الفنون البصرية أم السمعية، أيهما أقرب إلى الذوق العربي؟١

  • (١)

    ليس الفن مجرد ممارسة، تقليدًا أو إبداعًا بل هو قائم على تصوُّر للعالم ينبثق بدوره من مخزون ثقافي، تراثي أو معاصر في شعور الفنان عن وعي أو عن لا وعي؛ فالفن في منطلقه فكر، والفكر في تحققه فن، وقد نبهت جميع الفلسفات الرومانسية على ذلك منذ أفلاطون حتى هيجل وشلنج وعند الصوفية المسلمين خاصة ابن الفارض وابن عربي وسعديا وحافظ والفردوسي بل وفي الشعر الحديث خاصة عند صلاح عبد الصبور وأمل دنقل. للفن مكوناته الثقافية الموروثة أو الوافدة والتي تؤثر في وجدان الفنان، وبالعودة إلى التراث أو باستلهام الغرب بصرف النظر عن الجمهور متلقي الفن.

    الثقافة هي رصيد العمل الفني، تعبر عنها الحقيقة النظرية أو الذوق الفني؛ فالحقيقة لها صورتان: فلسفية وفنية، وعقلية ووجدانية، حاولت الفلسفات الرومانسية والشعر الفلسفي التوحيد بينهما؛ لذلك قسم القدماء العلوم إلى عقلية وقلبية، نظرية وذوقية مما سبب نشأة النزاع بين الفقهاء والصوفية، بين المحكم والمتشابه، والظاهر والمؤول، والحقيقة والمجاز، والمبين والمجمل، وقد حاوت الفلسفة الشرقية الجمع بينهما بفعل الفيلسوف ووجدان الشاعر.

  • (٢)
    وكما يتم التمييز في المذاهب الفلسفية بين عقلية وحسية، استنباطية واستقرائية، مثالية وواقعية، تجريدية وعينية كذلك يتم تصنيف الفنون إلى بصرية وسمعية، وإذا كانت الفلسفة أساسًا منتجًا عقليًّا حتى ولو اعتمدت على الإدراك الحسي؛ لأن الحس أولى مراحل العقل فإن الفن منتج حسي يعتمد على الإدراك الحسي، ولما كانت الحواس خمسًا فإنه أمكن تصنيف الفنون طبقًا للحواس الخمس؛ فهناك فنون بصرية وهي الفنون التشكيلية، النحت والعمارة والتصوير والزخرفة والرقص والتمثيل … إلخ، وفنون سمعية مثل الموسيقى والشعر وباقي ألوان الطرب، وفنون الشم مثل الروائح العطرية، وفنون التذوق مثل فنون الطهي وفنون اللمس مثل القماش، الحرير أو الصوف. ولما كانت فنون الشم والذوق واللمس أقرب إلى الصناعة، وهو أحد معاني لفظ الفن اليوناني Techné بقي التقابل بين الفنون البصرية والفنون السمعية، وهو تقابل عرض له هيجل في تصنيفه للفنون في كتابه «علم الجمال». وانتهى إلى أن الفنون السمعية أقرب إلى القلب والوجدان وأكثر قدرة على التأثير والإيصال من الفنون البصرية، وأن الشعر والموسيقى أكثر تطورًا في مسار الروح في التاريخ من النحت والعمارة، وقد عاش في عصر جوته وبيتهوفن، وهي قضية عرض لها القدماء أيضًا في نظرية العلم عند المتكلمين والفلاسفة في تحليل المعرفة الحسية المباشرة قبل تحليل المعرفة العقلية الحدسية أو الاستنباطية؛ فالنظر في المخلوقات للاستدلال من المخلوق على الخالق إدراك بصري وسماع الوحي إدراك سمعي، ولفظ «آية» يدل على كليهما معًا، الظاهرة الطبيعية والصوت، والرسول يتمثل له جبريل فيراه ويسمع منه الوحي، وربما انتهى القدماء إلى مثل ما انتهى إليه المحدثون أن السمع أقرب إلى القلب من البصر.
  • (٣)

    بل لقد تم تصنيف الوجدان القومي للشعوب على هذا الأساس فهناك وجدان شعبي أو ذوق وطني أقرب إلى التجريد أو أقرب إلى الحس، يغلب عليه الاعتماد على البصر أو يغلب عليه الاعتماد على السمع، عُرف بإبداعه في الفنون البصرية وآخر عُرف بإبداعه في الفنون السمعية؛ فالرومان واليونان أقرب إلى الفنون البصرية بما عُرف عنهم من نحت وعمارة، وفنون عصر النهضة أقرب إلى البصرية، ليونارد ورافائيل، بما عُرف عنهم من فنون الرسم والتصوير، والفن القوطي أقرب إلى الفنون البصرية بما عُرف عنه من بناء القصور والقلاع والكاتدرائيات الضخمة والوجدان الفرنسي أقرب إلى الفنون البصرية بما عُرف عنه في الإبداع في فن الرسم منذ دلاكروا في العصر الرومانسي حتى سيزان في العصر الحديث، في حين عُرف الوجدان الألماني بالفنون السمعية، الموسيقى والشعر هاندل، هايدن، موزار، بيتهوفن، برامز وفن الأوبرا عند فاجنر الذي يجمع بين الموسيقى والشعر، لم يعرف الوجدان الإنجليزي الموسيقى ولكنه عرف الشعر عند شكسبير وبايرون وشيلي وإليوت، وعرف الوجدان الإيطالي الحديث الموسيقى والشعر وجمعهما في الأوبرا وربما جمع بينه وبين النحت والتصوير وباقي الفنون البصرية، وقد تجاوز التصنيف الشعوب إلى المناطق الحضارية الشرقية والغربية وربما الشمالية والجنوبية، فالشرق فنان والغرب عالم، الحضارات الشرقية في الصين واليابان وكوريا والهند حضارات فنية في حين أن الحضارات الغربية الحديثة حضارة علمية، وحضارات الشمال تأملية عقلية لغلبة الفكر والعلم وحضارات الجنوب حسية فنية لغلبة فنون الرقص والموسيقى.

  • (٤)

    وهنا يبرز سؤال: وماذا عن الحضارات المتوسطة كالحضارة العربية الوسط بين الشرق والغرب في منطقة الشرق الأوسط وبين الشمال والجنوب حول البحر الأبيض المتوسط؟ وتتعدَّد الإجابات، فالذوق العربي يجمع بين الشرق الفنان والغرب العالم، بين شعر القدماء وعلم التراث، ويجمع أيضًا بين فلسفة الشمال ورقص الجنوب، بين تأمل الفلاسفة وسماع الصوفية، والحقيقة أن كل حضارة بها هذا الجمع؛ ففي الحضارة الفرنسية رسم وموسيقى والغالب عليها الرسم، والحضارة الألمانية فيها تصوير وموسيقى والغالب عليها الموسيقى، والحضارة الإيطالية تجمع بين العلم والفن كما هو الحال عند ليوناردو، والغالب على الوجدان العربي هو الشعر؛ فالشعر العربي هو علم العرب وثقافتهم وتاريخهم وفنهم وأمثالهم، وأتى القرآن إبداعًا شعريًّا يؤثر في الذوق العربي وناقدًا الأصنام والمصورات كرد فعل على التجسيم اليهودي والمسيحي، ألواح التوراة، وعبادة العجل، ونزول مائدة من السماء، وطعام المن والسلوى من العراق، والفول والعدس والبصل والقثاء من مصر، والتجسد في المسيحية، الله الابن، والروح الجسد، ورافضًا اللات والعزى وهبل، باستثناء الكعبة والحجر الأسود من ذكريات إبراهيم. وكانت حركة بناء المساجد تحت تأثير الكنائس البيزنطية في الشرق وبناء القصور والقلاع تحت تأثير الفن الروماني في الغرب، ولما انتهت العلوم العقلية والطبيعية في الدورة الإسلامية في القرون السبعة الأولى التي أرَّخ لها ابن خلدون عاد الذوق العربي إلى الشعر والسماع الصوفي حتى زاحمته الفنون التشكيلية الوافدة من الغرب والتي كانت في البداية تقليدًا ثم تحوَّلت إلى إبداع محاصر عند النخبة؛ نظرًا لأنه ينتشر في ثقافة عربية شعرية سمعية غير مواتية، ويظل سلاح التحريم مشهورًا ضد التصوير والنحت ليس فقط بسببٍ ديني تشريعي بل ربما استدعاء لمعركة الأيقونات القديمة في المسيحية الشرقية في القرن الخامس الميلادي قبل ظهور الإسلام ومعركة الموحدين والإصلاح البروتستانتي في بدايات العصور الحديثة في الغرب وبعد ظهور الإسلام بما يقرب من ألف عام.

  • (٥)

    والسؤال الآن: ما الذي يجعل الفنون السمعية أقرب إلى القلب وأكبر قدرة على التأثير في المتلقي من الفنون البصرية؟ ما هي حدود الفن التشكيلي؟ الحقيقة أن الفن التشكيلي عند بعض النقاط وفلاسفة الفن يتسم بتعامل مع الخارج وليس من الداخل، مع المكان وليس مع الزمان؛ فالتمثال أو الصورة أو الزخرفة أو البنيان موجود في العالم الخارجي، واقع في المكان وهو كتلة صماء ثابتة لا تتحرك، بالرغم من محاولة بعض الفنون التشكيلية إدخال عنصر الحركة مثل مسرح العرائس والإعلانات المتحركة والصور المتحركة في السينما، هو نموذج للفن الموضوعي الخالي من الذاتية أي المجرد بتعبير هيجل، صحيح أن الفنان التشكيلي يدافع عن فنه ضد هذا الوصف، ويحاول إيجاد عنصر الحركة في الألوان الداكن والفاتح، وفي الخطوط الطويل والقصير، وفي الضوء النور والظل، ولكن تظل هذه المحاولة دفاعية بالأساس، تسقط من الفنون السمعية مقولتها على الفن التشكيلي؛ فاللوحة لا صوت لها، والتمثال لا نغم فيه إلا عن طريق سماع صوت النفس، فلا إدراك للخارج إلا في الداخل، ولا تذوق للمكان إلا في الزمان، كما أن الغالب على الفن التشكيلي أنه عمل فردي لا أثر فيه لحركة المجموعات، كما أن المتلقي في الغالب هو الفرد، هو الناظر للمنظور، يستغرق الرائي أمام اللوحة ساعات بمفرده لا يقطع تذوقه أحد؛ لذلك لزم الهدوء في المتاحف والقصور.

  • (٦)

    لذلك تتسم الفنون السمعية، الموسيقى والشعر، بإمكانيات أكبر للتعبير والتأثير؛ فهي على العكس من الفنون التشكيلية، موجودة في الداخل، في الإحساس الداخلي، في ذبذبات النفس وإيقاعات الوجدان، وهي موجودة في الزمان، والزمان نسيج الشعور يجعل الفن السمعي أقرب إلى الوجدان مباشرة دون قراءة أو تحويل أو نقل أو إسقاط. يتحرَّك النغم علوًّا وانخفاضًا، ويتفاوت اللحن سرعة وبطئًا، ويستثير الشعر عالم الخيال، ويفتح آفاقًا جديدة للوعي، ويحول العالم إلى صورة فنية يتحد فيها الواقع بالخيال، هو الفن الذاتي، في مقابل الموضوعي، الفن الحيوي الخلاق الذي يعبِّر عن الفنان أكثر مما يصف موضوع الفن، يخلق ولا يصنع، وهو عمل جماعي سواء في العزف أو السماع، في حركة تبادلية بين الفنان والجمهور، بين الراقص والموسيقي والشاعر من ناحية وبين المستمعين والمشاهدين والمتلقين من ناحية أخرى، وهو قادر على تحويل الطبيعة إلى صوت، والعالم إلى نغم، والكون إلى لحن، مثل تغاريد الطيور، وأمواج البحر، وخرير الماء، وحفيف الأشجار وأصوات الحيوان، فإذا ما حاولت الموسيقى الحديثة، مثل الموسيقى الإلكترونية أو حتى الموسيقى التصويرية تحويل الزمان إلى مكان، والسمع إلى بصر فإنها سرعان ما تنتهي كفن وتتحول إلى صناعة، وإذا ما تحول اللحن إلى إيقاع كما هو الحال في موسيقى الجاز الغربية أو في الأغاني الشبابية الحديثة فإنه ينتهي لحساب الرقص، وعندما تتحول الآلات الوترية إلى إيقاع كما هو الحال في «تقديس الربيع» لسترافنسكي أو «بوليرو» لرافل فإن ذلك يكون نهاية الداخل لحساب الخارج.

  • (٧)
    ومع ذلك فإن الفنون السمعية خاصة الشعر أقدر على احتواء الفنون البصرية خاصة الطبيعة، وتحولها من طبيعة صامتة إلى طبيعة حية، لقد استطاع الشعراء المكفوفون مثل هوميروس وبشار، وكذلك الأدباء المكفوفون مثل طه حسين تحويل الواقع إلى صورة ذهنية والوصف الملحمي إلى شعر غنائي؛ فالصورة الفنية تجمع بين الزمان والمكان بين الذاتية والموضوعية، بين الداخل والخارج، هي تحويل المادة إلى ذهن، والإدراك الحسي إلى صورة ذهنية، والانطباع إلى خيال. تستطيع الصورة أن تدرك الغائب عن طريق الخيال كما هو الحال في «مشاهد القيامة»، وكما حاول سيد قطب في «التصوير الفني في القرآن الكريم»، وتستطيع أن تحيل التاريخ إلى قصص، والماضي إلى حاضر كما حاول محمد خلف الله في «الفن القصصي في القرآن الكريم»٢ فالشيء لا هو مادة خارج الذهن، كما هو الحال عند الوضعيين، ولا هو مجرد انطباع حسي، كما هو الحال عند الحسيين، ولا هو فقط تصور ذهني أو مقولة عقلية، كما هو الحال عند العقليين، بل هو صورة ذهنية أو خيال شعري كما هو الحال عند الشعراء.٣ التخيُّل وظيفة الشعور كما لاحظ عبد القاهر الجرجاني في «أسرار البلاغة» وكما طبَّقه في «دلائل الإعجاز»، والرؤية الباطنة، والأحلام، والتنبؤ بالمستقبل أشكالًا للصور الذهنية التي يتجلَّى فيها البصر والسمع في الخيال، حينئذٍ لا يعود ثمة فرقٌ بين العلم المثلث الألوان في الثورة الفرنسية و«المارسيلييز»، بين العلم الأحمر ونشيد الدولية «الإنترناسيونال»، بين العلم الأخضر ونشيد «بلادي بلادي»، ومع ذلك يظل السؤال قائمًا: الفنون البصرية والفنون السمعية، أيهما أبقى في الذوق العربي؟
١  ألقيت شفاهية في الجمعية المصرية للفنون التشكيلية، وتم نشرها في جريدة الاتحاد، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، أكتوبر، ٢٠٠٢.
٢  انظر بحثنا: «الأخضر والأصفر في القرآن الكريم»، هموم الفكر والوطن، ج١، التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة، ١٩٨٧، ص٥٧–٦٧.
٣  انظر بحثنا: «الشيء تصور هو أم صورة؟» المصدر السابق، ج٢، الفكر العربي المعاصر، ص٢٠٦–٢١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤