مستقبل الفكر الفلسفي العربي في عالم متغير١
(١) الموضوع والمنهج
إن هم التفكير في المستقبل يمثل تحديًا للمفكر الذي عادة ما توصف حضارته بأنها «ماضية»، سلفية، تقدُّمها مرهون بالعودة إلى ماضيها، وسلفها خير من خلفها، والتاريخ فيها يسير نحو الانحدار من النبوة إلى الخلافة إلى الملك العضود، من الأفضل إلى المفضول، ومن الإيمان الأقوى إلى الأضعف حتى ينتهي تمامًا كعلامةٍ من علامات الساعة!
والحقيقة أن هذا ابتسار، فالتفكير في الماضي موجودٌ في كل حضارة، وحلم العودة إلى العصر الذهبي أصل الطهارة وربما الثورة على الأمر الواقع من أجل تأسيس نظام مستقبلي جديد، وفي تراثنا القديم هناك عناصر سلفية نموذجية أصلية أقرب إلى الثبات، وهناك عناصر أخرى تقدمية متغيرة متطورة أقرب إلى الحركة، فالنبوة ليست فقط ماضيها بل أيضًا مستقبلها في المعاد، والأصل في الاجتهاد ليس فقط نموذجيًّا متناهيًا؛ لأن الفرع في كل عصر غير متناهٍ كما هو الحال في الاجتهاد أي التجدد المستمر والاستعداد للمستقبل بالتنظير في شكل القياس، وصحيح أن ابن خلدون قد صاغ فلسفة التاريخ تقدمًا وانهيارًا، قيامًا وقعودًا، نهضة وسقوطًا، من البداوة إلى الحضارة ثم إلى البداوة من جديد، ولكن الفكر العربي المعاصر أرَّقه هم المستقبل ووضع فلسفة التاريخ تقوم على التقدم المطرد عند الأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال، وبالرغم من تشاؤم الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، الليبرالية والقومية والماركسية نظرًا لما ألم بتجارب الحداثة من نجاحٍ نسبي أو فشل جزئي، فلا شيء يضيع هباء في التاريخ، والتراكم يبقى فإن الحركات الإصلاحية المعاصرة أكثر تفاؤلًا بقدرتها على الفعل وإن لم يكن على الفكر، وبتغيير نظم المجتمع ومسار التاريخ، وإن لم يكن بتغيير قوالب الفكر ومسار الحضارة؛ فالإسلام لم يعد غريبًا بل أصبح هو الحل، تُناديه الناس، وهو يطلب الناس.
والعالم قد تغير بالفعل سواء في التاريخ القريب أو التاريخ البعيد؛ فقد انقلبت حركة التحرُّر الوطني العربي على نفسها، وضاع الاستقرار الوطني أو كاد، وتراجعت القومية العربية وما تمثله من مبادئ الحرية الاشتراكية والوحدة، وانتهى عصر الثورة العربية في الخمسينيات والستينيات، وتحوَّلت الدولة من الدولة القوية إلى الدولة الرخوة، ويزداد فقر الفقراء، وغنى الأغنياء، وانتشر التعليم الخاص، ولم تقتصر الخصخصة على الاقتصاد وحده بل امتد إلى الثقافة والتعليم في المدارس والجامعات، وتم الصلح مع إسرائيل، وتكونت البدايات الأولى للدولة الفلسطينية المستقلة، ووقع الغزو العراقي للكويت لأول مرة في التاريخ العربي الحديث يغزو قُطْر عربي قطرًا عربيًّا آخر، وقد كان الغزو لمنابع النفط في الخليج متوقعًا من الشرق إيران أو من الشمال إسرائيل أو من الغرب أمريكا، وبدأ خطر التجزئة العرقية والطائفتين في العراق والشام والمغرب العربي، واندلع القتال الدامي في الجزائر بين الشرعية واللاشرعية، وقامت نظم حكم سياسي باسم الإسلام في السودان وبعده ثورة إسلامية في إيران، ووقع الانفصال في الجمهورية اليمنية وانتهى بحرب الوحدة، وتفاقمت معارك الحدود بين مصر والسودان، واليمن والسعودية، وازداد النشاط المسلح للإسلاميين في مصر، واستبعاد الحركات الإسلامية السياسية من العمل السياسي باستثناء الأردن، وحصار بلدين عربيين، العراق وليبيا، أمام عجز العرب عن الدفاع عن الكرامة. وعلى الصعيد الخارجي انهارت المنظومة الاشتراكية كلها بسرعة لم يشهد لها التاريخ من قبل وبحركات شعبية في أوروبا الشرقية وفي الاتحاد السوفيتي، وأصبح العالم ذا قطب واحد يتأثر به ويملي إرادته بوضوح على المنظمات والهيئات الدولية، وبدا واضحًا الصراع داخل أوروبا وأمريكا بين الحركات الإسلامية السلمية أو المسلحة والغرب خاصة في فرنسا وألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، وقامت الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى تتنازعها تركيا وإيران في الولاء، وتفاقمت الحرب الأهلية في أفغانستان، وعودة العرب الأفغان بعد انتصارهم على السوفيت ليستأنفوا النضال في العالم العربي، ووقعت مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك أمام عجز العرب وضعف المسلمين، وتسارعت الأحداث وتلاحقت دون أن يواكبها إيقاع موازٍ في السرعة للفكر العربي المعاصر عامة وللفكر الفلسفي العربي خاصة.
وهذه دراسة تصف ما هو كائن وفي نفس الوقت تتنبأ باحتمالات المستقبل كنوع من التوقع بناءً على الإحساس بالماضي والحاضر ودون تحليل علمي إحصائي دقيق كما هو الحال في العلوم الاجتماعية ودراسة «سيناريوهات» المستقبل، ولكنها لا تضع ما ينبغي أن يكون؛ فالماينبغيات أحكام أخلاقية وتمنيات ورغبات فردية قد ترتكن إلى رصيد تاريخي أو إلى سند واقعي بالرغم من أنها في حد ذاتها واقع باعتبارها حلمًا، هي أقرب إلى التأملات التي تعتمد على التجارب الحية الفردية والجماعية، والتأمل يخلق موضوعه، دون الاعتماد المباشر على الدراسات الميدانية الإحصائية، ويصعب تحديد مسار المستقبل على الأمد القريب أو على الأمد البعيد؛ فإيقاع التاريخ بطيء، والأحداث قد تتلاحق وقد يتواكب الفكر معها، والعقل العربي مخصب منذ عقدين من الزمن بالمرارة والعجز والضياع، ويحاول الخروج من الأزمة والنفق المظلم الذي أوجد نفسه أو وُجد فيه. وقد يحتاج مستقبل الفكر الفلسفي في العالم العربي إلى أمد طويل؛ فمنذ فجر النهضة العربية أي منذ ما يزيد على مائتي عام وقضايانا واحدة، تتكرَّر عند كل جيل، والحلول المرئية نمطية، والشعارات المرفوعة ربما لم تعد لها دلالات خاصة نظرًا لشيوعها حتى فقدت معناها وأثرها، والإصلاح والنهضة والتنوير والليبرالية والعلم والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة والوحدة والوطن والدولة والدستور والأصالة والمعاصرة والحداثة والهوية والقومية والتقدم والعقل وحقوق الإنسان والاستقلال … إلخ، كلها مفاهيم يعرفها الصغير والكبير، القاصي والداني منذ فجر النهضة العربية حتى الآن والواقع العربي يتردى يومًا بعد يوم فتزداد الهوية بين الفكر والواقع، بين الأسس النظرية والأهداف القومية.
(٢) الحالة الراهنة للفكر الفلسفي العربي
ويغلب على الإنتاج الفلسفي العربي طابع الكتب الدراسية المكررة نظرًا لوضع الأساتذة في الجامعات المصرية مثلًا وضيقهم الاقتصادي، وعيب هذا النوع من التأليف أنه ليس تأليفًا علميًّا فلسفيًّا، لا يثير قضية ولا يصنع إشكالًا ولا يحدد غاية أو هدفًا يقتصر على العرض والتكرار والتعريف بالموضوع، وغالبًا ما يكون شخصية قديمة أو حديثة من التراث القديم أو من التراث الغربي يعتمد على الدراسات الثانوية أكثر مما يعتمد على تحليل النصوص الأولى، وعادة ما تتم الدراسة ابتداء من نصوص مترجمة إذا كان الفيلسوف غير ناطق بالإنجليزية مما يجعل الدراسة أيضًا على نص ثانٍ وليس نصًّا أوليًّا، ويكون مقياس نجاح الكتب هو التوزيع الجامعي، وما يدرُّه من دخل على المؤلف والناشر، يكرر بعضها بعضًا، وينقل بعضها من بعض، والأسرع لمن يكتب في موضوع لأول مرة أو يعرض فيلسوفًا لم يتم عرضه من قبل حتى ينال قصب السبق، ولو كان فيلسوفًا أجنبيًّا فإنه يصبح مدافعًا عنه متحدثًا باسمه ويرفض أي نقدٍ له أو حتى حوار معه.
وإذا ما أعير الأستاذ إلى شبه الجزيرة العربية في الحجاز أو الخليج فإن موضوعات بحثه تصبح دينية صرفة، حنبلية الاتجاه، إيمانية المنهج، وتتحوَّل الفلسفة إلى تبرير للدين ودعوة له وتفقد استقلالها ومنهجها البرهاني، وتنشر الكتب الدينية والنصوص العقائدية، وإذا كان الموضوع غريبًا فإنه يتم عرضه دون موقف كلي أو رأي شامل باستثناء بعض الانتقادات هنا وهناك أو دون إطار عام أو موقف حضاري واضح، وتجري الرسائل العلمية بنفس الأسلوب من المشرف والطالب من أجل إعطاء الدرجات العلمية، وتجميع المواد وإعادة عرضها وتبويبها، وقلَّما تأتي رسالة تتجاوز النقل، من القدماء أو من المحدثين وتساهم في تقدم ملموس للعلم، تحول المفكر إلى ناقلٍ من التراث القديم أو من التراث الغربي، مهمته العرض والتعريف والتجهيز والتقديم والإعداد والتحقيق والنشر والترجمة دون قراءة أو تفسير أو تأويل أو نقد أو رفض أو إضافة أو إكمال أو تجاوز، مع أن القدماء ترجموا وعلقوا وشرحوا ولخصوا على مدى جيلين، حنين بن إسحق وإسحق بن حنين ثم بدأ التأليف المستقل عند الكندي في منتصف القرن الثالث الهجري.
وانتشرت فوق الواقع أسماء من التراث القديم فلاسفة ومتكلمين وصوفية وفقهاء وكأنها أتت من زمن سحيق ولا دلالة لها بالنسبة لأحوال العصر، كما ذاعت أسماء الفرق والمذاهب الفلسفية والكلامية، الإشراقية والعقلانية، والمعتزلة والأشاعرة والشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية فأصبح التراث من جانب والواقع في جانب آخر، وقد يتحزب البعض لفريق دون فريق، ومذهب دون مذهب كنوع من التفضيل واضعًا نفسه مع القدماء دون أن يحضر القدماء إليه، وعلى أقصى تقدير يكتفي ببعض الأسماء مثل «المعتزلة الجدد» أو «السلفيون الجدد» أو «الرشديون الجدد»، وكلها مناطق آمنة لا خوف منها، فالموضوع قديم والمعركة قديمة والأطراف قدماء، وانتشرت الأفكار والمذاهب القديمة فوق واقع جديد دون تطابق بينهما ونظرًا لتغير الظروف الاجتماعية والمرحلة التاريخية.
ونظرًا لعدم قدرة القديم على الجذب وتغليفه بتراث ديني ومقولات شرعية فقهية تحول البعض إلى التراث الغربي ينهلون منه؛ فالديكارتية والكانطية والهيجلية والبرجسونية أكثر قدرة على جذب الانتباه لما فيها من فكر جديد وبُعد إنساني ورؤية شاملة وعقلانية ندعو إليها ومنهجية نفتقدها. وقد ننقل المذاهب غير المشخصة مثل العقلانية، والتجريبية، والمثالية، والواقعية، والوجودية، والوضعية، والظاهراتية، والبنيوية، والتحليلية، والتفكيكية … إلخ، منتزعين إياها من بيئتها الثقافية ومن ظروفها التاريخية التي نشأت فيها، فانتشرت فوق الواقع طبقة أخرى من الفكر العربي مزاحمًا للطبقة الأولى، فوقها أو تحتها أو بجوارها، وتلتها عروض أزياء، أو بضائع مستوردة للنخبة القادرة على الاطلاع، فظلت محاصرة؛ لأنها لم تنشأ في البيئة الطبيعية، ولم يعرف الناس ماذا تختار؟ وأي مقياس تطبق؟ وظلت بلا أثر كبير على الفكر الفلسفي العربي وإن كان لها بعض الأثر على الثقافة الفلسفية العامة والفكر السياسي العام مثل البرجسونية وحزب البعث، والماركسية والناصرية، والليبرالية، وفكر الوفد أو التجارب الديمقراطية الحديثة في العالم العربي.
لذلك نشأت محاولات لإعادة عرض المذاهب الفلسفية الغربية من خلال الفكر الفلسفي القديم أو المعاصر حتى يكون للأولى أكبر قدر ممكن من الانتشار والاتساع أو العمق التاريخي المطلوب، فظهرت في هذا الجيل عدة كتابات حول تأصيل للإنسانية والوجودية في الفكر العربي (عبد الرحمن بدوي)، والشخصانية الإسلامية (الحبابي)، والماركسية العربية (عبد الله العروي)، والمثالية المعتدلة (توفيق الطويل)، ويكتفي البعض الآخر بتطبيق المنهج الغربي في التراث العربي مثل المنهج التحليلي (زكي نجيب محمود)، أو المنهج الظاهرياتي (أدونيس)، أو المنهج المادي الجدلي (الطيب تيزيني، صادق جلال العظم، حسين مروة، محمود أمين العالم)، أو المنهج الجواني (عثمان أمين)؛ ومن ثم يتم انتزاع مذهب أو منهج غربي من بيئته التي نشأ فيها ثم تصويبه على التراث القديم لينتقي منه ما يتفق معه ويترك ما يختلف، وفي كلتا الحالتين هو رد الكل إلى أحد أجزائه سواء كان في التراث الغربي أو في تراثنا القديم.
وفي كل هذه الاتجاهات الثلاث لتأسيس فكر فلسفي عربي جديد، نقل القديم وتكراره أو نقل الغرب وترجمته أو الجمع بين الاثنين على نحو انتقائي يغيب واقع المفكر وموقفه الحضاري، ويصبح الأمر مجرد مران ذهني أو حرفة فلسفية أو على أقصى تقدير هوى شخصيًّا أو مزاجًا أثيرًا يحتم هذا الاختيار أو ذاك من التراثين. انفصل العلم عن الوطن، والثقافة عن الواقع، والفلسفة عن عصرها، وأصبحت الفلسفة في مدرجات الجامعة في جانب وحياة طالب الفلسفة خارج الجماعة في جانب آخر، الكتاب في العقل والواقع في القلب، الفلسفة حرفة والحياة هواية، الفكر حياد والمجتمع التزام، أصبح الفكر الفلسفي نصوصًا على نصوص دون ردِّها إلى واقعها الذي نشأت فيه سواء الواقع الإسلامي القديم أو الواقع الغربي الحديث، وعز التفلسف أي استئناف كتابة النص عن طريق قراءته وإعادة إنتاجه من جديد في ظروف مخالفة وفي عصر مختلف وفي مرحلة تاريخية مغايرة.
وتحول الواقع إلى الفكر العربي المعاصر أو الخطاب السياسي المباشر؛ فالتحرُّر من الاستعمار، وحرية المواطن من القهر، وتوحيد الأمة بعد طول تجزئة، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وتنمية الموارد المادية والبشرية ضد التخلُّف والتبعية، والدفاع عن الهوية ضد التغريب، وتجنيد الجماهير ضد السلبية والاستكانة واللامبالاة، كل ذلك أصبح من هموم الكتَّاب والمثقفين والسياسيين بل والأدباء والفنانين بالأقاويل الجدلية والخطابية دون البرهانية، بل إن أستاذ الفلسفة الذي يتناول مثل هذه الموضوعات هو سياسي حزبي، خطابي انفعالي، تنقصه فنون الصنعة ودقة الصياغة، يهرب من الفلسفة الحرفية والمصطلحات العويصة: الترنسندنتالي، والديكاروني، والسينكروني، والشيمائية، والإبستيمية، والسيمائية، والسيمانطيقا، والهرمنطيقا، والنويز، والنوييم، والأبوخية … إلخ، وعاش الفكر الفلسفي ازدواجيتين، الأولى بين الماضي والحاضر والثانية بين الحاضر والواقع، وأصبح غريبًا عن ماضيه ومنعزلًا عن حاضره، وغير مؤهل لمستقبله.
(٣) تجاوز الحالة الراهنة: التأويل والرد والنقد
لا يعني نقل القديم وتكراره أو نقل الجديد وترجمته أو خطابية الفكر العربي المعاصر وحماسه أي استبعاد للأشكال؛ فالتراث ما زال حيًّا في الذاكرة الجماعية يولد نفس الفكر القديم بالرغم من اختلاف العصر والظروف، ويحرك جماعات سياسية لقلب نظم الحكم؛ ومن ثم كان مستقبل الفكر الفلسفي مرهونًا بكيفية التعامل مع هذا التراث القديم تجاوزًا للتكرار والاختيار الجزئي إلى إعادة البناء كله طبقًا لظروف العصر الحاضر، فما زالت العلوم القديمة دالة للعصر، فعلم العقائد لدى الشعوب التراثية هو علم الأيديولوجيات السياسية؛ ومن ثم يكون مسار علم العقائد في المستقبل هو التحول من علم الكلام إلى علم السياسة، من اللاهوت العقائدي إلى لاهوت التحرير، ومن الذات الإلهية إلى الذات الإنسانية بحيث يصبح العلم والقوة والحياة صفات للإنسان بدلًا من الجهل والعجز والموت، والسمع والبصر والكلام والإرادة بدلًا من المواطن الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، يراد له ويقرر باسمه في الحرب والسلام، ويعاد بناء النبوة كبعد تاريخي، والمعاد كمستقبل للإنسان، والإمامة كنظام الدولة؛ ومن ثم يمتلئ الفراغ السياسي النظري والعملي، وتنبع الأيديولوجية السياسية من قلوب الناس وثقافتهم الشعبية، كما يعاد إنتاج الفلسفة ترجمة وشرحًا وتلخيصًا وعرضًا وتأليفًا وإبداعًا في التراث المعاصر لنا وهو التراث الغربي كما كان اليوناني معاصرًا للقدماء من أجل الانتقال من مرحلة النقل للتراث الغربي إلى مرحلة الإبداع فيه؛ فالفلسفة ليست فقط لحظتها الأولى الماضية، علاقة الأنا العربي الإسلامي بالآخر اليوناني الهندي الفارسي بل علاقة الأنا العربي الإسلامي بالآخر الحالي الغربي والشرقي، ويعاد السؤال: الانفتاح على الآخر كما فعل الفلاسفة القدماء وكما يريد الغربيون المحدثون أم الانعزال عنهم خشية «التغريق» القديم كما أراد الفقهاء و«التغريب» الحديث كما يريد السلفيون؟ وأيهما أفضل المنطق الصوري القديم أم المنطق الشعوري الحديث حتى يتعلم الناس منهجًا في الحياة؟ وأيهما أكثر نفعًا: الطبيعيات العقلية التأملية القديمة أم الطبيعيات الشعرية الحديثة إحساسًا بالطبيعة، والتحامًا بها، وتحررًا من خلالها، وعودًا إليها، دينًا للفطرة؟ وأيهما أكثر قربًا للعالم: الإلهيات الثنائية القديمة؛ القدم والحدوث، والواجب والممكن، والصورة والمادة، والعلة والمعلول، أم الإلهيات التوحيدية التي توحد بين الروح والطبيعة؟ إن الفكر الفلسفي القديم في حاجةٍ إلى إعادة بناء وتأويل جديد من أجل خلق فكر فلسفي جديد له جذوره في القديم متجاوزًا له، وقد يستحيل إقامة فكر فلسفي جديد طالما أن النص الفلسفي القديم ما زال طاغيًا دون أن تفك رموزه، وتُقرأ شفرته حتى يصبح طيعًا للتحريك والاستبدال، التأويل هو منهج الفلسفة لنقل النص من الماضي إلى الحاضر وكمرحلةٍ متوسطة حتى يتحرر العقل من النص ويصبح قادرًا على التنظير المباشر لموضوعه.
وفي مقابل تأويل النص من الموروث القديم يأتي رد النص من الوافد الحديث إلى بيئته التي نشأ فيها، فهو ليس نصًّا مطلقًا يحتوي على نظرية مطلقة في المعرفة أو الوجود أو القيم بل هو نص محلي نشأ في ظروف خاصة بعد عصر النهضة الأوروبي والانقطاع مع الماضي، أرسطو والكنيسة، وبداية اجتهاد العقل في فهم موضوعه وهو الطبيعة بعد أن أصبح الواقع عاريًا من أي نظرية لفهمه، فبدا العالم عقليًّا صوريًّا مثاليًّا مجردًا كما هو الحال في الفلسفات العقلية، ولما كانت المثالية نفس الحقيقة بدا العالم من جديد حسيًّا تجريبيًّا واقعيًّا ماديًّا كما هو الحال في الفلسفات الحسية لإكمال النصف الآخر، ولما غابت الحياة والشعور كعالم متوسط بين المثال والواقع، بين العقل والحس نشأ نص ثالث يغلب حياة الشعور في كل فلسفات الحياة، وتعددت الحقائق بتعدُّد المناهج دون اختيار أو تفضيل. وتعارضت المذاهب دون ترجيح، فتحول النص الفلسفي إلى نص نسبي يعبر عن وجهة نظر وتساوَت الآراء كلها حتى امَّحى اليقين المطلق؛ ومن ثم فإن طريقة التعامل مع النص الفلسفي الغربي الحديث هو نزع صفة الإطلاقية التي أعطيناها له ورده إلى نشأته في بيئته الطبيعية تطبيقًا لمبادئ علم اجتماع المعرفة عليه، النص انعكاسٌ لواقع وليس حاملًا لنظرية مطلقة، وتعبير عن رؤية فرد لعصر وليس رؤية شاملة لعقل إلهي لكل العصور، يفسر النص الحديث الغربي بنفسه وليس بغيره، ويرد إلى واقعه الذي نشأ فيه، ثم يحكم على رؤيته الجزئية بمنظور كلي وشامل حتى يمكن الحكم عليه من بعد ومن علٍ دون الإعجاب به أو الرهبة منه أو وضعه باستمرار في مكان الصدارة في الفكر الفلسفي، علمًا بأن النص الفلسفي الغربي أصبح كذلك؛ لأنه صادر عن الغرب المركزي حتى توارَتْ أمامه النصوص الفلسفية لحضارات الشرق في الصين والهند واليابان وكوريا، فأصبحت ثقافتنا الفلسفية المعاصرة وحيدة الطرف، جناحها الغربي أقوى من جناحها الشرقي، في حين تعادل الجناحان في نصنا الفلسفي القديم، وبدون هذا الرد يظل النص الغربي الحديث في تصادُمٍ مع النص الفلسفي القديم ومزاحمًا له وبديلًا عنه، ويظل العقل الفلسفي العربي محاطًا بحائطين ومحاصرًا بين دفتي الرحى، بين المطرقة والسندان.
(٤) تطوير الفكر العربي المعاصر
يمثل الفكر العربي المعاصر منذ مائتي عام حلقة الوصل بين ماضي الفكر الفلسفي ومستقبله، بين جهد الأجداد وجهد الأحفاد، كما أنه حلقة الوصل بين الفكر الفلسفي الموروث والفكر الفلسفي الوافد؛ نظرًا لاتصالنا بالغرب وإبان الاستعمار الأوروبي الحديث، حاول الجمع بين الماضي والحاضر، بين الأنا والآخر، بين النص والواقع، بين التنظير والتنوير، بين النظر والعمل، وبين الفكر والممارسة، ما زلنا نزهو به، وندرسه في الجامعات، ويتحمَّس له الطلاب لأنه أخيرًا وجد خطابًا فلسفيًّا يجمع بين العلم والوطن، بين الفكر والواقع، بين العلم والرسالة.
وتطوير الفكر العربي المعاصر إحدى وسائل تحديد مسار الفكر الفلسفي العربي في المستقبل؛ فقد نشأ في ظروف الاستعمار القديم، والدولة العثمانية، وحركات الاستقلال، وآخر أجياله في الثورات العربية الأخيرة، فلا يوجد مسارٌ بلا ماضٍ وبلا حاضر، بلا ماضٍ بعيد في الجذور، وبلا ماضٍ قريب في الجذوع.
مهمة الفكر الفلسفي في المستقبل إقالة الإصلاح الديني من عثرته، بعد أن كبا جيلًا وراء جيل، من الأفغاني إلى محمد عبده بسبب فشل الثورة العرابية، ومن محمد عبده إلى رشيد رضا بسبب الثورة الكمالية في تركيا، ومن رشيد رضا إلى سيد قطب بسبب الصراع بين الإخوان والثورة، أصبح أقل انفتاحًا على الآخر، وأقل استنارة، وأقل تحديثًا حتى أصبح غاضبًا، ثائرًا منتقمًا، يحاور بالسلاح، ويعبِّر بالعنف، ويريد السلطة قبل أن يستعد لها، وبمفرده مع استبعاد الآخرين، وباسم الله وليس باسم الشعب، ولتطبيق الشريعة وليس تحقيقًا لمصالح الناس، مستقبل الفكر الفلسفي مرهون بالتعدُّدية في الخطاب، وبالحوار الوطني بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية، وبالقدرة على إيجاد خطابٍ ثالث بين الخطاب السلفي وريث الإصلاح الديني والخطاب العلماني وريث الخطاب العلمي، يجمع بين الشرعيتين؛ شرعية الماضي وشرعية الحاضر، شرعية الدين وشرعية الثورة؛ فالخطاب السلفي الأول يعرف كيف يقول لأنه يستعمل مقولات التراث الشعبي الديني، ولكنه لا يعرف ماذا يقول لأنه لا يتحدث عن مصالح الناس وعموم البلوى، ويكتفي ولو مؤقتًا بالعقائد والشعائر والمظاهر الخارجية، والخطاب العلماني الثاني يعرف ماذا يقول لحديثه عن الحرية والعدالة والمساواة والتقدم وحاجات الناس، ولكنه لا يعرف كيف يقول؛ لأنه يستعمل مقولات الليبرالية الغربية أو الماركسية أو القومية التي تند عن الثقافات الشعبية، يستطيع الفكر الفلسفي العربي في المستقبل أن يساهم في صياغة خطاب ثالث يعرف كيف يقول كالخطاب الأول، وماذا يقول كالخطاب الثاني حتى يقل النزاع والاقتتال الدامي بين الإخوة الأعداء في مصر والجزائر.
كما أن مستقبل الفكر الفلسفي العربي مرهون بإقالة الفكر الليبرالي من كبوته بعد أن تحوَّل من «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» للطهطاوي جامعًا بين الليبرالية والشريعة، بين مونتسكيو وابن خلدون، بين العقلانية الغربية والحسن والقبح العقليين إلى «مستقبل الثقافة في مصر»، ومن العقاد وسعد زغلول ومدرسة محمد عبده الوطنية إلى الوفد الجديد والعلمانية الغربية، ومن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية إلى اقتصاد السوق والخصخصة والربح والرأسمالية، كما إلى أي حد يستطيع الفكر الفلسفي العربي في المستقبل تصحيح مسار الفكر الليبرالي الذي بدأ نابعًا من الموروث القديم وتخليًا عن العلمانية والتغريب والرأسمالية ومخاطبة الصفوة؟
والمطلوب أيضًا إقالة الفكر العلمي العلماني من عثرته، تقليد الغرب والعلم الطبيعي والعلم المدني، والفصل بين الدين والدولة، ليست نظرية التطور هي الصورة الوحيدة للعلم، وهي ليست بالضرورة تطورًا آليًّا ماديًّا متصلًا كما هو الحال عند دارون وسبنسر ولامارك بل يمكن أن يكون خالقًا كيفيًّا منفصلًا منكسرًا يسمح بالطرفة بعد الكمون كما هو الحال عند برجسون، والعلمانية ليست بالضرورة ضد الدين كما هو الحال في التجربة الغربية بل قد تكون جوهر الدين ونابعة منه كما هو الحال في الإسلام وكما عبرت عنه مقاصد الشريعة، والمجتمع المدني ليس بالضرورة مجتمعًا لا دينيًّا كما هو الحال في تجربة الغرب بل قد يكون جوهر الدين كما هو الحال في المجتمع الإسلامي.
وإذا كانت هذه الخطابات الثلاث قد انتهت إلى الصدام بينها كما هو الحال الآن في الصدام بين الخطاب السلفي والخطاب الليبرالي والخطاب القومي أو الماركسي؛ فذلك لأن بنية كل خطاب بنية جدلية تقوم على الدفاع عن النفس والهجوم على الآخر؛ استئثارًا بالحقيقة كلها ورغبة في السلطة كلها. كما أن كل خطاب ينتقي من مصادره الأولى ما يشاء ويترك ما يشاء من أجل الوصول إلى الحد الأقصى الذي ينفرد به وليس إلى الحد الأدنى الذي يشترك به مع الخطابات الأخرى. مهمة الفكر الفلسفي المستقبلي هو التخلي عن منطق الدفاع والهجوم إلى منطق البرهان والحوار الوطني، وكذلك التخلِّي عن منطق الانتقاء الذي يؤدي أيضًا إلى صراع بين الانتقاءات المتعددة إلى منطق التعادل والجانب الغالب والتمييز بين الجوهر والعرض.
كما يحتاج الفكر العربي المعاصر أن تُعاد صياغة مقولاته الأساسية على نحو محكم كي يتجاوز طابعه الانفعالي وأسلوبه الحماسي الذي واكب مرحلة اليقظة العربية الإسلامية والتحرُّر من الاستعمار؛ فقد أصبح حجم التحديات والقضايا الرئيسية التي يواجهها الفكر العربي المعاصر أكثر بكثير مما كانت عليه في القرن الماضي، وتتطلَّب فكرًا أدق ومواقف أكثر جذرية حتى من فكر جيل الرواد ومواقفهم، فيتحوَّل الفكر العربي من مرحلة الانفعال إلى مرحلة الفعل، ومن الإعلان عن النوايا إلى التحليل الكمي الإحصائي الدقيق، ومن إعلان المبادئ إلى تحقُّقاتها الجزئية في واقع محدد مع ارتباط أشد بالعلوم الاجتماعية، وينتقل من الصحافة إلى الجامعة، ومن الإعلام إلى العلم دون أن يفقد جماهيره.
وقد يساعد الانتقال عبر الفكر العربي المعاصر إلى مستقبل الفكر الفلسفي العربي على التزام أساتذة الفلسفة في الجامعات العربية بموقف فلسفي عصري يَرَوْنه من خلال التراث القديم والتراث الغربي، ومرتبط بقضايا العلم والوطن؛ فالالتزام المباشر قد يراه مع البعض منافيًا للحياد الفلسفي وموضوعية العلم، ويكونون حلقة الاتصال بين البحث العلمي والمشروع القومي بدلًا من أن ينزوي أساتذة الفلسفة في قاعات الدرس، وتترك القضايا القومية للسياسة ولعبة الحكم.
(٥) من المذاهب الفلسفية إلى المشاريع العربية المعاصرة
وقد بدأ حاضر الفكر الفلسفي العربي كما مثله الفكر العربي المعاصر في التحول من التراث القديم والتراث الغربي إلى المشاريع العربية المعاصرة التي ولدتها هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧ والتي جعلت المفكر العربي يشعر بالمسئولية تجاه ما حدث؛ فقد كانت الهزيمة للأمة كلها، قادة وجيشًا وشعبًا وفكرًا ومجتمعًا، حاول بعض أساتذة الفلسفة في الجامعات العربية القيام بهذا التطوير، الانتقال من الفكر العربي المعاصر إلى المشاريع العربية المعاصرة.
ويصيح البعض لا يوجد لدينا فلسفة، ولا يوجد لدينا فلاسفة مدينًا كل شيء، الماضي والحاضر والمستقبل، فلا تعني الفلسفة بالضرورة المذهب، ولا يعني الفيلسوف حتى صاحب المذهب؛ فقد وجدت المذاهب الفلسفية في تراثنا القديم بعد عصر الترجمة والتعليق والشرح والتلخيص والجامع والعرض والتأليف في مرحلة الإبداع، مرحلة الفارابي وابن سينا وابن رشد أي بعد التمهيد لها بالتراكم الفلسفي الضروري، ونحن في علاقتنا مع التراث الغربي وريث التراث اليوناني ما زلنا في هذه المرحلة في إحدى لحظاتها ربما العرض والتأليف ولم نصل بعد إلى مرحلة الإبداع الخالص. كما وجدت المذاهب الفلسفية عندما سقط الغطاء النظري القديم الذي كان رؤية الوعي الأوروبي للعالم والمستمد من أرسطو والكنيسة، عندما سقط في عصر النهضة بعد أن لم يصمد تحت معاول النقد وبان تعارضه مع العقل والتجربة وحقوق الإنسان وديمقراطية الحكم وبناء المجتمع المدني، فأتت المذاهب المثالية والواقعية بعد تأسيس المناهج العقلية والتجريبية كغطاء نظري بديل تعطي الوعي الأوروبي رؤية جديدة للعالم، ونحن لم نصل بعدُ تاريخيًّا وليس معرفيًّا إلى مرحلة تأسيس المذاهب، فما زلنا نحاول الانتقال من الإصلاح الديني إلى عصر النهضة أي ما يعادل القرن الخامس عشر إلى السادس عشر الأوروبي دون أي حتمية ضرورية أو تطابق بين مسار الحضارتين. فكل فكر أو كاتب هو مفكر بمعنى عصر النهضة كما كان مونتاني يمثل روقها في «المحاولات».
والمشاريع العربية المعاصرة مرحلة انتقال من الفكر العربي المعاصر إلى مستقبل الفكر العربي الفلسفي؛ فهي تعادل المذاهب في الفلسفة الغربية ولكن في موقف حضاري مختلف يقوم على الاتصال بين الماضي والحاضر وعلى التواصل والحوار بين الأنا والآخر وليس على الانقطاع بين الماضي والحاضر أو على القطيعة بين الأنا والآخر كما هو الحال في المذاهب الفلسفية الغربية نظرًا لعدائه لأرسطو والكنيسة والتركيز على ذاته وإنكار دور الحضارات الأخرى التي ساهمت في تكوينه.
وفي المغرب الأقصى ذاع صيت مشروع «نقد العقل العربي» بأجزائه الثلاث: «بنية العقل العربي» و«تكوين العقل العربي» و«نقد العقل السياسي» وثلاثية البيان والعرفان والبرهان على المستوى التاريخي (الدياكرونيك) أو البنية (السنكرونيك) بالرغم من الاشتباه في مفهوم العقل العربي وما يومئ به من دلالات، و«الفكر الإسلامي» الصريح الذي يجمع بين العرب والعجم، وفي الجزائر، وفي المهجر الفرنسي، ذاع صيت مشروع «نقد العقل الإسلامي» اعتمادًا على اللسانيات وتطبيقها على علوم القرآن، وعلم الأخلاق، وعلوم التفسير وعلم أصول الفقه وبالرغم من كتابته بالفرنسية لجمهور غربي وعلى مستوى عالٍ من الدقة الاصطلاحية بلا جمهور عربي إلا من خلال الترجمة وعن طريق الأثر عن بعد، ومن الحي اللاتيني إلى تزوزو، ومن السين إلى الأطلس، وفي ليبيا ظهر مشروع «آلهة مصر العربية» دون صخب كبير بالرغم من علو نبرته في اعتبار العروبة الحقيقة المطلقة وأصل الحضارات، ومنبع القيم، ومهبط الديانات، وثقل الحاضر وأصل المستقبل في نظام جماهيري شعبي، وديمقراطية مباشرة بلا تمثيل، فاللغة العربية أصل اللغات كلها المصرية القديمة والعربية والفينيقية وكل مجموع لغات أفريقيا وآسيا واللغات الهندية الأوروبية.
وفي الشام فرض مشروع «من التراث إلى الثورة» نفسه على الفكر العربي بأجزائه الاثني عشر بمنهج تاريخي أقرب إلى الوضعية والنزعة التاريخية منه إلى الجدلية وتركيز شديد على الماضي والبواكير الأولى أكثر من الحاضر والمستقبل وضمه إلى العصر الوسيط دون تمايُزٍ بين مسار الحضارات، كما برز مشروع الاستقلال الفلسفي بحنكة ودقة وتحليل فلسفي سياسي بروح صافية وعقل ديكارتي بديهي. وأخيرًا وفي دفعة واحدة صدر «تحديث العقل العربي» يعبر عن الهم المشترك في مرحلة إعلان النوايا ودون خطأ على الأمد الطويل، وتستحق المشاريع العربية المعاصرة كل اهتمام النقد بالتحليل والنقد بالتطوير؛ فهي أحد المداخل إلى الفكر العربي الفلسفي المستقبلي.
(٦) التنظير المباشر للواقع: الإبداع الفلسفي
ولكن الفكر الفلسفي العربي المستقبلي مرهون بتجاوز تأويل النصوص القديمة أو الجديدة، وتجاوز الفكر العربي المعاصر بتياراته الثلاث وتجاوز المشاريع العربية المعاصرة؛ ففي هذه المراحل الثلاث ما زال الفكر الفلسفي يعبر عن موقفٍ حضاري يريد التحرُّك فيه، وعن قيود يريد التحرُّر منها، والتحدي الأساسي له هو التنظير المباشر للواقع من أجل إبداع نص جديد دون الاكتفاء بتأويل نص قديم واستئناف دورة حضارية جديدة مع تراكم تاريخي له دورتان؛ أولى ولَّتْ وثانية قادمة، صحيح أن النصوص القديمة ما زالت حية في النفوس، والنصوص الوافدة ما زالت تسلب العقول، والفكر العربي المعاصر ما زال حاضرًا في الأذهان، والمشاريع العربية المعاصرة ما زالت تكبر وتولد مشروعات أخرى جيلًا وراء جيل؛ لذلك يمكن ممارسة الفكر في كل هذه الميادين مع بداية فتح جديد في التنظير المباشر للواقع، يعتمد العقل فيه على نفسه في مواجهة موضوعه دون «قال ويقول».
وموضوعه تغيرات العالم وربما تغير العرب؛ فلأول مرة في تاريخ العرب الحديث يتم الاعتراف بالعدو الصهيوني الذي احتل الأرض، فلسطين كلها، وجنوب لبنان، والجولان ويقاومه العرب على الأراضي المحتلة في فلسطين بعد يونيو (حزيران) ١٩٦٧، ماذا يفعل الفكر العربي؟ يقبل الصهيونية عقيدة ونظامًا، فكرًا ودولة أم يبدع أشكالًا جديدة للمقاومة مقاومة للصهيونية كنظرية عنصرية ومقاومة الدولة المعترف بها؟ هل صحيح أن العرب كسبوا بالسلام ما خسروه بالحرب! هل يمكن للفكر السياسي العربي المستقبلي أن يبدع أشكالًا جديدة للتعامل مع عدو الأمس وصديق اليوم وربما حليف الغد؟
وماذا عن بداية التحول الرأسمالي في العالم العربي، والخصخصة بعد الهرولة! هل يستطيع الفكر العربي السياسي المستقبلي أن يتجاوز مثله في مقاومة الاستعمار والرأسمالية والدعوة إلى العدالة الاجتماعية والاشتراكية بعد أن خرجت من الإسلام مرة ومن القومية مرة أخرى؟ ماذا عن البنوك الخاصة والمليونيرات بل المليارديرات الجدد الذين كادوا أن يصلوا إلى مستوى ثروة النفط أكثر أو أقل؟ هل الرأسمالية لم تعد جريمة، وأصبح أمل العرب منزلًا وعربة؟ وماذا عن الفساد والمضاربات العقارية والتهريب وأموال المخدرات والعمولات على السلاح وكل مظاهر الكسب السريع، هل تكفي إدانتها أم تحليها في خريطة جديدة لتوزيع الدخل القومي في العالم العربي؟
وماذا عن التجزئة ومخاطرها إثر الوحدة بالقوة وغزو القُطر العربي للقُطر الآخر؟ كيف يواجه الفكر العربي المستقبلي مخاطر التجزئة إلى أقوام وأعراق ونِحل وطوائف وعرب وبربر وأكراد، سنة وشيعة ودروز، بدو وحضر، دلتا وصعيد، نجد وحجاز؟ وكيف لهؤلاء المفكرين الذين شكلت الوحدة آمالهم وطبعت القومية وجدانهم التعامل مع الواقع العربي الجديد؟ كل هذه الأسئلة تطلب قدرة على الإجابة لممارسة الفكر ومقاومة للنفس، واستعداد كبير للنسيان، وأهلية للتغير مع تغير العالم، وقد لا يعني إعادة التفكير في مسلَّمات عدة أجيال سابقة الاستسلام لما قد يصبح مسلحات مضادة لجيل قادم بل يعني فقط مواجهة الواقع الجديد من أجل الدخول في تحدٍّ نظري وتحمل قادر على تطوير الفكر العربي المستقبلي منهجًا وموضوعًا.
وتثار أسئلة كثيرة حول مكاسب هذا الجيل الذي قام بإنجاز ضخم وهو التحرُّر من الاستعمار وإقامة الدول الحديثة المستقلة، ماذا عن مصير هذه المكاسب: عودة الاستعمار في شكل التبعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية والعلمية، ضعف الدولة أمام الخارج وتسلطها في الداخل، طراوتها في الخارج وتصلبها في الداخل، حوارها مع الخارج واستئثارها بالحل والقرار والسلطة والحقيقة في الداخل، رحماء على الكفار أشدَّاء بيننا، والتلاعب بالقوانين وعدم الولاء لها، في تجاوزها أيضًا باسم القانون؛ إذ تتعطل مصالح الناس بالقانون وتتحقق ضد القانون، أصبح على المواطن كل الواجبات وفي مقدمتها الطاعة وليس له أي حقوق، وعلى رأسها حق الاعتراض وإبداء الرأي أو الاستشارة أو المشاركة في صنع القرار، تطالبه الدولة بكل شيء، والولاء، والعمل، والإنتاج، ولا توفر له أيًّا من الخدمات العامة في التعليم والصحة والغذاء والكساء والنظافة، وهي الحاجات الأساسية، ومن حقه إعلام متعدِّد في وجهات النظر يختار من بينها ما يشاء وعن دراية وعلم ومقارنة وبرهان لا أن يتحول إلى «غسيل مخ» يمنعه من التفكير السليم.
كيف يستطيع الفكر العربي المستقبلي أن يساهم في اعتماد الأمة على نفسها في الغذاء والسلاح والتعليم، وأن تطعم نفسها، وأن تدافع عن نفسها بقدراتها الذاتية، وأن تبدع ذاتيًّا علمها كما تبدع سائر الأمم بدلًا من هجرة العقول إلى الخارج أو إحباطها في الداخل؟ كيف يستطيع أن يصوغ الفكر العربي فلسفة في الاستقلال الذاتي للإرادة كما فعل كانط وفشته لألمانيا وكما فكر هيجل في الصلة بين الدولة والوطن والدستور والقانون والمؤسسات والجيش والشرطة والقضاء؟ لا يكفي ترجمة «مبادئ فلسفة الحق» أو إعادة قراءة «السياسة الشرعية» بل التوجه إلى الواقع المباشر وتحليله ومعرفة مكوناته ووصف مساره، بحيث يصبح الفكر مواكبًا للواقع لا سابقًا عليه، ولا متقدمًا عنه، ولا غريبًا منه.
وما زال الفكر العربي حتى الثوري منه في جانب والجماهير العربية في جانب آخر، لا يحركها فكر ولا جوع، ولا قهر داخلي ولا عدوان خارجي، لا ثأرًا لكرامة ولا استردادًا لحق، كيف يستطيع الفكر الفلسفي العربي أن يواجه قضية سلبية الجماهير ولامبالاتها دون أن يجد المبررات لعجزه في سعي الناس وراء لقمة العيش وبحثها عن الرزق؟ وقد قام مفكرون لآخرون بذلك مثل أورتيجا أي جاسيه في «ثورة الجماهير»، وبول فريري في «تربية المضطهدين» وفانون في «المعذبون في الأرض».
وتظل القضية الرئيسية إلى متى يظل الفكر الفلسفي العربي يرتكن إلى ابن خلدون، ولا أحد قبله ولا أحد بعده إلا عند الآخرين؟ متى يطرح الفكر العربي المستقبلي سؤال: في أية مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ نهضة، ثورة، تغير اجتماعي، انقلاب، انقلاب مضاد، إفلاس، إحباط، انهيار، تدهور، انحطاط إلى آخر هذه المفاهيم التي يتناقلها المتفائلون والمتشائمون؟ وفي أي مرحلة من التاريخ يعيش العالم نفسه، في نظام عالمي جديد أو صياغة جديدة للنظام العالمي القديم، العالم ذي القطب الواحد أو ذي القطبين أوروبا والعرب أو ذي الأقطاب المتعددة، أوروبا، آسيا، أمريكا، العالم الثالث؟ إن التاريخ هو الوعي بالتاريخ وإن الوعي بالتاريخ هو أساس الرؤية للعالم. إن التحدي الرئيسي للفكر العربي المستقبلي هو صياغة فلسفة جديدة للتاريخ للمنطقة الراهنة في نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر الهجري بعد أن أرخ ابن خلدون للقرون السبعة الأولى مبينًا أسباب الانهيار، نؤرخ نحن لشروط النهضة في مسار أكثر شمولًا للتاريخ تضع الأنا ذاتها فيه في علاقتها بنفسها وعلاقتها بالآخر، عندئذٍ يتجاوز الفكر العربي الراهن المطلقات ويضع نفسه في التاريخ.
(٧) دور المؤسسات التعليمية والثقافية
إن الحامل للفكر العربي الفلسفي الحالي والمستقبلي هي المؤسسات التعليمية والثقافية، والمدارس والجامعات والجمعيات الفلسفية والإعلام الوطني.
فما زالت الفلسفة تدرس في السنوات الأخيرة في التعليم الثانوي في بعض الأقطار العربية، وهو القليل، دون البعض الآخر، وهو الأكثر، بطريقة محفوظة تعبر عن مناهج النقل المتبعة من الأساتذة، مرة من القدماء ومرة من المحدثين والتي تفضلها الدولة حتى تمنع التزام الأستاذ والطالب بالفكر وأخذ الفلسفة مأخذ الجد فتنشأ حرية الفكر والإبداع، ويتعود الجيل الناشئ على النقد فتكون الأنظمة السياسية هي الضحية، لا يفهم الطالب لماذا يدرس اليونان بمصطلحات مجردة ولا لماذا يدرس الغرب وهي ثقافة غربية ولماذا لا يخاطبه أحد على قدر عقله يعبر عن حاجاته ويحل أزماته؟ بل إن الموضوعات الدالة في التراثين تضيع وسط التكرار والنقل والحفظ، مثل الانفتاح على الثقافات عند الكندي، والتوحيد بين الفلسفة والدين عند كل فلاسفة المسلمين من تراثنا القديم أو الصراع من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة والتقدم في الفلسفة الغربية، فلسفة التنوير نموذجًا.
وفي الجامعات، وفي أقسام الفلسفة تتكرر المأساة على نحو أكبر، وبطريقة أكثر عنفًا، فقد شب الطالب وأصبح مواطنًا ينتظر الكثير من الجامعة ومن الفلسفة فلا يجد إلا الكتب المقررة والمواد المحفوظة والمعادة والتي لا يجد في نفسه شيئًا منها سواء كان النقل من القدماء أو من المحدثين، ويثور مع الثائرين وينتظم في المظاهرات باسم الإسلام مرة وباسم التقدم مرة أخرى، ويدخل السجن مرة دفاعًا عن الدين، ومرة حبًّا في الوطن، ثم يتخرج عاطلًا ويكسب قوته من أعمال يدوية وحرفية إن لم تتح له الظروف السفر أو الهجرة أو الانخراط في النظام القائم في الإعلام أو التعليم.
وفي الدراسات العليا تتكرر المأساة مرة ثالثة، تتكرر الموضوعات، والشخصيات، حياتها وأعمالها بنفس التبويب والتقسيم وبنفس المنهج، وتجميع المادة القديمة وإعادة عرضها دون إضافة جديدة، تكرارًا لما قاله القدماء أو المحدثون، ونادرًا ما تصنع رسالة إبداعية، تنظر الواقع تنظيرًا مباشرًا في موضوعات يطرحها الواقع الفلسفي العربي مثل الحرية أو الوحدة أو العدالة الاجتماعية أو التنمية المستقلة أو الهوية أو تجنيد الجماهير أو علاقة الأنا بالآخر أو بالنظام العالمي المتغير، وإن تم فإن صاحبها يكون حزبيًّا سياسيًّا أيديولوجيًّا.
أما الجمعيات الفلسفية فما زالت الأقطار العربية خلوًا منها أو ضعيفة أو متعثرة، والجمعية الفلسفية العربية تسير بالجهد الذاتي دون إمكانيات، واتحاد المجامع العربية قاصر على اللغة دون الفكر، واتحاد الجامعات العربية مشغول بالمعادلات وبالهموم الإدارية والبقاء في عالم عربي قد تغير.
وأمام إعلام سياسي وتجاري قاهر غاب الفكر الفلسفي بالرصين في الصحف والمجلات والإذاعات المسموعة والمرئية، واستسهل الناس الإعلانات والتسلية، واكتفوا بالفكر الديني أو الانبهار بغزو الفضاء، وغاب أي مشروع قومي للعرب يدعو إلى التأصيل الفلسفي، وأصبح الجيل القديم مجرد بقايا من مخلفات الماضي لا يقوى على تغير الزمن.
لا يوجد فكر فلسفي عربي مستقبلي دون تغيير لدور المؤسسات؛ فالفكر الفلسفي إبداع فردي ولكنه يكون أنح وأكثر فعالية بمشاركة المؤسسات العلمية والثقافية في صنعه، ويبدأ ذلك بالتعليم العام لتكوين النشء على الثقة بالنفس والاعتزاز بالرأي واحترام الخلاف في الرأي وعدم تكفير المخالف أو تخوينه، فلا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، والكل راد والكل مردود عليه.
ثم يأتي التلميذ إلى الجامعة وهو معد لممارسة حرية الفكر والالتزام بقضايا الوطن لا فرق بين العلم والوطن، بين الفكر والممارسة، فيتعود الفكر على الالتزام بغضًا للواقع، ويعمل تنظيره تنظيرًا مباشرًا، ويتحول النقل القديم إلى رصيد تاريخي من الخبرات الطويلة للأنا وللآخر تمده بتجارب السابقين في الفكر والإبداع، وتتكون شخصيته كمفكر مبدع، يعشق الحياة، ولا يضيق بالنفس، متوحدًا مع المجتمع، مؤديًا رسالته في الحياة.
وهنا يبدأ دور الدراسات العليا بعد أن اختار الطالب طريقه، وانبثق في نفسه الموضوع والمنهج، والإشكال والغاية، والأسلوب والبرهان، ويتكون من خلال الجمعيات الفلسفية القطرية والقومية، ويساهم بالقول والكتابة في نشاطاتها ومجلاتها، ويصبح جزءًا من النشاط الفلسفي الوطني في البلاد.
ويصب كل ذلك في النهاية في المشروع القومي العربي الذي يساهم الجميع في بلورته وصياغته طبقًا لحاجة كل عصر وتغير نظم العالم، حينئذٍ لا يصبح الفكر الفلسفي العربي مجرد استهلاك للفكر الفلسفي القديم أو الفكر الفلسفي الحديث بل تنظيرًا لواقع عربي جديد، في عالم متغير، حلم أم واقع، تمنٍّ أم تحقيق، هذا ما يمكن أن يثبته الفكر العربي الفلسفي المستقبلي.