الدعوة لمنع الفتنة وعدم التفرق. والسابع مودة المخالفين في العقيدة، والثامن الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.٢٣وكانت النتيجة انشغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية والكونية وإنشائهم دور الكتب والمدارس.٢٤ وبرع العرب في العلوم الرياضية والطبيعية، وشجع الخلفاء العلم والعلماء؛ فالجمود ليس حجة على المسلمين، فقد انطلق الدين بالعقل في سعة العلم.٢٥ويتعاون العقل مع الوجدان على التأمل والنظر والإدراك المباشر والبداهة. العقل للخارج والوجدان للداخل. العقل لظواهر الطبيعة والوجدان لظواهر النفس؛ لذلك يرى رشيد رضا أن «رسالة التوحيد» موجهة إلى العقل والوجدان لا مجرد تقرير وجيز للبرهان.٢٦ وهو في نفس الوقت العقل العلمي الذي يبحث في الأسباب والغايات.٢٧و«إصلاح العقل» أحد بنود إصلاح الأزهر المعنوي، إصلاح العقل بالاستقلال في العلم والفهم.٢٨ ووظيفة المفتي ليس التقليد بل الاجتهاد.٢٩ ولقد أعتق الإسلام الأفكار من رق التقليد وحرَّر العقول من ذل الأسر والعبودية.٣٠ والشجاعة في الحق رفع قيد التقليد ووضع قيد الدليل، وأسوأ من المقلد المستهزئ؛ لأن المقلد قد يتحول من التقليد إلى الاجتهاد إذا تراءى أمامه الدليل.٣١وفي حوار الشيخ مع سبنسر، وبالرغم من أن الفيلسوف البريطاني تطوري النزعة مادي الاتجاه آلي النظرة إلا أنه ينعى على الغرب محو الحق من العقول، واستبدلوا بالعقل القُوى التي أدَّت إلى الحروب بين الأمم الأوروبية، والدواء ليس العلم بل الرجوع إلى الدين.٣٢وينبه محمد عبده أربع مرات على «خطأ العقلاء»، وهو نقل النموذج الغربي المنقول من الكتب والمطالعات على واقع مخالف وبيئة مغايرة؛ فقد أغفلوا خصوصية تجارب الشعوب، وأن تجربة شعب لا يمكن تطبيقها على شعب آخر دون مراعاة للظروف النوعية للشعب المنقول إليه بل ونوعية التجربة للشعب المنقول عنه؛ فالأمم في أحوالها العمومية كالأشخاص في أحوالها العمومية، لكلٍّ منها فرديته.٣٣ إنما الحكمة في معرفة طبائع كلٍّ من التجربتين ثم التحول تدريجيًّا بعوائد التجربة والعادات المنقول إليها نحو التحسين والرقي حتى لا ينخلع الناس عن عاداتهم فيصبحوا مسخًا لا هو بالقديم ولا هو بالجديد، وهو حال النخبة المثقفة المنبهرة بالغرب.٣٤وبدلًا من تقليد العقلاء النموذج الغربي فإنه من الأفضل التعرُّف على أسباب رقي الغرب ثم الأخذ بها؛ أي العودة إلى الجذور وليس مجرد اقتطاف الثمار وعيش تجربة الرقي ومعاناة آلام المخاض.٣٥ وكانت البداية بالنفس أي تغيير عادات الناس من الذهن والقلب، ونزع جذورها من الداخل قبل الخارج، هكذا حدث التقدم في الغرب بنزع جذور التخلُّف من الذهن وتصحيح مسار العقل من العقل المدرسي إلى العقل الحديث، من العقل الناقل الحافظ إلى العقل الفاهم المستدل.٣٦ومن خطأ العقلاء أيضًا تبرير الحجر الذي يضعه المتسلطون على الأهالي تقييدًا لحرية الرأي، وهجوم الشرطة على الناس ليلًا فيما يسمى «الكبسة» أو «زوار الفجر» بلغة عصرنا. واجب العقلاء هو تخليص رقاب الناس من هذا القهر أسوة بالأمم المتمدنة في حرية الفكر، قولًا وعملًا، للناس، والرقابة على الحكم، والاعتراض على مظاهر الفساد.٣٧ لا يعني ممارسة الحرية التفوُّه بألفاظ تخدش عقائد الناس، ما فعله الأوروبيون في ذلك خطأ فاحش، قلَّده العقلاء في بلادنا بالرغم من أن الظروف غير ملائمة،٣٨ ومع ذلك يظل الحكم للصفوة المستنيرة.٣٩
-
(٥)
وقد استمر صاحب المنار في العقلانية الإصلاحية إلى أن اندلعت الثورة الكمالية في تركيا في ١٩٢٣ وقضى على الخلافة، فارتد سلفيًّا خشية من الإصلاح بعد أن نجح حزب الاتحاد والترقي وجماعة تركيا الفتاة في الاستيلاء على السلطة في عاصمة الخلافة وخشية أن يتكرر ذلك في باقي أقطار العالم الإسلامي، كان الإصلاح الأول قبل الكبوة يمثِّل روح الأستاذ الإمام ضد الجبر والتوكُّل وترك الأسباب ورفض الرأي الآخر والجهل والخرافة والتقليد.٤٠قبل أن يرتد رشيد رضا سلفيًّا كان تلميذًا وفيًّا للأستاذ كما يبدو ذلك في «الأمالي الدينية» أو «العقيدة المنارية» لعام ١٩٠٠–١٩٠١، فالدين والعقل صنوان، الإيمان تصديق العقل، والعقل برهان الإيمان، لا يوجد في الدين ما يعارض العقل، ولا يوجد في العقل ما يناقض الدين، وإن تناقض ظاهر النص مع العقل أُوِّل النص؛ فالعقل أساس النقل، العقل يقين والنص باعتباره لغة ظن. وما أكثر الآيات التي تحث على التفكير والتعقُّل وطلب البرهان.٤١ ومن هنا أتى خطر التقليد وضرورة الاجتهاد،٤٢ وقد أوجب العلماء النظر والاستدلال على من يقدر عليه، وتركه عصيان.٤٣ وإذا كان الناس أربع طبقات؛ المجتهدون والعلماء والمقلدون ومن لا يعرفون من الإسلام إلا الظواهر فأعلاهم مرتبة المجتهدون.٤٤وفي الدرس الرابع من «الأمالي الدينية» «أحكام العقل» يتبنَّى رشيد رضا النسق الأشعري القديم الذي بدأته «العقيدة النظامية» للجويني، والذي يبدأ بأحكام العقل الثلاثة: الواجب والممكن والمستحيل؛ فالإيمان هو تصديق العقل بقضايا الدين جزمًا أو ظنًّا، والعقلي هو العادي والمستحيل هو غير العادي، فالعقل والواقع أيضًا صنوان.٤٥وفي «شبهات النصارى وحجج الإسلام» يرد رشيد رضا على إنكار فرح أنطون في «الجامعة» أن الإسلام دين العقل.٤٦ ويثبت أن الإسلام دين العقل بالكتاب والسنة، ولماذا يكون الإسلام عدوًّا للعقل ويمكن هدمه بالعقل وأنه ضد العلم مثل باقي الأديان والوقوع في القياس المستحيل؟٤٧ فالإسلام بالنص دين العقل والعلم، ولا يكفي فيه الظن، أصوله عقلية، وعقائده برهانية، وفي حالة تعارض العقل مع السمع يثبت العقل ويؤول السمع أو يفوضه.٤٨ وظل الأمر كذلك حتى العقائد المتأخرة التي تمَّت صياغتها بالشعر، وهو ما أكده المعتزلة في العقائد والرازي في التفسير. ونقد الغزالي الفلاسفة في «تهافت الفلاسفة» نقدًا عقليًّا لظنونهم في الإلهيات، وليس هدمًا للعقل، فبإجماع الأمة الإسلام دين العقل، ووحد الفلاسفة بين الدين والعقل، وكما عرض ذلك ابن رشد في «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»؛ فالشرع الإسلامي أوجب النظر بالعقل وجعله أساسًا للعقائد، فالنظر أي الاعتبار واجب بالشرع، ويمكن استنباط الشرع بالقياس العقلي، بل إن ابن حزم قبله أثبت قواعد المنطق بنصوص الكتاب والسنة، وقد رد ابن رشد على الغزالي في «تهافت التهافت»، بل إن ابن رشد نقد الأشاعرة في «مناهج الأدلة»؛ لأنهم يسيئون استخدام العقل، ويسيئون تأويل النقل، ويتفق جميع الفلاسفة على ذلك، الكندي والرازي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن باجه.وفي «يسر الإسلام وأصول التشريع العام» يجيب رشيد رضا على عشر مسائل عن كمال الدين ويسره والقرآن والرسول وأمور الدنيا والإسلام وكراهية كثرة السؤال وذم الابتداع، وأن الإسلام دين توحيد واجتماع، وأكبر المسائل هي العاشرة عن القياس والرأي والاجتهاد بحيث تشمل تسعة أعشار الكتاب.٤٩ يعرض لإبطال ابن حزم القياس والرأي ويقارنه برأي ابن القيم ويجمع بين الإنكار والإثبات؛ فالرأي ثلاثة أقسام؛ رأي باطل ورأي صحيح ورأي موضع الاشتباه؛ الرأي الباطل هو المخالف للنصوص، والكلام في الدين بالخرص والظن، والرأي المتضمن التعطيل، وما يؤدي إلى البدع والقول بالاستحسان، والرأي المحمود رأي الصحابة، وما يفسر النصوص، ورأي جماعة الشورى، والاجتهاد الذي أجازه الصحابة فيما لا نص فيه.٥٠لقد أخطأ نفاة القياس برد القياس الصحيح خاصة المنصوص على علته وتقصيرهم في فهم النصوص وتحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه واعتقادهم أن عقول المسلمين ومعاملاتهم كلها باطلة، بينما أخطأ مثبتو القياس في شمول النصوص وتفاوت الأحكام فيها وإغنائها عن القياس الصحيح وليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، مثال ذلك الربا في علته وحكمه.٥١ وهو ما انتهى إليه الشوكاني أيضًا في الاستدلال بالقرآن وبالحديث وبالإجماع على القياس. والقياس الصحيح هو بحث في التزام النصوص في العبادات واعتبار المصالح في المعاملات كما فعل مالك والطوفي والشاطبي في مسألة المصالح.٥٢وبعد الردة كتب رشيد رضا «الوحي المحمدي» عام ١٩٣٣ بالإضافة إلى عنوان فرعي طويل «ثبوت النبوة بالقرآن ودعوة شعوب المدنية إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية والسلام».٥٣ ويتخلله رد على المستشرقين كنموذج لموقف «الإفرنج» مثل درمنغام، وفيه يتم الانحياز إلى الموقف السلفي؛ فالعقل والعلم لا يغنيان عن هداية الرسل،٥٤ ومع ذلك تظل بقايا تعاليم الأستاذ الإمام في المقصد الثالث من مقاصد القرآن الإسلام دين الفطرة السليمة، والعقل والفكر، والعلم والحكمة، والبرهان والحجة، والضمير والوجدان، والحرية والاستقلال، يمنع التقليد والجمود واتباع الآباء والجدود، ويدحض شبه التقليد ويعطي البراهين على الاجتهاد.٥٥ ففي حين غاب لفظ العقل من الكتاب المقدس حضر في القرآن أكثر من خمسين مرة ومع أولي الألباب أي العقول بضع عشرة مرة، وكذلك أولي النهى، وذكر الفعل مئات المرات مما يدل على أن العقل هو فعل التعقل، وأبطل الإسلام التقاليد الدينية التي كانت حجرًا على العقل، ومن تجليات العقل العلم والحكمة، والإسلام دين الحجة والبرهان، أقام البرهان العقلي على بطلان الشرك، والإسلام دين القلب والوجدان والضمير، وكلها مرادفات للعقل.٥٦ وقواعد الاجتهاد من النصوص كما وضعها علم القواعد الفقهية.٥٧وفي «الدين والوحي والإسلام» للشيخ مصطفى عبد الرازق تلميذ الأستاذ الإمام لا يذكر العقل صراحة كجامع مشترك بين هذه المفاهيم الثلاثة، ولكن يذكر في الدين الصلة بين الدين والفلسفة عند الفلاسفة الإسلاميين.٥٨ والتوحيد بينهما عند ابن حزم في «الفصل في الملل والنحل»، والشهرستاني في «الملل والنحل»، وابن رشد في «فصل المقال»، وابن سينا والفارابي في «تحصيل السعادة». فالموضوع واحد؛ الحق، والغاية واحدة؛ الكمال، وإن اختلفت الطرق؛ العقل أو الوحي، الظاهر للجمهور والباطن للخاصة.٥٩
وبمناسبة تعريب طه حسين ومحمد رمضان كتاب «الواجب» لجيل سيمون الذي أراد بسط الفلسفة على الحياة العملية، فالفلسفة هي علم الحياة، علَّق مصطفى عبد الرازق بضرورة تخليص أذهان الناس من سوء الظن بالفلسفة، ويعترض على جعل الفلسفة نصيرًا للدين؛ فذلك مضرٌّ بالفلسفة والدين معًا، فالدين إيمان والفلسفة رأي يمكن التعاون بينهما على إسعاد الإنسان، الدين عن طريق القلب والعواطف، والفلسفة عن طريق النظر والاستدلال، القلب حر في الإيمان، والعقل حر في الفهم، الفلسفة لا تعادي الدين ولكنها لا تخدمه.
ويستمر العقل الإصلاحي عند محمد فريد وجدي، فمن ضمن مقاصد القرآن إقامة سلطان العقل، وإعلان حرية النظر، وهدم صنم التقليد.٦٠ -
(٦)
وينتقل العقل الإصلاحي من الأزهر وبالإضافة إليه إلى أساتذة الجامعات مثل محمود قاسم (١٩١٣–١٩٧٣)، وعثمان أمين (١٩٠٨–١٩٧٨)، وتوفيق الطويل (١٩٠٥–١٩٩١). فعند محمود قاسم العقل هو أداة الإصلاح، والرشدية العقلانية هي النموذج.٦١ فابن رشد العقلاني غير تأويلات شراحه، التأويل الأفلاطوني الأفلوطيني أو المادي الأرسطي الملحد أو الذي يقول بالحقيقتين، للخاصة وللعامة. ابن رشد هو الذي يوحد بين الحكمة والشريعة، ويجعل النظر واجبًا بالشرع،٦٢ ويخصص دراسة لموضوع «النفس والعقل» مع مقارنة بين فلاسفة الإغريق وفلاسفة الإسلام،٦٣ وهو الذي أعد الطبعات العربية الأولى لشروح وتلخيصات ابن رشد، وهو أيضًا المعتزلي الفيلسوف الذي ساهم في إصدار بعض أجزاء «المغني» للقاضي عبد الجبار، ولم تكن له أصول غربية بالرغم من ترجماته لبعض مؤلفات الوضعية الاجتماعية.وتعتبر «الجوانية» ممثلة للعقلانية الإصلاحية التي يصعب فيها التمييز بين أصولها التراثية عند الغزالي والتصوف بوجه عام وأصولها الغربية خاصة عند ديكارت وكانط وبرجسون ومصادرها الإصلاحية عند الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال بل وربما مصادرها اليونانية في الرواقية؛ فاللفظ نفسه عربي «من أصلح جوانيه أصلح الله برانيه.» وهو في نفس الوقت ترجمة للفظ الألماني «ترنسندنتال». بل ويمكن كتابة تاريخ الفلسفة كله ابتداء من هذا التمييز بين الجوانية التي يمثلها سقراط وأوغسطين وديكارت وكانط وبرجسون، والبرانية التي تمثلها التيارات المادية مثل الوضعية والماركسية.٦٤ويتوجه العقل الإصلاحي إلى مجال الأخلاق في جملة أعمال «توفيق الطويل» (١٩٠٥–١٩٩١)، وهو عماد المثالية الأخلاقية التي تنحو نحو التوسط والاعتدال، فالمثالية المطلقة، أخلاق الواجب الصوري، والمادية والوضعية والماركسية والتطورية كلاهما تطرف، على طرفي نقيض، والعقلانية الإصلاحية وسط بينهما، مثالية معتدلة أو معدلة تنحو نحو الواقعية الإنسانية طبقًا لمبدأ «عدم جواز تكليف ما لا يطاق».٦٥وهي نفس العقلانية الإصلاحية عند محمد عبد الهادي أبو ريدة (١٩٠٩–١٩٩٣) تأصيلًا في النظام من أئمة الاعتزال والكندي في رسائله الفلسفية والعلمية وابن الهيثم في «ثمرة الحكمة»، تعيد عرض موضوعات علم الكلام القديم خاصة الطبيعيات بمنهج جديد وهو التأمل العقلي والبرهان النظري.٦٦
-
(٧)
وفي مرحلة التحول من العقلانية الإصلاحية إلى الحركات الإسلامية المعاصرة يظهر «التراث في ضوء العقل» يغلب عليه الطابع السياسي أكثر من الطابع العقلاني.٦٧ فالمعتزلة مثل الحسن البصري، والزيدية مثل القاسم الرسي، والإمامية مثل الشريف المرتضى، يتقلص أصل العدل في خلق الأفعال أي في الحرية فحسب بل والحرية السياسية دون الحسن والقبح العقليين أي العقل.٦٨ والمعتزلة قوة سياسية في المناطق التجارية، ونشأة العقلانية الإسلامية تحوَّلت إلى مجرد خطابة وفتوحات. و«العقل والحكمة» تحليلات لآياتهما دون موقف أو سجال. و«العقل ومكانته في الإسلام» نظر في المعجزات. و«عقلانية الإسلام» مستمدة من القرآن الكريم وليست خارجة عنه.٦٩ والطهطاوي هو من دافع عن الحريات السياسية دون ذكر العقلانية والتنوير بعد أن تماهيا مع الغرب المناهض للدين.٧٠وخفتت العقلانية الإصلاحية وضعفت أركانها إلا من إعلان النوايا كما هو الحال في «النظرية الإسلامية للعقل»؛٧١ فهناك إسلامية للعقل تجعله عقلًا إسلاميًّا، تدفع عنه بعض الشبهات مثل التصديق القلبي للنص، وتبرير أنظمة الحكم، والوجدانية، وعدم القدرة على مواجهة التيارات، وعقيدة الجبرية، وتبرير ما يحدث في العالم من شرور وآثام.٧٢ ومن مظاهر تخلف العقل المسلم الآن تحجيم العقل بالشريعة وبعض المعتقدات التي أضرَّت بالعقل مثل التقليد، لقد وصف القرآن العقل وبيَّن وظائفه في معاني اللفظ المختلفة، كما أرشد إلى تربية العقل وحسن استعماله وتأسيسه على الأخلاق، جمعًا بين العقل النظري والعقل العلمي، كما ظهرت نفس المعاني في السنة وعند الصحابة.٧٣ وهو العقل الذي منه خرج الفهم المستنير للدين، وعليه تأسس العلم، وتأثيره في أوروبا قبل أن ينتكس بسبب الخوض في الإلهيات، وغياب الاعتزال، والانفصام بين القيادة السياسية والقيادة الفكرية، والنظرة التجزئية للقضايا، وعدم مراعاة سنن الكون، وليس مستحيلًا أن يعود العقل الإسلامي إلى الانفتاح من جديد.٧٤
وبعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧ وظهور المشاريع العربية المعاصرة تم تجاوز القسمة التقليدية الموروثة منذ عصر النهضة العقلانية الإصلاحية، والعقلانية الليبرالية، والعقلانية العلمية العلمانية إلى مشاريع جديدة تحت «نقد العقلانية» بفروعها الثلاثة: «نقد العقل الإسلامي» لمحمد أركون وريث العقلانية الإصلاحية، و«نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري وريث العقلانية القومية. و«نقد العقل الغربي» لمطاع صفدي وريث العقلانية العلمية العلمانية.
ثالثًا: العقلانية الليبرالية
وتعني العقلانية التي استقت مصادرها من فلسفة التنوير في الغرب خاصة عند الطهطاوي في «تخليص الإبريز» و«مناهج الألباب» وخير الدين التونسي في «أقوم المسالك». ويتعادل فيها المصدران القديم والجديد.
-
(١)
ففي «تخليص الإبريز» للطهطاوي تقوم الشريعة الإسلامية على العقل والمصلحة، وعلى التحسين والتقبيح العقليين والاستصلاح؛ ومن ثم لا تعارض بين التراث الإسلامي والتراث الغربي، علوم الأنا وعلوم الآخر، دار الإيمان ودار الكفر، دار القرب ودار البعد، دار الرخص ودار الغلاء، الشريعة أساس الحكم، والحكم الشرعي والشرف الذاتي نفس الحكم، فالشرع والوجود نفس الشيء، الشرع شرف الوجود، والوجود تحقق الشرع، العقل والشرع كلاهما تأكيد على المعرفة الوجدانية والتجربة الحية، فالإنسان على الفطرة يعرف بالوجدان أولًا ثم تحصل المعارف بالصدفة وبالإلهام وبالإيحاء؛ ومن ثم يمكن أن تتقدم الأمتان، أمة الإسلام والأمم الغربية، الأولى بحكم الشرع، والثانية بحكم العقل، وكلاهما يقومان على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين. قاعدة الاعتزال الأول وأحد أصوله الخمسة بالرغم مما يظهر من ثنايا الطهطاوي من أشعرية ظاهرة، لا عجب إذن أن تتقدَّم أمة الإسلام، فهي أولى بسائر العلوم الحكمية والفنون والعدل والإنصاف، وقد تقدَّمت الأمة الفرنسية كذلك لإقامة علومها السياسية على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين كما بدا ذلك في «روح الشرائع» لمونتسكيو، ابن خلدون العرب كما أن ابن خلدون لدينا هو مونتسكيو الشرق.٩١ والأمة الفرنسية إحدى الفرق غير الإسلامية بتعبير القدماء ولكنها من حيث قاعدة التحسين والتقبيح العقليين تتفق أو تختلف مع الفرق الإسلامية. فالدين والعمران شيء واحد، والشريعة مثل السياسة، والعلوم الشرعية على منوال العلوم السياسية، والأنبياء مثل الحكماء كما قال الفلاسفة القدماء، لا فرق إذن بين حضارة الأنا وحضارة الآخر، بين الدين والدنيا، بين التنزيل والتأويل، بين النقل والعقل، بين الموروث والوافد بناءً على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين. «الكرنتينة» مثلًا أي العزل الطبي فعل حسن؛ وبالتالي حكم شرعي عندنا وحكم عقلي عندهم،٩٢ وقد ظهر الإسلام ظهورًا تلقائيًّا في الغرب عن طريق رفض النصرانية العقائدية الشعائرية وحصرها في مجرد الشكل ثم قيام الحياة العامة على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ومنها الحرية وحق المعارضة السياسية وهي عندنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقد رفض الأوروبي الدين لسوء سمعته ومخالفته للعلوم الطبيعية، وعرف تلقائيًّا التسامح والعقل والعلم وجميع قيم التنوير، إن ما تحتويه «الشرطة» أي الدستور الفرنسي من تقييد لسلطة ملك فرنسا تتفق مع الكتاب والسنة من حين المضمون؛٩٣ فالعدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وقد ترجمها الطهطاوي لبيان اعتمادها على العقل ثم شرحها. وتبدو متفقة تمامًا مع العلوم الشرعية وعلم الفقه.٩٤ لا فرق إذن بين علوم الأنا وعلوم الآخر؛ إذا ما قام كلاهما على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين.٩٥ وفي «مناهج الألباب» «الحالة المستحسنة» و«الأمور المستحسنة» هي التي تتفق مع العقل والشرع؛٩٦ فالاستحسان مصدر من مصادر التشريع عند المالكية والحنفية.والأحكام الإسلامية تقتضي تسوية جميع الناس في العدل والإنصاف، ومن واجب علماء الشرع الدراية بالمعارف البشرية كالعلوم الحكمية والعملية، كما تقتضي الأحوال والمعاملات العصرية تنقيح الأقضية والأحكام الشرعية بما يوافق مزاج العصر دون شذوذ، ومن لم يحمل هم المسلمين فليس منهم، وليس كل مبتدع مذمومًا، وأن المبتدع النافع يقع موقع الاستحسان.٩٧وفي «المرشد الأمين للبنات والبنين» يبدو العقل أشبه بالعقل الصوفي؛ فهو العقل النوراني في القلب الإنساني في مرآة للعارف الفاضل للتمييز بين الحق والباطل، فالعقل المنير رسول قبل النبي، الرسول الحقيقي هو المشرع، هو العقل والنبي، الرسول مبين لما يقرر العقل؛ فقد أفادت العقول قبل الشرع نوعًا من التدبير؛ إذ يميز العقل الراجح الصحيح النظر الخالي من الموانع بين الحق والباطل، ويؤيد رسالة الأنبياء، ويختلف الناس في درجة العقل طبقًا للمواهب الطبيعية؛ فعقول الأنبياء أرجح من عقول العلماء، وعقول العلماء أرجح من عقول العوام، وقدر التفاوت في العقول يكون التفاوت في إدراك الدين والدنيا، وإنكار شيء منهما إنما ناتج عن نقصان العقول، وهو أيضًا العقل الطبيعي المتأمل في ظواهر الكون.٩٨ وتستند الأحكام الطبيعية قبل التشريع إلى العقل، فلا فرق بين نظام الوحي ونظام العقل ونظام الطبيعة.٩٩
-
(٢)
وفي «أقوم المسالك» لخير الدين التونسي وطبقًا لقاعدة الحسن والقبح العقليين لا تعارض بين «التنظيمات» والشريعة الإسلامية؛ فكلاهما يقومان على القانون ويحقِّقان الحرية والعدالة والمصالح العامة، وتعلن المقدمة قيم العدل والعمران والعقل وحسن التدبير والعرفان والتعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان.١٠٠ فما حدث من تقدُّمٍ في البلاد الأوروبية موافق لنصوص الشريعة.١٠١ ولا ضير أن يوافق المسلم غير المسلم في الأفعال المستحسنة،١٠٢ فكيف يسوغ للعاقل حرمان نفسه مما هو مستحسن في ذاته ويمتنع عما به قوام نفعه بمجرد أوهام خياله واحتياط في غير محله، تقوم التنظيمات على العدل والحرية وهما أصلان في الشريعة وأساسَا الاستقامة في جميع الممالك، ولا فرق بين الديمقراطية الغربية والشورى الإسلامية، وتقييد سلطة الملك بمشاركة أهل الحل والعقد، وإثبات ذلك بالمنقول والمعقول.١٠٣ وقد لاحظ ابن قيم الجوزية «أن إمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق كان فهناك شرع الله ودينه».١٠٤الشريعة تقتضي التنظيمات، والشريعة لا تنافي التنظيمات السياسية المقوية لأسباب التمدُّن والعمران.١٠٥ والأمة الإسلامية قادرة على النهوض من جديد بما نهضت به الأمم الأوروبية بفضيلتي الحرية والهمة الإنسانية،١٠٦ وأن ما ينال به الأوروبيون من أساليب التمدن إنما هي «بضاعتنا ردت إلينا»،١٠٧ وكان ابن رشد هو الحلقة الوسيطة بين التقدم الإسلامي والتقدم الأوروبي،١٠٨ ومع ذلك غاب عن المؤرخين الإسلاميين مثل المسعودي وأبي الفدا والمقريزي «الكريتيك» أي النقد، فلم يقيِّموا الروايات بمقياس العقل، وقد أشار ابن خلدون إلى ذلك بعدم تحقُّق القدماء بصدق الروايات.١٠٩
-
(٣)
ويُعلن كتاب «الشعر الجاهلي» أنه استعمل منهج الشك الديكارتي الذي يقوم على التخلص من الأفكار القديمة الشائعة واستعمال منهج عقلاني جديد؛ فالعقل هو أعدل الأشياء قسمةً بين الناس، وهو منهج للبحث وللقراءة، للمؤلف والقارئ على حدٍّ سواء، وهو العقل السليم.١١٠ومع ذلك، تخاطر العقلانية الليبرالية باستعمال مفاهيم مثل «العقل المصري»، «العقل اليوناني»، «العقل الأوروبي»، «العقل الإسلامي»، «العقل الإنساني» لما توحي به هذه المفاهيم من بقايا عرقية وعنصرية ما زالت حية من القرن التاسع عشر عند رينان وجوتييه وجوبينوه في النصف الأول من القرن العشرين؛١١١ فالعقل لا جنس له مصريًّا أو يونانيًّا أو أوروبيًّا، بل الثقافة الوطنية هي التي يمكن أن توصف مثل الثقافة العربية أو الإسلامية أو الأوروبية، ولا توجد ثقافة مصرية خاصة منفصلة عن الثقافة العربية والإسلامية، والثقافة لا توصف بالعقل، العقل الإسلامي، بل بالحضارة مثل الثقافة الإسلامية، والخطر أيضًا في تعميم الأحكام مثل عدم اتصال «العقل العربي» بالشرق قدر اتصاله بالعقل اليوناني،١١٢ مع أن روح التوحيد في مصر لا يختلف كثيرًا عن روح التوحيد في آسيا خاصة البوذية والكونفوشوسية، بل لقد أثر الشرق كله في اليونان بما في ذلك مصر؛١١٣ فالعقل المصري عقل متوسطي نشأ حول بحر الروم.١١٤ولم تتغير طبيعة «العقل الأوروبي» باتصاله بالمسيحية وظل أوروبيًّا بالرغم من اعتبار الفلاسفة وقادة الرأي الحديث أن المسيحية عنصرٌ مكون للعقل الأوروبي، وأنه لا خطر عليه منها، ولم تمسخ المسيحية العقل الأوروبي ولم تخرجه عن يونانيته الموروثة ولم تجرِّده من خصائصه المتوسطية، فكذلك الإسلام لم يغير العقل المصري ولا عقلية الشعوب التي اعتنقته حول البحر الأبيض المتوسط، بل إن انتشار الإسلام إلى الشرق الأقصى قد ساعد على انتشار العقل اليوناني إلى آسيا في حين أغارت الأمم الوحشية غير المتحضِّرة على اليونان وكادت تطفئ نور العقل لديهم حتى انهارت الإمبراطورية الرومانية قبل أن يسطع نور العقل في أوروبا بفضل الترجمات العربية للفلسفة اليونانية، لا يوجد فرق حول البحر الأبيض المتوسط بين عقل مصري وعقل يوناني.١١٥ وكما أغارت الشعوب الهمجية على اليونان فقضت على عقله هاجم العنصر التركي مصر وقضى على عقلها اليوناني، وكما استعادت أوروبا العقل اليوناني في عصورها الحديثة فإن مصر قادرة على استعادته أيضًا في نهضتها الحالية.١١٦وتتحول العقلانية إلى سياسة تربوية في التعليم.١١٧ فمن أهداف التربية تهيئة الطالب لأن يكون صحيح الجسم قوي الخلق قوي العقل.
-
(٤)
وما زال الدفاع عن العقل قائمًا في هذا الجيل في «دفاعًا عن العقل»،١١٨ وهو ليس العقل النظري الخالص بل هو العقل الاجتماعي السياسي والثقافي والأدبي أي الرؤية العقلية لجوانب الحياة العامة من أجل تأسيس مجتمع عقلاني رشيد، وتضم النزعة التنويرية والروح العلمية أي توجيه العقل نحو الإنسان والمجتمع والطبيعة، لها رصيدها عند القدماء خاصة المعتزلة من متكلمين وأصوليين، ثم توارت بعد الغارات على العالم الإسلامي من الشرق والغرب من التتار والمغول مرتين والفرنجة في العصر الوسيط والعصر الحديث مرتين، بل وسيطرة الأتراك العثمانيين من الشمال، وفي نفس الوقت نهضت أوروبا بفضل العقلانية الإسلامية؛ ومن ثم لا فرق بين أئمة التنوير عند قدماء المعتزلة كالقاضي عبد الجبار والفلاسفة كابن رشد وفلاسفة التنوير في أوروبا في العصر الحديث. أما اليوم فقد وقع العرب في «وهم العقلانية» وما زالت أسسها لم تكتمل بعد، ووقع الأوروبيون في «ما بعد العقلانية» يحطمون ما بنوه ودافعوا عنه بأيديهم في بداية العصر الحديث، والتحدي الكبير كيف يتحوَّل العرب من مرحلة ما قبل العقلانية إلى مرحلة العقلانية، وكيف يتمسك الأوروبيون بالعقلانية ضد ما بعد العقلانية وما بعد الحداثة؟١١٩ويستلهم من التراث القديم قضية العقل والنقل من أجل تعقيل النصوص الفقهية ضد الجماعات الإسلامية المعاصرة وقولها بالحاكمية النصية دون تحكيم العقل.١٢٠ فالليبرالية لا تقبل الحوار مع الجماعات الإسلامية المعاصرة؛ وبالتالي تفقد أهم سماتها وهي قبول الرأي الآخر وعدم استبعاده كما تفعل الحركات السلفية.
-
(٥)
ومن المشاريع العربية المعاصرة «نقد العقل الغربي» لمطاع صفدي، فبعد ممارسة طويلة للفكر الغربي وتبني كثير من مصطلحاته المنقولة أو المعربة أو المنحوتة الغامضة حتى أصبح الفكر أسيرًا لمصطلحاته والرسالة حبيسة في خطابها بدأ التحول من الاستعارة إلى النقد. ويعني «نقد العقل الغربي» هنا إعادة كتابة الفكر الغربي على نحو موضوعي مع بعض وجهات النظر النقدية لمذاهبه الكبرى، فهو أقرب إلى التاريخ النقدي للتراث الغربي منه إلى «نقد العقل الغربي» وهو ما وقع فيه أيضًا «نقد العقل العربي» الذي هو في النهاية «نقد التراث الإسلامي».١٢١
رابعًا: العقلانية العلمية
وتعني العقلانية التي ارتبطت بالعلم الطبيعي في الغرب الحديث، وكما تمثلها شبلي شميل وفرح أنطون ونقولا حداد ويعقوب صروف وسلامة موسى وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا ومراد وهبة على اختلاف مرجعياتهم الفكرية الليبرالية عند زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا أو الماركسية عند مراد وهبة وإسماعيل المهداوي أو حتى الإصلاحية عند طنطاوي جوهري، ولا يظهر مفهوم «العقل» عند مؤسس التيار شبلي شميل.
-
(١)
ويؤصل فرح أنطون التيار العلمي العلماني في «ابن رشد وفلسفته»، قدمه لعقلاء الشرق أي للمفكرين والفلاسفة، ويتم الاعتماد أساسًا على «فصل المقال» لبيان اتفاق الدين والفلسفة، وذلك عن طريق التأويل.١٢٢وفي معرض السجال يرى محمد عبده أن الإسلام أكثر اتفاقًا مع العلم والعقل والمدنية من المسيحية في حين يرى فرح أنطون أنه لا فرق بين الإسلام والمسيحية أو أي دين آخر في معاداة العقل والعلم والمدنية بدليل وجود الخوارق والكرامات والمعجزات وهو الجانب اللامعقول في كل دين.١٢٣وتظهر مشكلة العقول في الفلسفة الإسلامية القديمة دون تطوير لها بالنسبة للعقلانية الحديثة؛ فالعقول أنواع، منها: العقل الفاعل البريء عن المادة، والعقل المنفعل أو المفعول وهو العقل الإنساني، الأول خالد والثاني فانٍ. الأول شمس العقول، واحد لا ينقسم والثاني مستقبل للنور ومتجزئ متفرد. ثم ينشأ اتصال بينهما من الأول إلى الثاني كي تتم المعرفة.١٢٤
-
(٢)
وقد يكون العقل العلمي هو العقل العضوي الجسمي النفسي الغريزي، لا فرق بين عقل الإنسان وعقل الحيوان من حيث إن كليهما ذكاء، ولا فرق بين العقل والمخ، بين التفكير واللحاء، بين النظر ومراكز الحس في الدماغ. الجسم يؤثر في العقل كما يؤثر العقل في الجسم، وهو أيضًا العقل الكامن المرتبط بالتحليل النفسي والقدرة على الكظم والقيام بدور الأنا الأعلى.١٢٥ والجنون يُطفئ نور العقل.
-
(٣)
وتتأصل العقلانية العلمية في التراث القديم سلبًا، بنقد اللامعقول فيه الذي يمثله التصوف دفاعًا عن المعقول الذي يمثله العلم.١٢٦ والحقيقة أن المسافة بينهما ليست كبيرة؛ فالعقل نور يتوهج اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وهي صور تشبيهية بعيدة عن العقل التحليلي، أقرب إلى الإشراق منها إلى العقل، وإلى التصوف منه إلى العلم، وإلى تأويل النصوص منه إلى وصف الظواهر، بالرغم من نية الكشف عن طريق العقل واختيار الجانب العقلي من تراثنا الفكري من أجل وصل الماضي بالحاضر؛ فالعقل مرتبط بالعاطفة وبالتجربة وليس بالأعداد المجردة أو الأشياء المادية، الغرب العالم، والشرق الفنان، ونحن نجمع بين العلم والفن، بين العقل والعاطفة، أصبح الغزالي هو ممثل العقلانية عند القدماء وليس ابن رشد، وهوسرل من الغرب الحديث وليس ديكارت، ويختلط العقل النظري بالعقل السياسي والفتنة الكبرى، ويأتي النظام والعلاف والجاحظ والجرجاني والتوحيدي وابن جني وابن الراوندي وأبو العلاء المعري وإخوان الصفا ونجم الدين الكبرى والسهروردي وابن عربي وابن تيمية والأشعري والكندي والفارابي وابن سينا جمعًا بين الكلام والفلسفة والتصوف والفقه، كما يحال إلى هيوم وليبنتز وديكارت وبيكون ووليم جيمس جمعًا بين التيارات العقلية والحسية التجريبية والعملية.
وفي النهاية لا فرق بين المعقول واللامعقول، بين طريق العقل وشطحات العقل، بين العقل النظري وشطحات الحالمين، بين المنطق والسحر والتنجيم.
و«قصة العقل» أشبه ﺑ «المنقذ من الضلال»، فالعقل يلتمس الطريق بينه وبين الوجدان وشائج قربى، ومع ذلك يتم الدفاع عن العقل.١٢٧ -
(٤)
وتتم مقاربة بين العقل البشري والعقل الإلكتروني والذاكرة الصناعية.١٢٨ ولا يستلهم أي مصدر تراثي أو غيره لتأصيل العقلانية العلمية المعاصرة لا الرازي الطبيب ولا ابن رشد ولا ابن خلدون، بل تدافع العقلانية العلمية عن المصدر الخارجي، وترفض مفاهيم «الغزو الثقافي» و«الأفكار المستوردة»،١٢٩ وترفض العقلانية العلمية أي تقارب بين العلم والإيمان باعتباره تزييفًا لهما معًا.١٣٠
-
(٥)
وينقد العقل الجدلي العقلانية العلمية الذي يفتقد إلى التحليل التاريخي (زكي نجيب محمود)، والعقلانية البرجماتية (جارودي، محمد عمارة)، والعقلانية الطبيعية المعادية للجدل (فؤاد زكريا)، والعقلانية العلوية المفارقة (العراقي)، ويحاول قراءة ابن رشد قراءة جدلية.١٣٣و«العقلانية الشاملة» ضد الماركسية والبرجماتية والغيبية وضد السفسطة والفلسفة الطفولية، فالماركسية نقد للعقل البرجوازي الرأسمالي الذي يشرع للوضع القائم، يحاول تحديد معنى العقلانية والفرق بينها وبين اللاعقل، والمساواة واللامساواة في العقل، والتمييز النفسي بين العقل والذهن والنفس، ودرجات خفض التفكير وتدمير العقل، ثم يحاول وضع مبادئ للعقلانية محولًا إياها إلى عقيدة، والدفاع عنها ضد ماركس واللاهوتيين وأعداء الفلسفة، والصلة بين العقلانية والفن، والتمييز بين العقل واللاعقل في المشاكل الذهنية والنفسية وأمراض العقل والنفس، وكله خليط من المعلومات من الثقافة الغربية الشائعة والتجارب النفسية الشخصية.١٣٤
-
(٦)
وقد يقع الفكر القومي في موقف شعوبي للعقل ووصفه بأنه عقل «عربي» كما فعل الغربيون من قبل في «العقل العربي»، والعقل الياباني»، في إطار السمات العامة للشخصية الوطنية.١٣٥