نحو تنوير عربي جديد١

محاولة للتأسيس

(١) الموضوع والمنهج والصورة

مصطلح «التنوير» الآن من أكثر الألفاظ العربية تداولًا منذ عقدين من الزمان، بعد أن ظهر المد الإسلامي وانتشر في الثقافة والإعلام والتعليم والحياة العامة، روجت له الاتجاهات «العلمانية» مستقلَّة عن الدول أو بتأييد منها للوقوف في مواجهة التيار الإسلامي متهمة إياه بالظلامية.

وعادة ما يوصف بالعربي وليس بالإسلامي، قراءة للماضي في الحاضر، وإسقاطًا من الحاضر على الماضي؛ فمنذ فجر النهضة العربية، والعرب يعيشون عصر تنوير عربي، ويحنون بعد انتكاسة التنوير الأول إلى تنوير عربي جديد.

ولم ينجُ الإسلام أيضًا والتيارات الإسلامية من استعمال اللفظ مع تعديل في الاشتقاق من «تنوير» إلى «مستنير»؛ فالإسلام المستنير هو الإسلامي الإصلاحي الذي يحاول إحياء الإصلاح القديم ودفعه خطوة نحو الأمام في خطاب ثالث يجمع بين الخطاب السلفي التقليدي والخطاب العلماني الغربي، يقبل الحوار مع الطرفين، ويشارك في قيم التنوير التي تمثلها المعتزلة والفلاسفة والعلماء وفلاسفة التنوير في الغرب خاصة في فرنسا في القرن الثامن عشر ومعرفة العرب بها بعد تقديمهم في مصر والشام منذ رفاعة الطهطاوي.

ومع ذلك يظل لفظ «التنوير» لفظًا مرتبطًا بالغرب، بالفلسفة الغربية خاصة في القرن الثامن عشر، عصر الثورة الفرنسية، وما زال أشهر فلاسفة التنوير روسو، وفولتير، ومونتسكيو، ودالبير، ودويدرو، وتيار «دائرة المعارف الفلسفية» في فرنسا، وفي ألمانيا هردر وكانط ولسنج وفشته، وفي إنجلترا دعاة الدين الطبيعي، وفي أمريكا توماس بين، وفي إيطاليا روزميني.

وبالرغم من أن التنوير موجود في كل حضارة إلا أن التنوير الغربي الحديث هو الذي غلب على الأذهان، فاحتكر الحاضر الماضي وطغى عليه؛ إذ يمثل كونفوشيوس في الصين حركة تنويرية في الدين الصيني القديم، قراءة أخلاقية إنسانية اجتماعية لكتاب «التغيرات»، والبوذية اتجاه تنويري في الهندوكية القديمة تتجاوز العقائد والطقوس وتعدد الآلهة إلى الدين الروحي الخالص، والفلاسفة اليونان سقراط وأرسطو وأفلاطون يمثِّلون التنوير العقلاني اليوناني في مواجهة الأساطير اليونانية وحكم الطغاة، يمثل عصر بركليس في التاريخ اليوناني عصرًا تنويريًّا، والإسلام دين تنويري يقوم على العقل، ويؤكد حرية الإنسان ومسئوليته والعدالة الاجتماعية والمساواة، وقدرة الإنسان على السيطرة على قوانين الطبيعة بعد اليهودية الاختيارية الاصطفائية والمسيحية القلبية المخلصية، والرشدية اللاتينية في العصر الوسيط المتأخر تمثل حركة تنوير ضد الكنيسة والدولة الإقطاع؛ فالتنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر ما هو إلا مرحلة من مراحل التنوير البشري الذي يميز كل حضارة، وكأن كل حضارةٍ تمر ضرورة بحركة تنوير في مقابل الاتجاه المحافظ، وعادة ما يطلق على التنوير صفة العربي أكثر من الإسلامي بالرغم من أن وصف الفكر الحديث يكون على التبادل بين الصفتين، الفكر العربي أو الفكر الإسلامي؛ فالأفغاني ومحمد إقبال وأحمد خان وأبو الأعلى المودودي، وأبو الحسن الندوي من المصلحين الإسلاميين وإن لم يكونوا عربًا؛ وشبلي شميل، وفرح أنطون، وأديب إسحق، وسلامة موسى، والبستاني، واليازجي، وزيدان وحملة التنوير من المهاجرين الشوام إلى بر مصر عرب وإن لم يكونوا مسلمين دينًا، كالإسلام ثقافة جميع العرب، مسلمين ومسيحيين.

ولا يعني التأسيس هنا «التأسيس الفلسفي بالضرورة، فالخطاب العربي المعاصر حامل لواء التنوير ما زال خطابًا ثقافيًّا عامًّا خاليًا من الأحكام الفلسفية، مصطلحًا وموضوعًا ومنهجًا، يضم الخطاب الثقافي العام والتاريخي والأدبي والسياسي والقانوني والاجتماعي والديني العام؛ لذلك ارتبط التنوير بهذه المجالات كلها، ودخل فيه الأفغاني ومحمد عبده من الإصلاح الديني، والطهطاوي وخير الدين التونسي من الإصلاح السياسي لبناء الدولة الحديثة، وشبلي شميل وفرح أنطون من أجل إعادة بناء الموقف من الطبيعة على أساس علمي.

اتسم التنوير العربي بالتنوع والشمول، وتعددت النماذج على مدى ثلاثة قرون في التيارات الرئيسية الثلاثة في الفكر العربي المعاصر، الإصلاح الديني، والسياسي الليبرالي، والعلمي العلماني، وبالرغم من هذا التنوع والشمول إلا أنه يخضع لبنية واحدة، وتنطبق عليه أحكام واحدة، وهذا هو معنى «التأسيس» أي البحث عن الجذور المشتركة للتنوير العربي بكل تياراته وعلى مدى أجياله.

ويضم التنوير العربي مساحة زمنية تتجاوز القرنين من الزمان، القرن الماضي وهذا القرن الذي انقضى، التاسع عشر والعشرون، ويتزاحم فيها التاريخان الميلادي والهجري؛ فالفكر العربي هو جماع الوافد والموروث، ما يفد من الغرب الحديث وما يأتي من التراث القديم، ويتبادل على الفكر الوصفان، الحديث والمعاصر، فهو الفكر العربي الحديث الذي يضم قرنين، وهو أيضًا الفكر العربي المعاصر الذي قد يشير إلى القرن العشرين فقط دون تحديد زمني دقيق للوصفين، ولما كانت جذور المعاصر في الحديث، وكان الفكر العربي المعاصر امتدادًا للفكر العربي الحديث استمرارًا أو انقطاعًا، تواصلًا أم ردة فإن التنوير العربي يضم التجربتين معًا، وإذا كان الجيل يمثل أربعين عامًا فإن التنوير العربي قد حملته خمسة أجيال على الأقل في الفكر العربي الحديث والمعاصر.٢

ويصعب التمييز في هذه المساحة الزمنية بين الفكر والواقع، بين الفلسفة والسياسة، بين الموضع والموقف، بين النظر والعمل؛ فالباحث جزء من الموضوع، يحمل هموم الفكر والوطن، وجزء من حركة التحرر العربي وأحد روافد التنوير العربي الإسلامي.

كما أنه يصعب التمييز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين التقرير الخالص وبعض الأمنيات، وصف ما هو كائن استسلام وعجز وإحباط وتشاؤم، والحلم بما ينبغي أن يكون طوباوية وأحلام يقظة، والتنوير العربي بين الاثنين يتجاوز ما هو كائن دون الإغراق فيما ينبغي أن يكون.

وتتعدد المناهج في تناول الموضوع؛ إذ يمكن استعمال المنهج التاريخ النقدي الذي يقوم بعرض نشأة التنوير العربي وتطوره وتموجاته وجدليته، ويعتمد على أكبر قدر ممكن من الإحالات إلى المصادر الرئيسية والمراجع الأساسية، النصوص والدراسات لإعطاء أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الموضوع بالرغم من توافرها بل وتكرارها من دراسة إلى أخرى على مدى أكثر من نصف قرن، يستعرض فيه الباحث قدرته على التجميع والحشد للتواريخ وأسماء الأعلام ومؤلفاتهم، ويفيد المبتدئين وصغار الباحثين.

ويمكن الاعتماد على منهج تحليلي فكري خالص يقرأ ما بين السطور، ويتحول من المعلومات إلى العمل، ومن التاريخ إلى البنية، ومن المعلوم إلى المجهول، ومن الواقع إلى الفكر، ومن الدال إلى الدلالة، ويحاول أن يستبطن الأمور بناء على تجربة حية تتكشف فيها ماهية التنوير، فالموضوع يظهر من خلال الذات، والتجربة الجماعية، الحضارية والتاريخية تتكشف من خلال التجربة الفردية والموقف الحياتي المشترك، وهو ما يعرف باسم الظاهريات، فلسفة ومنهجًا.

والتنوير العربي كمصطلح هو صورة فنية أثيرة في الثقافة العربية الإسلامية مشتقة من لفظ النور الذي منه آيات النور الشهيرة: نُورٌ عَلَى نُورٍ، قبل أن يشير إلى التنوير الغربي؛٣ لذلك يمكن الحديث عن فجر التنوير العربي وغسقه، وظهره وضحاه، استكمالًا للصورة. وقد تكون الصورة إحدى تجليات الموضوع في الذات؛ لذلك كانت لغة التصوير الفني أبلغ في الإقناع والتأثير والإيحاء من اللغة العقلية٤ الرياضية أو المنطقية المجردة أو اللغة العينية الحسية الملموسة.٥

(٢) فجر التنوير العربي

لقد بدأ فجر النهضة العربية منذ قرنين من الزمان بثلاث بدايات متمايزة، كلها جادة وأصيلة، الأول الدين، فلا يتغير شيء في واقع الأمة إن لم يتغير فهمنا للدين أولًا، طالما أن الدين ما زال حيًّا في النفوس، يحدد تصور الناس للعالم، ويضع معاييرهم للسلوك، التراث ما زال متواصلًا، من الماضي إلى الحاضر، ونظرًا لسيادة روح المحافظة عليه في العصور المتأخرة، وأحادية النظرية، الأشعرية في العقيدة، والشافعية في الشريعة، واستبعاد الفرق والمذاهب الأخرى التي كانت تمثل الرأي الآخر، المعتزلة والخوارج والشيعة، فقد بدأ الإصلاح الديني يتخلص من روح المحافظة، ويرد الاعتبار للرأي الآخر، فأصبح محمد عبده أشعريًّا في التوحيد معتزليًّا في العدل، واعتبر الشيخ شلتوت الفقه الجعفري مذهبًا خامسًا، وتأسيس جماعة التقريب بين المذاهب، واندلاع الثورة الإسلامية في إيران، والمقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، وظهر المعتزلة الجدد يدعون إلى العقل والحرية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ووضع الأفغاني أسس الأيديولوجية الإسلامية الثورية، الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، واندلعت الثورة العرابية بناء على تعاليمه بعد صيحة عرابي في قصر عابدين «إن الله خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا عقارًا، والله لا نورث بعد اليوم.» واندلعت الثورة المهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا ثم عمر المختار، ونشأت حركات الاستقلال في المغرب العربي، علال الفاسي وعبد الحميد بن باديس، وحركة علماء الجزائر، والبشير الإبراهيمي، وعلماء الزيتونة، الطاهر بن عاشور، والفضل بن عاشور.

وامتدت النهضة الإسلامية إلى الهند، فظهر أحمد خان مدافعًا عن الحداثة والعصرية من خلال التعليم والثقافة وإن ساوى بينهما وبين المغرب، ثم ظهر محمد إقبال مؤسسًا الذاتية المستقلة في مواجهة الغرب باسم الاجتهاد دون التقليد.

وكانت الحركة الإصلاحية قد بدأت من قبل وسط شبه الجزيرة العربية في الحركة الوهابية تنقية للتوحيد، ورفضًا لكل أشكال الوساطة بين الإنسان والله، وكل أنواع الشرك النظري والعملي، وإقامة سلطة سياسية تحول الدعوة الدينية إلى دولة وإن غلب النقل على العقل.

فكان لهذا التيار الفضل في الدفاع عن الهوية وتوحيد الأمة، وخروج معظم حركات التحرُّر الوطني منها لمقاومة الاستعمار والصهيونية بل ولإقامة دول حديثة ونظم اشتراكية وعمران، ونقل الحضارة الإسلامية من فترتها الأولى الزاهرة في القرون السبعة الأولى التي أرَّخ لها ابن خلدون، وإنهاء الفترة الثانية، عصر الشروح والملخصات، وبداية فترة ثالثة تعود فيها الحضارة الإسلامية في عصر ذهبي جديد، وما زال يجاهد في فلسطين «حماس»، وجنوب لبنان «حزب الله»، بل لقد قامت الثورة الإسلامية في إيران بفضله وتثير دهشة العالم بهذا التحول الديمقراطي، والصراع الحر بين المحافظين والإصلاحيين.

والثاني الدولة، فلن يتغير شيء في الواقع إن لم نبنِ الدولة الوطنية الحديثة أولًا كما قال الطهطاوي: «فليكن هذا الوطن مكانًا لسعادتنا أجمعين، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع.» فهي دولة حديثة تقوم على حرية الفكر، والنظام البرلماني، والتعددية الحزبية، والدستور، والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وتعليم البنين والبنات، والتخطيط والعمران الحديث الذي يشمل الزراعة والصناعة، وهو النموذج الليبرالي الذي كان سائدًا في الغرب، والذي كان المثل الأعلى لحركة التنظيمات في تركيا.

لم يَتَبنَّه الطهطاوي تقليدًا للغرب بل اجتهادًا في القديم، فلا فرق بين مُثل التنوير الوافدة من الغرب وبين الموروث القديم، فما سمَّاه الغرب العقل معروف عند المعتزلة في الحسن والقبيح العقليين، وفي الشرع، ولا فرق بين ما قاله مونتسكيو في «روح القوانين» وبين ما قاله ابن خلدون في العمران؛ فمونتسكيو ابن خلدون الغرب، وابن خلدون مونتسكيو العرب، والدولة تقوم على حب الأوطان، وهو جزء من تاريخ الأمة وأقوالها المأثورة مثل «حب الوطن من الإيمان.» ومؤلفاتها العديدة مثل «الحنين إلى الأوطان» لأبي حيان التوحيدي، والمصالح العامة في الشريعة هي المنافع العمومية في العمران الحديث.

يقرأ الطهطاوي الأنا في مرآة الآخر، والآخر في مرآة الأنا في «تخليص الإبريز»، فمعرفة الآخر الحديث ليست غاية في ذاتها بل وسيلة لتنمية النفس وإكمال نقصها، ومعرفة الأنا ليست غاية في ذاتها بل لرؤيتها في صورة الآخر، والحكم على القديم بمعيار الجديد، هذه المرآة المزدوجة بين الأنا والآخر هي التي ساعدت على رؤية نقائص الأنا في مرآة الآخر، ورؤية نقائص الآخر في مرآة الأنا.٦

حرص الفكر الليبرالي الحديث على إيجاد التوازن بين القديم والجديد، بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر من أجل خلق ثقافة جديدة واحدة تتجاوز ثنائية الموروث والوافد كما فعل الحكماء من قبل، وفي نفس الوقت جعل حاجة الواقع هو المحك في الاختيار من المصدرين ما يلبي هذه الحاجة، يتناول تاريخ العرب قبل الإسلام، وسيرة ساكن الحجاز من التراث القديم، و«تخليص الإبريز» وترجماته من الوافد الجديد ثم «مناهج الألباب» في الدولة المصرية الوطنية الحديثة كما بناها محمد علي وأسرته.

وكان من مآثر هذا التيار إبراز أهمية الحرية والديمقراطية والدستور والبرلمان والتعددية الحزبية والمساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون، والعمران والتصنيع والتخطيط، وقد أدَّى ذلك إلى نشأة الدولة الحديثة في مصر وترسيخ النظام الديمقراطي الذي كان سائدًا قبل الثورات العربية الأخيرة في منتصف القرن الماضي.

والثالث، الطبيعة والمجتمع أي العلم والمجتمع المدني بلغة العصر، فلن يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير فهمنا للطبيعة والمجتمع أولًا، نكشف قوانين الطبيعة بالعلم من أجل السيطرة عليها، ونؤسس المجتمع المدني الحر عن طريق العقد الاجتماعي، الدين لله والوطن للجميع، وهو التيار العلمي العلماني الذي أسَّسه شبلي شميل.

ولما كانت الطبيعة في ذلك الوقت هي الطبيعة الحيوية وعلوم الحياة التي سادتها نظرية التطور، أصبحت نظرية التطور نموذج العلم، ليس فقط الطبيعي الحيوي بل أيضًا الإنساني، كل شيء يتطور ليس فقط الحياة العضوية بل الحياة العقلية. الدين، والعلم، والفن، والقانون، والتاريخ، والسياسة، والاجتماع، والأخلاق، والتربية، وترجم كتاب «أصل الأنواع» لدارون، حتى يقرأ العرب والمسلمون علمًا جديدًا يتجاوزون به علوم القدماء.

كان المقصود إحداث «صدمة حضارية» بالوافد ليقظة الموروث، وبالعلوم الجديدة، الطبيعية والاجتماعية لتجاوز العلوم القديمة الدينية والفقهية، وتقديم علوم الكهرباء والمغناطيسية والحديث عن المخترعات الجديدة كالراديو والفوتوغراف والعربة والقطار وقوة البخار والبرق التي تسهل حياة البشر، وتم جمع ذلك في «فلسفة النشوء والارتقاء».

ومن أجل إحداث توازن بين الوافد والموروث تم إعادة إنتاج نظرية التطور من التراث القديم في أصوله الأولى في القرآن الكريم؛ فتذكر آيات خلق الجنين في رحم الأم، وآيات الحث على التأمل في مظاهر الطبيعة، عالم الأفلاك أو عالم الحيوان والنبات حيث تنبثق الحياة، ثم طبق نظرية التطور في موضوعات محلية في اللغة والعادات والتقاليد والأخلاق والنظم الاجتماعية والقانونية حتى تتغير الثقافة الموروثة من الثابت إلى المتحول، ومن الوافد الجديد إلى الموروث القديم.

وقد كان من مآثر هذا التيار فتح رافد جديد في الثقافة العربية ومواجهة القديم بالحديث، والبداية بالعلوم الطبيعية، بكتاب الطبيعة المفتوح في مواجهة الكتاب القديم المغلق، والخروج من النص إلى العالم، ومن المقروء إلى المشاهد، ومن التأويل إلى الإدراك، ومن السمع إلى البصر.

(٣) غسق التنوير

ثم بدأت هذه التيارات التكوينية الثلاثة في الفكر العربي الحديث في الأفول التدريجي، والانتقال من فجر التنوير إلى غسق التنوير، حتى أصبحت النهايات على نقيض البدايات، والنتائج عكس المقدمات، وانقلب التنوير العربي من النقيض إلى النقيض، وكأن شيئًا لم يحدث، وكأن التقدم يحتوي على التأخر في ثناياه، وكأن الوجود يقوم على عدم.

فبعد أن اندلعت الثورة العربية وفشلت وأدت إلى احتلال مصر خشي محمد عبده تلميذ الأفغاني من هذا التصور العام الشامل للإسلام الثوري، الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل عند أستاذه، فآثر التريث والهدوء والنفس الطويل، والاستعداد، والتمهيد للثورة عن طريق يقظة النفوس والعقول، وإصلاح مناهج التربية والتعليم، وإتقان اللغة العربية، وتعلم الفنون والصناعات، وإصلاح المحاكم الشرعية، ونقد العادات الاجتماعية في الريف والمدن، وعدم الاصطدام بالسلطة السياسية بل والتعاون معها. «لعن الله ساس ويسوس» ضد «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» ولا ضير من صداقة الإنجليز والتعلم منهم واتقاء شرهم. الإسلام نهضة حضارية شاملة، تجديد للعلوم القديمة خاصة علم الكلام كما فعل في «رسالة التوحيد»، والتفسير كما هو الحال في «تفسير جزء عم»، وكما دون رشيد رضا في «تفسير المنار»، وفي بيان التمايز بين نهضة الإسلام الأولى وتقدم الغرب الحديث واختلاف النموذجين في «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية».

ولما قامت الثورة الكمالية في تركيا في ١٩٢٣ ثم ألغيت الخلافة وتبنت نمط التحديث الغربي، وقطعت مع الموروث القديم، وانتصر حزب «الاتحاد والترقي» وجماعة «تركيا الفتاة» على حزبي الإصلاح والحزب العثماني خشي رشيد رضا تلميذ محمد عبده من تكرار ما حدث في تركيا في شتى أرجاء العالم الإسلامي، فارتد سلفيًّا محافظًا ممسكًا بالماضي، مادًّا جذوره إلى محمد بن عبد الوهاب الذي تمتد جذوره إلى ابن تيمية الذي تمتد جذوره إلى أحمد بن حنبل الرافض حداثة العصر، وتشعبات الفكر، وتشتت الأمة محتميًا بالنص من مخاطر العقل، فتقلص الإصلاح مرة ثانية بحيث أصبح تيارًا سلفيًّا خالصًا.

ثم تتلمذ حسن البنا على رشيد رضا في دار العلوم، وأعاد نشر «المنار» بعد توقُّفها لمدة عام، وأراد إحياء مشروع الأفغاني الأول؛ الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج، وحول القهر في الداخل إلى الفساد السياسي في لعبة القصر والأحزاب، ومناديًا بتوحيد الأمة في مراكز ثلاثة؛ مصر والعروبة والإسلام، ومجاهدًا في فلسطين، ومثيرًا لعديد من الثورات في اليمن والنهضة الإسلامية الحديثة في سوريا والأردن والسودان، أراد إكمال مشروع الأفغاني بالتحول من الأيديولوجية الثورية إلى بناء الحزب الإسلامي الثوري الذي سيناط به تحقيق المشروع الإسلامي، فأسس جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية وعلى ضفاف القناة وأمام معسكرات الإنجليز، وأصبحت أحد روافد الحركة الوطنية في الأربعينيات، وأحد مصادر تكوين الضباط الأحرار، وبعد استشهاده في ١٩٤٩ وقيام الثورة المصرية في ١٩٥٢ وكان من بين مبادئها الأولى التحقيق في استشهاده حدث صدام بين الإخوان والثورة، صراعًا على السلطة في ١٩٥٤، دخل سيد قطب بعدها السجن، وتحت أهوال التعذيب، تحول من «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«معركة الإسلام والرأسمالية» و«السلام العالمي والإسلام» إلى «معالم في الطريق» يكفِّر المجتمع، ويضع تقابلًا بل تناقضًا وتضادًّا بين الإسلام والجاهلية، الله والطاغوت، الإيمان والكفر، ولن يقضيَ الإسلام على نقائضه إلا بجيل قرآني فريد تحت شعار «لا إله إلا الله» وإعلان الحاكمية.٧

وداخل السجون تحول التنوير الإسلامي إلى خطاب أصولي متمثل في جماعات العنف، جماعة الجهاد، وجماعات التكفير والهجرة، تعتمد على النقل دون العقل، وتتمسك بالعقيدة والشريعة، بالحاكمية وتطبيق الشريعة الإسلامية، قطعية الحكم، يصعب معها الحوار، تستبعد وتقصي المخالفين، وتكفر باقي التيارات «العلمانية»، تعادي الدولة الوطنية والقومية العربية، وتدافع عن الأممية الإسلامية، تقع في جدل الكل أو لا شيء، وهدم ما هو قائم من أجل البناء من جديد دون أنقاض، ولا ضير من استعمال العنف والإعداد للانقلاب ما دام وجودها ما زال غير شرعي، وما زالت تشعر بضرورة الانتقام لما حدث لها على مدى نصف قرن، ويشق الصف الوطني بين جناحين متقاتلين والتضحية بآلاف الأبرياء كما هو الحال في الجزائر.

وحدثت كبوة مماثلة في التيار الليبرالي، فبعد أن أقام الطهطاوي توازنًا متعادلًا بين التراث القديم والتراث الغربي، بين مُثل التنوير عند المعتزلة والحكماء والفقهاء ومُثله في التنوير الغربي بدأ هذا التوازن في الاختلال لصالح التنوير الغربي عند أحمد لطفي السيد، فترجم كتاب «السياسة» لأرسطو عن الفرنسية، كما ترجم طه حسين «دستور الأثينيين» بعده أيضًا عن الفرنسية، وبدأ الانعزال عن الثقافة الموروثة للأمة لصالح الثقافة الوافدة، وقد ظهر ذلك بوضوح في كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين الذي ظهر عام ١٩٣٨ مؤكدًا ربط مصر بالغرب، باليونان قديمًا وفرنسا حديثًا في إطار ثقافة البحر الأبيض المتوسط بعيدًا عن العروبة والإسلام وآسيا وأفريقيا، تنفيذًا لأحد بنود معاهدة ١٩٣٦ بين مصر وبريطانيا بأن تصبح مصر جزءًا من الغرب.٨ ولم تشفع إسلاميات طه حسين أو عبقريات العقاد في إعادة التوازن المفقود بين الموروث والوافد، واستمر النموذج الغربي الليبرالي هو السائد قبل الثورات العربية الأخيرة منذ منتصف القرن الماضي، وانضم إليه علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحكم» في تبني النمط التركي الغربي، فصل الدين عن الدولة، وجعل الدين علاقة خاصة بين الإنسان والله، والدولة تقوم على المجتمع المدني الذي يقوم بدوره على عقد اجتماعي حر بين المواطنين، وسار في نفس التيار خالد محمد خالد في «من هنا نبدأ»، فأصبحت الليبرالية معادية للإسلام كمنهاج شامل للفرد والمجتمع، وبدأ الاستقطاب بين الوافد والموروث بين «شروق من الغرب» و«ظلام من الغرب» في نموذج الانقطاع مع الماضي والتوصل مع الغرب، القطعية مع تراث الأنا، والربط مع تراث الآخر،٩ فأصبحت الليبرالية علمانية خالصة، ترفض تأسيس ذاتها على الشورى الإسلامية أو البيعة أو الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واشتد الصراع بين العلمانية والأصولية إلى حد الاقتتال وسفك الدماء كما هو الحال في الجزائر.

وفي الممارسة تحولت الدولة الليبرالية في النصف الأول من القرن الماضي ومع الدولة القومية في النصف الثاني منه إلى أداة قمع وقهر؛ فالبنية الأبوية موروث ثقافي يطغى على النظم السياسية، إسلامية أو ليبرالية أو قومية أو ماركسية وباسم الليبرالية والانتخابات المزيفة في غالب الأحوال والواجهات الليبرالية تحكم الأنظمة الملكية الوراثية أو العسكرية الانقلابية، وكلاهما تنقصه الشرعية لأن السلطة فيه لا تأتي بيعة من الناس كما قال القدماء: الإمام عقد وبيعة واختيار، بل إن أسماء الأقطار العربية تدل على هذا الاضطراب في الشكل السياسي، فهي موزعة بين المملكة، والجمهورية، والجماهيرية، والدولة، والإمارة، والسلطنة، وسلطة الحكم الذاتي، وباسم القومية يتم العدوان، وباسم الطائفية والعرقية تتم التجزئة، وباسم القبلية والعشائرية تندلع الحروب الأهلية، وباسم الحدود بين الدول تقع النزاعات التي تصل إلى حد الحروب، فقدت الليبرالية مضمونها وأصبحت تعني فقط حرية السوق، والرأسمالية التجارية وما يتبع ذلك من فساد واستغلال واحتكار؛ إذ تنشأ الرأسمالية الريعية دون تمثل القيم الليبرالية في حرية المنافسة وعدم الاحتكار.

وحدثت نفس الكبوة في التيار العلمي العلماني، تنازل كل جيل عن الجيل السابق ومنطقاته الأولى، حرص شبلي شميل مثل الطهطاوي على إيجاد الميزان المتعادل بين الوافد والموروث في الدعوة إلى العلم والعلوم الطبيعية حتى يمكن تأهيل الناس إلى نظرية التطور وعلوم الحياة، ثم جاء فرح أنطون كي يجعل من الدعوة إلى العلم والعلمانية دعوة غربية خالصة، بهما تقدم الغرب وبدونهما تخلف العرب، ونشأ حوار على صفحات الجامعة و«المنار» بين فرح أنطون ومحمد عبده من «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية»، يضع فيها فرح أنطون نموذج الغرب الذي يجب على كل الشعوب تَبنِّيه، فصل الدين عن الدولة؛ فالدين عامل تأخُّر للشعوب بعقائده ورجاله ومؤسساته وممارساته، والعلم عامل تقدُّم في التاريخ كما تثبت بذلك التجربة الأوروبية، والعلم الطبيعي لا أسرار فيه، لا خرافات ولا معجزات، تجربة الغرب مثل يُحتذى عند كل الشعوب.١٠

واستمر في نفس التيار يعقوب صروف ونقولا حداد مروجين للعلم، ومبينين أهمية الإنجازات العلمية الحديثة خاصة نظريات الطبيعة مثل النسبية ومخترعات العلم الطبيعي كالبرق والكهرباء، وأسَّس يعقوب صروف لذلك مجلة «المقتطف»، وسار سلامة موسى في نفس التيار مروجًا لأفكار القوة والسوبرمان عند نيتشه ولأصول نظرية التطور وتطبيقاتها في الحياة الإنسانية، نشر معظم النظريات الغربية الحديثة في علم النفس والتحليل النفسي، والأنثروبولوجيا الطبيعية وعلوم الاجتماع والسياسة، ودعا إلى المساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل وإن كان هناك تمايزٌ فيزيقي بينهما، ودافع عن حرية الفكر وديمقراطية الحكم، وعرَّف المسلمين بعلم الفولكلور والفنون الشعبية، وأسس لذلك «المجلة الجديدة»، الغرب هو مصدر العلم؛ ففي «هؤلاء علموني» يذكر سبعةً وعشرين عالمًا ومفكرًا وأديبًا؛ سقراط، أفلاطون، أرسطو، أوغسطين، ديكارت، اسبينوزا، كانط، جاليليو، كوبرنيقس، دارون، هيوم، نيتشه، هيجل، برنارد شو … إلخ، كلهم من الغرب ولا أحد من الشرق باستثناء غاندي!

ثم سار إسماعيل مظهر في نفس التيار حتى قبيل وفاته بعام واحد، وأعاد ترجمة «أصل الأنواع لدارون»، مبشرًا بنظرية التطور ومطبقًا إياها في اللغة والأدب والأخلاق والاجتماع، ثم ظهر التيار في صورة الوضعية المنطقية عند زكي نجيب محمود، الدين علاقة شخصية بين الإنسان والله، أما العلم فعلاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع.

انتهى هذا التيار العلمي العلماني أيضًا إلى عكس ما بدأ به، وفقد التوازن بين الوافد والموروث عند رائده الأول شبلي شميل، وأوقع الناس في ازدواجية العلم والإيمان، «الدين لله والوطن للجميع.» ونظرًا لرغبة البعض في تجاوز هذه الثنائية حاول «أسلمة العلوم»، أخذ العلوم الغربية التي لم يصل إليها بجهده ثم الحكم عليها ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي من ابتساره وانتقائه وتأويله، وينتهي إلى قبول العلم الغربي أو رفضه بناء على هذه النظارة النصية التي يرى العلم من خلالها؛ فالقرآن فيه كل العلوم التي توصل إليها الغرب، والغرب يعرف العلم دون الدين، فلديه نصف الحقيقة، والمسلمون لديهم العلم والدين، الحقيقة كلها، الغرب له الدنيا دون الآخرة، وللمسلمين الدنيا والآخرة، مما يعطي المسلمين إحساسًا بالرضا والبقاء في الجهل، والاعتماد على نقل المعرفة، بل إن ذلك يقضي على الدين ذاته؛ لأن الثابت وهو الدين أصبح تابعًا للمتحول وهو العلم، ويتضح ذلك بسهولة في برامج «العلم والإيمان» المرئية؛ فالعلم من الشرائط الأمريكية والتأويل والتمويل من السعودية.

(٤) شروق التنوير

وبعد هزيمة يونيو ١٩٦٧ بدأ التنوير العربي مرحلة جديدة فيما يسمى «المشاريع العربية المعاصرة» خاصة في مصر والمغرب والشام، واستئنافًا للتيارات الرئيسية الثلاثة في فجر التنوير العربي، وابتداءً من بؤرة واحدة، استمر تيار الإصلاح الديني في المشاريع العربية المعاصرة التي تبدأ من التراث كمخزون نفسي من أجل إعادة بنائه بحيث يكون دافعًا على التقدم وليس معوقًا للنهضة، إعادة بناء العلوم القديمة، من العقيدة إلى الثورة في علم الكلام، ومن النقل إلى الإبداع في علوم الحكمة، ومن النص إلى الواقع في علم أصول الفقه، ومن الفناء إلى البقاء في علوم التصوف، ومن النقل إلى العقل في العلوم النقلية الخمسة، القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه.١١
وقد يكون التراث بنية عقلية كما هو الحال في مشروع «نقد العقل العربي» تتحقق في التاريخ، فلا فرق بين البنية والتكوين، وهي بنية ثلاثية من البيان إلى العرفان إلى البرهان في «بنية العقل العربي» كأنماط مثالية للتفكير، ساد النمطان الأولان في المشرق وساد النمط الثالث في المغرب مما يتطلب قطيعة معرفية بين المشرق والمغرب، بين الغزالي وابن رشد، وهو نفس التحقيب الثلاثي، من البيان (القرنان الأول والثاني) إلى العرفان (القرنان الثالث والرابع) إلى البرهان (القرنان الخامس والسادس).١٢ سبب الهزيمة هو النكوص إلى البيان والعرفان، وشرط النصر هو العود إلى البرهان، وهو أشبه بأنواع الأقاويل عند ابن رشد الخطبي والجدلي والبرهاني في الأول والثالث دون الثاني، وفي «نقد العقل السياسي» يظهر نفس التنميط الثلاثي، من القبيلة إلى العقيدة إلى الغنيمة كباعث على الفتوحات وإقامة الدول.١٣
وإذا كانت البنيوية قد غلبت على مشروع «نقد العقل العربي» فإن الماركسية قد غلبت على مشروع «من التراث إلى الثورة»، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة في اثني عشر جزءًا منذ الحضارة العربية قبل الإسلام، الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى.١٤ فالتراث تاريخ، والمنهج تاريخي اجتماعي وليس حيًّا في قلوب الناس، حفريات ميتة، ليس له خصوصية ينفرد بها، بل هو حلقة بين اليونان القديم والغرب الحديث، يتنازعه التياران المثالي والمادي كما هو الحال في الفلسفة الغربية، حمل المثالية المتكلمون أشياع أفلاطون، وانتسب إلى المادية الفلاسفة أتباع أرسطو، ولا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها عند اليونان والغرب؟ عند أرسطو وماركس، لا فرق بين سلفية دينية وسلفية ماركسية.
واستمر التيار الليبرالي القديم في شروق جديد يؤسسها في العقل «الجواني» كما هو الحال عند عثمان أمين في «الجوانية» أو العقل الديني عند أبو ريدة أو العقل الرشدي عند محمود قاسم أو العقل الأخلاقي المعتدل المتوسط المتوازن عند توفيق الطويل، وينحسر التنوير في العقل في الجانب المعرفي الخالص بعيدًا عن الدولة التي كانت تتبنى القومية والاشتراكية العربية كأيديولوجية رسمية بعد الليبرالية التي سادَت قبل الثورة، فظل تنوير النخبة أسوة بما كان الحال في بداية التنوير العربي.١٥
واستمر التيار العلمي العلماني عند زكي نجيب محمود الذي يمتد عبر الفترتين في التنوير العربي، الغسق والشروق في آنٍ واحد، العقل للعلم، والوجدان للدين، والفلسفة أقرب إلى تحليل اللغة أي أنها أقرب إلى الفلسفة العلمية.١٦ كما ظهرت أهمية اللغة وعلم اللسانيات عند محمد أركون، وتحليل الخطاب وآليات التأويل عند نصر حامد أبو زيد،١٧ وقد يأخذ العلم معنى فلسفة العلم أي البداية بإدراك الطبيعة وتصوُّر العالم الخارجي؛ فالعصر عصر العلم كما كان عصر القدماء عصر الحكمة، واشتغل لفيف من الباحثين بتاريخ العلوم عند العرب، العلوم الرياضية والطبيعية لهذا السبب؛١٨ فمن يملك العلم يملك المعرفة والقوة، ويظهر هذا التيار أيضًا في التحليل التاريخي للحضارة العربية الإسلامية، تاريخ الثقافة مثل «مشروع رؤية للفلسفة العربية في العصر الوسيط» عند الطيب تيزيني أو التاريخ الاجتماعي والسياسي عند محمد جابر الأنصاري، ومن نفس التيار أيضًا مشروع حسين مروة «النزاعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية».١٩

ومحددات المشاريع العربية المعاصرة هي قراءة الموروث من منظور الوافد، وتبني منهج أو مذهب غربيٍّ واستعماله في دراسة الموروث دون تحليل هذا الموروث بآلياته الخاصة وفي حركته التي نشأ منها وتكلس فيها، تظهر البنيوية منهجًا في مشروع «نقد العقل العربي» للجابري، كما تظهر الماركسية منهجًا وفلسفة في مشروع «الأيديولوجية العربية المعاصرة» للعروي، وفي «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط» للطيب يتزيني، وفي «النزعات المادية» لحسين مروة و«نقد الفكر الديني» لصادق جلال العظم، و«معركة التراث» لمحمود أمين العالم، واجتهاد إلياس مرقص للبداية من «الواقع» وفي «سوسيولوجيا الفكر الإسلامي» لمحمود إسماعيل، ويتم تبني المنهج التحليلي والوضعية المنطقية في «تجديد الفكر العربي» لزكي نجيب محمود في كل مجموعاته الصحفية التالية بعد أن يتبناها منهجًا وفلسفة في «المنطق الوضعي» و«خرافة الميتافيزيقا» و«نحو فلسفة علمية». ويطبق المنهج الظاهرياتي في «الثابت والمتحول» لأدونيس وإلى حد ما في «الزمان الوجودي» لعبد الرحمن بدوي، وفي سلسلة «مشكلات فلسفية» لزكريا إبراهيم، ويقال إن مشروع «التراث والتجديد» يقع في هذا النوع.

وقد تُستعار مذاهب الفلسفة الغربية كما تستعار مناهجها؛ إذ يتبنى المفكر مذهبًا أعجب به أثناء دراساته الأولى في الخارج أو الداخل، وبعد أن عرض وألف فيه ولم ينل حظًّا من التمدد والانتشار في ثقافة هو غريب عليها يعاد تكييفه وتطعيمه بمادة موروثة، وتوضع بعد اسم المذهب صفة «عربية» أو «إسلامية»، مثل «الشخصانية الإسلامية» لمحمد عزيز لحبابي، «الماركسية العربية» لعبد الله العروي «الوجودية العربية» أو «الإنسانية العربية» لعبد الرحمن بدوي.٢٠

ويمكن للشروق الجديد أن يأتي من الموروث وكرد فعل على الشروق الآتي من الوافد، فيظهر الرشديون الجدد أو المعتزلة الجدد أو السلفيون الجدد من أجل النهوض من جديد ابتداء من الموروث وليس من الوافد، من فلسفات مزدهرة في الماضي وبعثها من جديد، فإذا كان الواقع في حاجة إلى عقل لجأ المفكرون إلى الاعتزال وابن رشد، وإذا كان في حاجة إلى ثورة لجأ المفكرون إلى السلفيين الذين قاوموا الغارات على العالم الإسلامي من الخارج مثل ابن تيمية والعز بن عبد السلام، وإذا كانوا في حاجة إلى الدفاع عن المصالح المرسلة لجئوا إلى مالك.

ومع ذلك ظلت هذه المشاريع العربية المعاصرة نخبوية، من صنع أفراد وليست حركات شعبية عامة من صنع جماهير، فارتبطت بأسماء أصحابها كما ارتبطت المذاهب الفلسفية الغربية بأسماء أصحابها مثل الديكارتية والاسبينوزية والكانطية والهيجلية والبرجسونية، وكما ارتبطت بعض أسماء الفرق الكلامية القديمة بأسماء أصحابها مثل الأشعرية والجاحظية والنجارية والعلوية والنصيرية والواصلية، وكذلك أسماء المذاهب الفقهية الأربعة مثل المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية، وكما عرض الفارابي من قبل في كيفية اشتقاق أسماء المذاهب الفلسفية في «في ما يجب معرفته قبل تعلم الفلسفة».

ولم تستطع المشاريع العربية المعاصرة أن توقف مسلسل الانهيار العربي بالاعتراف بالعدو الصهيوني والأرض ما زالت محتلة، والتحالف مع الاستعمار، فأصبح عدو الأمس صديق اليوم، ومحاربة المسلم لأخيه المسلم في حرب الخليج الأولى، والعربي لأخيه العربي في حرب الخليج الثانية، لم تستطع إيقاف الحرب الأهلية في لبنان والجزائر، ولا حل نزاعات الحدود بين الأقطار العربية، لم تستطع منع التشرذم والتجزئة والقطرية للعرب في عصر التجمع والعولمة للغرب، لم تقوَ على دَرْء مخاطر تقسيم السودان وحصار العراق وليبيا وتهديد إيران وتهميش مصر، وقفت عاجزة عن عقد حوار وطني بين الفريقين المتخاصمين، الإخوة الأعداء، السلفيين والعلمانيين، تمثيل إلى هذ الفريق مرة وإلى هذا الفريق مرة أخرى، لم تستطع أن تساهم في وضع رؤية جديدة توقف انهيار إرادة الصمود، وتفكك الأوطان، وهجرة المواطن إما إلى الخارج إلى بلاد الشام أو الغرب حيث التقدم والعمل والغنى والثروة، وإما إلى أسفل في عوالم ما تحت الأرض، جماعات العنف الديني أو المخدرات وعبادة الشيطان، وإما إلى الداخل في الحزن أو الإحباط أو اليأس ثم الموت غمًّا وكمدًا بالأزمات القلبية مثل حالة الشعراء والأدباء، لم تستطع أن تؤسس حركة مفكرين أحرار تستأنف دور الضباط الأحرار على مستوى الفكر حتى تثور الجماهير وتستولي على رموز المعتقلات والسجون كما استولت جماهير باريس على الباستيل.

(٥) ضحى التنوير

والآن، هل يمكن تطوير شروق التنوير الجديد الممثل في المشاريع العربية المعاصرة بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧ إلى «ضحى التنوير» من أجل الإعداد لنهضة عربية ثانية بعد أن اكتملت النهضة العربية الأولى دورتها على مدى قرنين من الزمان، التاسع عشر والعشرين ونحن على أعتاب قرن جديد؟

قد يمكن ذلك عن طريق التعلم من التجارب الماضية، استعادة المناهج أو المذاهب الغربية الجاهزة والمعدة سلفًا وإخراجها من بيئتها التي نشأت فيها وزرعها أو استخدامها في بيئة أخرى غريبة عليها مما يحدث ازدواجية في الثقافة بين الوافد والموروث إلى حد الصراع بينهما؛ فالفعل يؤدي إلى رد الفعل، والتغريب يؤدي إلى السلفية، والقفز على الحاضر إلى المستقبل يؤدي إلى القفز على الحاضر إلى الماضي.٢١
وإذا كانت التجارب الماضية قد انتهت إلى صعوبة التحديث من الخارج باستعادة المناهج أو المذاهب الغربية فإن ضحى التنوير يمكن أن يستمر بالتحديث من الداخل عن طريق إعادة بناء الموروث كله، أي العلوم القديمة وبآلياته الخاصة بناءً على التحديات الرئيسية للعصر فيتم تحويل علم الكلام من الأشعرية إلى الاعتزال كما حاول محمد عبده في «رسالة التوحيد»، ومن الاعتزال إلى الثورة كما حاولنا في «من العقيدة إلى الثورة» حتى تتحوَّل العقيدة إلى أيديولوجية ثورية للعرب وللمسلمين، والتحوُّل من الإنسان الكامل في نظرية الذات والصفات والأفعال إلى الإنسان المتعين الحر العاقل دفاعًا عن حقوق الإنسان، ومن التاريخ العام إلى التاريخ المتعين، من الماضي والمستقبل في النبوة والمعاد إلى الحاضر في علاقة الفرد بالدولة والمواطن بالوطن، لحاقًا بلاهوت التحرير الذي أصبح يقوم بدور الأيديولوجية السياسية للشعوب التراثية التي ما زالت متواصلة مع التراث لم تقطع منه كما قطع الغرب ولم تغلقه وتحجره في الحياة الخاصة منفصلًا عن الحياة العامة كما فعل الشرق.٢٢
ويمكن إعادة بناء علوم الحكمة ليس بالضرورة في اللحظة التاريخية الأولى القديمة مع اليونان والرومان غربًا وفارس والهند شرقًا بل مع اللحظة التاريخية الغربية الحالية، فالغرب الحديث وريث اليونان القديم، فإذا كانت علوم الحكمة القديمة ثلاثية المنطق والطبيعيات والإلهيات، والإنسانيات موزعة بين الطبيعيات والإلهيات كحلقة وصل، البدن في الطبيعيات والنفس في الإلهيات، فإنه يمكن إبراز الإنسانيات وجعلها هي محور علوم الحكمة، وتحويل المنطق من منطق صوري إلى منطق شعوري، والطبيعيات من طبيعيات ثنائية عقلية إلى طبيعيات شعرية، والإلهيات من واجب الوجود إلى ممكن الوجود من أجل التحقُّق والفعل وفلسفة جديدة للتاريخ.٢٣
ويمكن إعادة بناء علوم التصوف بحيث يتحول من مقاومة سلبية إلى الداخل إلى مقاومة فعلية في الخارج، ومن استشهاد أئمة آل البيت أيام الفتنة الأولى إلى نجاح المقاومة في جنوب لبنان؛ ومن ثم تتحوَّل المقامات من الرضا والتوكل والزهد والتوبة إلى مقامات المقاومة من رفض وثورة وتمرد وعصيان واعتراض ومواجهة، كما تتحول الأحوال من الخوف والخشية والغيبة والفناء إلى أحوال الشجاعة والثقة بالنفس واليقظة والبقاء، ويتحول الطريق من البعد الرأسي من أدنى إلى أعلى إلى البعد الأفقي، من الخلف إلى الأمام، للمساهمة في تقدم التاريخ، وإسراع إيقاع حركته كما حاول محمد إقبال من قبل.٢٤
ويمكن إعادة بناء علم أصول الفقه من النص إلى الواقع، وإعطاء الأولوية للواقع على النص تماشيًا مع روح «أسباب النزول»، أولوية المكان، و«الناسخ والمنسوخ»، أولوية الزمان؛ ومن ثم تكون أولوية ترتيب المصادر من الاجتهاد إلى الإجماع إلى الحديث إلى القرآن، صعودًا من الخاص إلى العام وليس نزولًا من العام إلى الخاص لتشجيع الاجتهاد، والتعامل مع الواقع مباشرة دون التوسُّط بالنص.٢٥ ويمكن تحويل المبادئ اللغوية، الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه إلى تحريك للشريعة من المحافظين إلى الإصلاحيين، ومن التقليد إلى الاجتهاد، تأكيدًا على الحرية والطبيعة، كما يمكن تحويل مقاصد الشريعة الكلية إلى الأهداف العامة وحقوق الإنسان الفردية والاجتماعية التي من أجلها تم وضع الشريعة ابتداء، المحافظة على الحياة (النفس)، والعقل، والحقيقة (الدين)، والعرض (أي الكرامة الوطنية)، والمال أي ثروات الأمم ضد التبديد والإسراف والتهريب والاكتناز والبذخ، كما أن تطبيق العقوبات لا يتأتَّى إلا بعد معرفة السبب والشرط والمانع؛ فلا تقطع يد سارق عن جوع أو بطالة أو مرض أو عندما يكون المجتمع كله سارقًا، الغني قبل الفقير، والحاكم قبل المحكوم.٢٦
ويمكن إعادة بناء العلوم النقلية كلها التي ما زالت لها الفاعلية الأولى في الثقافة الشعبية وأجهزة الإعلام ومواد التربية في الجامعات الدينية، القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، والتحوُّل من التفسير الطولي من سورة البقرة حتى سورة الناس إلى التفسير الموضوعي لوضع أسس الأيديولوجية الإسلامية حول موضوعات السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون، وإبراز موضوعي «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ» من علوم القرآن أي أولوية المكان والزمان في الوحي، أولوية الواقع على الفكر، والتحول من نقد السند إلى نقد المتن في علم الحديث، ومن الشخص إلى القول في علم السيرة، ومن فقه العبيد والنساء والصيد والذبائح والغنائم إلى فقه المقاومة والتنمية والاستقلال والتقدم والعدالة الاجتماعية والمساواة والحرية والديمقراطية.٢٧
ونظرًا لأن الحالة الراهنة للثقافة العربية ما زالت ازدواجية الموروث والوافد، وقراءة الموروث من خلال الوافد، والبداية بالوافد على أنه الحديث، وبالموروث على أنه القديم، في جدل زائف بين الصواب والخطأ، المتقدم والمتخلف وعدم تكرار التجربة الماضية لصياغة ماركسية عربية، ووجودية عربية، وشخصانية إسلامية، يمكن التحول كلية في الموقف من الغرب، من مصدر للعلم إلى موضوع للعلم حتى لا يكون الغرب هو المعيار المطلق تقاس به كل الثقافات البشرية؛ وبالتالي يمكن التحرُّر من جذب الآخر، ومن الانتقال من سيد إلى سيد، ومن قيد إلى قيد، ومن نقل القدماء إلى نقل المحدثين؛ فتتحقق وحدة الثقافة الوطنية، بدلًا من الانبهار بالغرب، الذي يولد ظاهرة التغريب أو رد الفعل عليه في العودة إلى الأصول فتشتد الحركة السلفية؛ ومن ثم يمكن القضاء على أسطورة الثقافة العالمية التي على كل الثقافات احتذاء حذوها، وإثبات أنها ثقافة تاريخية مثل باقي الثقافات، لها مصادرها وبدايتها وتطورها ونهايتها وظروف تكوينها، إثبات تاريخية الثقافة الغربية لفسح المجال لعقد حوار متكافئ بين الثقافات، وتجاوز العلاقة المركز بالأطراف، الغرب باللاغرب، المعلم بالتلميذ، والتحول من نقل العلم إلى إبداع العلم.٢٨

ويمكن أيضًا لضحى التنوير أن يقترب ويتسارع بتجاوز موضوع إعادة بناء الموروث القديم أو أخذ موقف مستقل من الوافد الجديد بالتنظير المباشر للواقع والتفاعل مع تحدياته مباشرةً دون توسُّط نص من القدماء أو نص من المحدثين، وكتابة نص جديد في ظروف العصر كما كتبه القدماء والمحدثون في ظروف عصورهم. لا يقتصر ضحى التنوير على التعامل مع النصوص المدونة بل يتجاوزه إلى إبداع النصوص الجديدة التي تدون ظروف العصر الجديد حتى يتعود الفكر العربي في مرحلته الراهنة على التعامل مع الحاضر مباشرة دون قراءته في الماضي أو قراءته في المستقبل، يتعوَّد المفكر على الغوص في الحاضر، وسبر مكوناته، ورصد إمكانياته، والدخول فيه كجزء من حركته كي تتم المعرفة به وتغييره؛ فالمعرفة سلوك والسلوك معرفة.

يحتاج ضحى التنوير إلى نظرية في تحرير الأرض، وحرية المواطن، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتوحيد الأمة، والدفاع عن الهوية، والتنمية المستقلة، وحشد الجماهير أي إلى أيديولوجية عربية معاصرة تتحقَّق فيها وحدة الثقافة العربية وتفاعلها مع الواقع العربي المعاصر؛ فعالم الأشياء هو المصب النهائي للغات والمدونات والتأويلات، والتاريخ هو في النهاية ميدان التحقُّق لكل شيء للمعرفة والوجود، وللنظر والعمل فيصبح الماضي جزءًا من عمل الحاضر وتراكمه، ويصبح المستقبل قريب المنال بالوصول إليه انطلاقًا من الحاضر وليس قفزًا عليه.

(٦) ظهر التنوير

فإذا اكتمل الضحى أصبح الظهر، والشمس عمودية وسط السماء، قريب المنال. ذروة التنوير في بنية الفكر نفسه وأشكال تعبيره ومنطق استدلاله ولغته؛ فلغة التنوير ومصطلحاته لغة واضحة وبسيطة وسهلة، يفهمها الجميع بعيدًا عن تقعُّر المصطلحات المعربة أو المترجمة، وهي لغة مستقاة من الحياة اليومية بصرف النظر عن مصدرها، الوافد أو الموروث، هي لغة مفتوحة، عقلية، قادرة على الحوار واستعمالها من جميع الفرقاء. يجد لها الجميع صدًى في النفوس مثل: الحرية، الديمقراطية، المساواة، العدالة الاجتماعية، المصالح العامة، الوطن والمواطن، المجتمع والتقدُّم، الإنسان، عقله وإرادته، الواجب والمسئولية، المقاومة والنضال، الرأي والاجتهاد … إلخ.

كما تتغيَّر طرق الاستدلال من المنهج النازل إلى المنهج الصاعد، من الاستنباط إلى الاستقراء، من الإلهام إلى النظر، من الحقائق المعدة سلفًا وما على الإنسان إلا القياس ثم التطبيق إلى البحث عن الحقائق وصنعها والمشاركة في صياغتها ووضعها، وتتغير محاور التفكير أي تصورات العالم من المحور الرأسي إلى المحور الأفقي، ومن جَعْل منطق العلاقات بين الطرفين، بين الأمام والخلف وليس بين الأعلى والأدنى، وتتغير بؤرة التفكير ومقصده الأسنى، من التمركز حول الله إلى التمركز حول الإنسان؛ فالله غني عن العالمين، تكلم لصالح البشر، وأرسل لهم وحيًا ورسلًا، فكر فيهم، في ماضيهم، النبوة، وحاضرهم، والدنيا ومستقبلهم، والمعاد. فالتفكير الإلهي تفكير إنساني، والإنسان موضوع التفكير الإلهي، فكيف يقلب الإنسان موضوع التفكير الإلهي ويجعله الله وليس الإنسان؟ إذا فكر الإنسان في نفسه، في معاشه ومماته فإنه يكون أقرب إلى التفكير الإلهي، ولو فكر في الله فإنه يكون أبعد عن التفكير الإلهي. وأخيرًا يفكر الإنسان في الواقع وفي حياة البشر، خيرهم وسعادتهم بحيث يصبح حركة من التاريخ؛ فالواقع في الزمان، والزمان تقدُّم وتأخُّر، وأفعال الأفراد والجماعات في الحاضر تتحوَّل إلى تراكم تاريخي.٢٩

وتتبلور مثل التنوير من جديد بعد انحسارها من الفجر إلى الغسق، وعودتها من الشروق إلى الضحى، وهي نفس مثل التنوير في كل الثقافات، شرقية أم غربية، يهودية أو مسيحية أو إسلامية، قديمة أو حديثة، مثالية أو واقعية.

  • أولًا: العقل؛ فالعقل هو أعدل الأشياء قسمةً بين الناس، وهو أول ما خلق الله، وهو الكلمة والفكر والمنطق، ومنه اشتق لفظ التنوير أي أنوار العقل، العقل أساس النقل، ويتفق صحيح المنقول مع صريح المعقول، وكل الأدلة النقلية مهما تضافرَتْ لإثبات شيءٍ أنه صحيح ما أثبتته، ولَظل ظنيًّا، ولا يتحوَّل إلى يقينٍ إلا بحجةٍ عقليةٍ ولو واحدة، والعقل ضد التبرير والقطعية وأحادية النظرة والتعصب والحكم بلا برهان.
  • ثانيًا: الطبيعة؛ فالطبيعة والعقل واجهتان لشيءٍ واحد، عش وفقًا للعقل، أي عش وفقًا للطبيعة، وهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، نظام العقل ونظام الطبيعة ونظام الوحي شيء واحد.٣٠ والطبيعة خيرة، والإنسان قادر على إكمالها، والوصول بها إلى غايتها القصوى، لا فرق في ذلك بين الطبيعة الخارجية والطبيعة الداخلية، بين الطبيعة الفيزيقية والطبيعة الإنسانية؛ فقد خلقت الأولى للثانية كمجال حيوي لها، الطبيعة الفيزيقية إنسانية في تصوُّرها وفي بنيتها الحيوية، في تطوُّرها ونمائها، لا فرق بين الطبيعة الجامدة والطبيعة الحية، فالحياة أصل الأشياء، وقد كان «العود إلى الطبيعة» باستمرار مصدر تحرُّر وإلهام، وهي «الطبيعة الأم»، الرحم الأول الذي منه تتولَّد الأشياء؛ لذلك وحد كل الفلاسفة الرومانسيون بين الروح والطبيعة، والعلم هو الطريق إلى الطبيعة لفَهْمِها والسيطرة عليها وليس السحر والخرافة والآيات المبهرات.٣١
  • ثالثًا: الحرية؛ فالطبيعة حرة في تطوُّرها ونمائها، وحريتها في قانونها ومسارها، الإرادة حرة في الاختيار، والحرية مسئولية عن الأفعال، والجذع حر في أن يتفرع إلى فروع وأوراق طبقًا لقانونه الخاص، التاريخ نفسه قصة الحرية منذ سبارتاكوس حتى المقاومة في جنوب لبنان، لا تعني الحرية غياب النسق والقانون والفوضى العامة بل تعني فَهْم الضرورة، والفعل المتحقق هو نتيجة تقابل مسارَيِ الحرية والضرورة، الحرية بلا ضرورة عشوائية، والضرورة بلا حرية موت، ولا تعني الحرية فحسب تجربة ذاتية وإحساسًا بالقدرة على الفعل المستقل بل تتضمن تحققاتها العينية في المجتمع والدولة أي الحرية الاجتماعية والسياسية ضد صنوف الاستبداد الفردي والجماعي.
  • رابعًا: المجتمع، أو الجماعة وروح التضامُن والتكافل بين الأفراد؛ فقد ارتبط التنوير بالإخاء والمساواة كارتباطه بالحرية؛ فالتضامن الاجتماعي هو الذي يحمي المجتمع من استغلال حريات الأفراد، وإذا كانت الرأسمالية نتيجة للحرية فإن الاشتراكية نتيجة للتكافل الاجتماعي كما عبر عن ذلك سيد قطب في مقدمة «العدال الاجتماعية في الإسلام» في شرح المبادئ الثلاثة التي يرتكز عليها التوحيد؛ الحرية الإنسانية، والمساواة الإنسانية، والتكافل الاجتماعي. المجتمع الإقطاعي ضد التنوير؛ لأنه يحتكر امتلاك الأرض الملكية للقلة والباقي أجراء زراعيون، والرأسمالية ضد التنوير؛ لأنها احتكار لرأس المال حتى يكون دولة بين الأغنياء؛ لذلك كانت الثورة الاشتراكية في القرن التاسع عشر في الغرب ابنة الثورة الفرنسية القائمة على التنوير في القرن الثامن عشر.
  • خامسًا: التاريخ أي التقدم، وهو ارتقاء البشرية عبر الزمان من مرحلة إلى أخرى؛ فالحقائق تكتمل في الزمان، والوحي يتقدَّم في التاريخ على مراحل من البداية إلى النهاية، من آدم حتى محمد، التقدُّم سنة الحياة، والنكوص طارئ عليها؛ لذلك عشق الإنسان الحياة الأبدية، ورغب في الاستمرار بعد الموت، وصاغ ذلك في عقيدة المعاد، وظهر علم المستقبليات في الغرب ليضع سيناريوهات المستقبل، ويتنبَّأ بمسار التاريخ، بعد أن وضعت فلسفات التاريخ مساره من الماضي إلى الحاضر، وحقبت مراحله، من الدين إلى الميتافيزيقا إلى العلم، من عصر الآلهة إلى عصر الأبطال إلى عصر البشر، من الغريزة إلى الوجدان إلى العقل، من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام في تحقيب ثلاثي ظاهر طبقًا لجدل التاريخ.

إن ظهر التنوير لا يأتي بجهد فرد واحد بل بعمل جماعي مؤسسي ثقافي سياسي، علمي وإعلامي، نظري وتربوي، فكري وأدبي، هي مرحلة تاريخية بأكملها تصوغ هذا التحول من القديم إلى الجديد، ومن الماضي إلى المستقبل، وتضع له منطقًا محكمًا، تستنير به المجتمعات وهي في حركة التاريخ.

إن التجربة المستفادة من كبوة الإصلاح في النهضة العربية الأولى من فجرها إلى غسقها هي أن الانتقال من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى في حاجةٍ إلى رؤيةٍ على الأمد الطويل، بالغوص في الموروث الثقافي التابع في الوعي القومي منذ أكثر من ألف عام، وفك التاريخ المرتهن من عقاله حتى يتم الانتقال من العصر الذهبي الأول الذي ما زال يشدُّ الأنظار إليه في حلم طوباوي نحو الماضي إلى العصر الذهبي الثاني الذي يمكن الإعداد له في المستقبل، واستئناف لما بدأناه منذ قرنين من الزمان، لا توجد حلول جاهزة لا من الماضي البعيد في عصرنا الذهبي الأول، ولا من الماضي القريب في النهضة الأوروبية الحديثة التي ينجذب مستقبلنا نحوها كنموذجٍ ونمطٍ للتحديث حتى لا تتكرَّر التجربة النهضوية الأولى.

إن التنوير العربي الجديد شيء يصنع، يتم خلقه بعمل الأفراد والجماعات وليس حلمًا طوباويًّا يقفز فوق الحاضر إلى عصر ذهبي بعيد في الماضي أو إلى عصر ذهبي قريب في المستقبل، التاريخ له إيقاعه ومراحله، مساره وتطوره، قوانينه وفعاليته، وإذا كان من عيوب فجر النهضة العربية الأولى هو بزوغ الوعي الفكري دون وعي سياسي، فإن الضمان لشروق النهضة العربية الثانية هو تأسيس الوعي السياسي المكتسب على وعي تاريخي؛ ومن ثم لا يزهو الغرب علينا بأنه صانع حضارة تقوم على بُعْدين من اكتشافه وحده: الإنسان والتاريخ، بل تشارك حضارات البشر جميعًا في حوار حضاري عام متكافئ الأطراف.٣٢
١  مجلة عالم الفكر، الكويت، ربيع ٢٠٠٠.
٢  انظر دراستنا: تيارات الفكر العربي الحديث، في: هموم الفكر والوطن، ج٢، الفكر الغربي المعاصر، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨، ص٤١٧–٤٥٢.
٣  Lumière, Aufklärung, Enlightenment Askala … etc.
٤  وقد استعمل أحمد أمين ذلك من قبل في فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام، وكذلك عبد الرحمن بدوي في الفلسفة اليونانية، طبقًا للفصول الأربعة، الصيف والخريف والشتاء والربيع.
٥  انظر دراستنا: الشيء تصور هو أم صورة؟ هموم الفكر والوطن، ج٢، التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨، ص١٧٩–٢١٦.
٦  انظر دراستنا: جدل الأنا والآخر، دراسة في «تخليص الإبريز» للطهطاوي، هموم الفكر والوطن، ج٢، ص٢١٩–٢٤٩.
٧  انظر دراستنا: «أثر الإمام الشهيد سيد قطب على الحركات الدينية المعاصرة»، الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١، ج٥، الحركات الدينية المعاصرة، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩، ص١٦٧–٣٠٠.
٨  انظر دراستنا: مستقبل الثقافة في مصر، إلى أين؟ هموم الفكر والوطن، ج٢، ص٢٥٠–٢٧٠.
٩  «شروق من الغرب» لزكي نجيب محمود، و«ظلام من الغرب» لمحمد الغزالي.
١٠  انظر دراستنا: «هل يجوز القياس الحضاري، قراءة لفرح أنطون في المانوية الأولى للجامعة (١٨٩٩-١٩٩٩)»، ظهور الشوير، ١٧-١٨ مارس ١٩٩٩، لبنان.
١١  هذا هو مشروع «التراث والتجديد» للمؤلف، المركز العربي للدراسة والنشر، القاهرة، ١٩٨٠.
١٢  هذا هو مشروع «نحن والتراث» باسم «نقد العقل العربي» للجابري.
١٣  وقد قام مفكرون آخرون بالبداية بالتراث السياسي مثل رضوان السيد، سعد بن سعيد، حامد بيع وغيرهم.
١٤  هذا هو مشروع الطيب يتزيني في الشام.
١٥  انظر دراساتنا: «من الوعي الفردي إلى الوعي الاجتماعي» (عثمان أمين)، «العقل والإصلاح» (محمود القاسم)، «الجديد في القديم» (أبو ريدة)، «حوار الأجيال»، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨، ص٥١–٢١٠.
١٦  انظر دراساتنا: «تجديد الفكر العربي»، «إشكال التواصل والانقطاع»، «عربيان بين ثقافتين»، «قراءة وحوار» زكي نجيب محمود، «حوار الأجيال»، ص٢٢٩–٢٩٥.
١٧  انظر دراساتنا: «قراءة مفهوم النص»، «عرض ومراجعية»، «علوم التأويل بين الخاصة والعامة»، «قراءة في بعض الأعمال» (نصر حامد أبو زيد)، «حوار الأجيال»، ص٤٠٩–٥١٢.
١٨  وذلك عند جيل جديد مثل: عبد الحميد صبرة، سالم يفوت، عبد السلام بن عبد العلي، ياسين خليل، رشدي راشد، خليل جاويش، أحمد جبار، يمنى طريف الخولي.
١٩  ويشارك في هذا التيار أيضًا صادق جلال العظم، ومحمود أمين العالم، وجل الماركسيين العرب.
٢٠  انظر دراستنا: تيارات الفكر العربي الحديث، هموم الفكر والوطن، ج٢، الفكر العربي المعاصر، ص٤٦٦–٤٧٨؛ وأيضًا حوار الأجيال، دار قباء، القاهرة، ١٩٨٨.
٢١  قام فرنسيس بيكون بذلك لنقل الفلسفة الغربية من العصر الوسيط إلى العصر الحديث على مستوى تجريبي في مشروع «إعادة البناء العظيم» The Great Restauration، وكذلك هوسرل لإعادة بنائه مرة ثانية على مستوى شعوري في «أزمة العلوم الأوروبية والفلسفية الترنسندنتالية». انظر دراستنا «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية»، «فينومينولوجيا الدين عند هوسرل». قضايا معاصرة، ج٢، في الفكر الغربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٧، ص٢٩٥–٣٣٩.
٢٢  «من العقيدة إلى الثورة»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨ (خمسة أجزاء).
٢٣  «من النقل إلى الإبداع»، محاولة إعادة بناء علوم الحكمة، دار قباء، القاهرة، ٢٠٠٠ (تسعة أجزاء).
٢٤  انظر دراساتنا: «التصوف والتنمية»، «من إحياء علوم الدين إلى إحياء علوم الدنيا» في «الإسلام في العصر الحديث»، ج١، ص١٦–٤٣، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٩٥ (بالإنجليزية).
٢٥  انظر دراساتنا: «الوحي والواقع»، دراسة في أسباب النزول؛ «هموم الفكر والوطن»، ج١؛ التراث والعصر والحداثة، ص١٧–٥٦.
٢٦  انظر دراستنا: «مناهج التفسير»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، القاهرة، ١٩٦٥ (بالفرنسية).
٢٧  انظر دراستنا: «منهج التفسير الموضوعي للقرآن» (بالإنجليزية) في كتاب «الإسلام في العصر الحديث»، ج١، الدين والأيديولوجية والتنمية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٩٥، ص٤٠٧–٤٢٨؛ وأيضًا «من نقد السند إلى نقد المتن»، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الخامس، ١٩٩٦، ص١٣١–١٤٣.
٢٨  انظر كتابنا «مقدمة في علم الاستغراب»، الدار الفنية، القاهرة، ١٩٩٠.
٢٩  انظر دراستنا: «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨٠، ص١٥١–١٥٧.
٣٠  انظر دراستنا: «نحن والتنوير»، الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١، ج٢، الدين والتحرر الثقافي، ص٤٧-٦٦.
٣١  انظر دراستنا: «عود إلى المنبع أم عود إلى الطبيعة؟» قضايا معاصرة، ج١، في فكرنا المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦، ص١٧٣–١٧٦.
٣٢  انظر دراستنا «كبوة الإصلاح»، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٧، ص١٧٧–١٩٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤