الإسلام السياسي بين الفكر والممارسة١
(١) الجذور القديمة للإسلام السياسي
ليس الدين فقط مجرد تغير نظري في رؤية العالم، أن هذا العالم أتى من لا شيء وينتهي كما أتى، وأن الإنسان فيه مجرد عابر سبيل يعمل فيه ويجازى في النهاية قدر الأعمال، وأن وراء هذا العالم المرئي عالمًا آخر غير مرئي يتجلَّى في العالم المرئي ويتحكم فيه.
وليس هو مجموعة من الممارسات في طقوس وشعائر فردية وجماعية، رمزية الدلالة لحماية الإنسان من أخطار البيئة وقوى الطبيعة وشرار الحيوانات حتى يطمئن الإنسان على حياته، ويعيش في سلام وأمان.
وليس مجموعة من المؤسسات السلطوية لرجال الدين يقومون عليه، يحددون شرائعه وطقوسه، ويعملون كوسائط بين عالم البشر وعالم الآلهة، ولهم قدرات بشرية إلهية في آنٍ واحد، أقرب إلى المقدس منهم إلى الدنيوي، وتصل ألقاب البعض منهم إلى أبناء الله وأرواح الله وكلمات الله.
وليس انعزالًا عن العالم، والعيش في مغارات وكهوف، أمام ألسنة النيران ودخان البخور وروائح العطور وإصدار الترانيم واستدعاء الأرواح الطيبة وطرد الأرواح الشريرة وعلاج المرضى واستبدال العالم الروحي بالعالم المادي.
كان الدين باستمرار وسيلة للتغير الاجتماعي والسياسي والثقافي، حركة اجتماعية تعبر عن قوى اجتماعية مضطهدة أو مهمشة في المجتمع ضد قوى التسلط والطغيان، ونمرود وهامان وأبو جهل وأبو لهب وأشراف مكة الذين اتهموا الرسول بتأليب العبيد عليهم.
كان أداة لتحرير شعوب بأكملها مثل تحرير اليهود من قبضة فرعون بقيادة موسى، وخروج إبراهيم وأهله من شمال العراق إلى الحجاز، هربًا من عبدة الأصنام، وتأسيس قواعد لبيت جديد من بيوت الله ليُذكر فيه اسمه بدلًا من عبادة الأصنام، كان وسيلة لتجميع القبائل المتفرقة المتناحرة مثل القبائل العربية، وتأليف القلوب، مثل المؤاخاة بين الأوس والخزرج، والمهاجرين والأنصار لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، وتجميع القبائل لحمل الحجر الأسود الذي وضعه الرسول في عباءته، كل قبيلة تمسك بطرف منها، استمساكًا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا؛ فوحدة الأمة انعكاس لوحدة الألوهية.
كان وسيلة لتوحيد الأوطان، وتوحيد الثقافات كما كان الحال في شبه الجزيرة العربية، توحيد الحنفاء واليهودية والنصرانية وثقافة الشعر خاصة سجع الكهان وشعراء النصارى وشعراء الصعاليك، وثقافة الأمثال الشعبية العربية التي حملت القيم العربية المتواصلة في قيم الإسلام مثل كرم الضيف، ونجدة المظلوم وإيواء الغريب، والوفاء بالعهد والثقافة السياسية المتمثلة في حلف الفضول وصلح الحديبية والاعتراف بها جميعًا وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، وبتعدد مناهجها وأعرافها وعاداتها لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا.
كان وسيلة للتحرر الثقافي، تحرير آدم من الغواية، وتحرير ابن نوح من الحكم على الظواهر الطبيعية بالعلل الطبيعية وحدها، الجبل الذي يعصم من الماء ساعة الفيضان، وتحرير عيسى بني إسرائيل من طغيان الكهنة وعبدة القانون، ومن تحويل المعبد إلى تجارة، وتأسيس عهد جديد يقوم على المحبة والطاعة بدلًا من العهد القديم الذي يقوم على الاختيار والاختصاص، وتحرير الرومان من القوة العضلية إلى القوة الفعلية، ومن معالجة الأبدان إلى معالجة النفوس.
فكل ادعاء بأن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين يقصد به عزل الدين عن السياسة حتى يأمن المتسلط أي حركة معارضة باسم الدين تقضي عليه، وعزل السياسة عن الدين حتى يفعل النظام السياسي ما يشاء طبقًا لمصلحة النخبة السياسية دون مراعاة لشريعة أو قانون؛ فهو قول سياسي أيضًا على نحو سلبي ضد الصلة الطبيعية بين الدين والسياسة، الدين وسيلة لتحرير البشر، والسياسة أداة لتنفيذ شرائعه، فصل الدين عن السياسة والسياسة عن الدين كما تريد العلمانية المعاصرة هو فعل ديني سياسي في آنٍ واحد على نحو سلبي كذلك، السياسي الذي يريد أن ينفرد بالحكم دون مزاحمة الديني له كما هو الحال في بعض النظم العربية المعاصرة، والديني الذي يريد إقصاء السياسي إنما يريد جعل الدين حكرًا عليه، عالمًا مغلقًا له ملكوته الخاص دون أن ينافس فيه رجال السياسة.
لقد نشأت العلوم الإسلامية كلها نشأة سياسية اجتماعية في بيئة سياسية تتحول فيها القبيلة إلى دولة، والنبوة إلى خلافة، والخلافة إلى ملك «الخلافة بعدي ثلاثون سنة تتحول بعدها إلى ملك عضود.» وواكبت العلوم الإسلامية هذا التحول الاجتماعي السياسي وعبرت عنه.
ونشأ التصوف نشأة سياسية عكسية كرد فعل على التكالب على الدنيا والحكم وحياة البذخ والترف، وصعوبة مقاومة هذا التيار الدنيوي بالفعل بعد أن استشهد أئمة آل البيت، وعزت المقاومة وحصار العلماء بين العصا والجزرة لمعاوية، فآثر فريق إنقاذ النفس إن تعثر إنقاذ العالم، والإبقاء على الداخل إن صعب العمل في الخارج، والحرص على نقاء الضمير وصفاء القلب إذا خضع البدن لضرورات الحياة ومقومات البقاء، فبعد الفتنة الكبرى بجيل خرجت مجموعات الزهاد والعباد والبكائين يتحسرون على ما فات أيام الرسول والخلفاء. وعاش أهل الصفة في آخر المسجد يتحسرون على حال الناس، من هنا خرجت جماعات الصوفية الأولى دون أي تأثير أجنبي، وبدافع داخلي محض.
كما نشأ علم أصول الفقه نشأة اجتماعية صرفة، وقائع جديدة تحتاج إلى أحكام، فكان من الطبيعي أن ينشأ القياس طبقًا لما عبر عنه عمر بن الخطاب «قس الأمثال بالأمثال، والنظائر بالنظائر.» وحديث الرسول لمعاذ وإجابته بالحكم بالكتاب ثم بالسنة ثم بالقياس دون خوف أو وجل، وفي القرآن حديث عن الاستنباط والاجتهاد لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.
وقد نشأت علوم الحكمة بفضل الدولة، حلم المأمون بأرسطو وحواره معه حول الحسن والقبح العقليين والشرعيين، وتأسيس ديوان الحكمة، وتعيين مترجمين له وعلى رأسهم حنين بن إسحق، وشراء المخطوطات من بلاد الروم ذهبًا من أجل معرفة ثقافات الشعوب المفتوحة، الغرب والروم وليس تدميرها والقضاء عليها كما فعل الاستعمار الغربي الحديث، وتمثلت الفكر السياسي اليوناني خاصة جمهورية أفلاطون، والفكر السياسي الفارسي خاصة في «جاويدا دخرد» بجوار الفكر السياسي الموروث في «الأحكام السلطانية».
(٢) الجذور الحديثة للإسلام السياسي
لم يكن «الإسلام السياسي» ظاهرة قديمة فحسب بل أيضًا ظاهرة حديثة منذ الإصلاح الديني حتى الجماعات الإسلامية الحالية؛ فقد نشأ الإصلاح الديني بدافع سياسي، ضعف الخلافة العثمانية، واحتلال أراضي الأمة وتجزئتها، وتخلفها عن المدنية الحديثة، وقهرها بالرغم من نظام الملة، ومركزيتها الشديدة مما شجع على استقلال الأمصار ورغبتها في الانفصال، وأطماع الشرق والغرب في ممتلكات الرجل المريض، ورغبة بعض الأمصار في وراثتها مثل مصر في عصر محمد علي ثم بعد سقوط الخلافة في ١٩٢٤.
وفي المغرب العربي، ارتبطت الحركة الوطنية بالإصلاح الديني وخرجت منه كما هو الحال في مصر، وأسس علال الفاسي في المغرب حزب الاستقلال، صاغ علماء القرويين الحركة الوطنية مع العرش الذي جسد هذا الارتباط بين الوطن والإسلام ممثلًا في محمد الخامس، وأخذ الجهاد معنى جديدًا وهو الاستقلال، بل وأخذ الملك في المغرب لقب «أمير المؤمنين»، وانتسب إلى الأسرة الهاشمية كما هو الحال في الأردن.
وفي الجزائر خرجت الحركة الوطنية أيضًا من جمعية علماء الجزائر، وتدرجت مع علمائها مع عبد الحميد بن باديس، عبد القادر المغربي، عبد الكريم الخطابي، مالك بن نبي، وعندما ضعفت الحركة الوطنية بعد الاستقلال وعادت الفرانكفونية عند النخبة عاد الإسلام حاملًا لغضب الجماهير وتطلعاتهم الاجتماعية ضد الفقر والبطالة، عادت الحركة الإسلامية الاجتماعية، ونالت الأغلبية في المجالس التشريعية، ثم انقلب عليها الجيش، وبدأ القتال المسلح وثمنه سبعون ألف شهيد.
وفي تونس أيضًا تبلورت الحركة الوطنية بفضل علماء الزيتونة الطاهر والفاضل بن عاشور، كان الناس يقاومون الاحتلال الفرنسي كجزء من الجهاد الإسلامي بصرف النظر عن اتجاههم العمالي والنقابي أو الليبرالي أو الوطني التلقائي، كما ظهر ذلك في أدب المقاومة والأزجال الشعبية ومناهج التفسير عند علماء الزيتونة وخطب المنابر ودروس العصر والمظاهرات الشعبية.
وفي ليبيا قامت الحركة السنوسية بالجهاد ضد الاحتلال الإيطالي واستأنفه عمر المختار، كانت المقاومة تنطلق من الزوايا والمساجد معتمدة على الإيمان بالله وجهاد الكفار؛ فالاحتلال كفر، والمقاومة من «الكُفرة» من جنوب الصحراء، ولما قامت الثورة في ١٩٦٩ بدافع وطني قومي كرد فعل على هزيمة ١٩٦٧ وبعد ربع قرن من خفوت المد الثوري واستمراره في نفس الخطاب السياسي دون أن يترجم إلى أفعال وتغيير ملموس في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي عاد الإسلام المسلح في الجبال حول بنغازي حاملًا لحركات الاحتجاج الاجتماعي والمعارضة السياسية.
ولم يختلف المشرق العربي عن المغرب العربي في ذلك؛ ففي سوريا نظر عبد الرحمن الكواكبي لحرية المسلمين في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، وحلل في «أم القرى» ظاهرة اللامبالاة أو الفتور في الأمة الذي أدى إلى استكانتها واحتلالها، وركب القومية على الإسلام، وطبق ثقافة الحرية في الغرب في واقع المسلمين وتراثهم.
وفي لبنان خرجت حركة المقاومة في الجنوب من الشيعة وأحزابها ومنظماتها، أمل وحزب الله، وانتصرت المقاومة وتحررت لبنان، وأصبحت نموذجًا يحتذى به في فلسطين وكشمير وكل أرض محتلة، ساهم السنة والشيعة معًا في حركات المقاومة والتنظير للثورة الإسلامية الحديثة خاصة في كتابات «محمد شمس الدين» و«محمد حسين فضل الله» وربما متجاوزين أيديولوجية الثورة الإسلامية في إيران و«ولاية الفقيه».
وفي اليمن قاد الأئمة الأحرار النضال ضد حكم الأئمة الطغاة، واستشهدوا في سبيل حرية الأوطان مثل زيد الموشكي، وشارك الإخوان في عدة ثورات ضد الأئمة حتى نجح الضباط الأحرار، عبد الله السلال أخيرًا في وضع نهاية حكم عصور الظلام، وعبر شعراؤهم وأدباؤهم عن أوضاع القهر والاستقلال، وتعاونوا مع القوميين على إنجاح الثورة وبمساعدة مصر، وبعد الوحدة تشارك الحركة الإسلامية في الحياة الوطنية، وبينها وبين النظام السياسي شد وجذب كما هو الحال في طبيعة المجتمعات التي تتحول من التسلط إلى الحرية.
وفي السودان قادت الحركة المهدية النضال ضد الاحتلال البريطاني، محمد أحمد المهدي بما لديه من وسائل قتال تقليدية أمام الجيش البريطاني الحديث، وقتل اللورد غوردون بسهم أحد مجاهدي المهدية، وأصبحت المهدية في تاريخ السودان الحديث تعادل الجهاد في سبيل الله، تحول التصوف إلى ثورة بالرغم من انتشار الوهابية وإسقاط فريضة «الجهاد» عند الإخوان الجمهوريين.
وفي فلسطين الآن، تقود حماس والجهاد المقاومة الإسلامية متضامنة مع باقي حركات المقاومة الفلسطينية، وقد كانت فتح في تكوينها الأول من الإخوان المسلمين الذين ناضلوا في فلسطين جنبًا إلى جنب مع الجيوش العربية في ١٩٤٨، وكانت ثورة عز الدين القسام في ١٩٣٦ نموذجًا للمقاومة الإسلامية الأولى ضد الاستعمار الاستيطاني، وقد قامت انتفاضتان في ١٩٨٧ ثم في ٢٠٠٠ تحت شعار الأقصى الذي حرك تدنيسه واحتلاله مشاعر المسلمين من أقاصي آسيا إلى غرب أفريقيا.
وإذا كان محمد عبده قد ارتد عن الثورة السياسية وسياسة الانقلابات ضد الحكام لأستاذه الأفغاني بعد فشل الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر، كذلك ارتد رشيد رضا تلميذ محمد عبده عن الإصلاح إلى السلفية بعد الثورة الكمالية في تركيا عام ١٩٢٣ والقضاء على الخلافة، ونجاح جمعية تركيا الفتاة وحزب الاتحاد والترقي في الوصول إلى الحكم؛ فقد كانت هناك ثلاثة اختيارات: الإصلاح الذي أدى إلى الاحتلال في مصر، والعلمانية التي أدت إلى القضاء على الخلافة في تركيا، فلم يبق أمامه إلا السلفية يرتد إليها مدافعًا عن الخلافة من جديد في «الخلافة أو الإمامة العظمى» مكتشفًا محمد بن عبد الوهاب مؤسس الحركة الوهابية في نجد الذي اكتشف أيضًا ابن تيمية زعيم السلفيين القدماء والمعاصرين في آنٍ واحد الذي امتدت جذوره إلى أحمد بن حنبل مؤسس الحركة السلفية الأولى بعد أن ذهب العقل والقياس إلى أبعد مدى عند أبي حنيفة والمعتزلة، ووصلت المصلحة العامة عند المالكية إلى القول بالمصالح المرسلة وأن ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وأن المصلحة أساس التشريع كما قال الطوفي في الأندلس، فالأولى العودة إلى النص الخام والطاعة الأولى للأوامر والنواهي دون تدخل العقل البشري بالفهم أو التأويل، بالتحليل أو التعليل، وربما كان ذلك بداية انتشار الإسلام «الوهابي» وامتداده إلى باقي الحركات الإسلامية المعاصرة.
وكان حسن البنا تلميذ رشيد رضا في دار العلوم، تشبع بالروح السلفية وأراد تحقيق حلم الأفغاني لتأسيس حزب إسلامي ثوري قادر على حمل الأيديولوجية الإسلامية الثورية وتحقيق المشروع الإسلامي التحرري، فأنشأ جماعة الإخوان المسلمين على ضفاف القناة في الإسماعيلية عام ١٩٢٨، وفي خلال أقل من ربع قرن أصبحت أقوى التنظيمات الإسلامية وأكثرها حركة في مصر وسوريا واليمن والأردن، واستطاع حسن البنا أن يصوغ إسلامًا بسيطًا واضحًا، نظريًّا وعمليًّا، تصوريًّا حركيًّا «فرسان بالنهار، رهبان بالليل»، ودخل الإخوان في الأربعينيات في أتون الحركة الوطنية المصرية، جهادهم في فلسطين في ١٩٤٨، ومعارضتهم لنظام الحكم الإقطاعي الاستبدادي، الإنجليز والقصر وأحزاب الأقلية، وكانوا يمثلون مع الوفد والشيوعيين بالرغم من الخلاف الأيديولوجي بينها، المعارضة الرئيسية للسياسات القائمة في الأربعينيات.
واغتيل حسن البنا في فبراير ١٩٤٩ بعد إلقاء محاضرةٍ في جمعية الشبان المسلمين، اغتاله القصر والإنجليز وربما بعض أحزاب الأقلية، وبدأت سلسلة من الاغتيالات المتبادلة (النقراشي، أحمد ماهر) ثم الاعتقالات والتعذيب لأعضاء الجماعة، وكما كون القصر «الحرس الحديدي» والذي كان السادات من أعضائه، وكوَّن الشيوعيون أيضًا تنظيماتهم السرية كون الإخوان أيضًا «التنظيم السري» من أجل الاستعداد للتغير السياسي الجوهري بالاستيلاء على السلطة.
وفقد الإخوان باغتيال الشهيد حسن البنا ليس فقط مؤسس الجماعة بل مؤسسها ومرشدها ومنظِّرها وأبيها الروحي، ولم يستطع أحدٌ خلافته لا من القضاة أو المحامين أو الفقهاء أو الدعاة أو الضباط أو السياسيين أو رجال الأعمال، وظل الموقع شاغرًا لمدة سنتين حتى اقتراح أحد أعضاء مكتب الإرشاد اسم «سيد قطب» بالرغم من اعتراض باقي الأعضاء لصلة هذا الاسم الجديد بالعلمانيين، الشيوعيين والاشتراكيين والأدباء، ولأنه ليس من الآباء المؤسسين للجماعة مثل عمر التلمساني ومنير الدلة والعسكري وغيرهم، وليس له الثقل القانوني لعبد الحكيم عابدين أو عبد القادر عودة أو الباع الفقهي لسيد سابق أو القدرة الخطابية لمحمد الغزالي أو البراعة السياسية لحسن العشماوي، ومع ذلك تم انتخابه أمينًا للدعوة والفكر، وعضوًا بمكتب الإرشاد.
والحقيقة أن سيد قطب شخصية فريدة في تاريخ مصر، وفي العلاقة بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين، وقد ظهرا في آخر فترةٍ في حياته، الفترة السياسية؛ فقد مر سيد قطب بأربع فترات في حياته؛ الأولى: المرحلة الأدبية في الثلاثينيات عندما بدأ شاعرًا رومانسيًّا يقرض الشعر الرومانسي الوطني، مثل الشاطئ المجهول عام ١٩٣٤، ثم استمر في الأربعينيات عندما بدأ يكتب أدب الأطفال مثل «أشواك»، «الأطياف الأربعة»، «المدينة المسحورة»، والسيرة الذاتية مثل «طفل من القرية» أسوة بتوفيق الحكيم في «يوميات نائب في الأرياف» وبطه حسين في «الأيام»، وصاحب ذلك الإبداع الأدبي النقد الأدبي ابتداءً من «مهمة الشاعر في الحياة» مع تقديم مهدي علام عميد آداب الإسكندرية ثم «النقد الأدبي أصوله ومناهجه» في منتصف الأربعينيات، وفيه يقدِّم بعض الآيات القرآنية كشواهد أدبية، ثم طبَّق نظريته في النقد الانطباعي الوجداني الشعوري اعتمادًا على موسيقى اللغة قبل «الجوانية» لعثمان أمين بعقدين من الزمان في «التصوير الفني في القرآن الكريم» و«مشاهد القيامة في القرآن الكريم» في نفس الوقت الذي كتب فيه خلف الله محمد خلف الله رسالته للماجستير «الفن القصصي في القرآن الكريم» تحت إشراف أمين الخولي، ورفضتها السلطات الجامعية بادعاء إنكار الوقائع التاريخية في قصص الأنبياء، وهو نفس الاتهام الذي وجه إلى طه حسين في «في الشعر الجاهلي» من قبل ونصر حامد أبو زيد من بعد في «مفهوم النص». وكان من أنصار الجديد ضد القديم، والعقاد ضد طه حسين، وهو الذي عرف العالم النقدي بثلاثية نجيب محفوظ.
والثانية: المرحلة الاجتماعية عندما اكتشف سيد قطب الجانب الاجتماعي في الإسلام بعد اكتشافه الجانب الأدبي في القرآن؛ فقد كتب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، مقالًا ثم كتابًا من روح المعركة الاجتماعية في الأربعينيات، وصدر عام ١٩٤٩ يربط فيه العدالة الاجتماعية وهي القضية المطروحة في السينما والشعر والقصة والمسرح والفكر السياسي والأحزاب السياسية في ذلك الوقت مثل الطليعة الوفدية، بالتوحيد؛ إذ يقوم التوحيد على مبادئ ثلاثة: الحرية الإنسانية، والمساواة الإنسانية، والتكافل الاجتماعي. وأعطى شواهد تاريخية عديدة من أقوال الصحابة والأئمة على الاشتراكية الإسلامية وفي نفس الوقت الذي أصدر فيه مصطفى السباعي في سوريا «اشتراكية الإسلام» عام ١٩٤٧، ثم كتب «معركة الإسلام والرأسمالية» يبين فيها التناقض بينهما وكأنه بيان شيوعي يؤصل الماركسية، ثم كتب «السلام العالمي والإسلام» يؤسس فيه قضية السلام ابتداءً من الضمير رضا الإنسان عن نفسه إلى السلام في الأسرة والتوافق بين أعضائها إلى السلام في المجتمع الذي يقوم على تذويب الفوارق بين الطبقات، وهنا رشحته الثورة المصرية لأن يكون رئيسًا لهيئة التحرير، أول تنظيم سياسي لها ومشرفًا على مجلتها ونشراتها.
والثالثة المرحلة الفلسفية وفيها غرق سيد قطب في الجانب النظري في الإسلام، تأسيس الأيديولوجية الإسلامية في «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» والتي تقوم على الوحدانية والمثالية والتعادلية والاتزان والحركية والوجدانية، كان أقرب إلى إقبال منه إلى مفكري الإخوان، ولما كان ذلك ردًّا على كتاب ألكسيس كاريل «الإنسان ذلك المجهول» حدث تقابل بين الأنا والآخر، بين الإسلام والغرب، وهو ما اشتدَّ بعد زيارته لأمريكا في بعثة تعليمية وحدوث صدمة حضارية كشفت التناقض بين مجتمعين، ثم كتب «المستقبل لهذا الدين» مبينًا المستقبل للأنا ونهاية الآخر، وأخيرًا جمع عدة مقالاتٍ له في الدين والسياسة والأدب والاجتماع والتاريخ في «دراسات إسلامية»، وهي آخر ما وصل إليه سيد قطب من تنظير، وأعلى ما وصلت إليه الأيديولوجية الإسلامية من أحكامٍ في أوائل الثورة.
والمرحلة الرابعة هي المرحلة السياسية، فعندما اندلعت الثورة في ١٩٥٢ كان سيد قطب قد دخل الإخوان منذ سنتين فحسب، ولما كان معروفًا بكتاباته الاشتراكية فقد عهد إليه بإلقاء عدة أحاديث إذاعية عن الوطنية والاشتراكية والثورة، ولما حلَّت الثورة الأحزاب أبقت على الإخوان نظرًا لارتباط الثورة بها، وكتب سيد قطب برنامج الإخوان بناء على طلب الثورة الأحزاب بكتابة برامجها السياسية، وبعد أن وقع الخلاف بين الضباط الأحرار، بين عبد الناصر ونجيب فيما عُرف بأزمة مارس ١٩٥٤، انضم الإخوان إلى نجيب لما كان يمثله من أبوة ووطنية ونزعة إسلامية يجمع بها بين شطري وادي النيل أم سودانية وأب مصري، ولما خسر نجيب المعركة بدأ الصراع بين الإخوان والثورة، وبلغ الذروة في يوليو ١٩٥٤ عندما أطلق أحد أعضاء جماعة الإخوان النار على عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية لاغتياله، فكانت الفرصة لعبد الناصر ورفاقه لحل الإخوان والقبض على مكتب إرشادهم، واستشهاد عبد القادر عودة وغيره من أعضاء التنظيم، ودخول سيد قطب السجن، ومن أهوال التعذيب وفي ظلمات السجون، ومن آلام الجسد، وصرخات حرق الجسد كتب سيد قطب «معالم في الطريق»، البعض من فصوله منتزع من «في ظلال القرآن»، والبعض الآخر يعبر عن أنات السجين البريء، وفيه يشتد التقابل بين الإسلام والجاهلية، الإيمان والكفر، الله والطاغوت، وأنه لا يمكن المصالحة بينهما، بل يقضي أحد الطرفين على الآخر، ولما كان لا غالب إلا الله فسيتم انتصار الإسلام على الجاهلية، والله على الطاغوت، والإيمان على الكفر عن طريق تكوين جيل قرآني فريد، خاصة الخاصة، تملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا، ولما صدر الكتاب في الستينيات لم يدرك أحد أهميته، ولما قرأه عبد الناصر عائدًا من موسكو بعد زيارة للاستشفاء أدرك بحسه التنظيمي الحزبي أن رواء هذا الكتاب لا بد وأن يكون هناك تنظيم سري، وطلب من وزير داخليته شعراوي جمعة، اكتشاف هذا التنظيم، وقبض على سيد قطب ثانية بعد أن كان قد أفرج عنه قبل ذلك بسنتين، واتهم بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم، وبعد محاكمة صورية تمت إدانته، وحكم عليه بالإعدام شنقًا في صيف ١٩٦٥ بعد أن تشفع له كثير من حكام العرب والمسلمين، كانت الثورة تدافع عن نفسها بعد قوانين يوليو الاشتراكية كرد فعل على الانفصال المصري السوري، كانت تناصر الثورة اليمنية، ولم يكن بإمكانها السماح بأي تحدٍّ لها في الداخل والخارج، ومع ذلك وقعت هزيمة يونيو ١٩٦٧ بعد شنق سيد قطب بسنتين، وكانت بداية النهاية للجمهورية الأولى التي انتهت بوفاة عبد الناصر في سبتمبر ١٩٧٠.
(٣) الجذور المعاصرة للإسلام السياسي
وقد كون الضباط الأحرار داخل الجيش في نفس الفترة تنظيمهم السري للانقلاب على السلطة وإنهاء حكم الأحزاب الفاسدة، وتلاعب القصر بالحكومات الوطنية، وتدخل الإنجليز في الحياة السياسية ووجود قواتهم على ضفاف قناة السويس وفي التل الكبير، ومن أجل التحقيق في موضوع الأسلحة الفاسدة، وهزيمة الجيش في فلسطين بل والتحقيق في مقتل الشهيد حسن البنا، كان ذلك كله ضمن المبادئ الستة الأولى للثورة: القضاء على الاستعمار والملكية الإقطاع ورأس المال، وتكوين جيش قوي، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة.
ولما اندلعت الثورة في يوليو ١٩٥٢ كان نصف أعضاء مجلس قيادة الثورة الستة من الإخوان المسلمين ومنهم عبد المنعم عبد الرءوف، رشاد مهنا، وكان الضابط أبو المكارم عبد الحي ضابط الاتصال بين تنظيم الضباط الأحرار داخل الجيش والإخوان المسلمين، كان عبد الناصر والسادات على صلة بحسن البنا والإخوان، لهما نفس الأهداف، تغيير النظام السياسي في مصر الذي يسيطر عليه الإنجليز والقصر والإقطاع إلى نظام وطني لتحرير مصر من الاحتلال والقصر والإقطاع.
وبعد حل الإخوان في ١٩٥٤ وانتقالهم إما إلى السجون أو إلى الخليج أو إلى الحياة السرية بدأت فترة جديدة من الإسلام السياسي السري تحت الأرض ابتداء من «معالم في الطريق» فوق الأرض، عاش الإخوان يفكرون في أحزانهم وينتظرون لحظة الانتقام من «الناصرية»، يعتبرون كل إنجازاتها خسائر وكل هزائمها مكاسب، باستثناء تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦، وخروج الإخوان من السجن وتسليحهم واشتراكهم في المقاومة عن المدينة، وبعد تحريرها عادوا إلى السجون بعد أدائهم الواجب الوطني، الوحدة مع سوريا ١٩٥٨–١٩٦١ تمت على أساس قومي غير إسلامي؛ لذلك انفصمت عروتها في ١٩٦١، وقوانين يوليو الاشتراكية ١٩٦٢-١٩٦٣ تمت باسم الاشتراكية العلمانية أو الماركسية التي كانت حليفًا لعبد الناصر؛ لذلك ألغيت بعد قوانين الاستثمار في ١٩٧٥، وحرب اليمن بعد اندلاع الثورة أدَّت إلى سفك دماء المسلمين بأيديهم، مصريين ويمنيين، وكانت أحد أسباب هزيمة ١٩٦٧، ولم يشفع الحلف الإسلامي عام ١٩٦٥ بين الرياض وطهران وكراتشي في حصار الناصرية من الخارج، ونجح العدوان الإسرائيلي على مصر في ١٩٦٧ واضعًا حدًّا للتجربة الناصرية التي انتهت بوفاته في سبتمبر ١٩٧٠ وانتهَت بها تجربة الجمهورية الأولى.
ولما بدأت الجمهورية الثانية في ١٩٧١ بدأت بتصفية التجربة الناصرية في انقلاب ١٥ مايو ١٩٧١ الذي سمي «ثورة التصحيح»، وأخرج الإخوان، أعداء عبد الناصر من السجون لاستعمالهم ضده، جبهة واحدة أمام العدو المشترك، الملحد الاشتراكي، دفاعًا عن الإيمان والرأسمالية، وقامت حرب أكتوبر ١٩٧٣ تحت ضغوط المظاهرات الطلابية في ١٩٧٢ وبعد حرب الاستنزاف في ١٩٦٧–١٩٦٩ وانتظار الناس ساعة الحسم، وعبرت القوات المصرية قناة السويس والحاجز الترابي إلى سيناء تحت شعار «الله أكبر»، وبعد نجاحها تم تفسيرها دينيًّا لمزيد من الانتقام من عبد الناصر الذي وضع خطة التحرير «بدر»، وأعد الجيش استعدادًا لمعركة التحرير، بسبب الإلحاد في الفترة الناصرية وقعت الهزيمة، وبسبب الإيمان في الفترة الساداتية حدث الانتصار، ظهرت العذراء في الزيتون بعد الهزيمة لمشاركة المصريين الأحزان، وعبر الملائكة قناة السويس في انتصار ١٩٧٣، يقطعون رءوس اليهود كما فعلوا في غزوة بدر، وبدأت شعارات «العلم والإيمان» في الظهور عنوانًا للجمهورية الثانية، «من لا إيمان له لا أمان له.» لتخليص النظام من فلول الشيوعيين في العهد الناصري، وصدرت قوانين الاستثمار والانفتاح الاقتصادي في ١٩٧٥، وبدأ الإخوان يتعاونون مع النظام الجديد ضد النظام القديم، وتمت تصفية الناصريين من الجامعة في ١٩٧٦-١٩٧٧ بتسليح الإسلاميين وبأيديهم حتى بدأت الحركة الإسلامية تفرض نفسها على الحرم الجامعي، وتتصدر انتخابات اتحاد الطلاب، فاستعمل الدين من الطرفين، من النظام السياسي كوسيلة لإضفاء الشرعية السياسية عليه بعد انقلاب ١٥ مايو، ومن الحركة الإسلامية المستمرة في نشاطها الإسلامي الإعلامي لكسب مزيد من الشعبية انتظارًا للحظة الحسم الديمقراطي في انتخابات قادمة بعد السماح بالتعددية الحزبية أو بانقلاب شعبي عسكري إذا حان الوقت، وضعف النظام السياسي، وقوت الحركة الإسلامية.
وحدثت في السجون مناقشات بين أعضاء الجماعة حول مسار حركة الإخوان، مكاسبها ومخاسرها، وبدأ جناح يتكوَّن فيها أكثر جذرية من جيل الرواد، يود الانتقام والثأر مما حدث للجماعة، ويريد استعمال العنف اعتمادًا على التنظيمات السرية المسلحة والتصفيات الجسدية، فلا يفل الحديد إلا الحديد. وبدأت الجماعات الإسلامية المعاصرة في ممارسة رؤيتها الجديدة بحادث الاستيلاء على الفنية العسكرية في ١٩٧٤، والاستيلاء على محافظة أسيوط بعدها بسنوات، ومقتل الشيخ الذهبي في ١٩٧٧، ثم تشرذمت الحركة الإسلامية في عدة جماعات صغيرة مثل «التكفير والهجرة»، بقيادة شكري مصطفى، وهو اسم أجهزة الأمن لجماعة المؤمنين، وجماعة «قف وتبين»، والقطبيين، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تندرج جميعًا تحت اسم الجماعات الإسلامية، سواء كان يجمعها جامع في الداخل والخارج تحت اسم «الجماعة الإسلامية» أو تعمل كلٌّ منها على حدة وبوسائلها الخاصة السلمية أو بالعنف.
وظلت الحركات الإسلامية من ١٩٨١ حتى الآن تمارس نفس الخط، النزاع المسلح مع النظام السياسي القائم في مصر؛ فقد استمرَّت الساداتية دون السادات، واستمرت العلاقة مع إسرائيل بالرغم من رفض التطبيع من مجموع القوى السياسية المصرية والأردنية والاتحادات والنقابات والمنظمات الأهلية، وكانت أكبر حادثة مذبحة الأقصر عام ١٩٩٩، والتي قضت على الموسم السياحي مع حوادث أخرى ضد السياح في الهرم أو قنابل في ميدان التحرير أو تراشق بالرصاص مع أفراد الشرطة في الصعيد لبيان أن الجماعات الإسلامية هي التي تتحكم في الحياة العامة وقادرة على التأثير في الاقتصاد، وإحداث القلاقل السياسية، وتستولي على أجهزة الإعلام من الباب الخلفي بتصدي أخبارها الصفحات الأولى في الجرائد اليومية، دخل التوتر بين الجماعات الإسلامية والنظام السياسي بسبب إعادة نظر الجماعات في ضرورة استعمال العنف وسفك دم الأبرياء بالاعتداء على السياح بعد حادث الأقصر وظهور جناح يحرم ذلك، فلا تؤخذ جريمة المذنب بالبريء، ومع ذلك يظل التوتر قائمًا، لاعتبار الجماعات قوة المعارضة الرئيسية في البلاد، تتوجه لها أجهزة الأمن بالمرصاد.
(٤) شعارات الإسلام السياسي
إن تحليل شعارات الحركات الإسلامية المعاصرة كعلامات على أيديولوجياتها السياسية ومزاجها النفسي ينتهي إلى أنها شعارات سلبية أكثر منها إيجابية، تدل على قدر كبير من الغضب والرفض، والهروب إلى البديل، والبحث عن المنقذ، وهي أربعة شعارات: «الحاكمية لله»، «الإسلام هو البديل»، «الإسلام هو الحل»، «تطبيق الشريعة الإسلامية».
الأولى «الحاكمية لله» تعني رفض حاكمية البشر التي اضطهدت الحركة الإسلامية سواء في الفترة الليبرالية التي استشهد فيها حسن البنا أو الفترة القومية التي استشهد فيها عبد القادر عودة وسيد قطب وغيرهم من أعضاء جماعة الجهاد مثل محمد عبد السلام فرج، وخالد الإسلامبولي وغيرهم، فالله حاكم لا يظلم، وهو أدرى بمصالح العباد، حكمه تطبيق إرادته، أوامره ونواهيه التي تجلت في الشريعة، وهو موقف صريح بنص القرآن في آيات ثلاث: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وفي آية أخرى: هُمُ الْفَاسِقُونَ، وفي آية ثالثة: هُمُ الضَّالُّونَ. الحاكمية لله ضد الحاكمية لأهواء البشر ومصالح الطبقات، الحاكمية لله لا تخطئ في حين أن حاكمية البشر تخطئ وتصيب، فالشعار يتضمن رفضًا لكل نظم الحكم البشرية على كافة أنواعها؛ ليبرالية، وقومية، واشتراكية، وماركسية، وديمقراطية، وجمهورية، وملكية، وإماراتية، وسلطانية، ودولتية، وجماهيرية عظمى أو صغرى؛ فالشعار يعني الرفض والسلب، وإذا سئلت الجماعة ماذا تعني «الحاكمية لله» إيجابًا لَصعبت الإجابة؛ لأن الله لا يحكم بنفسه بل عن طريق شريعته، والشريعة يفهمها البشر ويستنبطونها من أصولها، ويطبقونها في الزمان والمكان طبقًا لمقتضيات التعزير، وفي حاجة إلى فروع تحول مبدأ الشورى إلى نظامٍ في الحكم، ومبدأ العدالة الاجتماعية إلى نظريةٍ في الاقتصاد، ومبدأ «حق الاختلاف» إلى نظريةٍ في التعددية السياسية، وعندما تصل الحركة الإسلامية إلى الحكم مثل السودان والطالبان وإيران فإنها تتحوَّل إلى نظامٍ تسلُّطيٍّ لا يفترق عن النظم السياسية العلمانية؛ فالتسلط بنية اجتماعية وموروث ثقافي غالب تعتمد عليه النظم السياسية وحركات المعارضة على السواء بما فيها الحركة الإسلامية.
والثاني: «الإسلام هو البديل»، يتضمن أيضًا رفضًا هائلًا لكل البدائل المتاحة والتي تم تجربتها في حياة المسلمين في العصر الحاضر، الليبرالية أولًا ثم الاشتراكية والقومية والعربية ثانيًا، ربما الليبرالية قدمت بعض الإنجازات على مستوى حرية الفكر والتعبير والصحافة والحياة الحزبية والبرلمانية، وأثناءها اشتدت الحركة الوطنية، وقامت ثورة ١٩١٩ باسمها، ومع ذلك ساد الإقطاع والرأسمالية والتوجُّه نحو الغرب، وكانت الأحزاب فاسدة، يضطهد بعضها بعضًا، والانتخابات مزورة، والبرلمان بأيدي الملك يحله متى يشاء، والدستور منحة منه، والإنجليز ما زالوا في البلاد، وفي عصرها وقعت معاهدة ١٩٣٦ ونكبة ١٩٤٨.
ثم تلتها الاشتراكية أو القومية العربية وحقَّقت بعض الإنجازات مثل تأميم قناة السويس في ١٩٥٦، وتمصير الشركات الأجنبية في ١٩٥٧، والوحدة مع سوريا في ١٩٥٨–١٩٦١، وقوانين يوليو الاشتراكية في ١٩٦٢-١٩٦٣، وتدعيم ثورة اليمن في ١٩٦٤، وثورة العراق في ١٩٥٨، وثورة ليبيا في ١٩٦٩، ورفض الصلح والاعتراف والتفاوض مع الكيان الصهيوني في ١٩٦٧، وحرب الاستنزاف في ١٩٦٨-١٩٦٩، ومجانية التعليم، والتصنيع، وتوحيد العرب، وإكمال حركات الاستقلال، والقطاع العام، وتأسيس حركة عدم الانحياز، «لا شرقية ولا غربية» منذ باندونج في ١٩٥٥ حتى بلجراد في ١٩٦٤ والجزائر والقاهرة ونيودلهي، ولكنها انتهت بالهزيمة المروعة في ١٩٦٧ إثر سيادة الطبقة الجديدة، الضباط والتكنوقراط، وكبار موظفي الدولة ورجالات الحزب، والفساد، والقهر، ونهب القطاع العام، واحتلت سيناء وباقي فلسطين والجولان، وفي عصرها تم إنشاء إسرائيل الكبرى، ومد الهجرات السوفيتية إلى إسرائيل، وتم الاعتراف بإسرائيل، والتحالف مع أمريكا واستمر الأمر كذلك في الجمهوريتين الثانية والثالثة، والتحول من القطاع العام إلى الخاص، ومن مجانية التعليم إلى خصخصته، ومن التخطيط الوطني إلى الاستثمار الأجنبي، ومن السيادة الوطنية إلى الدخول في عصر العولمة واقتصاديات السوق، وجرمت الحركة الإسلامية واستشهد زعماؤها، واستبعد الإسلاميون ودخلوا السجون ثم استعملوا ضد الخصوم ثم راحوا ضحية ألاعيب السياسة، وما زال إرث هذا العصر قائمًا في القلوب حتى الآن، يحرك الضغائن، ويثير الأحقاد، ويتربص للانتقام.
والثالث «الإسلام هو الحل» وهو مثل الشعار السابق إذا اشتدَّت الأزمات، وتوالت النكبات وعجزت النظم السياسية عن حلها ظهر «الإسلام هو الحل» عن طريق البحث عن الغائب المجهول، والمفتاح السحري لكل الأبواب، وعجز الدولة عن إيجاد الحلول للأزمات التي تفاقمت يومًا بعد يوم، فلا الليبرالية أفلحت في تحرير فلسطين بل ضاع نصفها في العهد الليبرالي في ١٩٤٨ والنصف الآخر في العهد الاشتراكي في ١٩٦٧، كانت الحركة الإسلامية مضطهدة في العصر الليبرالي واستشهد حسن البنا فيه، ومضطهدة أيضًا في العصر الاشتراكي واستشهد عبد القادر عودة وسيد قطب ومحمد عبد السلام فرج فيه، وتجزَّأت الأمة في العصر الليبرالي بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة تركيا واحتلال القوى الغربية لها، وتقسيم غنيمة الرجل المريض، وتشرذمت أثناء الجمهورية الثالثة إلى عرب وبربر وأكراد وسنة وشيعة ومارونية وقبطية، ووقعت الحروب الأهلية في السودان والجزائر ولبنان، وأغلقت الحدود بين المغرب والجزائر، وصدامات بين مصر والسودان، وخلافات بين اليمن والسعودية، وبين قطر والبحرين حتى وقع الغزو العراقي للكويت، وانضم فريق من العرب إلى قوى التحالف الغربي، وفريق آخر مناهض له، واعتدت إسرائيل على لبنان وتونس والعراق وسوريا ومصر، وما زالت يدها تريد أن تصل إلى إيران وباكستان، لم تستطع الأيديولوجيات الليبرالية أو الاشتراكية القومية أن تحل قضايا التنمية لا على الطريق الرأسمالي ولا على الطريق الاشتراكي، ولم تستطع أن تحل قضية الهوية، بعد أن أصبحت غربية في العصر الليبرالي وفي عصر الانفتاح والعولمة في الجمهورية الثالثة، فإذا كانت التجربة تثبت فشل الأيديولوجيات العلمانية التحديث لم يبق إلا الإسلام الذي لم يجرب حتى الآن مع أن «الإسلام هو الحل» سلبًا لفشل تجارب التحديث السابقة، مع أن الحكم الإسلامي قد تمت تجربته في السعودية وفي أفغانستان وفي السودان وكانت المخاسر كثيرة على صعيد الحريات، وما زال التجربة الثورية الإسلامية في إيران على شفا جرف هاوٍ نظرًا لاستقطاب بين الإصلاحيين والمحافظين، ومحاولة كلٍّ منهما السيطرة على قطاعات الدولة كالجيش والمجلس النيابي والقضاء والإعلام، وما زال حكم «الطالبان» في أفغانستان بعيدًا عن أن يكون نموذجًا للحكم الإسلامي، وقد انتهى الانقلاب «الإسلامي» في السودان بتعاون البشير والترابي إلى النزاع بين الرأسين في مواجهة وصدام يضاف إلى النزاع المسلح الدائر بين الشمال والجنوب.
إن تحليل شعارات بعض الإخوان التقليدية الأولى يجدها البعض أيضًا إنما تعبِّر عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مثل «الله زعيمنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.» وهو الهتاف الرئيسي للجماعة، «الله زعيمنا» تعني الضيق بزعامة البشر، فالكل متسلطٌ قاهر، ظالم لا يبغي إلا سلطانه، ملكًا كان أم ضابطًا، من قريش أو من الجيش، مفوضًا من الله أو منتخبًا من الناس، فكلاهما تفويض زور، وانتخاب مزور؛ فزعامة الله أفضل من زعامة البشر، و«الرسول قدوتنا» تعني أن القدوة البشرية قد عزَّت، وأن البشر جميعًا ناقصون، وأن الحكام ليسوا نماذج يُقتدى بهم؛ فالرسول هو القدوة في حياته وسنته، في أهله ومع أصحابه، في أقواله وأفعاله، و«القرآن دستورنا» تعني الضيق بدساتير البشر التي تُعبِّر عن إرادة الحكام؛ إذ تتغير الدساتير، وفي بنودها ما يعطي الحكام سلطةً مطلقةً وما يقيد حريات الناس؛ لذلك تقوم الهبات الشعبية لإلغاء الدستور أو على الأقل تعديل بعض بنوده، والقرآن دستور لا يظلم ولا يحابي ولا يتحيز لأحد، هو دستور إلهي يتجاوز الزمان والمكان والعصر، و«الجهاد سبيلنا» ضد الخضوع ومصالحة الأعداء والرضا بالذل وعقد معاهداتٍ تضر بمصالح البلاد؛ فالجهاد أفضل طريقٍ لنيل الحقوق، و«الشهادة في سبيل الله أسمى أمانينا» تعني حب الموت الكريم على الحياة الذليلة، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وشهداء المقاومة في جنوب لبنان وفي فلسطين قادرون على الصمود أمام أعتى الجيوش وأحدث الأسلحة بالأجساد البشرية والعربات المفخخة في العدو.
وإن تحليل هتافات الحركة السياسية يؤدي إلى نفس النتيجة وهي الضيق بالواقع والرفض لنظمه والتوق إلى واقع جديد، مثلًا: «الله أكبر ولله الحمد»، تعني أن الله أكبر من كل كبير، الله أكبر على كل مَنْ طغى وتجبَّر، الله أكبر قاصم الجبارين وهو شعار الثورة الإسلامية في إيران، ضد تأليه البشر، وتعظيم الحكام، وتقديس الطغاة. وفي نفس الوقت تعني التواضع والشكر والحمد لله على نصرة الحق على الباطل، العدل على الظلم، ومثل آخر «خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود.» إنما يدل على ضيق بعجز الأمة عن مواجهة الكيان الصهيوني، استيطانه وتوسعه، وقمعه لانتفاضة الأقصى، وقتله أطفال الحجارة، وأن التاريخ متصل الحلقات، وكما انتصر الرسول على اليهود في خيبر قديمًا ينتصر المسلمون عليهم في فلسطين حديثًا بنفس السلام وهو الإسلام، «بالروح والدم، نفديك يا إسلام.» لها نفس المعنى «بالروح والدم نفديك يا فلسطين.» وبالشهادة «بالروح، بالدم نفديك يا شهيد.» «لا إله إلا الله، الشهيد حبيب الله».
(٥) جدل الشرعية واللاشرعية
وهناك العنف المرئي، استعمال أجهزة الأمن ضد الحركات الإسلامية، والعنف اللامرئي مثل تشويه صورتها في أجهزة الإعلام، واستبعادها من مراكز اتخاذ القرار، والتدخل في انتخابات الاتحادات والنقابات والمنظمات غير الحكومية والأحزاب السياسية لإسقاط مرشحي الحركات الإسلامي، وعدم السماح لها بإصدار صحفها اليومية أو مجلاتها الأسبوعية أو أنشطتها الدورية، ووضع أعضائها تحت المراقبة ومنعهم من السفر، والتشكُّك في رموزها وطريقة حياتها وأساليب ممارستها، الذقن والجلباب والسبحة والحجاب والحرفية والجماعات المغلقة ونظم المصاهرة والقرابة، والهجوم عليها من دُعاة «التنوير الحكومي»، واتهامها بالظلامية والتخلف والرجعية والأصولية والشكلية. هو العنف المكبوت الذي قد ينفجر في أية لحظة عرضية تأتي كحامل اجتماعي له.
وهناك أربعة أنماط للعلاقة بين النظم السياسية والحركات الإسلامية؛ الأول النمط البرلماني الذي يسمح بشرعية الحركة الإسلامية ويعتبرها جزءًا من النظام السياسي وإحدى فصائل المعارضة؛ فالنظام السياسي الديمقراطي يولد حركة إسلامية ديمقراطية ولا تمارس العنف، وتقبل بنتائج الاقتراع، بل أحيانًا تتجاوز الحركة الإسلامية دورها التمثيلي إلى القيام بالمهام الوطنية المناطة بالدولة ذاتها في الدفاع عن وَحْدة الأراضي الوطنية واستقلال الوطن، وأكبر مثل على ذلك التجربة اللبنانية ودور الحركات الإسلامية في النظام السياسي اللبناني، وقيام حزب الله أو منظمة أمل بالعبء الرئيسي في تحرير الجنوب من الاحتلال الصهيوني وبموافقة الدولة وفي إطارٍ من الشرعية الدستورية بل وتقدير الدولة والشعب لدورها.
والثانية النظم السياسية الملكية أو الإماراتية أو العسكرية التي تسمح بشرعية الحركات الإسلامية ليس حبًّا في الديمقراطية أو إيمانًا بشرعية الحركة الإسلامية، تنظيماتها وبرامجها وممارساتها، ولكن طبقًا لذكاء عملي من أجل استتباب النظام السياسي والاستقرار الاجتماعي وتحقيق أمن الدولة، مثال ذلك التجربة الأردنية واليمنية والكويتية والمغربية والبحرينية أخيرًا، بدأ الأردن هذه التجربة بالسماح للإخوان المسلمين بجميع فصائلهم بالتقدم للانتخابات البرلمانية وبقبول قواعد اللعبة الديمقراطية، المكسب والخسارة، الأغلبية والأقلية، فإذا حققت الحركة الإسلامية بعض ما نادت به في شعاراتها يزيد تمثيلها في الدورة الانتخابية الثانية، فإذا لم تحقق شيئًا ولم يشعر الناس بالتطبيقات العملية لشعاراتها فإن تمثيلها يقل في الدورة الانتخابية الثانية، والاحتمال الثاني أقرب لأن تحقيق ما تنادي به الأحزاب في نظام أوتوقراطي، ملكي أو عسكري، صعب للغاية لأن القرارات السياسية الكبرى تظل حكرًا على النظام السياسي.
وتشبه التجربة الكويتية التجربة الأردنية نظرًا لتاريخ ديمقراطي طويل للنظام السياسي الدولي ولقوة المعارضة في الشارع والصحافة والبرلمان بكافة فصائلها القومية والليبرالية والإسلامية، وبالرغم من تشدد بعض أجنحة الحركة الإسلامية مثل حزب الإصلاح وضيق النظام السياسي بالمعارضة ككل إلا أن الممارسات الديمقراطية تظل هي الغالب، ويعتبر حل البرلمان ضربة قاسمة للتجربة الديمقراطية إذا ما لجأ إليها أمير البلاد، وتؤدي إلى العنف السياسي من الجماعات الإسلامية والجماعات المضادة.
وقد وعت البحرين أخيرًا الدرس وتبنَّت نفس التجربة الديمقراطية في شكل تغيير النظام السياسي من أميرية لا دستورية إلى ملكية دستورية كما كانت تنادي به الحركة الإصلاحية مثل الأفغاني منذ قرن ونصف، وعادت المعارضة من الخارج القومية أو الإسلامية أو الليبرالية، وعاد الأساتذة الجامعيون المفصولون إلى أعمالهم، ورد الاعتبار لأصحاب «العريضة» خاصة في مجتمع أغلبه من الشيعة والفقراء.
وقد كان النظام الملكي في المغرب سباقًا لهذا النمط عندما كان الملك يسمح بتنظيم الإخوان المسلمين المؤيد للعرش بالتواجد الشكلي دون أن يكون له أية قوة مؤثرة في الحياة السياسية، فالملك هو أمير المؤمنين، ومحمد الخامس وعلال الفاسي شخصيات وطنية دينية، وحزب الاستقلال من تكوين علماء القرويين؛ فالدين موجود في السياسة باسم النظام السياسي وليس بضغط من الإخوان المسلمين، فإذا ما خرجت حركة إسلامية على هذا النمط استبعدت وهمشت وطوردت وحكم على أمرائها بالإعدام مثل حركة الشبيبة الإسلامية، وجماعة العدل والإحسان (عبد السلام يسن) الذي حددت إقامته الجبرية بعد كتاب خطاب للملك الشاب محمد السادس عن الانفراجة الديمقراطية في أول عهده وضيق الخناق من جديدٍ على جماعة العدل والإحسان اعتمادًا على أن الاشتراكيين في الحكم ولهم الأغلبية البرلمانية، واقتداء بلعبة الحكام في المشرق بضرب أجنحة المعارضة السياسية بعضها بالبعض الآخر طبقًا لجدل الخطر العاجل والخطر الآجل، وتقديم الأول على الثاني.
وقد سار النظام السياسي في اليمن في نفس التجربة الديمقراطية بعد أن كسب شرعيةً جديدةً في الحفاظ على وحدة البلاد شمالًا وجنوبًا من خطر الانفصال، وبالرغم من بعض ممارسات العنف من حزب الإصلاح في اليمن المرتبط بالإخوان المسلمين إلا أن التجربة الحزبية التعددية ما زالت مستمرة بالرغم من حصول الحزب الحاكم على الأغلبية في البرلمان، والتوتر بين جناحي المعارضة، الإسلامي والقومي مما ينذر أيضًا بلعبة ضرب بعضها بالبعض الآخر اقتداءً بمصر.
وهناك نمطٌ ثالث في تجارب مصر وسوريا والعراق وليبيا كنظم عسكرية في نشأتها، والسعودية وعمان وقطر والإمارات كنظم ملكية أو سلطانية أو أميرية (نسبة إلى أمير) أو حاكمية (نسبة إلى حاكم)، يقوم النظام السياسي فيه على الانقلاب العسكري، ويستمد شرعيته من الثورة أو على الملكية ويستمد شرعيته من الوراثة، ولما كان الانقلاب العسكري والملكية الوراثية نظامين غير إسلاميين لأنهما لا يقومان على البيعة والاختيار الحر من الشعب فإن الشرعية تنقصه مما يجعل شعارات الحركة الإسلامية مثل «الحاكمية لله» تمثل خطرًا عليه؛ لذلك لا يسمح هذا النمط الثالث بشرعية الحركات الإسلامية؛ لأنها تمثل خطرًا عليه وبديلًا له في آنٍ واحد، فهناك صراع مكبوت بين النظام السياسي والحركات الإسلامية يؤذن بالانفجار، بل ويتفجر بين الحين والآخر كما هو الحال في المعارضة الإسلامية الشيعية في العراق المهاجرة خارجه، والمعارضة الإسلامية في ليبيا التي وصلت إلى حد الصدام المسلح في الجبال بالقرب من بني غازي منذ عامين، والإخوان المسلمون في سوريا بعد مذبحة حماة ودخولهم السجون أو الإفراج عنهم ودخولهم في ائتلافٍ حكومي، والحركات الإسلامية في مصر، خاصة جماعة الجهاد، والتي ما زالت ترى أن نظام الحكم لا شرعي تجب مقاومته حتى ولو سقط الأبرياء مثل الاعتداء على السياح الأجانب ورموز الدولة.
ويوجد نفس النمط في النظم الملكية في السعودية والسلطانية في عمان والحاكمية (نسبة إلى الحاكم) في الإمارات والأميرية (نسبة إلى الأمير) في قطر، وتستمد هذه النظم شرعيتها من الإسلام بطريقةٍ أو بأخرى؛ فالملك في السعودية خادم الحرمين، والإسلام ثقافة وحضارة وسلوك الناس في سلطنة عمان وإمارة البحرين والإمارات العربية المتحدة، ويأتي التمايز ببروز أجنحة إصلاحية في الحركة الإسلامية التقليدية مثل الوهابية الجديدة في السعودية والتي ترفض بعض الممارسات السياسية التي تتم في السعودية باسم الوهابية التقليدية مثل الاعتماد المتزايد على الولايات المتحدة الأمريكية بعد حرب الخليج واستدعاء القوات الأجنبية وبعض مظاهر البذخ في العائلة المالكة، لا فرق في ذلك بين القوى الإسلامية والقوى الوطنية الأخرى الليبرالية والقومية، الأئمة والمثقفون وجماعات حقوق الإنسان والمجتمع المدني والحركات النسائية.
والنمط الرابع وهو الأشد توترًا بين النظام السياسي والحركة الإسلامية في السودان والجزائر؛ ففي السودان حدث انقلاب قادته الحركة الإسلامية والجيش أي قريش والجيش، السلطة الدينية والسلطة العسكرية، بعدها هاجرت القوى الحزبية خارج السودان وكونت جبهة معارضة فيها الجيش الشعبي لتحرير الجنوب وزعيمها رئيسًا لقوات المعارضة لسفك الدماء بين المواطنين، وما زال الصراع دائرًا بعد اعتقال حسن الترابي بعد اتفاقه مع قرنق، وقد يصل الأمر إلى حد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب كما هو دائر الآن أو بين الشمال والشمال، وفي نفس الوقت يخضع السودان لحصار خارجي واعتداء على مصنع الشفاء بتهمة تكوين أسلحة جرثومية، والناس في الجنوب جوعى وعطشى باسم الحكومة والمعارضة، الإسلام والعسكر.
والأخطر من ذلك كله الجزائر التي تدور فيها حرب أهلية بين الإخوة الأعداء، الإسلاميين والدولة، بعد الانفراجة الديمقراطية إثر الهبة الشعبية أثناء حكم الشاذلي بن جديد، ونجاح الحركة الإسلامية في المجالس التشريعية، وإلغاء الجيش لنتائجها، وتحول الحركة الإسلامية إلى القتال المسلح لتستعيد انتصارها الانتخابي الذي سلبه منها الجيش، والنتيجة ما يقرب من سبعين ألف شهيد من النساء والأطفال والشيوخ، ولم ينجح قانون الوئام الوطني في إنهاء الحرب، كما لم ينجح الخلاف بين قادة الحركة الإسلامية حول بشاعة الحرب وجدواها في توقفها أو التخفيف من حدتها، تخون الدولة الإسلاميين لأنهم يقتلون أبناء الوطن الأبرياء، ويكفر الإسلاميون الدولة لأنها لا تحكم بالشرع ونموذج النظام التسلطي، كل فريق يقصي الآخر ويستبعده. ونهاية النفق لم تظهر بعد.
(٦) مستقبل الإسلام السياسي
يتضح من جدل الشرعية واللاشرعية أنه في النظم السياسية الديمقراطية التي تصبح فيها الحركة الإسلامية حركة شرعية معترفًا بها تكون أقرب إلى الاستقرار السياسي، بل يتحول الخطاب السياسي الإسلامي من شعاراته الرافضة إلى خطاب سياسي يقوم على برنامج يبني ولا يهدم، يحاور ولا يستبعد، كما يطمئن النظام السياسي إلى أن استقراره مشروط بالديمقراطية، وإعطاء الشرعية للحركة الإسلامية أسوة بباقي القوى والأحزاب السياسية المعترف بها، القومية والليبرالية بل والماركسية؛ فليس من المعقول أن يكون البعيد أولى بالشرعية من القريب، بل إن الحركة الإسلامية هي التي تقوم ببعض مهام الدولة كما هو الحال في لبنان في تحرير الجنوب المحتل، وحماس والجهاد في فلسطين بعيدًا من أو بالاتفاق مع السلطة الوطنية الفلسطينية، وتنشط الحياة الحزبية وتقوى التجربة الديمقراطية في النظم التي تعترف بشرعية الحركة الإسلامية مثل الأردن والكويت واليمن، وربما تكون المغرب والبحرين على الطريق؛ فهي تعددية حزبية ذات طابع ثنائي، تضع حدودًا على أحادية الحزب الحاكم وسلطته المطلقة، وتجعل الناس أقدر على الاختيار الحر الديمقراطي بين بديلين، وبدلًا من أن يصبح التوتر قائمًا بين مصر وسوريا والعراق وتونس بين النظام السياسي والحركات الإسلامية السرية تحت الأرض أو المهاجرة خارج الأوطان، وحدوث انفجارات وعنف بين الحين والآخر، يمكن للنظم السياسية أن تستقر، وللحركات الإسلامية أن تعيش في جوٍّ سياسي صحي لو أعطيت لها الشرعية وتحولت إلى أحزاب سياسية ذات برامج اجتماعية واقتصادية، ويصبح الإسلام باعتباره ثقافة شعبية حاملًا طبيعيًّا للاحتجاج السياسي والاجتماعي.
ما زالت العقبة الرئيسية الآن هو نقص الشرعية المزدوجة بين النظام السياسي والحركة الإسلامية، وما زال كل طرف يريد إقصاء الآخر، النظام السياسي يريد القضاء على كل صنوف المعارضة البدلية وليس الحركة الإسلامية وحدها، والحركة الإسلامية باعتبارها أقوى جماعات المعارضة تريد أن تسقط النظام وتحل محله إن لم يكن بالفعل فعلى الأقل على مستوى التمني والإعلام، ما زال الثقل التاريخي للصراع في الماضي يمنع من الحوار في الحاضر والائتلاف في المستقبل. ما زال تخوف كل طرف من الآخر والترصد به قائمًا من أجل تحيُّن الفرصة للانقضاض عليه والتخلص منه وهو لا يعلم أنه بذلك إنما يقضي على نفسه، وهم المعبد كله بسياسة شمشون.
كان شرط النظام السياسي للاعتراف بالحركة الإسلامية حركة شرعية هو أن تنبذ العنف، وتقبل قواعد اللعبة الحزبية، وتحول شعاراتها إلى برامج سياسية مثل باقي الأحزاب؛ لأن الدستور يمنع من إقامة حزب على أساس ديني وإلا تحولت الدولة إلى مجموعةٍ من الأحزاب الطائفية، وقامت الحركة الإسلامية بالالتزام بهذا الشرط، وقدمت طلبًا إلى لجنة تقديم الأحزاب بمجلس الشورى لتأسيس حزب كما حدث في مصر بتقديم بعض أجنحة الحركة الإسلامية طلبًا لتأسيس حزب «الوسط»، ومع ذلك يرفض النظام السياسي بحجة أن البرنامج لا يقدم جديدًا بالنسبة للأحزاب الموجودة، بل ويقوم بالقبض على الأعضاء المؤسسين بتهمة تأسيس حزب لا شرعي للإخوان وهي جماعة منحلة منذ ١٩٥٤ بالرغم من أن الصحافة تتحدث عن نشاطها واجتماعاتها وفوزها أو خسارتها في الانتخابات العامة أو المحلية كمستقلين، والآن تتم محاولة أخرى لإنشاء حزب «العدالة» والانتظار يطول دون موافقة أو رفض، وهو نفس السيناريو التركي في تكوين أحزاب إسلامية مثل حزب «رفاه» ثم حزب «الفضيلة» في دولة علمانية تعلن رسميًّا أيضًا تحريم قيام أحزاب دينية، وتبدو العلمانية تسلطية إقصائية، مطلقة أحادية الطرف كنظام ثيوقراطي بديل.
وحدث نفس الشيء في تونس عندما كوَّنت الحركة الإسلامية حزب «النهضة» لراشد الغنوشي، لا يختلف في برنامجه كثيرًا عن باقي الأحزاب العلمانية التونسية، يسلم بالتجربة الديمقراطية ويعترف بأنه جزء منها، ينبذ العنف، ويعترف بحقوق الإنسان والمرأة وحق الجميع في توزيع عادل للثروة بحيث تجعله حزبًا وطنيًّا ليبراليًّا تقدميًّا، ومع ذلك يرفض النظام السياسي الاعتراف به ويطارد أعضاءه، ويريد القبض على رئيسه، ويظل هائمًا على وجهه في العواصم الغربية متمتعًا بحرية التنقل والتعبير، بعض مآثر الغرب، منتظرًا تغيير النظام السياسي بانقلاب عسكري مضاد أو شعبية عارمة حتى تعود الليبرالية والتعددية الحزبية وحقوق الإنسان.
وقد بدأ الإفراج عن الإخوان في سوريا في العهد الجديد بعد مذبحة حماة في العهد القديم وتدمير المدينة بعد هبة الإخوان فيها، وطالب الإخوان بنسيان الماضي وبداية عهد جديد يتم لهم فيها الاعتراف بالشرعية وحق تكون جماعة لهم يمارسون من خلالها نشاطهم، ومع ذلك لم يوافق النظام السياسي على شرعية الجماعة إلا من خلال الائتلاف الحكومي كأفراد وليس كجماعة، كأعضاء وليس كتنظيم، وما زال العهد الجديد متأرجحًا بين الانغلاق والانفتاح، بين عادة القديم ومتطلبات العهد الجديد، بين النظام السياسي الواحد والتعددية الحزبية.
ومن ثم توضع الحركة الإسلامية بين المطرقة والسندان، إذا دافعت عن وجودها ومارست نشاطها بالعنف اتهمت بتدبير انقلاب على نظام الحكم وممارسة العنف وارتكاب الجرائم وتهديد الأمن الوطني في الداخل والقومي في الخارج، فإذا نبذت العنف وقبلت قواعد العمل الديمقراطي وأرادت أن تكون جزءًا من نسيج المجتمع وحركة التاريخ رفض النظام السياسي خشية حصولها على الأغلبية البرلمانية، ويكون النظام السياسي في الحالتين هو الخاسر، ولكنها خسارة على الأمد القصير للنظام السياسي، ومكسب على الأمد الطويل للوطن.
والنظام السياسي أيضًا بين المطرقة والسندان، إذا هو قبل شرعية الحركة الإسلامية كحزب سياسي يكون هو الضحية؛ لأن الحزب الجديد سيفوز بالأغلبية البرلمانية نظرًا لرفض الناس للحزب الحاكم الذي يكون خاسرًا على الأمد القصير، وإذا رفض الترخيص للحركة الإسلامية لتكون حزبًا سياسيًّا فإنه يكون أيضًا الخاسر على الأمد الطويل ولن يبقى أمامه إلا العنف ومقابلة النظام السياسي له بالعنف، ويزداد قتل الأبرياء كما هو الحال في الجزائر.
والحقيقة أنه لا بديل عن التعدُّدية السياسية كنظام للحكم وتكوين جبهة وطنية ائتلافية بين جميع القوى السياسية بما في ذلك الحركة الإسلامية سواء كانت حزبًا أو جماعة طبقًا لنتائج صناديق الاقتراع، نظرًا لاستحالة وجود أغلبية سياسية حاليًّا لا لأحزاب السلطة ولا لأحزاب المعارضة، فهناك أربع قوًى سياسية في أصلها تيارات فكرية في الوطن العربي: الليبرالية والقومية (الناصرية، الاشتراكية العربية)، والماركسية بالرغم من انهيار نظمها منذ عقد من الزمان، والحركة الإسلامية كل منها حكم بمفرده، حكمت الأحزاب الليبرالية في الوطن العربي قبل الثورات العربية الأخيرة منذ أوائل الخمسينيات وما زالت تحكم في الكويت واليمن ومصر والأردن والمغرب ولبنان والسودان في النظم الملكية أو النظم العسكرية، وما زالت الناس تحنُّ إليها نظرًا لما ترجوه من حرية سياسية وليس فقط حرية اقتصادية، والقومية حكمت بعد الثورات العربية الأخيرة كنظم عسكرية في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا وبعد حركات التحرر الوطني مثل الجزائر، وقد انقلب معظمها إلى عسكرية ليبرالية بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧ أو إلى عسكرية خالصة كما هو الحال في تونس. ظلَّت العسكرية وتغيَّرت الاشتراكية إلى الليبرالية بلا قيمها، فعم الفساد والسرقة ونهب المال العام، حدث ذلك في مصر أولًا وسوريا ثانيًا واليمن ثالثًا، ولم يعد يبقي عليها إلا العراق المحاصر منذ غزو الكويت وليبيا المحاصرة بتهمة لوكربي ومساعدة الإرهاب. والماركسية لم يعد لها صوت إلا في جبهة ائتلافية في سوريا والعراق أو بقايا أحزاب متناثرة في لبنان، والحركة الإسلامية هي الأظهر في لبنان والسودان والكويت واليمن والمغرب والأردن وبعض فصائل المعارضة العراقية والتونسية في الخارج وفي الداخل مثل مصر والجزائر.
التعددية السياسية إذن أمر واقع في الفكر السياسي العربي الحديث، ولا يمكن لتيار إقصاء آخر، تختلف في التمثيل وفي ممارستها طبقًا لشرعيتها أو لا شرعيتها، وقد تتفق فيما بينها على بعض الأهداف القومية المشتركة بل وفي الوسائل أيضًا، ولا تتعدد إلا الأطر النظرية أو البواعث، فالتيارات الأربعة تتفق فيما بينها على تحرير فلسطين باسم القومية العربية عند الناصريين والقوميين، وباسم تحرير أراضي فلسطين عند الوطنيين الليبراليين، وباسم القوى العاملة، الفلاحين والعمال، ضد الاستعمار الاستيطاني أعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية عند الماركسية، وباسم الجهاد وتحرير الأراضي المقدسة والمسجد الأقصى عند الإسلاميين، ولا تختلف في ذلك النظم السياسية الحاكمة، قومية أو ليبرالية أو إسلامية، ملكية أو عسكرية، إمارة أو دولة، سلطنة أو جمهورية، مملكة أو جماهيرية، الهدف واحد وتتعدد الأطر النظيرة والوسائل العملية.
وفي وحدة الأمة تتفق التيارات الأربعة على تحقيقها باسم وحدة الأمة الإسلامية وتجاوز الحدود المصطنعة التي وضعها الاستعمار باسم الإسلام والوحدة الإلهية التي تنعكس في وحدة الأمة، وباسم وحدة الأمة العربية والقومية التي تتجاوز حدود الدولة القُطرية، وباسم وحدة الطبقة العاملة، العمال والفلاحون «يا عمال العالم اتحدوا.» في الماركسية، وباسم وحدة السوق وقوانينه في الليبرالية، حرية الاستيراد والتصدير والشركات المتعددة الجنسيات، وفي عصر العولمة تتحدد الكيانات الصغرى في تجمعات إقليمية أكبر، ولا تقوى الدول القُطرية على المنافسة إلا في تجمعات إقليمية أوسع وأشمل.
وفي تنمية الموارد الطبيعية والبشرية تتفق التيارات الأربعة عليها، باسم الإنسان سيد الطبيعة في الليبرالية، وجدل الإنسان والطبيعة في الماركسية، والتخطيط في القومية العربية وتسخير الله كل ما في الأرض لصالح الإنسان لتعميرها وسكانها والتمتع بخيراتها، وقد كثرت الأدبيات من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية على التنمية المستقلة كشرط للتنمية المستدامة، وتحقيق التوازن في ميزان المدفوعات، وزيادة معدلات التنمية ونقصان معدلات التضخم من أجل استيعاب الزيادة السكانية دون انخفاض في مستوى المعيشة.
والدفاع عن الهوية ضد التغريب قضية رئيسية في الحركات الإسلامية تصل إلى حد المفاصلة لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ، ضد تقليد الآخر، وهي أيضًا محور الفكر القومي الذي يقوم على العزة القومية والاستقلال القومي بين المعسكرين الرئيسيين في عصر الاستقطاب فيما سمي بعدم الانحياز أو الحياد الإيجابي أو دول العالم الثالث، والماركسية تحققها عن طريق هوية العامل وعدم اغترابه عن عمله وتشيئه وتبعيته لصاحب رأس المال، والليبرالية تؤمن بهوية إنسانية عامة، هوية المدنية والتحضر، تقوم على مكتسبات العصر الحديث، هوية متوازنة تجمع بين القديم والجديد، بين الأصالة والمعاصرة منذ فجر النهضة العربية.
وفي حشد الجماهير ضد اللامبالاة والفتور لا تختلف القوى السياسية عليها؛ فالإنسان حمل الأمانة التي رفضتها السموات والأرض والجبال أن تحملها، والقومية العربية رسالة في التاريخ تعبر عن نبض الجماهير وحركة الشارع، والماركسية تحرك الجماهير عن طريق الوعي الاجتماعي والإحساس بالظلم، والليبرالية بطبيعتها نشاط حر والتزام بالإنتاج والمنافسة وهو ما يحرك البشر ويجند الطاقات.
إن تحليل «الإسلام السياسي بين الفكر والممارسة» لا يعتمد فقط على الأدبيات، الدراسات والبحوث والرسائل والمقالات في الموضوع، فما أكثرها بالمئات، ويمكن القيام بذلك عن طريق تحليل التجارب الشعورية الفردية والجماعية من أجل إضافة رؤية جديدة على ما تم تحصيله من خلال الأرقام والجداول والإحصائيات والتواريخ وأسماء الأعلام؛ فالماهية أقرب إلى العلم من الوقائع، والاستبطان أكثر إدراكًا من الإحصائيات؛ لذلك أصبح المنهج «الظاهرياتي» أحد المناهج الرئيسية في الفلسفة والعلوم الاجتماعية القادر على إضافة جديد بدلًا من نقل المعلومات من مرجعٍ إلى آخر، ومن مصدرٍ إلى آخر.
ونظرًا لأن الموضوع يتعلق بحركات ونظم سياسية موجودة على الساحة وأن كل تحليل علمي للعلاقة بينهما قد يغضب هذا الطرف أو ذاك في مسألة وجود ومصير فإن الحرية الفكرية والبحث العلمي الموضوعي النزيه شرطان للفكر وللاستنتاج، صحيح أن الموضوعية الخالصة أو المحايدة لا وجود لها؛ فكل باحث له انتماؤه الفكري والسياسي، ومع ذلك يمكن الوصول إلى نتائج عامة مقبولة من الباحثين عن طريق تحليل التجارب الجماعية المشتركة؛ فالباحث مستقل عن السلطة والمعارضة، وإن كان هواه هنا وهناك، والمصلحة الوطنية العليا هو الهدف المشترك للجميع، لا فرق بين الباحث والسياسي، وأفضل بحث نظري ما كان قائمًا على الممارسة، وأفضل ممارسة سياسية ما كان قائمًا على البحث العلمي.