هل تستطيع الفلسفة أن تنزع جذور القهر والتسلط من الوجدان العربي المعاصر؟١

(١) مقدمة: اللفظ والمعنى والشيء

من الواضح منذ القرن الماضي، منذ فجر النهضة العربية الحديثة، بزوغ موضوع الحرية والديمقراطية في الفكر العربي المعاصر منذ «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» للكواكبي، ومحاولة محمد عبده في «رسالة التوحيد» التحول من الأشعرية إلى الاعتزال في العدل والقول بخلق الأفعال والحسن والقبح العقليين وإن بقي أشعريًّا في التوحيد، و«تحرير المرأة» لقاسم أمين و«مشكلة الحرية» لعلال الفاسي، و«محمد رسول الحرية» لعبد الرحمن الشرقاوي، و«الحرية أبدًا» لخالد محمد خالد، و«عن الحرية أتحدث» لزكي نجيب محمود، وفي أواخر القرن الماضي صاح عرابي في قصر عابدين: «إن الله خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا عقارًا، والله لا نُورَّث بعد اليوم.» استدعاء لقول عمر بن الخطاب الشهير: «لم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟» ومن ناحية أخرى تمت ترجمة عديد من المواثيق عن الحرية والديمقراطية من الغرب البديل، «الشرطة» La Charte للطهطاوي واضعًا شعار: «فليكن هذا الوطن مكانًا لسعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع.» ولا يكاد يخلو تيار من تيارات الفكر المعاصر أو جيل من أجياله إلا وينتج نصًّا في الحرية الليبرالية لجون استيوارت مل، «طريق الحرية» عن الحرية عند برجسون لايفتشتكو، وفي جامعاتنا تم تحرير عدة رسائل «حرية أم تحرر؟» لمحمد عزيز لحبابي، «التاريخ باعتباره قصته للحرية» لكروتشه، ورسالة في «الجبر الذاتي» لزكي نجيب محمود، ومع ذلك ظلت أزمة الحرية والديمقراطية في الوجدان العربي المعاصر متأصلة الجذور، تتفاقم جيلًا وراء جيل حتى نشأ حنين إلى الماضي الليبرالي القديم منذ القرن الماضي وقبل الثورات العربية الأخيرة، فتحولت الليبرالية إلى سلفية ترى نموذجها في فجر النهضة العربية، كما تحولت السلفية إلى الليبرالية في حركة الإصلاح الديني عندما انبهرت بالغرب وأرادت تبني نموذجه، وما زال السؤال قائمًا طالما الأزمة متفاقمة، وتصعب الإجابة حتى وإن سهل السؤال.

وحرية الفرد أساس ديمقراطية الحكم، والعلاقة بينهما علاقة المقدمة بالنتيجة، والأصل بالفرع، والشرط بالمشروط، والعلة بالمعلول، والذات بالموضوع، والفرد بالجماعة، المفهومان متلازمان، فلا حرية للفرد دون ديمقراطية الحكم وإلا انتهت حرية الفرد إلى مجرد حق طبيعي فردي قد يؤدي إلى الفوضوية كما هو الحال في النزعات الفردية في الغرب ابتداء من ماكس شترنر حتى كروبتكين وباكونين وإماجولدمان، ولا ديمقراطية في الحكم دون حرية للفرد وإلا انتهت الديمقراطية إلى تمثيل صوري عددي، يبقي على الشكل دون المضمون، أغلبية وأقلية، وعادة ما تكون الأغلبية قاهرة ٩٩٫٩٪ أمام أقلية ضعيفة مجرحة مخونة مهمشة أو مستأنسة، حكومية رسمية، فلا فرق بين إجماع القهر وأغلبية القهر، وتتحول الحرية من حق طبيعي للفرد كي تصبح مذهبًا بأكمله للفرد والدولة هو «الليبرالية». لفظ معرب من الفكر الغربي استسهالًا وفي موجة النقل من الجديد في مقابل النقل من القديم حتى أصبحت الليبرالية نظامًا للحكم توصف به بعض النظم العربية قبل الثورات العربية الأخيرة مثل مصر أو بعدها مثل الأردن والكويت واليمن أو قبلها وبعدها كما هو الحال في لبنان. ولفظ الديمقراطية معرب كذلك عن الفكر الغربي كما عرب القدماء ألفاظ اليونان، وفي وقت يسود فيه النقل عن القدماء وعن المحدثين من تراث الأنا أو من تراث الآخر، ولم يترجم «حكم الشعب»، لم ينقل معناه ويعبر عنه بلفظ قديم مثل «الشورى»، وكما هو الحال عند بعض الدعاة والوعاظ أو المجددين المحدثين، ومع ذلك فقد أصبح اللفظان عربيين لاستعمالهما على مدى مائتي عام مثل الألفاظ القديمة المعربة: موسيقى، فلسفة، جغرافيا، هندسة، تعبر عن أشواق الناس وتطلعات النخبة، ويتم النضال من أجلها، وتقوم المظاهرات تحت شعارها، وتنقسم نظم العالم بين أنصارها وخصومها، بين الغرب والشرق إلى وقت قريب، وإن اشتعل الخلاف بين أنصار الديمقراطية الغربية وخصومها إلا أن الإحساس بأزمة القهر والتسلط عام عند الجميع. كيف تجد تشخيصًا لها؟ وما أسبابها؟ وما طرق حلها والخروج منها؟ وقد يشتد الخلاف حول الشكل والمضمون واحد، الخلاف على الشكل هو في الحقيقة صراع مبطن حول السلطة يضحي بالاتفاق حول المضمون الذي تنهار عليه وبسببه كل الأشكال.

(٢) التفكير سلبًا

ربما كانت أحد أسباب أزمة الحرية والديمقراطية في الواقع العربي المعاصر هو القفز على الواقع والإسراع بالتعبير عن الأمنيات والأشواق والتطلعات والأحلام، والوقوع في الطوباويات، لا فرق بين سلفيين وعلمانيين، بين الخلافة الراشدة وفلسفة التنوير، والبناء بلا أساس سرعان ما ينهار؛ لذلك كان السلب عند الفلاسفة أكبر قوة من الإيجاب، هو إيجاب سلبي أي أنه يحرك الواقع عن طريق نزع جذور سكونه وثباته، في حين أن الإيجاب هو سلب؛ لأنه ينفي الواقع عن طريق تجاوزه، والاستعلاء عليه وإيجاد البديل له من القديم أو الجديد، والواقع لا يمكن نفيه أو تجاوزه بالمفارقة بل يتطلب الدخول فيه والغوص في أعماقه وتحليل مكوناته وتحليله وربما تفتيته وتفكيكه وفك مغاليقه حتى يصبح طيعًا كالحديد المنصهر قبل أن يعاد طرقه وتشكيله، ومن هنا أتَت قوة هيجل في الفكر السلبي وتحليله للسلب على أنه إيجاب مقلوب، ووصف الوجوديين للسلب على أنه نفي يكشف عن الوجود الإنساني ومقوماته من حرية وزمانية وإمكانياته ومشروع تحقق وعلاقات مع الآخرين، يعني التفكير سلبًا الهدم قبل البناء، والنقد قبل الوضع، والتطهير قبل الإجراء، والخلاص قبل الوعد، والتوبة قبل الجزاء، لا يكون التقدم الحضاري عن طريق وَضْع طبقة حديثة على السطح فوق طبقات قديمة في العمق كما حدث في أوروبا الشرقية عندما وضعت ثقافة اشتراكية على السطح فوق أرثوذكسية وكاثوليكية في العمق، وسرعان ما انهار السطح وظهر العمق، وقد حدث نفس الشيء في الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى عندما انقشع الغطاء الماركسي اللينيني الخارجي وخرج العمق الإسلامي الثقافي من عبق التاريخ، ويتكرر الأمر في تركيا الآن وابتداء انقشاع العلمانية التركية «الكمالية» وظهور الانتماء التراثي من الأعماق، بل إن ما حدث من انتكاسة في النهضة العربية هذا القرن يمكن تفسيره على هذا النحو، انحسار الحداثة الوافدة من على السطح، ليبرالية أو قومية، رأسمالية أو اشتراكية، وبروز الموروث من عبق التاريخ ليرث ويخلق وينتقم من أعداء الأمس، التفكير سلبًا هو اجتثاث الجذور حتى تتساقط الأوراق من تلقاء نفسها ويتم بث الحياة في الجذور الجافة التي لم تورق ولم تثمر في الوعي العربي المعاصر.

هناك جذور معرفية وأنطولوجية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وتاريخية للتسلط والقهر تمنع من التحول الديمقراطي في الوجدان العربي المعاصر، ترسخت عبر التاريخ وعلى مدى ألف عام، وأصبحت جزءًا من الوعي العربي المعاصر، تحدد رؤيته للعالم، وتضع معايير سلوكه، وقد حدث ذلك منذ قضاء الغزالي في القرن الخامس الهجري على التعددية الفكرية لصالح أحادية الطرف، تقوية للدولة، نظام الملك في بغداد، جعل الحقيقة واحدة، الأشعرية في العقائد، والشافعية في الفقه، أعطى الحاكم أيديولوجية القوة في «الاقتصاد»، العقيدة والنص، وأعطى المحكومين أيديولوجية الطاعة والولاء في «الإحياء»، لم يعد هناك فرق بين صفات الله وصفات السلطان، كلاهما عالم قادر حي، سميع بصير متكلم مريد، الله بصفاته الذاتية ومن خلال الملائكة، والسلطان من خلال موهبته الطبيعية وأجهزة الدولة، المخابرات والشرطة، وكفر المعارضة بكل أنواعها، العقلية العلنية الشرعية كالمعتزلة، والوجدانية السرية الانقلابية كالباطنية، والعلنية المسلحة الجذرية كالخوارج، وشرع للحكم بالشوكة أي بالقوة، فلم تعد الإمامة عقدًا وبيعة واختيارًا، كان الدافع لذلك ضعف الدولة العباسية وضرورة إقامة دولة قوية تصد هجمات الصليبيين من الغرب، والتتار والمغول من الشرق، ورأى أن أهم دعامة لقوة الدولة الثقافة والعلم، وترويض العقول على الطاعة، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، واستمر الحال كذلك إبان العصر التركي حيث تمثلت دولة الخلافة ثقافة السلطة حفاظًا على وحدة الخلافة ودرْء أخطار الغزو الأوروبي من الخارج وصراع الملل والنحل في الداخل، واستمر ذلك حتى الآن وبعد إجهاض الثورات العربية الأخيرة، وتحولها إلى ثورة مضادة تعتمد على الموروث الثقافي التسلطي الأحادي للسيطرة على الجماهير من خلال أجهزة الإعلام، إله واحد أزلي، وحاكم واحد مدى الحياة، ورأي واحد لا يتغير، ونظام واحد لا يتبدل، وفرقة واحدة ناجية، فرقة السلطة والفرق كلها في النار، فرق المعارضة، ولم تستطع بارقة ابن رشد بعد الغزالي بقرنين رد الاعتبار للفكر والحرية لبعده في الأندلس عن قلب المشرق، ولنكبته ولسيطرة الفقهاء، ولاستتباب الأمن النظري، الأشعري الصوفي الشافعي في الوعي العربي.٢

(٣) الجذور المعرفية

وطبقًا لأولوية نظرية المعرفة على نظرية الوجود عند المشتغلين التقليديين بالفلسفة قد يكون الجذر الأول للتسلط والقهر هو المعطى الأولي السابق على التجربة، وطريقة تلقيه من أعلى إلى أدنى، من الوحي أو الإلهام، الخطبة السياسية من الحاكم إلى المحكوم أو الأوامر الإلهية وتوجهات السيد الرئيس. وتكون وظيفة العقل تبرير هذه المعطيات وبيان حكمتها ومنفعتها وصلاحها للناس جميعًا على مر العصور، فالنقل أساس العقل، وبدون النقل لا يعمل العقل، العقل مجرد آلة، لا موضوع لها، ذات بلا موضوع، حتى ولو أدى ذلك إلى التجسيم والتشبيه في الدين وإلى التبرير في السياسة بسبب التفسير الحرفي للنقل كما هو الحال عند الحشوية إلى الحد الأقصى أو الأشاعرة إلى الحد الأدنى، بل إن التأويل خروج عن النص وإنكار لمعناه الموضوعي الذي فيه، رجم بالظن، وتحكم بالرأي، واتباع الأهواء والاستسلام للشهوات، وظيفة العقل هو الانتهاء إلى نتيجة معروفة سلفًا، صحة المعطى السابق، ويقينه الثابت: «ليس في الإمكان أبدع مما كان.» و«الله يعلم وأنت لا تعلمون.» ولما كان الله والسلطان يقومان بنفس الوظيفة في الوعي العربي على مدى التاريخ وفي الثقافة الشعبية فالحاكم يعلم مصلحة شعبه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ولم يستطع البديل الآخر العقل أساس النقل عند المعتزلة البقاء في التاريخ والذي كان يمكن تطويره بحيث يقوم العقل بدوره في النقد والتحليل وليس فقط في التفسير والتأويل، الحسن والقبح العقليان صفات موضوعة في الأفعال لا يمكن التضحية بهما باسم العقل، مصدره أو حرفه، كان يمكن تطوير الأدلة في علم الأصول التي تجعل الدليل النقلي بمفرده دليلًا ظنيًّا ولا يتحول إلى يقين إلا بدليل عقلي ولو واحدًا والعقل يشمل الحس والبداهة والوجدان والنظر والاستدلال وكل وسائل المعرفة المتاحة للإنسان الداخلية والخارجية، الذاتية والموضوعية، الدليل النقلي بفرده خاضع للغة وقواعدها، الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المبين والمجمل، المقيد والمطلق، ولا يمكن فهمه إلا بعد معرفة أنواع الكلام، خبرًا أم إنشاء وكل أساليب البيان من تقديم وتأخير وخبر واستخبار، وتمنٍّ وتعجب واستفهام، اللغة عالم الأصوات، والحروف تحيل إلى عالم الأفعال والأشياء. مجرد إشارة أو رمز وعلاقة إلى مشار إليه أو مرموز له أو دلالة.

وتحول النص المدون إلى مصدر للقهر في عدة قواعد انتزعت من قواعد أخرى، وتكلست في التاريخ، وتحول إلى مقدس لا يمكن الاقتراب منه وإلا تم تدنيسه، وأصبح محرمًا له إلا بعد التطهر، وهو مصدر للتحريم، لا اجتهاد مع النص ولا اجتهاد ضد النص، ولما كان النص جامعًا لكل شيء فلا اجتهاد على الإطلاق، أصبح النص حجة سلطة في الذهن تتحدد مع بناء السلطة في الواقع، فيتم احتكار الفكر والسلوك وتوجيه النظر والعمل، النص هو الأصل في القياس الشرعي، إرجاع الواقع الجديد إلى الأصل القديم لتعدية حكم الأصل إلى الفرع إذا ما تشابهت العلتان، والعلة منصوص عليها، بل إن أهل الظاهر ينكرون القياس والتعليل والاستحسان والاستصحاب وكل ضروب الاجتهاد، تنفيذًا للأوامر واجتناب النواهي طاعة لله دون بحث عن العلل والأسباب، ولو أمر الله بغير ما أمر لوجد القياس علة جديدة، ولأطاع المؤمن الأمر الجديد إذا قاوم الحاكم الاستعمار والصهيونية شرع العقل لذلك، وإذا ما صالح شرع نفس العقل واعترف واستسلم للأمر الجديد. مصادر الشرع الأربعة تعطي الأولوية للنص على الواقع نص الكتاب ونص الحديث ونص الإجماع ونص القياس في الأصل والعلة والحكم حتى اتهمت الحضارة الإسلامية بأنها حضارة نص في مقابل حضارة واقع، حضارة كتاب وليست حضارة طبيعة، والكتاب طبيعة مغلقة، والطبيعة كتاب مفتوح، قيل الحضارة الإسلامية أنها حضارة نصية لا ترى العالم إلا بتوسط النص، احتمينا بالنص فدخل اللص، وقد قنن الشافعي هذا الإيقاف للتاريخ وتكلس النص بتقنينه السنة وجعلها مرادفة للكتاب، وانتصار القول بالمأثور على القول بالمعقول وأهل الأثر على أهل الرأي والحجاز على العراق، مع أن النص في الأصل له سبب نزول أي الأولوية للواقع على النص، وللسؤال على الجواب، وتتطور الأحكام فيه بتطور الزمان كما هو معروف في الناسخ والمنسوخ، فالنص له مكان وزمان، وقدرة وأهلية ولا يجوز تكليف ما لا يطاق والضرورات تُبيح المحظورات، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح إلى آخر ما هو معروف من علوم القرآن وعلم القواعد الفقهية، ليست الكلمة هي الحروف بالضرورة بل هي الروح والعالم، العلم والوجود، النظر والعمل، الله والعالم.

(٤) الجذور الأنطولوجية

وتعني الأنطولوجيا التصور العام للكون وليس الكون ذاته؛ فالكون تصور كما أن المعرفة إدراك، وأحد مصادر القهر والتسلط هو التصور الهرمي للعالم، في البداية الواحد، منه فاض الكثير تدريجيًّا، العقل ثم النفس ثم المادة كما هو معروف في نظرية الفيض وأصولها اليونانية وتفريعاتها المسيحية والإسلامية، كلما صعدنا إلى أعلى بلغنا أعلى درجات الكمال، وكلما هبطنا إلى أسفل وصلنا إلى أدنى درجات النقص، والعالم متدرج بين الكمال المطلق والنقص المطلق، لا فرق في ذلك بين تصور الكون وتصور المجتمع، بين مراتب الأفلاك والطبقات الاجتماعية، العالم علاقة رأسية بين طرفين، الأعلى والأدنى، وليس علاقة أفقية بين الأمام والخلف، هو تصور واحد في الكون والمجتمع، في الطبيعة والأخلاق، في العام الخارجي والعالم الداخلي، في العالم الأكبر والعالم الأصغر بتعبير إخوان الصفا، وهو التصور الذي خلده الفارابي في آراء أهل المدينة الفاضلة على قمتها الملك أو الفيلسوف أو النبي أو الإمام، الكل له معنى واحد، ويؤدي نفس الوظيفة وهي الرئاسة، الفرد الواحد المطلق الذي لا نظير له، ولا شبيه ولا ضد ولا شريك، يفيض كل شيء منه، ويعتمد كل شيء عليه، هو قائم بذاته لا يعتمد على أحد، ويتحول هذا الواحد الوحيد المتفرد القابع في الذهن والتصور في العالم إلى أحادية في النظرة، الرأي الواحد والتفسير الواحد، والعقيدة الواحدة، الفرقة الناجية، وهو ضد الاجتهاد، وضد التغير مع الزمان وضد التعددية وحق الاختلاف كحق شرعي. الاختلاف في الطبيعة وفي الفكر، فلا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة أو يحتكر تفسيرها، «كلكم راد وكلكم مردود عليه».٣ كان يمكن البداية بالعالم وتحليل عناصره واكتشاف قوانينه؛ فالعالم هو الطريق إلى الله كما هو الحال عند الصوفية صعودًا لا نزولًا، تأويلًا لا تنزيلًا، فلا فرق بين الحق والخلق كما قال ابن عربي «سبحان الذي خلق الأشياء وهو عينها.» ضد ثنائية الخالق والمخلوق، الأعلى والأدنى، الحاكم والمحكوم، الرب والمربوب، السيد والعبد والتي جعلت علم الكلام التقليدي أحد مصادر القهر والتسلُّط، يمكن رد الاعتبار إلى الأدنى بالارتقاء فهبوطه ليس قدرًا، ونقصه ليس أزلًا.

ويمكن انتزاع هذه الجذور عن طريق هز هذا النسق الهرمي كله والتحول من التصور الرأسي للعالم إلى التصور الأفقي، ومن تصور العلاقة بين طرفيه ليس بالضرورة على أنها أدنى وأعلى بل أيضًا أمام وخلف؛ فالأعلى هو الأمام، والأدنى هو الخلف، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، وينقد القرآن التخلف والمتخلفين والقعود والقاعدين والمنقلبين على الأعقاب، والمثاقلين إلى الأرض والكسالى، ويثني على المجاهدين الذين يسعون في الأرض ويكدون فيها وينتشرون في أرجائها. ارتبط هذا التصور القديم بالفلسفة اليونانية خاصة الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة، عالم المثل الذي ليس له قرين، والواحد الذي يفيض عنه كل شيء، كما ارتبط بالمثالية اليونانية العقلية عند أرسطو، ثنائية الصورة والمادة، والجوهر والعرض والعلة والمعلول، والثابت والمتحرك، وربما ارتبطت بالتراث الشرقي القديم، المانوي الغنوصي التطهري، ثنائية الروح والمادة، النفس والبدن، الخطيئة والخلاص، السقوط والرفع والتي طبعت المسيحية الشرقية بطابعها الصوفي، والغربية بطابعها العقائدي الشيئي، إن وحدة الوجود هي أكبر رد فعل على هذه التراتبية، هذه الثنائيات المتكررة رأسيًّا، تجعل العالم واحدًا والبشرية واحدة، والمجتمع واحدًا لا فرق فيه بين حاكم ومحكوم، سيد ومسود، ظالم ومظلوم، قاهر ومقهور، ملك ورعية. لقد حاول أصحاب الطبائع من المعتزلة من قبل القول بالكمون والطفرة من أجل توحيد الطبيعة، وحاول ابن رشد بعد ذلك تصور عالم يحكمه العقل والقانون ولا تسيطر عليه الإرادة، كما حاول إدراك العلاقة الدائرية بين العلة والمعلول دون العلاقة الطولية من أجل الانتهاء إلى علة أولى، تفسير الطبيعة بالطبيعة مثل تفسير الكتاب بالكتاب، ولكن العجز المستمر عن فهم العالم أو عن تغييره يجعل الذهن أقرب إلى الثنائية التعويضية، يجد في الأعلى نعيمه وخلاصه وفي الأدنى حرمانه وشقاءه، وازدوجت الأشعرية بالتصوف لتجعل من هذه الثنائية الرأسية تصورًا للعالم وبنيته للثقافة الشعبية، ويمكن إيجاد شرعية لذلك في النصوص أيضًا مثل «الناس سواسية كأسنان المشط.» و«أنا شهيد على أن عباد الله إخوان.» و«كلكم لآدم وآدم من تراب».

(٥) الجذور الأخلاقية

وبالرغم من حصر الإنسان في قسمة الحكمة القديمة إلى منطق وطبيعيات وإلهيات دون إنسانيات باستثناء إخوان الصفا الذين أضافوا جزءًا رابعًا عن العلوم الإلهية الناموسية والشرعية؛ فقد ظل الإنسان مقسمًا إلى نفس وبدن، النفس موضوع للإلهيات في نظرية الاتصال بالعقل الفعال، والبدن موضوع للطبيعيات خاصة علم الطب، فنظرًا لغياب الإنسان كموضوع مستقل في تراثنا القديم غاب في وعينا المعاصر، وأصبح محاصرًا بين الله والسلطان من ناحية وبين العالم الذي لا يمكن السيطرة عليه أو احتواؤه من ناحية أخرى.٤ النفس تئن تحت ثقل الإلهيات والمعارف الإلهية بعد تصفيتها من شوائب البدن، والبدن يئن من الطبيعيات، الأمراض والآفات والعلل واضطراب الأخلاق والنسب، ومع ذلك فقد انطبعت الأخلاق بالطابع الثنائي أو التصور الهرمي التراتبي للعالم في نظرية الوجود، النفس جماع الفضائل، النظرية منها أعلى من العملية، الحكمة أعلاها، والشجاعة أوسطها، والعفة أدناها، والعمل العقلي أعلى قيمة من العمل اليدوي، والعدالة في النفس قبل أن تكون في الواقع والمجتمع. انقسم الإنسان إلى قسمين متحاربين متعارضين متناقضين متضادين، النفس والبدن، الخير والشر، الحق والباطل، الفضيلة والرذيلة، الحسن والقبح، الحلال والحرام في الحاضر، الثواب والعقاب، والجنة والنار في المستقبل، وتغلبت قيم القديم على قيم الجديد، قيم الأسلاف على قيم الأحفاد، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، أصبحت الأخلاق مصدر تحريم وقمع، والعقاب الناشئ عنها مصدر إرهاب وتخويف، وفي نفس الوقت وتحت ضغط إرهاب أخلاق المنع يتم تشريع الانحلال، بتعدد الزوجات، وما ملكت الأيمان والإماء والجواري، ولماذا تحريم ما أحل الله من الطيبات والرزق للذين آمنوا؟ منع القليل والسماح بالكثير، فالخوف لا يولد إلا التهرب، والحرمان لا يؤدي إلا إلى الانحلال.

ومن أجل التخلص من الإرهاب الأخلاقي، ثنائية الحرام والحلال في الثقافة الشعبية، يمكن الاعتماد على أخلاق الطبيعة؛ فالطبيعة مصدر التحرر وليس ميدان القهر، وما سمي حرامًا هو فعل سلبي للطبيعة تنأى عنه، وما سمي واجبًا أو فرضًا هو فعل إيجابي للطبيعة تقوم عليه، المحرم والفرض أفعال طبيعة وبداهة؛ فالطبيعة خيرة تتجه نحو الكمال وتبتعد عن النقص، كما يمكن الاعتماد على الأفعال البديلة الحرة مثل المكروه والمندوب؛ فأفعال الطبيعة الخيرة أفعال محتملة تتوقف على الإرادة المختارة للفضل والكمال؛ ومن ثم تقوم الطبيعة بأفعال الواجب والممكن، الضروري والمحتمل تعبيرًا عن أخلاق الحرية لا أخلاق القهر، وتحقيقًا لأخلاق النماء لا أخلاق المنع، أما الحلال فهو الفعل التلقائي انطلاقًا من البراءة الأصلية، الشرعية في داخله وليست في خارجه، الشرع والطبيعة نظام واحد وليسا نظامين تراتبيين، أحدهما فوق الآخر، مركز توجيه وقيادة في أحسن الأحوال، ومصدر قهر ومنع في أسوأ الأحوال، كما أن مقاصد الشريعة الابتدائية وهي الضرورات الخمس، النفس والعقل، والدين، والعرض، والمال يمكن أن تكون مصدرًا لأخلاق اجتماعية إنسانية عامة دفاعًا عن الحياة ضد القتل والتصفية الجسدية والاستئصال الجماعي والانتحار، وتأكيدًا للحياة العاقلة التي تقوم على الفهم والإدراك وليس على القهر والجبر والفرض والتسلط، وإثباتًا للحقيقة الموضوعية المستقلة عن أهواء البشر ومصالح جماعات الضغط والفئات الاجتماعية، ودفاعًا عن الكرامة الوطنية ضد انتهاك حقوق الإنسان، وحفاظًا على ثروات الشعوب من النهب والاحتكار، إن المصلحة أساس التشريع ومصدره الأول، والدفاع عن المصالح العامة وتحقيقها يمثل أفضل فعل أخلاقي، أخلاق التحقُّق الذاتي للفرد والجماعة وليست أخلاق القهر والمنع التي تهدف إلى حبس الطاقات وخنق القدرات، وإجهاض عمليات التحقق، وإيقاف المسار الطبيعي لحياة الأفراد والشعوب، وإن وضع الشريعة للإفهام تعطي الحق للفرد في أن يرفض أخلاق المنع قبل فهمها، كما أن وضع الشريعة للامتثال تعطيه الحق في رفض أخلاق الجبر دون الاقتناع بها بحرية كاملة وتمثلها طواعية واختيارًا، كما أن وضعها للتكليف لا يعني الجبر الخارجي بل هو اختيار حر لتحقيق الأمانة؛ فالتكليف من الواجبات العقلية عند المعتزلة.

(٦) الجذور السياسية

وإذا كانت الجذور المعرفية والأنطولوجية والأخلاقية تبدأ من الديني إلى السياسي فإن الجذور السياسية والتاريخية تبدأ من السياسي إلى الديني؛ فالجذر في أصله في الواقع ثم تضفي الشرعية عليه بعد ذلك بالدين، جيلًا وراء جيل حتى يتحول إلى معطى تاريخي، ويصبح واقعًا بديلًا بفعل العادة والألفة، فالخلافة والإمامة وقائع سياسية حدثت بعد وفاة الرسول، البحث عمن يخلفه لقيادة الجماعة، صحيح أن البيعة الأولى إنما كانت إحدى التعبيرات القبلية الأولى عن مبدأ الشورى الشرعية، البيعة عن طريق المصافحة «امدد يدك أبايعك»، ولكن تشريع ذلك بالدين وبالنصوص أتى بعد ذلك من أجل إبقاء السلطة في فئة بعينها، ولما خلا القرآن من ذلك فقد قام الحديث بالمهمة، فالوضع فيه أسهل؛ لأنه حديث شفاهي قبل مرحلة التدوين في حين أن القرآن كان مدونًا منذ البداية ويصعب الزيادة عليه أو النقص منه، فانتشرت أحاديث مثل «الأئمة في قريش» تدعيمًا لسلطة قريش، وذاعت أحاديث أخرى تدعيمًا للمعارضة داخل قريش لصالح عليٍّ وبنيه مثل «من كنت مولاه فعلي مولاه.» «أنت وصيي وخليفتي من بعدي.» «أنت مني بمنزلة هارون من موسى.» وتتكاثر الأحاديث كلما عم اضطهاد المعارضة في مواجهة اغتصاب الأمويين للسلطة، ولما شعر العجم أن الحكم قد استقر للعرب، قرشيين أو غير قرشيين، شعروا أيضًا بالاضطهاد، وانتشرت أحاديث المساواة بين العرب والفرس «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.» وكما ظهرت أحاديث تبين فضائل العرب بل ورسائل تبين فضل العرب على العجم، كما فعل الجاحظ ذاعت أحاديث فضائل فارس مثل «العلم في فارس.» «لو كان العلم في الثريا لناله رجال من أهل فارس.» حتمية الواقع أولًا وذيوع النص ثانيًا، ونظر الفقهاء للخلافات الفقهية وهي في بدايتها صراعات سياسية على الحكم، وتتوالى الأحاديث في تشريع الأمر الواقع في حديث «الفرقة الناجية» التي هي الأموية التي في السلطة وتكفير كل فرق المعارضة حتى تظل السلطة في يد الأمويين. كما تنتشر أحاديث ضرورة طاعة الإمام وعدم الخروج عليه «اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي.» وإلا فجزاؤه القتل درءًا للفتنة، ثم يؤول القرآن لصالح هذا التشريع السياسي مثل: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ويصمت عن أحاديث أخرى لصالح المعارضة والرقابة على الحكام بل وشرعية الخروج على الحاكم الظالم.

ويمكن انتزاع هذه الجذور عن طريق بيان تاريخية النظريات السياسية، والعودة بالتشريع السياسي إلى نشأته في الصراع السياسي، والتحول من «السياسة الشرعية» إلى جذورها في «الشرعية السياسية»، كيف نشأت تاريخيًّا، ففي التاريخ تمتد جذور السياسة وهو ما عناه القدماء من أن الإمامة مسألة فقهية شرعية وليست مسألة عقائدية دينية، بها تتحقق مصالح الناس وليست أصلًا من أصول العقائد، يتم تجفيف منابع القهر السياسي عن طريق اقتلاع جذوره من الوعي التاريخي حتى يتم القضاء على فروعه وأوراقه وثماره في الوعي السياسي؛ فقريش قديمًا هي الجيش حديثًا، لا يخرج الحكم منها ولا تتداول السلطة خارجها، والنظام الملكي تنبأ به الرسول وارثًا للخلافة حتى ولو كان بمعنى سلبي، ولكنه قانون تاريخي، «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة تتحول بعدها إلى ملك عضود.» ويمكن ثانيًا إحياء الجذور القديمة التي حقَّقها الصراع السياسي دون أن تموت لأنها ما زالت مطوية في التراث مثل «الدين النصيحة.» وضرورة مراجعة الحكام على الملأ أمام الناس في المساجد قديمًا وفي وسائل الاتصال حديثًا. «الساكت عن الحق شيطان أخرس.» و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» كنظام شرعي تاريخي، وهو نظام الحسبة، الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية في المدرسة السلفية المعاصرة، عند ابن القيم، ويعاد إلى الوعي السياسي الجذور السياسية لإحيائها، وما أكثرها في القرآن مثل: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وفي الحديث «لا خاب من استشار.» وعدم طاعة الإمام في معصية «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» وخطبة أبي بكر في السقيفة التي تجعل السلطة عقدًا اجتماعيًّا بين الحاكم والمحكوم «إني وليت عليكم ولست بخيركم …» وهو ما شرعه الفقهاء «الإمامة عقد وبيعة واختيار». فإن لم تجد النصيحة العلنية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تطبيقًا للحسبة فإنه يتم اللجوء إلى القضاء، وشكاية الإمام لتفريطه في الأمانة، وإخلاله بالعقد، ومحاباته الأغنياء على حساب الفقراء، وموالاته الأجنبي على الوطني، والصلح مع الأعداء المحتلين أراضي الأمة، وعدم الذب عن البيضة، وتكميم الأفواه، وتعذيب الخصوم السياسيين، والاستيلاء على المال العام، وعموم الفساد في البلاد، فإن لم يرعوا الإمام ويلتزم بحكم قاضي القضاة الذي لا يجوز عزله، هنا يكون الخروج على الإمام الظالم أمرًا شرعيًّا بعد استنفاد كل الوسائل السلمية الشرعية الأخرى، فكما أن الطاعة للإمام العادل أمر شرعي، فكذلك الثورة ضد الإمام الظالم أمر شرعي.

(٧) الجذور التاريخية

والتاريخ أيضًا أحد مصادر القهر السياسي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي والديني بما يُعطيه من أنماطٍ في البداية كانت حوادث ثم تحولت عبر إضفاء الشرعية عليها إلى أنماط مثالية للقدوة والاقتداء حتى استحال التغير وإبداع أشكال جديدة للحكم نظرًا لقهر الماضي، العصر الذهبي، الخلافة الراشدة، النبوة، الخلافة، الإمامة، الصحابة، التابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ويغذي هذا الجذر أحاديث تحوله إلى تاريخ شرعي مثل «خير القرون قرني ثم الذي يليه.» مما تحول إلى منهج في كتابة التاريخ، تاريخ الطبقات التي تتناقص في الفضل بتطور الزمان، كما تحول في جواز إمامة المفضول بالرغم من وجود الأفضل في علم العقائد، ويتم اختيار الآيات المتفقة مع هذه الأحاديث مثل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. وتحول التاريخ البشري إلى تاريخ مقدس لا يمكن إرجاعه إلى التاريخ من جديد، وأصبح كل شيء في الماضي مقدسًا، وكل التراث إلهيًّا مع أنه من إبداع الرجال واجتهاداتهم طبقًا لظروف عصرهم وتحدياتهم، كل شيء في التاريخ أصبح مصدر تقنين وتشريع وكأن التاريخ لم يتكون من أهواء البشر، وصراع القوى، وتباين المصالح، اتحد التراث بالدين، والكلام بالعقيدة، والفقه بالشريعة، وأصبح كل اجتهاد في الأول إنكارًا للثاني، وكل إعادة نظر في الأول كفرًا بالثاني وخروجًا عليه، وأصبح التراث لحظة تاريخية واحدة في الماضي وكأن الزمان قد توقف، والاجتهاد لم يعد مصدرًا من مصادر التشريع، المذاهب الفقهية أربعة إلى الأبد لا تزيد ولا تنقص، لا يتجاوزها الزمن ولا تتجاوز الزمن، والفرقة الناجية واحدة عبر العصور، والهالكة هي مدانة إلى يوم الدين، والفلسفة هي إحدى لحظاتها في التاريخ، التعامل مع اليونان وفارس والهند وكأن التاريخ القديم توقف ولم يتحول إلى تاريخ وسيط وحديث ومعاصر. ابن رشد آخر الفلاسفة، وابن سبعين آخر الصوفية، والإيجي آخر المتكلمين، والشوكاني آخر الأصوليين. أتت النهاية ولم تظهر البداية. عمَّ التقليد مع أن التقليد ليس مصدرًا للعلم مثل الجهل، وتوقَّف الاجتهاد، وتحوَّل القديم إلى مصدر سلطة بالرغم من معركة القدماء والمحدثين منذ القرن الماضي، وقد انتكست دعوات الإصلاح والتغير والثورة في أواخر هذا القرن نظرًا لقوة الماضي وقبوع التاريخ في اللاشعور كمانع للتقدم، تستمد منه الحركات المحافظة شرعيتها وتمتد إليه جذورها بالرغم من تغيُّر الزمان وتبدُّل الأحوال، و«كل يوم هو في شأن».

ولم ينج البديل الآخر، النقل عن الغرب، من ثقل التاريخ الحديث وقوة الانبهار بالغرب والانجذاب نحوه، إحساسًا بالنقص أمامه، وتعويضًا عن احتكار الذات. لم تنجح تجربة الحداثة، التحديث من الخارج، واستبدال سيد جديد بسيد قديم، وبسلطة القدماء سلطة المحدثين، ولا فرق بين «قال ابن تيمية وابن القيم» و«قال ماركس وهيجل». لم تتغير بنية السلطة، سلطة التاريخ وإن تغير مصدرها، وانتهت الليبرالية في العالم العربي نظرًا لسلفيتها واتخاذها الليبرالية الغربية نموذجًا لها. لا فرق بين الحركة الإصلاحية عند الأفغاني أو التيار العلمي العلماني عند شبلي شميل أو الفكر السياسي الليبرالي عند الطهطاوي وخير الدين؛ فاختيار النخبة غير ثقافة الجماهير، والوعي السياسي للنخبة مجتث الجذور عن الوعي التاريخي للجماهير، وكان من السهل على سلطة الموروث القديم نقد سلطة الوافد الجديد واتهامه بالتغريب والتبعية، كانت الليبرالية الغربية الأيديولوجية الممهدة للرأسمالية واقتصاديات السوق والمنافسة الحرة، وقد صعب في واقعنا الحاضر تبنِّي الليبرالية كأساس نظري دون الرأسمالية كنظام سياسي؛ نظرًا للبون الشائع بين الأغنياء والفقراء، بل إن قيم الليبرالية الأولية مثل العقل والترشيد وحقوق الإنسان وقيمة الفرد ونظام الطبيعة لم تترسخ في الوعي العربي المعاصر؛ نظرًا لجذوره التاريخية في المقدس القديم، وانهارت أمام النظم التسلطية الموروثة العسكرية والملكية.

تستطيع الفلسفة أن تساهم في انتزاع جذور التسلط والقهر من الوجدان العربي المعاصر عن طريق إعادة بناء الثقافة الوطنية وخلخلتها من جذورها الأحادية الطرف وإحياء جذور أخرى أكثر قدرة على إثبات حرية الفرد وديمقراطية الحكم، وهو عمل تاريخي طويل يقتضي حصاد ألف عام من جذور التسلط والقهر، والبداية بنهضة عربية ثانية غير النهضة الأولى التي بدأت في القرن الماضي، تتعلم من تجربتها في الحداثة وتغوص في عمق الوعي التاريخي لتؤسس الوعي السياسي الجديد، وهو ليس عملًا نخبويًّا بقدر ما هو ثورة ثقافية عامة في التعليم والإعلام اللذَيْن ما زالا خاضعين للنظم العسكرية والملكية، ولما كانت دورة التاريخ لا تتوقف فليجرب المثقفون الوطنيون حظهم في نهضة عربية ثانية في القرن القادم بعد أن جرب المفكرون الأحرار حظهم في النهضة العربية الأولى في القرن الماضي، وجرب الضباط الأحرار حظهم في هذا القرن.

١  جريدة الزمان، لندن–بغداد، نوفمبر ٢٠٠٢.
٢  انظر دراستنا: الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا العربي المعاصر في الدين والثورة في مصر، ج٢، الدين والتحرر الثقافي، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩، ص٩٩–١١٨.
٣  انظر دراستنا: حق الاختلاف في: هموم الفكر والوطن، ج١، ص٢٢٩–٢٣٨.
٤  انظر دراستنا: لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟ دراسات إسلامية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ص٣٩٣–٤١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤