عالم الأشياء أم عالم الصور؟١

إذا كانت الفلسفة تقوم على البحث عن «بداية جذرية» كما هو الحال في الظاهريات، فإن الفلاسفة قد وجدوا هذه البداية في النفس، أي في إثبات الذات، وهو ما سماه ديكارت «الكوجيتو»، «أنا أفكر فأنا إذن موجود.» وما أطلق عليه ابن سينا «الإنسان الطائر»، أي الوعي الخالص حتى قبل أن يتجسَّد في بدن، وما حلَّله كانط باعتباره «العقل الخالص»، وتعددت الأسماء والمسميات واحدة؛ فالتعرُّف على النفس أسبق من التعرُّف على الشيء، ومعرفة النفس أسهل من معرفة الآخر؛ لذلك وضع سقراط شعار «اعرف نفسك بنفسك»، وأكده أوغسطين في «في داخلك أيها الإنسان تكمن الحقيقة.» وأكمله هوسرل باكتشاف مضمون التفكير بقلب النظرة من الخارج إلى الداخل، ومن المكان إلى الزمان؛ فالأنا ليس فقط ذاتًا بل موضوعًا، الأنا يفكر وهو أيضًا موضوع التفكير، فكل شعور هو شعور بشيء.

وليس الفكر هو التأمُّل والتجريد، فعل العقل المفارق بل هو شعور داخلي، إحساس بالحياة، يشمل الإحساس والإدراك والانفعال، بل ويشمل الباعث والدافع والرغبة والإرادة والفعل، هو عالم الذات أو ما سماه الفلاسفة «الذاتية» أو «المثالية» التي تضع الذات قبل الموضوع، والنفس قبل العالم، وهو ما أثبته أيضًا السيد المسيح: «ماذا ستكسب لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟» الذات لها آفاق، العالم والنفس ولا يمكن إدراك العالم إلا بعد الوعي بالذات وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، تعيش الذات وسط عالم من العلامات والدلالات سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، وتحدد حركتها وأنماط سلوكها بعد إدراك هذه الدلالات والمعاني حتى تعيش في عالم «معقول».

عالم الأشياء إذن ليس مستقلًّا بذاته بل هو عالم مُدرَك، وهي مقولة المثاليين الثانية بعد إثبات النفس، وهو بلا ذات مدركة لا وجود له، فمن الذي يدركه ويتعرف عليه؟ ويستوي في ذلك الله والعالم: «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني.» كما يروى في الحديث القدسي. الله والعالم بلا ذات عارفة يظلان خارج دائرة الشعور في عالم مصمت لا يتكلم، الوضعية إذن أي إثبات عالم الأشياء مستقلًّا عن عالم الشعور وهم وادعاء، تخالف الواقع نفسه الذي تدعي الدفاع عنه ضد تبخير المثالية له، هو افتراض دون برهان، وتحويل للشعور ذاته إلى عالم الأشياء، شيئًا بشيء وكما ادعى دوركايم «الظواهر الاجتماعية أشياء.» الاشياء تُفسر، ولكن الدلالات تُفهم طبقًا لتفرقة تونيس Tonnes بين التفسير Explaining والفهم Understanding.
وتبدأ عملية الإدراك من خلال الحواس، وتحويل عالم الأشياء إلى عالم الإحساسات كما هو الحال في المذهب الحسي؛ فالأشياء انطباعات حسية Impressions من خلال الحواس الخمس، فتصبح الأشياء مرئية أو مسموعة أو ملموسة أو مشمومة أو مذوقة، فيستطيع الإنسان السير في الطريق، وسماع الكلمات والأنغام بالأذن، والإحساس بالدفء والبرودة باللمس، والروائح بالشم، والأطعمة بالتذوق، فعالم الأشياء هو عالم الصور الحسية، عالم الظلال، وهو أول درجة من درجات الصورة.
ثم تتحول الانطباعات الحسية إلى مدركات Perçeptions أي تحويل الحس إلى إدراك بعد تدخل الوعي بالمحسوس، الانطباع الحسي بمفرده مادة «خام» لم تتشكل بعد في دلالات، ويصبح إدراكًا حسيًّا عندما يتحوَّل إلى معانٍ أولية بالإدراك الحسي، يوجد الإنسان في العالم من خلال الجسد والانتشار فيه كما وصف ميرلوبونتي.

ولما كان الوعي بالذات هو أيضًا وعي بالحياة فإن الإدراك الحسي ينتقل من مستوى الصورة الحسية إلى الانفعال والمشاعر والوجدان، فتتحول إلى بواعث ودوافع شعورية، وحركة في العالم، فالصورة الحسية ليست معرفية فحسب بل هي عملية أيضًا لارتباطها بعالم الإرادة.

فإذا ما تعامل العقل مع الأشياء مباشرة دون المرور بالانطباع والإدراك والانفعال فإنه يحولها إلى أعداد مجردة ومعادلات رياضية وحسابات معقدة لاكتشاف نظام كلي للأشياء أو قوانين لها يتحكم فيها من أجل السيطرة على العالم؛ لذلك امَّحى الفرق بين الأشياء والأعداد، بين الفيزيقا والرياضيات، وكلما تطورت العلوم الطبيعية تحولت إلى رياضيات بحتة كما هو الحال في النظرية النسبية، ويفقد العلم صلته بالأشياء وبالتجريب بل وإدراك العالم بالحواس لصالح الأنساق الرياضية، وتتعدد الأنساق طبقًا لمستويات التجريد من الأقل عمومية إلى الأكثر عمومية في دوائر متداخلة مركزها عالم الأشياء ثم عالم الأعداد والرموز، وتصبح الثورات العلمية مشروطة بتوسيع الدوائر من الأضيق إلى الأوسع إلى الأكثر اتساعًا، وهو ما حدث من تطور في الفيزيقا الآلية عند نيوتن إلى الفيزيقا الحركية في نظرية «الكوانتوم» إلى النسبية.

لا يتحول عالم الأشياء فقط إلى عالم الرموز بل إن عالم الرموز يصبح عالمًا بديلًا يتحكم عن بعد في عالم الأشياء؛ لذلك حاولت المدرسة النفسية في الرياضيات تأصيلها في الشعور؛ فهي أيضًا نفسية من العالم، وهي المدرسة التي انتسب إليها هوسرل في «فلسفة الحساب» وفي «مفهوم العد»، وهو أيضًا ما نادى به إخوان الصفا في رسائلهم الرياضية؛ فكل شيء يتكشف في النفس سواء العالم الطبيعي أو العالم الرياضي. الطبيعة المادية سقوط لها خارج النفس والطبيعة الرياضية دفع لها خارج النفس. في سقراط أي في النفس يتوحد أفلاطون الذي يمثل عالم المثل المجرد وأرسطو الذي يمثل عالم الوقائع المادية. ففي كل حضارةٍ بؤرة للنفس، سقراط عند اليونان، وكونفوشيوس في الصين، وبوذا في الهند، والموعظة على الجبل في المسيحية، والتصوف في الإسلام، وديكارت وهوسرل وبرجسون في الفلسفة الغربية الحديثة.

عالم الأشياء إذن ليس هو العالم المادي ولا العالم الصوري بل هو عالم الحياة التي تتجلى فيها الأشياء باعتبارها معاني ودلالات، تتحول بعدها إلى صور بفعل الخيال؛ فالعالم هو عالم الصورة المتوسطة L’image médiatrice كما يقول برجسون، لا يعيش الإنسان وسط الأشياء ولا بين الأعداد، فكلاهما وهم، الشيء صورة حسية، والعدد صورة مجردة.

وعالم الصور عالم إبداعي، لا يكتفي فيه الوعي بإدراك العالم بل يعيد إنتاجه وخلقه، ويحوله من عالم مصمت إلى عالم حي، من صورة مطابقة إلى صورة خلاقة. ويتحول العالم التجريبي الذي ما زال يتعامل مع الأشياء أو الرياضي الذي يتعامل مع الأعداد أو الفيلسوف الذي يتعامل مع المقولات والتصورات أو المنطقي الذي يتعامل مع أشكال القضايا وأنواع البراهين إلى الشاعر؛ فالعلاقة بين الإنسان والعالم ليست فقط علاقة معرفية بل علاقة شعرية، لا يدرك الإنسان العالم بل يصوره، البعد الجمالي مكون للبعد المعرفي كما لاحظ ماركوز في «البعد الجمالي».

العالم المدرك في حاجة إلى تأويل، وإدراك ثانٍ للمعاني، إدراك الإدراك، والتأويل تجاوز للتطابق بين التعريف والمعرف، وبلغة المناطقة بين المفهوم والماصدق، يعبر التأويل عن حرية الإبداع في الفهم والإدراك والتحرر من صيغ النص إلى تعينات الواقع، ومن الفهم القسري للأوامر والنواهي إلى اعتبار الواقع والسياق.

وتتراوح مستويات الصورة بين التصوير الفوتوغرافي والرسم والصورة المتحركة والصورة الشعرية.

فالتصوير الفوتوغرافي في الأصل يقوم على المطابقة وإعادة إنتاج العالم الطبيعي وهو التصوير المدرسي الساذج، أما فن التصوير فإنه يحول العالم الطبيعي إلى عالم إبداعي عن طريق زوايا التصوير وكمية الضوء من أجل إبراز البعد الجمالي للشيء حتى يتم إدراكه إدراكًا فعليًّا والانفعال به، والتحول من الإدراك إلى الفعل، ومن الرؤية إلى الحركة.

بل إن الإدراك الحسي نفسه يتضمن نوعًا من الإبداع عن طريق قلب الصورة في العين الطبيعية وفي عدسة آلة التصوير بين اليمين واليسار، والأعلى والأدنى، التصوير يتجاوز المطابقة إلى البعد الجمالي بين المرئي والرائي، بين الموضوع والذات.

ومع ذلك، الصورة ثابتة والعالم متحرك، الصورة لقطة واحدة لتيار جارف متعدد اللقطات، هي لحظة واحدة في زمن سيَّال حاول الروائيون وصفه في أدب «تيار الشعور» مثل «في البحث عن الزمن الضائع» لبروست؛ لذلك كسب محامي بريجيت باردو القضية عندما نشرت إحدى المجلات صورتها عارية على غلافها دون إذنها وكتبت تحت الصورة اسمها، وقام الدفاع على الخلط بين اللحظة والديمومة، لحظة لقطة الصورة وحياة بريجيت باردو المستمرة، وأن رد الكل إلى الجزء، وتقليص الزمان المستمر إلى إحدى لحظاته الثابتة إهانة للشخص وتَشْييء له.

ومثال ذلك أيضًا صورة المرآة، الصورة المنعكسة على سطح زجاجي أو معدني أملس وتقوم أيضًا على المطابقة، ومع ذلك يعاد إنتاج الموضوع على نحو إبداعي طبقًا لزوايا المرآة ونوعها، محدبة أو مقعرة، فتصغر الصورة أو تكبر لتتجاوز الشيء المنعكس، كما أن انعكاس أشعة الشمس لا تولد عنها صورة بل أشعة أقوى أكثر حرارة ودفئًا لدرجة الاحتراق بها، فالصورة انفعال وفعل، استقبال وإرسال تتجاوز المطابقة النظرية إلى الأثر العملي.

لذلك تأتي الصورة المتحركة كي تتطابق مع عالم الأشياء المتحركة، ويضاف الصوت إلى الصورة حتى يعظم التطابق ويعيش المتفرج مع الأحداث وفي وسطها، لا فرق بين عالم الأشياء وعالم الصور في التلفزيون والسينما، على الشاشة الصغيرة والشاشة الكبيرة، بل تطورت الصورة المرئية الثنائية الأبعاد، الطول والعرض إلى الصورة المجسمة الثلاثية الأبعاد، الطول والعرض والعمق، وتحول الصوت أيضًا من تسجيل على الشريط إلى صوت عالٍ ومكبرات إضافية لتضع المتفرج وسط الأحداث الكبرى، الزلازل والبراكين والمعارك الحربية.

وتتجاوز الصورة المتحركة التطابق بين الصورة والشيء بقدرات الإخراج وزوايا التصوير والتركيز على العلاقات والأثر على نفس المشاهد، بالإضافة إلى القدرات التعبيرية للممثلين ووضع أطر التصوير وفن الإضاءة، فهي عمل إبداعي يتجاوز المطابقة والواقعية الساذجة في تقليد الحركات والأصوات.

ومع ذلك، الصورة المتحركة خيال وظل، وهم حركة عن طريق تداعي الصور بسرعة فتلحق الصورة التالية بعد الصورة الماضية فتنشأ الحركة، وقد اشتق لفظ Cinema من الاسم اليوناني кινη الذي يعني الحركة؛ فالصورة المرئية خداع حواس، يتحوَّل فيها الثابت إلى متحرك اعتمادًا على التكوين العضوي للعين.

ثم يأتي الرسم ليتجاوز التصوير الآلي بآلات التصوير إلى الرسم بالقلم والفرشاة، ويعيد إنتاج الأشياء والأشخاص في لوحات زيتية بالألوان، ويكون الرسام مبدعًا بقدر ما يتجاوز التقليد الذي من أجله جعل أفلاطون الفن تجاوزًا لتقليد الأشياء إلى التعبير عن المثل ثم محاولة أرسطو للعودة إلى الفن الطبيعي عن طريق «المحاكاة».

يتجاوز الرسم التصوير عن طريق الانفعال بالشيء وليس تقليده، ثم التعبير عنه لإدراك حقيقة الشيء والتعبير عن جوهره. الرسم تعبير أي إعادة إنتاج الشيء ونقله من المستوى الطبيعي إلى المستوى الشعوري، ومن الشيء في ذاته أي الموضوع إلى الشيء المدرك كما يحياه الرسام أي الذات.

ويتجلى الإبداع في التحول من رسم الأشياء إلى رسم الشخصيات والتركيز على السمات المميزة للشخص وقسمات الوجه، مثل خصلة شعر نابليون، وأيدي جوكوندا، ورقبة نفرتيتي، وتطلع أفلاطون إلى السماء وأرسطو إلى الأرض في «مدرسة أثينا» لرفائيل، واللمس بالأيدي بين الرجل والمرأة في سقف مصلى الفاتيكان لليوناردو دافنشي.

ويتجلى إبداع الصور في رسم الكاريكاتير؛ فالصورة الساخرة تغني عن المقال والكتاب، بل ولا تحتاج إلى لفظ أو عبارة أو شرح، وتنتشر المجلات الساخرة الناقدة حتى في أكثر النظم السياسية تسلطًا، وتكفي قسمة للوجه حتى تعبر الصورة عن مضمونها مثل أنف ديجول، بل وتُظهر رسومًا كاريكارتيرية لصور نمطية خالدة مثل «المصري أفندي»، «السبع أفندي»، «رفيعة هانم»، «حنظلة»، «قاسم السماوي» … إلخ.

وتتعدَّد المدارس الفنية في الرسم من الانطباعية، مجرد التعبير عن العالم المدرك إلى الواقعية المباشرة التي تقوم على المطابقة، إلى الواقعية بلا ضفاف لتجاوز الواقعية المباشرة إلى الواقعية بلا حدود من خلال الذاتية إلى التكعيبية أي إدخال البعد الثالث في المكان لتجسيم الصورة إلى السيريالية، تحويل عالم الأشياء إلى عالم تجريدي رمزي طبقًا لمستويات الصورة بين الصورة الحسية الانطباعية والصورة التجريدية الرمزية.

ثم يأتي الشعر ليحول عالم الأشياء وعالم الصور الثابتة والمتحركة إلى عالم الصورة الفنية من صنع الخيال؛ فالصورة ليست صورة مرئية على أي مستوى كانت بل هي صورة ذهنية في عالم إنساني للانفعال والتأثير، للتعبير والإيصال، والشاعر هو القادر على ذلك، ويبقى الشعر وتفنى الأطلال، تبقى الصورة الشعرية في عالم خالد مستقل بعد أن انقضت الأشياء التي عاش الشاعر بينها والأشخاص الذين دخل الشاعر معهم في علاقات المحبة أو العداوة.

ميزة الصورة الشعرية أنها من إبداع الذات، من نفس عالم الشاعر ومن صنعه، ترتكز على البعد الجمالي في علاقة الإنسان بالعالم، وتضيف إلى الانطباع الحسي والإدراك العقلي الإحساس الإنساني عالمًا جديدًا يجمع بينها كلها، وهو عالم الصورة، تحول الصورة الشعرية الإنسان في العالم إلى العالم في الإنسان، وتجعل الأشياء والأشخاص في الزمان حوامل لمعانٍ ودلالات أبدية؛ فقد أصبحت «روميو وجولييت» نموذجًا أبديًّا من خلال الصورة الشعرية لكل حب وتضحية بالنفس بصرف النظر عن فيرونا والقرن الخامس عشر، كما تحول «عطيل» إلى صورة للغيرة العمياء في كل عصر بصرف النظر عن بلاد المغرب وعصره.

وتمتاز الصورة الشعرية على الصورة الروائية بالموسيقى، موسيقى الشعر، فتجمع بين الصوت والصورة؛ لذلك جعل هيجل الأوبرا أرقى الفنون بعد الموسيقى والشعر، وفاجنر هو الذي يجمع بين بيتهوفن وجوته. الصورة الشعرية تجمع بين الإدراك الحسي والرؤية العقلية والبعد الجمالي، تعتمد على الاشتباه في اللغة ومبادئها وكافة أنواع البيان والبديع من مجاز وتشبيه واستعارة أو كناية للإيحاء بالمعاني، والإقناع بالصور، والحث على الفعل. وتستطيع الصيغ الإنشائية مثل الرجاء والاستفهام والتمني والتعجب التأثير في النفس أكثر من الصيغ الخبرية؛ لذلك اختار الأدب الأولى، والعلم الثانية.

وأخيرًا يأتي الخيال ليحول الفعل إلى شعر، والعالم إلى دراما، والواقع إلى بطولة، والتاريخ إلى ملحمة، والإنسان الأول أدرك بخياله قبل أن يدرك بحسه أو بعقله، الإنسان يعيش في هذا العالم شاعرًا قبل أن يعيش فيلسوفًا، وفنانًا قبل أن يصبح مفكرًا، عبَّر الإنسان الأول عن نفسه وصراعه مع الحيوانات ومظاهر الطبيعة بالرسم والصراخ، بالصورة والصوت، فالشعر هو التعبير الطبيعي الأول باعتباره أحد صور الفن قبل الدين والعلم.

والخيال له آفاقه، الخيال الديني في تصور أمور المعاد وما يحدث للإنسان بعد الموت، عذاب القبر ونعيمه، حساب الملكين، الجنة والنار، فما يغيب في الشاهد يصوره الإنسان في الغائب، فالصورة وجود بديل، ومستقبل غير مرئي، بل إن وظيفة الدين هو كشف أفق لعالم آخر بالخيال غير هذا العالم الحسي المعقول حتى يقع التوازن في الشعور بين الدنيا والآخرة، بين الحياة والموت، بين الزمان والخلود، بين المرئي واللامرئي، بين الشاهد والغائب، بين الواقع والتمني.

فإذا ما حل العلم محل الدين تحول الخيال الديني إلى خيال علمي، مركبات الفضاء والسباحة بين الكواكب، والإنسان «السوبر مان» الذي لا يقهر والذي يمتلك كل التقنيات والإليكترونيات التي يسيطر بها على العالم، ويقهر خصومه، وينتصر بها على أعدائه، وقد يسبق الشعر الخيال العلمي في تصور الشعراء الهبوط على القمر كما فعل أدموند روستان في «سيرانو دي برجراك» وتم تصوير نهاية العالم أيضًا في الخيال العلمي لا فرق بينه وبين الخيال الديني بعد إلقاء القنابل الذرية وتدميره بأسلحة الدمار الشامل.

وهناك الخيال الاجتماعي الذي يصور اليوتوبيا، ويتخيل المدينة الفاضلة، تعويضًا عن مآسي العصر وأحزان المجتمع، ودون الخيال الاجتماعي وتصور مجتمع بديل لا تندلع ثورة ولا يحدث تغير اجتماعي، فالخيال الاجتماعي عند رايت ميلز هو الدافع على تغيير الوضع القائم إلى ما هو أفضل، هو الذي يدفع إلى المفارقة والتمايز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.

وهناك الخيال السياسي للقادة والزعماء في توحيد الأمم مثل بسمارك في ألمانيا، ومازيني وغاريبالدي في إيطاليا، ولنكولن في الولايات المتحدة، ومحمد علي وعبد الناصر في مصر والوطن العربي، وماو تسي تونج في المسيرة الطويلة لتوحيد الشعب تحت راية الاشتراكية، وسيمون بوليفار وجيفارا لتحرير أمريكا اللاتينية، ومحمود الغزنوي لتوحيد الهند، وإذا كانت هناك حدود في الجغرافيا فلا توجد حدود للخيال السياسي؛ لذلك ارتبط الخيال بالحلم، وتحويل الرغبات والميول إلى صور في اللاوعي تظهر في النوم مرئية كعالم بديل متحقق.

وهناك الخيال الحربي للقادة العسكريين، نابليون عابرًا جبال الألب، وهانيبال عابرًا جبال إيطاليا للوصول إلى روما، وجنكيز خان وتيمورلنك في اجتياح آسيا الوسطى حتى الرافدين، وأثر المياه في الطين في عبور القناة وشق الساتر الترابي في حرب أكتوبر ١٩٧٣، يبدع الخيال العسكري صورًا للمعركة قبل أن تتحقق وكما هو الحال عند لاعب الشطرنج.

الصورة إذن موضوع مشترك بين علم النفس المعرفي والفلسفة والمنطق وعلم اجتماع المعرفة وأنثروبولوجيا الثقافة والنقد الأدبي وعديد من العلوم الإنسانية والاجتماعية، هي العالم المتوسط بين الواقع والفكر، بين الحس والعقل، فالإنسان لا يعيش وسط عالم من الأشياء أو الأعداد بل وسط عالم من الصور، تحدد رؤيته للعالم وطبيعة علاقاته الاجتماعية، وإن الحوار الذي يتم بين طرفين إنما يتم بين صورة كل طرف في ذهن الآخر، والحروب الأهلية داخل الأوطان والصراعات الكبرى بين الدول إنما هي صراعات بين صور متعارضة يصنعها الإعلام والتعليم والثقافة، الصورة ليست موضوعًا للتحليل لمعرفة مكوناتها وبنيتها كما هو الحال في النقد الأدبي بل هي اكتشاف للعالم الوسيط بين المعرفة والسلوك؛ لذلك كثرت الدراسات الأدبية والاجتماعية عن «صورة الآخر» في الأعمال الأدبية وفي وسائل الإعلام، وتحتاج الصور النمطية التي تتكلس عبر التاريخ في اللاوعي الثقافي إلى جهد طويل وشاق من أجل تعديلها وتغييرها من أجل تغيير الصور الذهنية المتبادلة بين الشعوب.

لا يعيش الإنسان إذن في عالم الأشياء بل في عالم الصور دون أن يتحول إلى دون كيخوت، فالصورة عنده أوهام من صنعه في حين أن الصور حقائق تجمع بين الذات والموضوع، بين الرائي والمرئي، فلا تضحى بالرائي في سبيل المرئي كما تفعل الوضعية، ولا بالمرئي في سبيل الرائي، كما تفعل المثالية. الصورة تجمع ولا تفرق، تضم ولا تشعب، تربط ولا تفك حتى يستطيع الإنسان أن يعيش في عالم واحد قادر على التعامل معه بدل أن يعيش في عالمين.

١  فصول، مجلة النقد الأدبي، العدد ٦٢، ربيع–صيف ٢٠٠٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤