العقائد الدينية في الأمثال العامية١

ليست العقائد فقط هي علم العقائد المطمورة في بطون الكتب وأمهات المصادر بل هي العقائد التي عايشها الناس في حياتهم اليومية وعبر تاريخهم الطويل منذ أكثر من ألف عام عندما استقرَّت وتم اختيار أحد أنساقها وهي الأشعرية كعقيدة رسمية للأمة وتكفير الفرق المخالفة كما فعل الغزالي في القرن الخامس الهجري بإضافة جزء أخير في «الاقتصاد في الاعتقاد فيما يجب تكفيره من الفرق» بناءً على حديث الفرقة الناجية الذي يشكك في صحته ابن حزم. كانت التعددية الفكرية والمذهبية قد بلغت أوجها في القرن الرابع، عصر المتنبي والبيروني وأبي حيان التوحيدي، ورأى الغزالي أن هذه التعددية قد أدَّت إلى النسبية وتكافؤ الأدلة والحيرة والتردُّد والشك والصليبيون على الأبواب، رأى أن «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» وأن الرأي الواحد، والمذهب الواحد، والعقيدة الواحدة، والدولة القوية الواحدة، دولة نظام الملك، خير وسيلة لحماية الإسلام؛ فشرع له أيديولوجية السلطة في «الاقتصاد في الاعتقاد»؛ إذ لا فرق بين صفات الله وصفات السلطان، وأعطى الناس أيديولوجية الطاعة في «إحياء علوم الدين»، و«إلجام العوام عن علم الكلام» وضن بالتصوف على غير أهله، وكفر الفلاسفة في «التهافت»، وفضح الباطنية في «الفضائح»، وشرَّع لأخذ السلطة بالشوكة وليس بالبيعة؛ فالأشعرية هي الفرقة الحقة في العقيدة، والشافعية المذهب الحق في الفقه.

واستمر الأمر على هذا النحو حتى قبيل الحركات الإصلاحية منذ القرن الماضي التي حاولت الخروج من الأحادية المذهبية، وظل الأفغاني سلفيًّا، ومحمد عبده أشعريًّا في التوحيد معتزليًّا في العدل، ثم عاد رشيد رضا سلفيًّا من جديد، وتحول سيد قطب من الانفتاح على الاشتراكيين قبل الثورة المصرية إلى الانغلاق على الذات بعد التعذيب في السجون، وانقسمت الحركة في الهند بعد محمد إقبال إلى فريقين، سلفيين وعلمانيين، إسلاميين وغربيين، محافظين وتقدميين، وتحول أنصار علال الفارسي في المغرب إلى سلفيين وتقدميين، وأنصار مالك بن نبي في الجزائر إلى محافظين، وانقلبت المهدية في السودان من النضال ضد الخارج إلى معاداة الداخل، وتحول باقي الحركات الإصلاحية في اليمن والشام من حركات وطنية ضد الاستعمار والقهر إلى حركات سلفية ضد الحركات الوطنية في الداخل بعد أن بعدت المسافة بين السلفيين والعلمانيين.

وكانت محاولات الإصلاح نخبوية تحاول تغيير طرق التدريس ومناهجه في معاهد العلم وفي حلقات الدرس بالرغم من أنها كانت منبع الحركات الوطنية الاستقلالية، وقد يكون أحد أسباب التفريط في هذا الاستقلال أنها لم تتوجه إلى الثقافات الشعبية تحاول أن تعيد بناءها بعد أن رسخت العقائد الدينية الأشعرية فيها وتحولت إلى أمثال عامية يستشهد بها الناس في حياتهم اليومية كلما عرضت لهم الأزمات، وألمت بهم الكوارث، حتى لقد أصبح المثل العامي مصدر سلطة تمامًا مثل الآية والحديث؛ لذلك يمكن استئناف حركة الإصلاح مرة أخرى لإقالتها من عثرتها، ليس فقط في علم العقائد كما ترسخ في كتب العقائد المتأخرة بعد توقف العلم منذ القرن السابع الهجري حتى حركة الإصلاح في القرن الماضي، ولكن أيضًا ابتداءً من الأمثال العامية التي ترسخت فيها العقائد وأصبحت جزءًا من الثقافات الشعبية تحدد تصورات الناس للعالم وتحدد معاييرهم في السلوك.

وكما توجد عقائد الفرقة الناجية «أهل السنة والحديث» في مقابل العقائد الهالكة، فرق الشيعة والخوارج والمعتزلة، عقائد السلطة وعقائد المعارضة، عقائد المركز وعقائد الأطراف، كذلك توجد في الأمثال العامية أمثال المركز التي تمثل العقائد الأشعرية وأمثال الأطراف التي تعبر عن فرق المعارضة، وهو ما يفسر التناقض أحيانًا في الأمثال بين الجبر وخلق الأفعال، بين الإيمان والعمل، بين طاعة الإمام والخروج عليه كما هو الحال في التعاقد بين عقائد الفرق.

وكما عبرت عقائد الفرق عن التيارات السياسية في عصرها، فعقائد الفرق إن هي إلا تشريع للمواقف السياسية لمختلف القوى المتصارعة على السلطة، كذلك عبرت الأمثال العامية عن مختلف المواقف الشعبية طبقًا لمختلف الطبقات الاجتماعية أو المواقف السياسية بين القبول والرفض، الاستسلام والاعتراض، الرضوخ أو المقاومة، ولكنها في معظمها سلبية الطابع مما يفسر الأثر السلبي للعقائد الكلامية الموروثة سواء في بطون الكتب أو كما تحولت في الأمثال العامية.

وبالرغم من أن العقائد الدينية للفرق الكلامية معروفة المصدر من أصحاب المقالات ويمكن ردها إليها في القرون الأولى خاصة في عصر الفتنة الأولى ومعرفة التطور والتغير في القرون التالية، عصر التعقيل والتنظير ودخول الثقافات الموروثة وفي عصر الاكتمال والتوقف بالرغم من التفاف الفلسفة وعلوم الحكمة عليها بعد القرن الخامس بعد تكفير الغزالي للفلاسفة إلا أن الأمثال العامية مجهولة المصدر والتطور والاكتمال مثل باقي الأدب الشعبي، بالرغم من وجود اجتهادات عدة في ذلك؛ إذ اقتصر جهد الباحثين فيه على التجميع والرصد والتحليل دون عناية كبيرة بالنشأة التاريخية، وقد غلب معظم الباحثين دراسة المذاهب الفنية على الدراسة التاريخية كما هو الحال في «ألف ليلة وليلة» وباقي السير الشعبية مثل الهلالية.

واتباعًا للنسق الأشعري للعقائد تنقسم العقائد إلى بابين كبيرين الإلهيات والنبوات أو العقليات والسمعيات؛ الأول يضم أوصاف الذات وصفاتها والكسب والعقل والنقل في نظرية الذات والصفات والأفعال؛ والثاني يضم النبوة، والمعاد، والإيمان والعمل، والإمامة. وقبل النسق مقدمتان؛ الأولى عن نظرية العلم إجابة على سؤال كيف أعلم؟ والثانية عن نظرية الوجود إجابة على سؤال ماذا أعلم؟ ثم خاتمة بداية من الغزالي «فيما يجب تكفيره من الفرق».٢
ولا تغطي الأمثال العامية كل هذه الموضوعات؛ فإذن كان مجموعة الأمثال العامية حول العقائد حوالي مائة مثل يغلب موضوع الجبر والاختيار على ثلثها تقريبًا (٣٧) وموضوع الإيمان والعمل على ربعها (٢٧) ثم موضوع النبوة على الربع الثاني (٢٢) ثم يأتي موضوع المعاد (٤) ثم الإمامة (٢) ثم الصفات (١) وما يجب تكفيره من الفرق (١) والمقدمة الأولى عن نظرية العلم (٢) ولا شيء عن الذات أو عن المقدمة الثانية عن نظرية الوجود لأنهما موضوعان نظريان، والأمثال العامية تتعلَّق بالحياة الدنيوية خاصة الجبر والاختيار أو الإيمان والعمل أو الحياة الأخروية، النبوة والمعاد؛٣ لذلك يمكن تصنيف الأمثال العامية في نسق العقائد الأشعري ليس فقط طبقًا للألفاظ بل أيضًا للموضوعات؛ فقد يكون اللفظ في الذات والصفات مثل الرب، الله، ولكن المعنى في الجبر والاختيار أي في الأفعال.

ويمكن فهم الأمثال العامية بإرجاعها إلى التجربة المعاشة المشتركة باعتبارنا مصريين واستشهادنا بها في حياتنا اليومية، دون أخذ موقف منها بالرفض أو القبول وممارسة أساليب الجدل الكلامي القديم. يكفي الوصف لمعرفة ترسب العقائد الأشعرية في الوجدان الشعبي الذي أعاد إنتاجها عبر التاريخ في الأمثال العامية. وليست مسئولية أحد بل هو واقع في التاريخ الاجتماعي والثقافي للأمة، وقد تكرر في أكثر من بلد عربي وإسلامي. الأمثال العامية المصرية مجرد نموذج لما يمكن أن يتم على مستوى كل قُطر عربي أو إسلامي. تعطي هذه الدراسة مجرد نموذج للمصلح الديني الاجتماعي الذي يود إعادة بناء الثقافة الشعبية بحيث تكون حاملًا للإصلاح الديني حتى تنجح محاولة ابن رشد هذه المرة في «الكشف عن مناهج الأدلة» التي اقتصرت قديمًا على علم الكلام الأشعري في أمهات الكتب والمصادر الأشعرية العالمة.

ففي نظرية العلم، المقدمة الأولى إجابة على سؤال: كيف أعلم؟ لا يوجد إلا مثلان: «زي طور الله في برسيمه.» ينقد الجهل ويشبه الجاهل بالثور الذي لا يعمل إلا في أكل البرسيم، فهو لا يعمل عقله ولا استدل، والعقل أساس النقل، والبرهان طريق الشرع؛ والثاني «ما يعرفش طظ من رحمة الله.» إشارة إلى نفس الجاهل الذي لا يعلم شيئًا حتى رحمة الله كنقطة إحالة بديهية يحكم بها على الأشياء، وهي عقيدة أشعرية، تغليب الرحمة على العدل.

كما تقل الأمثال العامية في موضوع الذات والصفات؛ لأنه موضوع نظري لا تقوى عليه الأمثال العامية ولا يرتبط مباشرة بمصالح الناس وحياتهم اليومية، ولا يوجد إلا مثل واحد في صفة الكلام بعد أن يتحقق في القرآن مثل سورة عبس «إحنا بنقرأ في سورة عبس.» للذي يقرأ القرآن أو يستمع إليه ولا يفهم أو الذي لا يفهم بإطلاق بالرغم من تكرار القول حتى ولو كان سورة عبس. ليس المقصود هنا القرآن في ذاته بل الفهم الإنساني الضروري والذكاء الطبيعي في الحياة اليومية.

وبالرغم من أن العقل والنقل موضوع تالٍ لخلق الأفعال إلا أنه لا يوجد فيه إلا مثل واحد «ربنا عرفناه بالعقل.» وهو مثل اعتزالي يجعل العقل طريقًا إلى معرفة الله، وهو أيضًا مثل أشعري؛ فالعقل النظري قادر على الوصول إلى إثبات وجود الله، وهو ما يمكن للمُصلح إبرازه دفاعًا عن العقل والعقلانية دون الاكتفاء بالاستناد إلى المعتزلة وابن رشد من الموروث أو العقلانية الغربية من الوافد، ثم يظهر موضوع الجبر والاختيار كموضوع رئيسي للأمثال العامية، الكسب عند الأشاعرة، خلق الأفعال عند المعتزلة، وأقرب إلى الجبر في الأمثال؛ مما يدل على غياب المعتزلة في الثقافة الشعبية إلا في مثل أو مثلين، تحول الكسب الأشعري إلى جبر جهمي بفضل التصوف ومقامات الصبر والتوكل، مما يدل على ازدواج الأشعرية بالتصوف منذ الغزالي وحتى الآن في الثقافة الشعبية.

وتقوم كل الأمثال على إنكار الأسباب، وعدم الربط بين العلة والمعلول، ويتجلَّى ذلك في كثيرٍ من الأمثال التي تدور حول البركة والاتكال ولتفويض كل شيء إلى الله والنصيب والرزق المقدر والصبر والاعتماد التام على المشيئة والإرادة الإلهية؛ فالرب في كل مكان، يقال مثلًا: «خليها في قشها تجي بركة الله.» بالرغم من وجود علة ومعلول. ومثل «بارك الله في المرة الغريبة والزرعة القريبة.» ومعروف أن الزواج بالأقارب مضر بالإنجاب، والزرع القريب أسهل في العناية والحصاد. وإذا بدأ الفعل في المثل العامي فإنه ينتهي إلى اتكال مثل «خذ من عبد الله واتكل على الله.» وهو يقارب معنى الحديث «اعقلها وتوكل.» وهو أقرب إلى الكسب الأشعري والهجرة من بلد إلى بلد آخر «من بلاد الله إلى خلق الله.» فالله في كل مكان مع أن الهجرة سببها الطغيان أو ضيق الرزق أو السعي في طلب العلم «البلاد بلاد الله والخلق عبيد الله.» وأيضًا «رب هنا رب هناك.» «الرب واحد والعمر واحد.» وهو ما اعتمد عليه الأفغاني في إعادة تفسير القضاء والقدر بمعنى الإقدام والشجاعة دفاعًا عن حرية الأوطان. وبالرغم من سواد الأرض وقدرتها على الإخصاب إلا أنه لا يوجد ضمانٌ في قدرتها على الإطعام «أهي أرض سودة والطاعم الله.» وهناك أمثال أخرى صريحة ضد الأخذ بالأسباب والمبادرة بالأفعال والاعتماد على الذات مثل «اللي زمرنا له راح الله.» وكأنه لا يوجد ربط ضروري بين العلة والمعلول، بين الفعل ونتائجه، بين البذر والحصاد، وأيضًا «على ما ينقطع الجريد يفعل الله ما يريد.» وكأنه لا يوجد ضمان في زرع النخل والحصول على الثمر، ومثل: «آل يا رب سلم وغنم قال يا رب سلم وبس.» وكأن المطلوب هو حماية الله للفعل وليس الحصول على نتائج الفعل. كذلك لا يضمن مربي المواشي شيئًا من تربيته لها فالكل من عند الله «ما لك مربي آل من عند ربي.» ويستوي في ذلك تربية الماشية أو تربية الذقون، وهناك إحساس في بعض الأمثال العامية بالأوضاع وضرورة تغييرها ثم إحالة الأسباب إلى الله، فالغلاء مرذول ولكن الله قادر على الذهاب به «الله يرجع الغلا ولا كياله».

ويتجلى إسقاط التدبير في الأمثال العامية حول الرزق والنصيب مما يوحي بالاتكال والقدرية؛ فالرزق يومًا بيوم، تلك قدرات الإنسان ومدى الإعداد للمستقبل الذي هو بيد الله «رزق يوم بيوم والنصيب على الله.» ولا يوجد سبب ضروري بين العمل والرزق، فمن لا يعمل قد يرزق، وقد يرزق من لا يعمل «رزق الهبل على المجانين.» ولا داعي للعمل لأنه «من عمود لعمود يأتي الله بالفرج القريب.» ولا داعي للكسب لأن «المفلس في أمان الله».

ويتحول النصيب والرزق إلى قدرية شاملة، فالله لا يزرق إلا بحساب، لا يعطي الإنسان إلا قدر ما يحتاج إليه؛ وبالتالي يقل السعي ويضعف الاجتهاد، «ربك رب العطا يدي البرد على قد الغطا.» كما أن فعل الله يتكيف طبقًا لحاجة الإنسان حتى ولو كانت في حدها الأدنى أو أقل مثل «ربنا ريح العريان من غسيل الصابون.» «ربنا ما يقطع بك يا متعوس، يروح البرد ييجي الناموس.» وأيضًا «المتعوس متعوس ولو علقه على راسه فانوس».

ثم يدخل مقام الصبر من التصوف ليثبت إسقاط التدبير وليمنع الفعل من المبادرة؛ فالصبر هو الطريق إلى نيل المراد، والتحلل من الصبر لا يؤدي إلى شيء؛ لأن أمر الله نافذ في كلتا الحالتين، «إن صبرتم نلتم وأمر الله نافذ وإن ما صبرتم قبرتم وأمر الله نافذ.» وإذا كانت الثورة في النفس فدواؤها الصبر وليس انفجارها «الغير مرة والصبر على الله.» والصبر يكون مدى الحياة «ما وراء الصبر إلا القبر.» ومع ذلك هناك أمثال عامية أخرى أقرب إلى الاعتزال توحي بخلق الأفعال والربط بين الأسباب والمسببات؛ فالسكين يذبح بصرف النظر عن تدخل المشيئة الإلهية، «إن شاء الله خدها يندبح بها قال إيش عرفك إنها سكينة.» والنار تحرق من يضع نفسه فيها «اللي ينوي على حرق الأجران ياخده ربنا في الفريك.» فلا يتدخل الله في العلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات، والذي يمسك بالمحراث ولا يحرث فالسبب الثَّوْرانِ اللذان يجران المحراث وليس تدخل الإرادة الإلهية، «على رأي الحراث الله يلعن الجوز».

وهناك أمثال عامية صريحة تدعو إلى الأخذ بالأسباب، فهناك قانون للبيع والشراء مثل السعر «بين البايع والشاري يفتح الله.» ووضع التقاوي في الأرض سبب الزرع وإلا كان عبثًا، «تقاوي بلا زرع أو زرع بلا تقاوي.» «ما لك بتقاوي من غير تقاوي والله حسابك ما جايب همه.» وسب الناس له سبب والتوجه إلى الأسباب أفضل من لعن المسببات، «قال الله يلعن اللي يسب الناس قال الله يلعن اللي يحوج الناس لسبه.» والإنسان لا يؤدي بنفسه إلى التهلكة، فمن عرض نفسه للظلم هلك، فهناك علاقة ضرورية بين الظلم والهلاك، وبين العدل والسلامة، «قال رب دخلنا بيت الظالمين وطلعنا سالمين قال وإيش دخلك وإيش طلعك».

وهناك أمثال عامية أكثر صراحة تدعو إلى الفعل والمبادرة والسعي والكد والكدح في الرزق مثل «الرزق يحب الخفية.» فكل ميسر لما خُلق له «ربنا ما يحلك القحف عدله.» ولا يلجأ إلى القدر إلا العاجز «العاجز في التدبير يحيل على المقادير.» والعاجز عن الرزق يحيل السبب إلى الله «المضلف يقول الرزق على الله.» والاتكال يحيل إلى النصيب «الغراب الدافن يقول النصيب على الله.» ولكن هذه الأمثال الاعتزالية أقل شيوعًا من الأمثال الأشعرية.

وفي السمعيات، النبوة والمعاد والإيمان والعمل والإمامة تكثر الأمثال العامية في النبوة وفي الإيمان والعمل وتقل في المعاد وتندر في الإمامة، والغالب على موضوع النبوة اليهود والنصارى كمجموعتين مستقلتين لكل منهما خصائصه، ولا يشتركان إلا في مثل عامي واحد مما يدل على الإحساس الشعبي بمدى التمايز بين الاثنين، ولا يتعلق المثل العامي باليهود والنصارى كما هما عليه بل على الإحساس الشعبي بهما نتيجة لتعاملهما مع المسلمين، وهو ما يعادل الفرق غير الإسلامية عند الأشعري في مقالات غير الإسلاميين والقاضي عبد الجبار في «الفرق غير الإسلامية»، وما أدمجه الشهرستاني في «الملل والنحل»، وابن حزم في «الفصل»، والرازي في «الاعتقادات» عن اليهود والنصارى.

فاليهودي مرتبط بالمال، يخفي غناه بدعوى عدم التعامل مع المال يوم السبت، «أفلس من يهودي نهار السبت.» وعندما يفلس اليهودي يبحث في دفاتره القديمة لعله يجد دينًا له عند أحد؛ فهو المرابي الذي يكتب ديون الناس ويدون حقوقه ولا ينسى «لما يفلس اليهودي يدور في دفاتره القديمة.» واليهودي بالرغم من غناه المادي فقير في الدنيا والآخرة فقرًا روحيًّا «زي فقر اليهود لا دنيا ولا آخرة».

واليهودي منافق يُظهر غير ما يُبطن، ويُبطن غير ما يُظهر؛ فمقابر اليهود بيضاء من الخارج ولا رحمة كانت في قلوب موتاها «زي طرب اليهود بياض على قلة رحمة.» وكذلك قراءة اليهود للتوراة ثلثاها كذب «زي قراءة اليهود تلتنها كدب.» ووجه اليهودي نظيف من الخارج ولكن لباسه وسخ أي إن كلامه حسن وأفعاله قبيحة «زي اليهود وش نضيف وجبة زي الكنيف».

واليهودي عاصٍ لشريعته، ولا يطبق قانونه وكما لاحظ الرسول عليهم وأدانهم القرآن لإنكارهم ما هو مدوَّن لديهم في التوراة، فمهما قرأ داود المزامير فلا سمع ولا طاعة «تقرأ مزاميرك على مين يا داود.» يدعي أنه موسى وهو فرعون «اللي تقول عليه موسى تلقيه فرعون.» وهو تقابل بين العدل والظلم «اللي ما يرضى بحكم موسى يرضى بحكم فرعون».

واليهودي لا يعرف حلالًا أو حرامًا بل لا يعرف إلا مصلحته الشخصية «سيدنا موسى مات، ناشف طري هات».

واليهودي لا يسعى في مصالح الناس «احتاجوا اليهودي قال اليوم عيدي.» ولا يفيد بشيء «زي ساعي اليهود ما يودي خبر ولا يجيب خبر.» لأنه لا يعيش إلا لنفسه، ولا يعمل إلا لصالحه.

والإشارة في الأمثال العامية إلى النصرانية أقل، مما يدل على أن خبرات الحياة المشتركة مع اليهود أعمق وأعنف وأكثر حضورًا من خبراتهم مع النصارى؛ فالنصارى أيضًا قوم منعزلون لهم إيمانهم الخاص لا يعلنون عنه وثابتون عليه مهما تغيرت الأقوال والأفعال؛ ومن ثم من الصعب أن تتحول إلى إيمان أو إلى فعل مغاير «قالوا يا كنيسة أسلمي قالت اللي في القلب في القلب.» والكنسية تعرف أصلها وقادرة على التمييز بين النصراني وغيره «الكنسية تعرف أهلها».

ويضرب المثل بالزواج النصراني على الأبدية نظرًا لتحريم الطلاق «جوازة نصرانية لا فراق إلا بالخناق.» ومع ذلك هناك مثل عامي ينقد التابعين للنصارى، الآكلين على موائدهم، الموالين لهم، والمعادين للمسلمين «اللي ياكل عيش النصراني يضرب بسيفه.» وهو نفس المعنى الذي للمثل الوحيد الذي يجمع بين اليهود والنصارى وهو كون المجموعتين من الغرباء وليسوا من أولاد البلد، قد يتبعهم الناس طمعًا في أموالهم وتخفيًا عن أعين الناس مثل: «لليهود والنصارى ولا ولاد الحارة».

ويظهر موضوع النبوة أيضًا في الأخذ بالأسباب والمعجزات بين القبول والرفض، فبعض الأفعال ليس لها إلا النبي؛ لأنه الأقدر عليها «ما لها إلا النبي.» وأحيانًا يعبر المثل عن ضرورة الأخذ بالأسباب كما يفعل أهل الحرف، فالناس أعلم بشئون دنياهم مثل: «أنت نبي واللا كواليني.» وأحيانًا يعبر المثل عن الغضب الشعبي من موقفٍ لا يباركه الله ولا يصلي عليه الرسول مثل: «لا صلى عليه ولا سلم.» وقد يظهر المعنى الإنساني للنبوة وهو التراسل بين الأرواح والألفة بين القلوب، وقد يتحول أيضًا إلى الأغاني الشعبية مثل: «من القلب للقلب رسول».

أما بالنسبة للمعاد فالأمثال العامية فيه قليلة مما يوحي بارتباط الناس في حياتهم اليومية بأمور الدنيا أكثر من ارتباطهم بأمور الآخرة، الملائكة والشياطين، الجنة والنار، وإبليس وجهنم، والموت والقيامة، وإنها في الإحساس الشعبي أقرب إلى الصور الفنية التي تعبر عن حقائق في هذه الحياة الدنيا، والغالب على الأمثال موضوعات الجنة والنار، يُضرب المثل بهما بمعنى التعارض والرغبة في أخذ الاثنين في الدنيا «عين في الجنة وعين في النار.» ويرفض المثل العامي الاختيار بين الاثنين؛ لأن «اللي ما ينفع للجنة ينفع للنار.» ويضرب المثل على الاستحالة في نَيْل المراد بمثل: «طمع إبليس في الجنة.» كما يضرب المثل بالنار، بنار الدنيا، نار الفقر والحفاء «جهنم وعند البراطيش»، كما يضرب المثل بالملائكة والشياطين على استحالة الاجتماع بين النقيضين في الدنيا، «إذا حضرت الملائكة ذهبت الشياطين.» وأخيرًا يدرك الحس الشعبي أن المساواة في الدنيا لا تكون إلا في الموت «ربنا ما سوانا إلا بالموت.» فهو حق على الجميع، على الأغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، الحكام والمحكومين، الظالمين والمظلومين، كما يدرك الحس الشعبي أن القيامة عند موت الإنسان وليست القيامة كموضوع كوني، فالدين للفرد ليس للكون «قالوا يا جحا إمتى تقوم القيامة قال لما أموت أنا».

ثم يأتي موضوع الإيمان والعمل في الدرجة الثانية من الأهمية مع موضوع الجبر والاختيار؛ نظرًا لتعلقهما معًا بالعمل في الدنيا وهما يكوِّنان معًا أكثر من نصف الأمثال العامية عن العقائد الدينية، مع أن الموضوع السابع قبل الأخير، وهو الإمامة، في النسق العقائدي الأشعري، ويشمل كما هو الحال في علم الكلام موضوعات الإيمان بالقلب، والقول باللسان والعمل بالأركان؛ فالإيمان بالقلب، والخشية من الله، ومن لا يخشى الله يُخشى منه «اللي ما يخاف من الله خاف منه.» والشكوى لا تكون إلا لله؛ لأن «الشكوى لغير الله مذلة.» والجشع مرض القلب؛ لأنه «ما يملأ عين ابن آدم إلا التراب.» والتوبة الصادقة هي التي تتضمَّن العزم على عدم العودة إلى الذنب «كل ما قول يا رب توبة يقول الشيطان بس النوبة».

وكما تعرَّض علم الكلام للإيمان والكفر تناولت بعض الأمثال العامية أيضًا بعد موضوع الإيمان الصادق الكفر؛ فالكفر قد يبدو على غير ما هو عليه ولكنه في الحقيقة يقود إلى جهنم «زي قبور الكفار من فوق جنينة وتحت نار.» وهو مثل مستقى من عناية اليهود والنصارى بقبورهم ومناظرهم حتى ليحسبها السائح حدائق أو متاحف على عكس قبور المسلمين ومجاريها الطافحة وطرقها المتربة ونقص مياهها وخدماتها الصحية وسكن الملايين فيها وهم سكان المقابر، فالأحياء أولى من الأموات، كذلك يضرب المثل بالكفر في أول الكلام دون الانتظار إلى نهايته «أول القصيدة كفر.» كما تعبر بعض الأمثال العامية عن الإقرار باللسان، ونقض الطأطأة بالرأس دون الإعلان باللسان «ألف طأطأ ولا سلام عليكم.» مما يدل على أهمية الإقرار بالشهادتين، وكذلك عدم الكذب على الله والناس «ربك وصاحبك لا تكذب عليه».

ثم تتناول معظم الأمثال موضوع الأفعال وصلتها بالإيمان وهو الموضوع الذي عرضته العقائد الدينية في حكم مرتكب الكبيرة بين الكفر (الخوارج) والرجاء (المرجئة) والمنزلة بين المنزلتين (المعتزلة). والأفعال التي تقع تحت المسئولية هي أفعال العقلاء البالغين وليست أفعال الصبية الصغار؛ لأن «الصغار أحباب الله.» على عكس رأي الخوارج الذين يأخذون الأطفال بجريرة الآباء ويحبذون قتل أولاد الكفار، وفي نفس الوقت قد يصعب الفعل ولا يحتاج إلا إلى معجزة حتى يتحقق «ربطة قرماني ما تنحل إلى في مكة.» وتتناول كثير من الأمثال العامية أفعال الشرع، العبادات كالصلاة والصوم، فإذا حثَّت بعض الأمثال على أن الصلاة خير من النوم كما هو الحال في الأذان رد الحس الشعبي بأن كليهما تجربة وأن التجربة أصدق في الحكم، «الصلاة أخير من النوم قال جربنا ده وجربنا ده.» ودون الانتهاء إلى أيهما أفضل، والصلاة فرض على المؤمنين كتابًا موقوتًا، ولا يدرك الإنسان أهميتها إلا إذا حضره الموت «جاءك الموت يا تارك الصلاة.» والمثل الديني هنا له معنى عام أي وقوع الكارثة قبل الاستعداد لها، وينقد المثل العامي من يصلي لقضاء الحاجة، فإذا ما انقضت الحاجة انقطع عن الصلاة «زي التركي المرفوت يصلي على ما يستخدم.» والوضوء شرط الصلاة وقبلها وإلا فلو سبقها بمدة طويلة فقد ينقض الوضوء مما يدل على ضرورة الإحساس بالوقت استعدادًا للفعل «اللي يتوضا قبل الوقت يغلبه.» ويضرب المثل أيضًا بالمسحراتي بعد انقضاء رمضان على ضرورة الإتيان بالفعل في وقته «عملوه مسحر قال فرغ رمضان.» كما يُضرب المثل على من لا يعجبه العجب حتى ولو كان الصيام في رجب «ما يعجبه العجب ولا الصيام في رجب».

وهناك عدة أمثال عامية تتعلَّق بتطبيق الشرع من عدمه، فالحارس على الشيء قد يكون أول الطامعين فيه «إن سلم المارس من الحارس فضل من الله.» وقد يكون حامي الحمى أول سارق له «حاميها حراميها.» ومع ذلك تجب الحراسة؛ لأن «الرزق السايب يعلم الناس الحرام.» ولا فرق بين الحلال والحرام «حلال كلناه حرام كلناه.» ومع ذلك فالرزق من السماء لا يجوز منعه حتى ولو كان ضئيلًا «رزق نازل من السما من خرك غبرة جابو سد سده.» كما «أن الزيادة في الوقت حلال»؛ لأنه فيه خير يعم الناس؛ لذلك تحبذ كثير من الأمثال العامية الصرف والإنفاق على المنازل وأهل البيت خير من الصرف على بناء المساجد والجوامع فحياة الناس أولى، والله غني عن العالمين، الحفاظ على الحياة أحد مقاصد الشريعة الكلية التي لأجلها وضعت الشريعة ابتداء «كل لقمة في بطن جائع أخير من بناية جامع.» وما يحتاجه البيت فهو حلال له حرام في الجامع «اللي يلزم البيت يحرم على الجامع.» حتى ولو كان الأمر مجرد حصير «حصيرة البيت تحرم على الجامع.» ولا يجوز الصدقة على الآخرين وأهل الدار في احتياج «الحسنة لا تجوز إلا بعد كفو البيت.» والأقربون أولى بالشفعة.

وأخيرًا تنقد كثير من الأمثال العامية مظاهر النفاق الديني في السلوك اليومي لرجال الدين الخطباء والأئمة ورجال الدين وأهل الفتوى والقضاة؛ فالخطباء ليسوا أهلًا للخطابة «هاتوا من المزابل وحطوا على المنابر.» والأئمة أهل ضلال «ضلالي وعامل إمام والله حرام.» ورجل الدين يلف العمامة للزينة الخارجية والباطن خراب «ما كل من لف العمامة يزينها.» والعمة يحتاجها الناس في الدنيا وليست دليلًا على التقوى والآخرة «هات عمتك ويوم القيامة خدها.» والمفتي أو القاضي يحكم صعبًا إذا لم يخصه الأمر وحكمًا سهلًا ميسورًا إذا كان في مصلحته «قالوا للقاضي يا سيدنا الحيطة شخ عليها كلب قال: تنهدم وتتبني سبع. قالوا دي الحيطة بينا وبينك؟ قال: أقل من الماء يطهرها».

ومثل الأمثال العامية في الموضوع الأخير في العقائد الأشعرية وهو موضوع الإمامة ربما لأن أهل السنة لم يجعلوها أصلًا من أصول الدين وجعلوها فرعًا، وربما لعزوف الناس عن الدخول في المعارضة السياسية دخولًا مباشرًا اتقاء لشر الحكام؛ فالإمام غائب والحاكم بعيد «الشيخ البعيد مقطوع ندرة.» ومن ثم يدير الشعب ظهره للحاكم كأحد أوجه المعارضة له، المقاومة السلبية بتجاهله بالرغم من توافر الأمثلة على الظلم الاجتماعي والدعوى أحيانًا إلى أخذ الحقوق واستردادها.

أما الخاتمة في النسق الأشعري التي سنَّها الغزالي في «الاقتصاد في الاعتقاد» عن «فيما يجب تكفيره من الفرق» والتي تعتمد على حديث الفرقة الناجية الذي يشكك في صحته ابن حزم، والذي يستبعد كل اجتهادات الأمة خاصة الاتجاهات المعارضة للسلطة ولا يبقي إلا على عقائد الفرقة الناجية وهي فرقة السلطة فإن المثل الشعبي الوحيد حاول رد الاعتبار للفرق وإحياء تعدديتها إذ إن «كل شيخ وله طريقة.» تبعًا لروح الفقه القديم أن الحق النظري متعدد والحق العملي واحد وتأسيًا بحديث الرسول «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم».

هذا مجرد نموذج لدراسة العقائد الدينية في الأمثال العامية أحد جوانب الثقافة الشعبية، ويمكن أن يتم في باقي نواحي الأدب الشعبي في السير مثل الهلالية وفي الأزجال والمواويل الشعرية، وفي الأغاني التي يؤلفها المحدثون ويظل يسمعها الناس من أساطين الغناء، وفي النكات الشعبية التي تعتبر سجل مواقف الناس في الأزمات سواء في علاقاتهم الاجتماعية فيما بينهم أو في علاقاتهم بالحكام. هذا مجرد نموذج لدراسة الفلسفة الإسلامية وبناء الإنسان المعاصر عن طريق الدخول في الثقافة الشعبية التي تربط بين الماضي والحاضر، بين القدماء والمحدثين.٤
١  مشروع بحث «التراث والثقافة الشعبية والتطور الاجتماعي»، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، القاهرة، ٢٠٠٢.
٢  وهو النسق الذي اتبعناه في كتابنا «من العقيدة إلى الثورة»، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨.
٣  اعتمدنا على كتاب أحمد تيمور باشا: الأمثال العامية، الطبعة الثانية، دار الكتاب العربي، القاهرة، ١٩٥٦.
٤  انظر دراستنا السابقة عن الثقافة الدينية والاجتماعية في الأمثال العامية في «التفكير الديني وازدواجية الشخصية»، «الفلاح في الأمثال العامية» قضايا معاصرة، ص٢١، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦، ص٢١١-٢٢٧، ص٢٦٠-٢٨٩، وأيضًا المرأة في الأمثال العامية، هاجر (٣) ١٩٩٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤