المؤسسات والحركات الدينية في مصر١

أولًا: المثقفون والدولة

يعز على المفكر أن يجد معظم المثقفين في كنف الدولة وفي صفها يقومون بدور أئمة الهدى، يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، وهو نفس منطق الفرقة الناجية الذي يحكم الدولة وخصومها؛ فالدولة تعتبر نفسها الفرقة الناجية، وأن المعارضة هالكة في النار، والمعارضة كرد فعل على الدولة تجعل نفسها الفرقة الناجية، وأن الدولة هالكة في النار، وهو نفس المنطق الإطلاقي الاستبعادي الذي يحكم الفريقين، منطق التكفير والتخوين المتبادلين، تكفير المعارضة للدولة، وتخوين الدولة للمعارضة.

ولما كان للدولة الحديثة خصمان؛ الحركة الإسلامية والحركة العلمانية، ليبرالية أو اشتراكية أو ماركسية، الإخوان المسلمون من ناحية والوفد والناصريون والماركسيون من ناحية أخرى، فإنها اعتمدت على ضرب الفريقين بعضهما ببعض لنفي أحدهما بالآخر، والاعتماد مرة على فريق لتصفية الفريق الآخر حتى يبقى الحكم للدولة بعد إضعاف الجناحين الرئيسين في المعارضة؛ فقد اعتمد الحكم في مصر في السبعينيات على الجماعات الإسلامية، سلحها وشجعها، من أجل تطهير الجامعات المصرية من الاشتراكيين والتقدميين الممثلين في «نادي الفكر الناصري». وتم لها ما أرادت ثم بدأت الدولة تسير أكثر مما يجب في التحالف مع الاستعمار والاعتراف بالصهيونية فانقلبت عليها الجماعات الإسلامية، واغتالت رمز الدولة في ١٩٨١، وفي أواخر الثمانينيات عندما اشتدت وطأة الجماعات بدأت الدولة في الانفتاح على بعض كتاب اليسار العلماني من أجل مصلحة مشتركة وهو الوقوف أمام الجماعات الإسلامية باعتبارها خطرًا مشتركًا يهدد الجميع؛ فهي العدو الذي يعمل ضد مصلحة الوطن بالتنسيق مع إيران والسودان وكأن أمريكا وإسرائيل هما الصديقان.

والآن، الدولة في تقهقر، والجماعات الإسلامية في تقدم، الدولة في حالة دفاع عن النفس والجماعات في حالة هجوم على الغير، تحاصر الدولة حيًّا شعبيًّا بخمسة عشر ألف جندي في حي إمبابة، وتستعمل الأسلحة الثقيلة والصواريخ والطائرات المروحية لمهاجمة المنازل، وتتحسر الدولة على الديمقراطية وهي أول من يقضي عليها بمنع تكوين الأحزاب الفعلية وتزوير الانتخابات وتغيير قانون النقابات، وتندد باستعمال العنف من الخصوم وهي أول ما يستعمله، والمثقفون يسيرون مع الدولة طمعًا في منصب وهم أول الضحايا بعد أن تلفظهم الدولة إذا ما تغيرت موازين القوى، وأعادت الحساب، من أين يأتي الخطر؟ والكل حريص على السلطة، من بيده السلطة يضحي بالوطن والمواطنين في سبيلها كما تفعل الدولة، ومن هو خارج السلطة وينازع الدولة سلطانها أنه أحق منها بها، ومن يخدم الفريقين، الدولة أو خصومها من جماهير المثقفين لعلهم يحصلون على شيء من السلطة في العاجل من الدولة أو الآجل من خصومها.

ظاهرة الجماعات الإسلامية إذن ظاهرة سياسية بالأساس، يظهر فيها الدين كأداة للاحتجاج نظرًا لأنه أقرب الأيديولوجيات إلى قلوب الناس وعقولهم، ممتد عبد التراث بشكل ثقافتهم، ويحدد تصوراتهم للعالم، ويمدهم بمعايير السلوك وليست ظاهرة دينية.

الدين نفسه كالفن والفكر والعلم والأخلاق والقانون والسياسة، ظاهرة اجتماعية في الفكر والممارسة مثل باقي الظواهر الإنسانية؛ ومن ثم تكون معالجتها معالجة اجتماعية سياسية، يمكن للحجج النقلية أن تكون أداة مساعدة لتحليل فكر الجماعات كما يبدو من نصوصهم، فهو فكر نصي في صياغته وإن كان اجتماعيًّا في نشأته، لكن التحليل الاجتماعي لظاهرة موجودة لا يعتمد إلا على معرفة الأسباب الفعلية لنشأة الظاهرة وتكوينها بعيدًا عن أخلاقيات ما ينبغي أن يكون وشرعياته، الوصف الموضوعي الذي يتتبع إنشاء الظاهرة وتكوينها هو الحكم عليها حكم من الداخل وليس حكمًا من الخارج.

لذلك تعتمد هذه الدراسة على التنظير المباشر للواقع، وتحليل التجارب الحية ووصف الأحداث المؤسفة التي يعيشها الجميع. المعرفة المباشرة من الواقع الحي أصدق من المعرفة المكتبية عن طريق التحليلات الإحصائية الكمية والكيفية واستعمال هذه المناهج أو تلك أو هذه النظريات أو تلك، ومعظمها مستقًى من علوم الاجتماع الغربية والتي تحتاج إلى مراجعة قبل الاستعمال، وتحقق من صدقها قبل التطبيق، هذه دراسة أولية لا تعتمد على الدراسات الثانوية، رؤية مباشرة للواقع دون متوسطات نصية من أدبيات الموضوع، وما أكثرها.

والهدف من هذه الدراسة «الحاكمية تتحدى» هو التعبير عن لسان حال الجماعات الإسلامية وتصورهم للعالم وبواعثهم وأهدافهم تحليلًا شعوريًّا عند الباحث وقد لا يكون شعوريًّا عند المبحوثين حتى أبلغ رسالتهم للناس وأعرض حالتهم على مثقفي مصر وقضاتها، فأنا من جمهور المثقفين، وقاضٍ من القضاة أحكم بين الدولة وخصومها، وأعرض حالة تُسفك فيها الدماء كل يوم من الطرفين كما فعل ابن رشد من قبل بين المعتزلة والأشاعرة في «مناهج الأدلة» وبين الفلاسفة والغزالي في «تهافت التهافت»، لست منحازًا إلى أي أحد من الفريقين ولكني منحاز إلى مصر وشعبها، حقنًا للدماء، وحرصًا على الوحدة الوطنية وتأكيدًا على أن هذا الوطن للجميع، قد يرفضني الخصمان ولكني لا أرفض أحدًا.

ثانيًا: تحليل شعار «الحاكمية لله»

«الحاكمية لله» شعار هجومي لتقويض الأنظمة التي تنقصها الشرعية وتفتقر إلى نظرية السيادة باسم من تحكم؟ ومن الذي فوضها للحكم؟ وهي نوعان: الأول نظام ملكي أو أميري يقوم على الوراثة، ملك ابن ملك، وأمير ابن أمير، مات الملك عاش الملك، مات الأمير عاش الأمير كما هو الحال في المغرب والأردن وشبه الجزيرة العربية وسطًا وأطرافًا. وهو نظام غير إسلامي، ابتدعه الأمويون الإخوان أولًا ثم سار فيه العباسيون ثانيًا، وكان الحكم البيزنطي الملكي هو النموذج ثالثًا.

واستمر الحال كذلك في التاريخ حتى الثورات العربية الأخيرة، وهو نظام غير شرعي لأن الإمامة في الإسلام، تراث الأمة ومصدر شرعيتها عقد وبيعة واختيار، ولا تتوفَّر فيه شروط الإمامة من علم وقوة وعدل وتقوى كما حددها الفقهاء، هو أقرب إلى التعيين بالوراثة بإرادة الملك السابق، والثاني نظام عسكري منذ الثورات العربية الأخيرة التي قام بها الضباط الأحرار ضد الملوك والأمراء وإن انتهكوا الحريات بعد ذلك؛ فقد قاموا بانقلابات عسكرية ضد نظم الإقطاع المتعاونة مع الاستعمار كما هو الحال في مصر وسوريا والعراق والسودان وموريتانيا والصومال، وكانوا قيادة جيوش التحرير الوطنية التي قادت حروب التحرير والاستقلال الوطني كما هو الحال في الجزائر واليمن، وهو نظام يقوم على الشوكة بتعبير الفقهاء القدماء أو على الغلبة بتعبير الحكماء، وهو أيضًا نظام غير إسلامي لأنه لم يأتِ بالتبعية من أهل الحل والعقد وإن قام بعد ذلك بانتخابات صورية يكون فيها الضابط الحر، قائد الجيش ووزير الدفاع ومدبر الانقلاب هو المرشح الوحيد، وما على المواطنين إلا أن يقولوا نعم، نعم للوطنية ولا للخيانة، وتكون النتيجة ٩٩٫٩٪ من أصوات الناخبين الأحياء منهم والأموات للبطل المغوار، الرئيس الأفخم والقائد الملهم وكبير العائلة والأخر الأكبر، كما تجمل النظم الملكية نفسها بمجالس شورى صورية على الطريقة القبلية تحت الخيمة لإبداء الرأي والنصح لشيخ القبيلة الذي يعطي العطايا لأفراد الأسرة المالكة اقتسامًا للغنيمة باسم القبيلة.

كلا النظامين إذن، الملكي والعسكري، غير شرعيين تنقصهما الشرعية والسيادة، لا يدين لهما أحد بالولاء شرعًا، تبدو الدولة مغتصبة للحكم، ويبدو المجتمع المستسلم لسلطتها جاهليًّا كافرًا، فلو خُير شاب في مقتبل العمر، طاهر مثالي يتوق إلى حلم حياته، مجتمع شرعي طاهر ويريد الاختيار بين الحاكمية للملك وللأمير أو الحاكمية للضابط والجندي من ناحية وبين الحاكمية لله من ناحية أخرى فلا مجال للتردد في اختيار الحاكمية لله؛ فالله لا يُورِّث ولا يُورَث، ولا يزوِّر الانتخابات، ولا يجري الانقلابات، ولا يضطهد المعارضين، وهو الحاكم العدل الذي لا يظلم.

ولو سئلت الجماعات: عرفنا الجانب السلبي الهادم في الحاكمية لله وأنها ضد حاكمية البشر عن حق فماذا يعني الشعار إيجابًا ما دام الله لا يحكم مباشرة؟ وهنا يستعصي الجواب؛ فقوة الشعار في سلبه، وقد لا يكون هناك بناء بديل، إيجابه في سلبه وليس في إيجاب مستقل عن السلب، ومن هنا غاب المضمونان الاجتماعي والسياسي للشعار؛ لأن الجماعات بعيدة عن السلطة ولم تمارسها بعد فلم تطرح بعد الجانب الإيجابي للشعار، ما شكل الدولة؟ ما نظامها الاقتصادي؟ ما سياستها في الأجور؟ ما رؤيتها لملكية الأرض والمصنع؟ وما هي علاقاتها الدولية؟ ماذا تفعل الجماعات اليوم لو استلمت السلطة اليوم بانقلابٍ كما حدث في السودان أو بثورةٍ كما حدث في إيران أو بانتخاب حر كما حدث في الجزائر قبل انقلاب الجيش على نتائج صناديق الاقتراع، كيف تدير شئون الدولة؟ ماذا تفعل بالسلطة؟ مبايعة سقيفة بني ساعدة، البيعة الخاصة ثم البيعة العامة كما حدث في بيعة أبي بكر بعد وفاة الرسول عهد الخليفة لخليفة كما حدث في عهد أبي بكر لعمر؟ حصر الخلافة في ستة ثم تنازل اثنان ليختبرا الأربعة، ويختار أصلحهم بناءً على سؤال وجواب كما حدث لعثمان؟ دفاع عن شرعية وقت الفتنة ضد منطق القوة كما حدث لعلي؟ أم إبداع جديد بناءً على ظروف العصر بعد أربعة عشر قرنًا وفي ظروف حضارية وتعددية منذ مائتي عام بعد تداخُل حضارة أخرى بأنظمة حكم أخرى ديمقراطية أم شمولية؟ صحيح أن «الحاكمية تتحدى» ولكن هذا أيضًا هو «تحدي الحاكمية».

ثالثًا: تحليل شعار «تطبيق الشريعة الإسلامية»

وشعار «تطبيق الشريعة الإسلامية» مثل شعار «الحاكمية لله» شعار هجومي كذلك ضد القوانين القائمة التي تتغيَّر كل يوم حتى لم يعد يعرف المواطن أي قانون يطيع؟ يخضع القانون للقوى السياسية واتجاهاتها وللطبقات الاجتماعية وسيطرتها ولجماعات الضغط ولمصالح الفئات والأفراد.

وعلى فرض التسليم بهذا القانون فإنه لا يُطبَّق إلا على الضعفاء أما الأقوياء فيتجاوزون القانون ويتعاملون بالصفقات والأرباح وتبادل المنافع، يُفرغ القانون من مضمونه الزائف لوضع حقيقي يتلاءم مع مصالح الناس، ويستفيد الموظف الذي يطبق القانون لصالح المواطن بالرشوة، ويستفيد المواطن بنَيْل حقه بعد طول عذاب.

تربَّت عند الناس ملكة عصيان القوانين وعن حق؛ لأنها لا تُعبر عن مصالحهم، ونشأ القانون الموازي الذي يخضع للعادات والأعراف، القانون الشعبي القبلي، وتحول المجتمع إلى قبائل يفض المشايخ نزاعات أفرادها بالقضاء الشعبي، والقانون الموازي والاقتصاد الموازي والسياسة الموازية أصبحت تكون الدولة الموازية التي يدين لها المواطن بالولاء، الدولة المضادة في مقابل الدولة القائمة التي لا يشعر المواطن أمامها بالانتماء ولا يدين لها بالولاء، هي دولة الشيطان أو الطاغوت، دولة الكفر والفسوق والعصيان، دولة فرعون وعاد وثمود، فتُحرق المخازن والمتاحف بعد سرقتها ونهبها ويتحوَّل المال العام إلى مال خاص، وتصبح الدولة مالًا مستباحًا ودمًا مسفوحًا حتى تقع البقرة الحلوب ويتم تقسيم لحومها وشحومها للمستحقين العاملين عليها.

وطالت الرشاوى رجال القضاء وغالى المحامون في الأجور ووقف الناس طويلًا أمام المحاكم وفي ساحات القضاء انتظارًا لسنوات العذاب، النفقة للرضيع، والمعاش للأرمل، والميراث للمستحق، والأرض للفلاح، والمنزل للساكن، وقبل ذلك كان العذاب في أقسام الشرطة ومع المحققين، الدولة هي الخصم والحكم، الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود.

ويضاف إلى القانون الصوري البيروقراطية في جهاز الدولة منذ الكاتب المصري القديم حتى أرشيف القلعة وديوان الموظفين وإدارة المعاشات كثرت الإمضاءات والأوراق والطلبات لا لشيء سوى تضخم جهاز الدولة وعلاقة المأمور بالآمر والموظف بالرئيس، وتاه المواطن في جهاز الدولة، وصاغ قانونه الخاص وعرف سبيله لقضاء الحاجات بالمعارف والرشاوى ونظام القرابة والجيرة وبما تبقَّى من شهامة ابن البلد.

وفي هذه الحالة يكون «تطبيق الشريعة الإسلامية» أفضل وأعدل وأحق للناس فهي شريعة فورية تنبع من إيمان الناس وشريعة عدل فالله لا يظلم أحدًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وشريعة ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال، «تطبيق الشريعة الإسلامية» إذن كشعار يعبِّر سلبًا عن مطلبٍ فعلي، هو تحرير الناس من ظلم القوانين الوضعية التي وضعها الناس توقًا إلى قانون عادل يحقق لهم مصالحهم، هو نداء للرفض ومقاومة بالسلب، وتطهير للنفس من ظلم القوانين وطلب للخلاص، ولا يعلم المواطن أن الشريعة الإسلامية هي أولى بلفظ «الوضع» كما بيَّن الشاطبي في عرضه لأحكام الوضع في باب الأحكام في «الموافقات في أصول الشريعة»، تقوم على تحليل الحكم في العالم، السبب والشرط والمانع والعزيمة والرخصة، والصحة والبطلان، الشريعة الإسلامية موضوعة في العالم ومبنية فيه بناءً على العلل المادية شروطها وموانعها وقدرات الإنسان وحسن نياته، فإذا وصفنا القانون المدني بأنه قانون وضعي أعطيناه أكثر مما يستحق؛ لأنه لا يقوم على وضع بل يعبر عن هوى أو مصلحة للفرد أو جماعات للضغط أو للطبقات الاجتماعية، وإذا وصفنا الشريعة الإسلامية بأنها إلهية أي مجرد عن الإرادة الإلهية المتعالية أعطيناها أقل مما تستحق وصورنا الله وكأنه حاكم مطلق صاحب هوى لا تقوم شرعيته على وضع مستقل في العالم وتحقق مصالح الناس.

وقد يعني الشعار إيجابًا كما هو واضح في السودان وفي شبه الجزيرة العربية وفي تصور الجماعات الإسلامية خارج الحكم تطبيق الحدود والعقوبات، قطع اليد والرجم والجلد وهي قوانين للردع، وهذا يعبر عن نفسية المضطهد المقموع الذي يوجه الشريعة ضد القامعين من ناحية وضد التسيب الاجتماعي والانهيار السياسي من ناحية أخرى، الشريعة هنا وسيلة للضبط الاجتماعي وليس للحراك الاجتماعي، وتقوم كلٌّ من الدولة والجماعات بالمزايدة على بعضها البعض في تطبيق الحدود؛ فالغاية واحدة الضبط الاجتماعي والسيطرة السياسية والتخوين والردع بالقانون، وما زال يغيب عن كليهما معنى الشعار إيجابًا، إيجاب الإيجاب وهو إعطاء الناس حقوقهم قبل مطالبتهم بواجباتهم، فللمواطن حق العمل والكسب والتأمين ضد البطالة والمسكن والمدرسة والمستشفى ضد العراء والجهل والمرض قبل أن تُقطع يد السارق، ومن هو السارق: من يأخذ حافظة النقود من جاره في المواصلات العامة أو من يستولي على الملايين من عائدات النفط؟ لذلك وضع الفقهاء حدًّا أدنى للسرقة، وللشباب حق الزواج المبكر والسكن والمهر والأثاث والقضاء على الإثارات الجنسية من الإعلانات في أجهزة الإعلام قبل الرجم والجلد، إذا أخذ المواطن حقوقه طالبناه بواجباته، ومن هو الزاني؟ من لا يجد نكاحًا حتى يغنيه الله من فضله أم تجار الرقيق الأبيض من الملوك والأمراء الذين ما زالوا يعيشون في عصر الجواري والإماء وما ملكت الأيمان؟

رابعًا: تحليل شعار «الإسلام هو الحل» أو «الإسلام هو البديل»

كما يعني شعار «الإسلام هو الحل» و«الإسلام هو البديل» تعثر الأيديولوجيات العلمانية للتحديث التي تم تجريبها في المجتمعات الإسلامية منذ فجر النهضة العربية الحديثة.

فقد تم تجريب الليبرالية قبل الثورات العربية الأخيرة بعد صلتنا بالغرب، واعتبار الغرب نمطًا للتحديث في فكرنا الحديث عند كل تياراته الإصلاحية عند الأفغاني، والليبرالية عند الطهطاوي، والعلمية العلمانية عند شبلي شميل، وبالرغم من إنجازاتهما فيما يتعلق بتجربة الفكر وحرية الصحافة والنظم البرلمانية والتعددية الحزبية والدستور والتعليم وإنشاء الجامعات والحركة الوطنية وبدايات التصنيع إلا أنه قد تم نقدها وهدمها والقضاء عليها بعد الثورات العربية الأخيرة ووصفها بأنها إقطاع ورأسمالية وفساد وتغريب وفشل في حل القضية الوطنية، الاستقلال ووحدة وادي النيل، وما زلنا نعاني حتى الآن من تدمير النفس، غياب الحريات العامة والديمقراطية ونتوق إلى فجر النهضة العربية الحديثة وعصر التنوير الأول بما فيه من عيوب فقد بدت الآن مكاسبها أكثر من مخاسرها، وإيجابياتها أكثر من سلبياتها.

ثم جاءت الثورات العربية في الخمسينيات والستينيات على أنها البديل لتضع مشروعًا قوميًّا جديدًا تشكل عامًا وراء عامٍ بناءً على تجارب النضال الوطني وعبر مساره خلال أربعة عقود من الزمان: بناء المجتمع الاشتراكي، التصنيع، حقوق العمال، الإصلاح الزراعي، مجانية التعليم، القطاع العام، التخطيط الاقتصادي، تحالف قوى الشعب العامل، ٥٠٪ من العمال والفلاحين في مجلس الشعب، القومية العربية، عدم الانحياز، باندونج، الحياد الإيجابي، حركة تضامن الشعوب الآسيوية والأفريقية، مقاومة الصهيونية والاستعمار والذي يعرف باسم الناصرية، وبعد اختفاء القيادة الوطنية وتبديلها بقيادة أخرى في السبعينيات والثمانينيات انقلب المشروع القومي رأسًا على عقب بالرغم من حرب أكتوبر ١٩٧٣ وتم تدميره كلية واتهامه بأنه كان شيوعية وإلحادًا وانغلاقًا وتبعية للاتحاد السوفيتي ونظامًا شموليًّا ديكتاتوريًّا، وتحول إلى ثورة مضادة من داخل النظام نفسه وبنفس القيادات إلى تحالف مع الاستعمار واعتراف بالصهيونية، وتصفية للقطاع العام، وتخلٍّ عن الإصلاح الزراعي، وانتشار التعليم الخاص، وتأسيس الجامعات الخاصة، فالرأسمالية لم تعد جريمة وانقلب الشعار من «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعمار.» إلى فيلا وعربة لكل مواطن وانتشرت البنوك الأجنبية تأخذ من المدخرات الوطنية أكثر مما تعطي، وفُتح باب الاستيراد باسم الانفتاح، وعمَّت البضائع الاستهلاكية وقلَّ الإنتاج، وانعزلت مصر عن العرب وخرجت عن سياستها الوطنية الثابتة، وسلمت قيادتها إلى إسرائيل الكبرى وأمريكا، وخرجت من العرب مع معادلة النظام العالمي الجديد.

ثم اختلف الرفاق في اليمن الجنوبي، واقتتلوا في عدن باسم الماركسية التي تحطمت على حدود القبلية، ودخلت في حلف مع حزب البعث في سوريا والعراق، فبررت النظم التسلطية وتخلَّت عن مبادئها الماركسية لحساب الحزب الحاكم، وأصبح رجالها هم النخبة الحاكمة يتمتعون بمزاياها لا فرق بين يسار ويمين، بين ماركسية ورأسمالية، وانطوى البعض تحت كنف الاتحاد السوفيتي يأتمر بأمره، وأصبح جزءًا من الشيوعية الدولية، ويُطرح الكوسموبوليتانية ويُنسى الطرح الوطني حتى بدوا وكأنهم تبع للغرب الثقافي باسم الشرق الشيوعي، عادوا الثقافة الوطنية، وقلدوا التجربة الأوروبية وكأننا ألمانيا وإنجلترا وفرنسا إبان الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، الدين أفيون الشعب وليس صرخة للمضطهدين، الدفاع عن حقوق العمال مع أن الأغلبية لدينا فلاحون. السلوك الشخصي للرفاق معاد للشريعة في مجتمع ما زالت القدوة الحسنة للقادة هي المدخل لقلوب الناس وحركة الجماهير، وبعد انهيار النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية ثم في الاتحاد السوفيتي نفسه، انهار المركز فضاقت الأطراف، انهارت النظم الشمولية والفلسفات المادية الداروينية وإن بقت الاشتراكية كمثل أعلى للشعوب، فشلت الوسائل وبقيت الغايات، وزادت شماتة الناس في الشيوعية والاشتراكية وحجة الواقع في النهاية أبلغ من حجة الفكر، فالعمل أصدق دليل على النظر.

وقامت نظم رجعية في شبه الجزيرة العربية، وسطها وأطرافها باسم الإسلام، عقائد وشعائر وطقوس وعقوبات وحدود، الإسلام وسيلة للضبط الاجتماعي من أجل التغطية على نهب الثروات الطبيعية والاستيلاء على عائدات النفط، والتبعية للغرب لدرجة استدعاء قوات التحالف لحل الخلافات العربية وتدمير العراق بالسلاح بحجة تحرير الكويت، وإفساد الحكام باسم العائلات الملكية، ومآسيهم في تبديد الثروات والانحلال الجنسي، نظم العصور الوسطى ما زالت تحكم في العصور الحديثة، ولم تجد بعض الجماعات الإسلامية بديلًا من التعاون مع هذا الإسلام المحافظ نظرًا للرصيد التاريخي المشترك بينها، ولقد عاش بعض الإخوان في عصر الاضطهاد في مصر في شبه الجزيرة العربية، وكونوا الثروات هناك في بلاد النفط وأصبحوا حلقة الوصل بين السعودية والجماعات الإسلامية.

بمَ يؤمن الشباب؟ وبأي من التجارب الأربعة تؤمن الناس في المجتمعات الإسلامية المعاصرة: الليبرالية أو القومية أو الماركسية أو الإسلام الرجعي المحافظ المتعاون مع الاستعمار والذي يُعد نفسه للتجارة مع الصهيونية في المحادثات المتعددة الأطراف؟ لقد ألغى بعضها بعضًا بمنطق الفرقة الناجية، وبنفس منطق الاستبعاد وتقدم الجماعة الإسلامية نفسها الآن على أنها الحل أو البديل عن الأيديولوجيات العلمانية للتحديث وعن الإسلام «السعودي»، وإن كان هواها مع النظم المحافظة في شبه الجزيرة العربية ليس فقط لاشتراكهما في رصيد المحافظة التاريخية بل في المصالح المشتركة، القضاء على ما تبقَّى من الأيديولوجيات العلمانية للتحديث.

خامسًا: انهيار المشروع القومي العربي الحديث

ومنذ أكثرَ من مائتي عام تكون المشروع القومي العربي الحديث وتلاقَتْ عليه التيارات الفكرية الرئيسية الثلاثة منذ فجر النهضة العربية: التيار الإصلاحي والتيار الليبرالي والتيار العلماني، ويتكوَّن هذا المشروع من أهداف سبعة:
  • (١)

    تحرير الأرض من الاحتلال والغزو ومقاومة الاستعمار والصهيونية كما حاول الأفغاني.

  • (٢)

    تحرير المواطن من القهر والاستبداد كما عرض الكواكبي في «طباع الاستبداد ومصارع الاستعباد».

  • (٣)

    العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخل بما يحقق أكبر قدر ممكن من المساواة بين الأغنياء والفقراء كما بين سيد قطب في «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«معركة الإسلام والرأسمالية».

  • (٤)

    وحدة الأمة ضد التجزئة والقبلية والعرقية من أجل الوحدة العربية كما هو الحال عند القوميين أو الوحدة الإسلامية كما ينادي بها الإسلاميون.

  • (٥)

    إثبات الهوية ضد التغريب والتبعية، وضع الأنا في مقابل الآخر كما هو الحال منذ «تخليص الإبريز» للطهطاوي حتى «علم الاستغراب».

  • (٦)

    التنمية المستقلة والاعتماد على الذات والسيطرة على قوانين الطبيعة واستثمار الموارد الطبيعية كما بان ذلك في التيار العلمي العلماني منذ شبلي شميل في «فلسفة النشوء والارتقاء» حتى «التطور اللامتكافئ» و«فك الارتباط» لسمير أمين.

  • (٧)

    حشد الجماهير وتجنيد الناس حتى يتحول الكم إلى كيف ضد اللامبالاة والحياد والفتور كما عرض الكواكبي في «أم القرى»، وبعد مائتي عام من تكوين المشروع القومي الحديث انهار في جيلنا، فبالنسبة إلى تحرير الأرض احتُلت مزيد من الأراضي، فلسطين كلها، وأجزاء من سوريا ولبنان، وإسرائيل الكبرى على الأبواب بعد الهجرات السوفيتية الأخيرة والاستيلاء على مصادر المياه وتهجير الفلسطينيين، ثم غزو جنوب لبنان وحصار بيروت وقمع الانتفاضة واغتيال العلماء وحرق منبر المسجد الأقصى واحتلت القدس وحرمت الصلاة في المسجد الأقصى مما أثار الجماعة الإسلامية لهتاف: «من سيعيد القدس سوانا»، «إن الأقصى ينادينا»، وضرب المفاعل النووي في العراق، وضُربت المقاومة الفلسطينية في تونس، واغتيل أبو جهاد وأصبحت إسرائيل كالعصى الغليظة تعيد العرب إلى بيت الطاعة!

وبالنسبة إلى تحرير المواطن زاد القهر، وامتلأت السجون، وغصت المعتقلات بخصوم النظم السياسية في كل البلدان العربية والإسلامية، وانتهكت حقوق الإنسان، وساد الرأي الواحد عقيدة الفرقة الناجية، سياسات الحزب الحاكم، وضعفت المعارضة، وسُنت القوانين الاستثنائية المكبلة للحريات، القوانين السيئة السمعة، قوانين الطوارئ والاشتباه والعيب، وشُكلت المحاكم العسكرية، وأتت لجان الأمم المتحدة لفحص انتهاكات حقوق الإنسان في المجتمعات العربية فأتينا في الصف الأول، ولم تجد الجمعيات العربية أو القُطرية أي مقر لها داخل الوطن العربي، وما زالت غير شرعيةٍ مهددة بالحل.

وبالنسبة إلى الفقر والغنى ازداد فقر الفقراء وزاد غنى الأغنياء، وعظمت المسافة بين الأغنياء والفقراء، فأغنى أغنياء الأمة السلاطين والأمراء والملوك منا وأفقر فقراء الأمة الذين يموتون جوعًا وقحطًا منا أيضًا، ساء توزيع الدخل بين من يملكون ولا يعملون وبين من يعملون ولا يملكون، عمَّ الظلم الاجتماعي وانتشر سكان المقابر وساد الفقر والضنك ونام الناس على الأرصفة وافترشوا العراء وخرجت الجماعات الإسلامية من أفقر الأحياء، إمبابة والزاوية الحمراء والوراق وزينهم، تجد الغنى في ملك الدنيا والآخرة معًا والثورة على من يمتلكون حطام الدنيا، وظهرت صورة العربي القبيح في لندن الذي يشتري أدوارًا بأكملها من المتاجر الكبرى يوم الأحد بأسعار مضاعفة ودون أن يرى البضائع إلا بعد شحنها في قصوره في قلب الصحراء.

وفيما يتعلق بوحدة الأمة تفرَّقت الأمة شيعًا وأحزابًا، واشتدت هذه النزاعات الطائفية القبلية والنعرات القبلية والعشائرية، ونشبت الحروب الأهلية، وسفك دماء بعضهم البعض، وتنازعوا على الحدود وغزوا بعضهم البعض، واستعانوا بالأجنبي على بعضهم البعض يزداد فيهم تقتيلًا، لا فرق بين غاصب ومغتصب، وانتشرت البحوث حول الأقليات في العالم العربي، وشككت الدول القُطرية في القومية العربية، عاش الأمير وعاشت الدولة القطرية، وسقطت القومية العربية على أسنَّة الرماح، قُطر يغزو قطرًا، وقُطر يستدعي قوات التحالف الغربي ضد قُطْر، تتحوَّل المنطقة كلها إلى دولة طائفية، شيعة وسنة ودروز، إسلامية وقبطية، وإلى نعرات عرقية، عرب وعجم وبربر، حتى تصبح إسرائيل هي الدولة الطائفية العرقية الكبرى، الدولة اليهودية في المنطقة فترث القومية العربية، وتتم المقاطعات بين الأقطار العربية، ويُسحب السفراء، وتشتد الخصومات وحرب الإذاعات، وتكثر التصريحات على موائد الأجنبي لنقد العرب والمسلمين المخالفين في الرأي استجداء للمعونات واستعدادًا لتحالف غربي جديد ضد الذين لا يسايرون النظام العالمي الجديد والسوق الشرق أوسطية، ومركزها إسرائيل وأمريكا ومصر وتركيا، أصبح الصديق عدوًّا والعدو صديقًا، وأصبحنا أشداء بيننا رحماء على الكفار!

وفيما يتعلَّق بإثبات الهُويَّة ضاعت الهُويَّة، وعمَّ التخريب في أساليب الحياة في الفكر والعمل، في الثقافة والسلوك وأصبحت أسامينا «محمد موتورز». «منصور شيفورليه»، ونذهب إلى محلات «تيك أواي»، «كنتاكي فراي تشيكن»، ونشأ الإسلام التجاري في محلات «حجابكو»، «إسلامكو»، ومحلات التنظيف «تنظيفكو» وبدلًا من «شروق من الغرب» نشأ رد الفعل الطبيعي «ظلام من الغرب».

وفيما يتعلَّق بالتنمية المستقلة ازدادت تبعية الأمة على الخارج في غذائها وكسائها وسلاحها وثقافتها، ٧٠٪ من غذاء مصر يأتي من الخارج، ثم ارتهان الإرادة الوطنية بالقمح، وأشهر سلاح التجويع، وتم الاعتماد على عدو الأمس لحل القضايا الوطنية، وقيل إن ٩٩٪ من أوراق اللعبة في أيدي الولايات المتحدة الأمريكية، وضرورة تحييد العدو، ولتحرير الكويت تم تدمير العراق، ودخل أكثر من نصف العرب مع قوات التحالف الغربي لقتل الأخ لأخيه، وتتم المباحثات في مدريد عام سقوط غرناطة ثم في واشنطون مركز النظام العالمي الجديد الذي لا مكان للعرب والمسلمين فيه حتى بلا طاقة أو ثروة أو أسواق أو عمالة ما داموا فقدوا دورهم في التاريخ.

وفيما يتعلَّق بحشد الجماهير تحولت الجماهير إلى السلبية المطلقة، ولم تعد تهتم بشيء مهما حدث لها، تعودت على الإهانة تبحث عن لقمة العيش، وتجري وراء الخبز دون كرامة، ولم تستطع هبات الخبز في مصر والمغرب وتونس والجزائر والأردن أن تتحوَّل إلى ثورات شعبية قادرة على تغيير نظام الحكم، ولو دخلت إسرائيل عمان ودمشق والقاهرة لما تحرك أحد، ولو استولت على الحرم المكي كما استولت على المسجد الأقصى لما اعترض أحد، وهنا تبدو الجماعة الإسلامية بارقة أمل بقدرتها على حشد الناس، والنزول في الشارع وتحريك الجامعات وتثوير المساجد، وتكوين الخلايا النشطة للاعتراض والغضب والتمرد والثورة على الأوضاع.

سادسًا: نقد الخطاب الديني

وخطاب الجماعات الإسلامية رد فعل على الخطاب الديني المعاصر، السائد في مؤسسات الدولة وهو الخطاب الديني الرسمي للمؤسسة الدينية الرسمية؛ الأزهر، مجمع البحوث الإسلامية، مشيخة الطرق الصوفية، دار الإفتاء المصرية والذي يصوغه فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس، وهو الخطاب الرسمي أيضًا في أجهزة الإعلام الذي هو أيضًا تحت سيطرة الدولة. المؤسسة الدينية وأجهزة الإعلام كلاهما جهازان لبسط سلطان الدولة، هو خطاب رسمي، يدعو إلى سياسات الدولة ولا يتعرَّض لما تعم به البلوى من قضايا الحرب والسلام، والغنى والفقر، والحرية والقهر، والوحدة والتجزئة، والاستقلال والتبعية، والهوية والتغريب، وفتور الناس وثورتهم تسوده العقائد والشعائر والتصوف كما يبدو في «حديث الروح» وفي أحاديث الجمعة، لا يمس حياة الناس بدعوى لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، وهو في نفس الوقت خطاب سياسي مقنع؛ لأنه يبعد الدين عن الحياة العامة ويجعله قاصرًا على علاقة الإنسان بينه وبين ربه وكأن الإسلام بوذية أو هندوكية أو مسيحية. «حديث الروح» كل يوم قبل التاسعة مساء إلا خمس دقائق قبل نشرة الأخبار الرئيسية في البلاد يُغرق المواطن في عالم من الروحانيات ثم يصطدم بعد ذلك بمذابح المسلمين في البوسنة والهرسك وقتل الإسرائيليين لأطفال الانتفاضة، وكأن «حديث الروح» حقنة مخدر القصد منها تغييب المواطن عن وعيه السياسي والاجتماعي والوطني، وتفسير القرآن كل أسبوع بعد صلاة الجمعة تفسيرًا لغويًّا بلاغيًّا تمثيليًّا بحيث يبدو الله في حديثه حكيمًا مثل ابن البلد يجعل الوحي مجرد لعبة لغوية ومعركة كلامية و«حداقة» شعبية، ويبرر صاحبه غلاء الأسعار في يناير ١٩٧٧ الذي كان سبب الهبة الشعبية بأنه مثل الدواء الأمر الضروري لتصليح مسار الاقتصاد، ويسجد لله شكرًا على هزيمة ١٩٦٧ مضحيًا بالوطن من أجل النظام، ويدافع عن التدخل الأمريكي في الخليج لتدمير العراق باسم تحرير الكويت، وآخر ينادي «أرحنا بها يا بوش»، وثالث يبكي في بغداد قبل الغزو العراقي للكويت ويدعو قائد مسيرة الأمة لتدمير إسرائيل كلها وليس فقط نصفها ثم يعود بعد الغزو إلى القاهرة سعوديًّا مدافعًا عن الغزو الأمريكي، ورابع يبكي على حال الأمة في بغداد قبل الغزو العراقي للكويت ويدعو الشعوب الإسلامية للتضامن مع بغداد ضد واشنطن وفي القاهرة يدعو قوات التحالف الغربي إلى تدمير العراق الظالم حاكمه بعد أن كان قائد المسيرة المظفر، أما خطب الجمعة في المساجد فلا تقول شيئًا، وتدعو إلى أركان الإسلام الخمسة وتعلم الناس نواقض الوضوء أو تخبرهم بنعيم الجنة وبعذاب النار، والناس يسرحون بعقولهم في هموم حياتهم اليومية، في مآسيهم وضنكهم وفي حاضرهم ومستقبلهم؛ لذلك حرمت الجماعات الإسلامية الصلاة في مساجد الدولة لنفاق الأئمة، وتبعيتهم للدولة وأقامت مساجدها الأهلية لتعلن فيها كلمة الحق فتحاصرها الجند، وينهال الرصاص على المصلين، ويطلب شكري مصطفى أثناء محاكمته أن يحاور رجال الأزهر الشريف فيرفضون جميعًا خوفًا من رؤيتهم لأنفسهم باعتبارهم فقهاء السلطان وعلماء النخاسة وحلق عانة الميت في «نور على نور».

والخطاب الثاني هو الخطاب العلماني، الليبرالي أو القومي أو الماركسي، وهي الأنظمة التي حكمت وما زالت تحكم الوطن العربي، هو خطاب غربي في مجمله، تابع للثقافة الغربية، يُعادي الخطاب الإسلامي ويضع الوافد بديلًا عن الموروث، ويجعل ثقافة الآخر ضد ثقافة الأنا، يأخذ بالنموذج الغربي نمطًا للتحديث، وينكر خصوصية الشعوب والمجتمعات، هو خطاب مقلد للغرب وناقل عنه وتتهم الخطاب السلفي المضاد بالتقليد والنقل من القدماء، تقليدًا بتقليد، ونقلًا بنقل، ولا فضل لأحد الفريقين على الآخر، يقف من التراث موقف الرفض، ويأخذ نموذج القطيعة بين القديم والجديد، فلكل عصر ثقافته، ولما كانت ثقافة العصر هي الثقافة العقلانية العلمية الإنسانية كانت ثقافة كل الشعوب الراغبة في التقدم والنهضة، وكل محاولة لنقل القديم إلى الجديد، وإعادة بناء القديم طبقًا لحاجات العصر هي محاولات توفيقية تلفيقية بين ضدين، تخشى الحسم والاختيار بين بلدين متناقضَيْن لا يلتقيان، لا يفرق بين الخطاب الإسلامي المحافظ والخطاب الإسلامي المستنير.

كلاهما خطاب واحد، إنما توزيع الأدوار بين الاستراتيجية والتكتيك، الخطاب السلفي استراتيجية والخطاب الإسلامي المستنير تكتيك، ولا ضير أن تفسح الدولة أجهزة الإعلام فيها إلى الخطاب العلماني ليهاجم الخطاب السلفي، استعمالًا لفريق ضد فريق ما دامت المصالح الآنية واحدة، وكان من الطبيعي أن يرفض الخطاب السلفي الخطاب العلماني، يتهم الليبرالي بالعمالة للغرب، والقومي بالعنصرية والعرقية، والماركسية بالمادية والإلحاد.

والخطاب الثالث هو خطاب الأحزاب الحاكمة، الخطاب السياسي الذي يقوم على إخفاء الحقائق والتمويه على الناس والكذب الصريح، هو خطاب مناسبات، تابع لإرادة الحاكم، وقد يتغيَّر تغيرًا جذريًّا، ويتحوَّل مائة وثمانين درجة بين يوم وليلة مع إيران والسعودية أو أمريكا وإسرائيل، يحدد معالمه فرد واحد هو الحاكم، ورؤية واحدة هي رؤية النظام السياسي، هو خطاب كاذب لا يسمعه أحد لأن الناس تعرف الحقائق من محطات الإذاعة الأجنبية حتى دان ولاؤها الإعلامي للخارج، وانفصل عن الداخل الذي تراقبه أمريكا والسعودية، أمريكا في السياسة، والسعودية في الدين، دفاعًا عن السلطتين القائمتين السياسية والدينية، وحتى يصبح خطابًا محبوبًا للجماهير يتحول إلى خطاب إعلامي عن طريق الإعلانات التي تركز على الجنس والخلاعة والرقص بما في ذلك الإعلان عن المبيدات الحشرية والسموم القاتلة! وذاعت شهرة الإعلانات في الخطاب السياسي الرسمي، وراجت بضاعة فتيات الإعلانات عند الزوار العرب، تعقبها المسلسلات التلفزيونية التي تربط المواطن بالشهور أمام الشاشات الصغيرة، مصرية أو أمريكية فيجد المواطن في المسلسل المصري تفريحًا عن مآسيه، وفي المسلسل الأمريكي تسلية له وانبهارًا بالتحرُّر الغربي وبحياة الغربيين تعويضًا عن كتبه وحرمانه ومفاهيم الحلال والحرام.

الخطاب السياسي للحزب الحاكم خطاب فارغ من أي مضمون، إنشائي يعتمد على البلاغة وعلى أن اللغة نسق مستقل بذاته وليست أداة للتعبير عن المعاني، خطاب مناسبات قومية ثورة ٢٣ يوليو، ٦ أكتوبر … إلخ، يُمجد في إنجازات الحزب مدعمًا بالإحصائيات الكاذبة أو المقروءة قراءة واحدة، ولا يكاد يذكر شيئًا عن مأساة الحاضر، يعد بتجاوز عنق الزجاجة عما قريب، ويبدو أن عنق الزجاجة طويل للغاية لم نتجاوزه بعد منذ عقدين من الزمان لا يستمع إليه أحد إلا رجالات الحزب الحاكم، ولا يؤثر في أحد، حاكمًا أو محكومًا، ولا ينطوي على أحد عدوًّا أو صديقًا. هو الخطاب الذي يدخل أذنًا ويخرج من الأذن الأخرى، كلام الجرائد، والاستهلاك المحلي ورقة التوت بين الحاكم والمحكوم.

سابعًا: «الحافظة» التاريخية

وينحو الخطاب السلفي بطبيعة الحال نحو السلفية والمحافظة باعتبارها تيارًا تاريخيًّا نشأ منذ ألف عام منذ نقد الغزالي العلوم العقلية وقضائه على التعدُّدية، وتجريحه لجميع قوى المعارضة، المعتزلة والشيعة والخوارج، دفاعًا عن الدولة القوية، دولة نظام الملك، فأعطى الحاكم أيديولوجية السلطة، والعقيدة الأشعرية، وأعطى الجماهير أيديولوجية الطاعة، التصوف، الحاكم مثل الله، عالم، قادر، حي، سميع، بصير، متكلم، مريد، وللشعب الصبر والتوكُّل والرضا والقناعة والزهد والخوف والخشية والرهبة.

ثم حاول الإصلاح الديني منذ الأفغاني إحياء العقائد في قلوب الناس وتثوير الدين ونبذ القضاء والقدر واكتشاف قوانين التاريخ الإسلامي في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، وبعد فشل الثورة العرابية في ١٨٨٢ ارتد الإصلاح الديني محافظًا إلى النصف عند محمد عبده الذي آثر المصرية على الجامعة الإسلامية، والتدرج على الثورة، والتربية والتعليم على الانقلاب، وإصلاح اللغة العربية والمحاكم الشرعية على الاستيلاء على السلطة السياسية «لعن الله ساس ويسوس.» ومع ذلك قامت ثورة ١٩١٩، وأُعلن دستور ١٩٢٣ وقاد سعد زغلول تلميذه محمد عبده مسيرة النضال الوطني، ولكن بعد نجاح الثورة الكمالية في تركيا في ١٩٢٣ ارتدَّت الحركة الإصلاحية من جديد إلى المحافظة نصفًا آخر عند رشيد رضا، وبدأ الخطاب الإصلاحي سلفيًّا تمتد جذوره إلى محمد بن عبد الوهاب، ومن ورائه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومن ورائهما أحمد بن حنبل، ثم حاول حسن البنا إحياء الخطاب الإصلاحي من جديد ورد الحياة له بإسلام وطني بسيط يجمع بين النظر والعمل، الإسلام عقيدة وشريعة، مصحف وسيف، فرسان بالنهار رهبان بالليل، وحقق حلم الأفغاني في تكوين حزب ثوري في جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تنافس الوفد والماركسيين في الشعبي والتفاف الجماهير حولها وفي تمثيل الحركة الوطنية في الأربعينيات.

وبالرغم من مقتل حسن البنا في فبراير ١٩٤٩ استطاع الإخوان أن يكونوا أحد الروافد الرئيسية لحركة الضباط الأحرار التي قامت بالثورة في ١٩٥٢، وبعد دخول سيد قطب الجماعة ذاعت أفكار «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، «معركة الإسلام والرأسمالية»، «السلام العالمي والإسلام» كما كان يبشر بظهور يسار إسلامي جديد لم يظهر إلا بعد ذلك بربع قرنٍ من الزمان في ١٩٨٠، وبعد الصراع على السلطة بين الإخوان والثورة في ١٩٥٤ خسر الإخوان، ودخلوا السجون والمعتقلات، فخرج فكر جديد يمثله «معالم في الطريق» يقوم على تكفير المجتمع واستحالة المصالحة بين الله والطاغوت، بين الإيمان والكفر، بين الإسلام والجاهلية، بين الحق والباطل، ولا يمكن لطرف أن يبقى إلا بالقضاء على الطرف الآخر، ويقوم جيلٌ قرآني فريد تحت شعار «لا إله إلا الله» بتدمير النظم القائمة من الأساس حتى يبدأ النظام الإسلامي الجديد ليخلص العالم، وما زال «معالم في الطريق» هو المولد الأول لفكر الجماعات؛ لأنه ما زال يعبِّر عن نفسية الجماعات المضطهدة.

وتتجلَّى الحافظة التاريخية في الفكر الديني، في الفكر الديني الموروث الذي ما زال يعطي القيمة للقمة على القاعدة، لله على العامل، وللراعي على الرعية، وللنص على الواقع، وللأصل على الفرع، وللرجل على المرأة في ثنائية متصارعة متضادة في محور رأسي يسيطر فيها الأعلى على الأدنى، وهو نفس البنية التي تقوم عليها الدولة، الحاكم والمحكوم، ومن هنا أتى الصراع بين قمتين، رئاسة الدولة ورئاسة الجماعات، رئيس الدولة وأمير الجماعة، وما زال القول المأثور عند كلٍّ من الفريقين يؤثر في النفوس «إن الله يزعن بالسلطان ما لا يزعن بالقرآن.» فلا يتغير شيء في الواقع إن لم تتغير السلطة السياسية أولًا، ومن هنا أتت الحاكمية لله، تطبيق الشريعة، تنفيذ الحدود، ولما كانت هذه الثنائية متضادة لا يمكن المصالحة بين أحد طرفَيْها ظهر حول الكل ولا شيء، هدم طرف من أجل بناء الطرف الآخر. غاب الحوار، وساد التعصُّب، وسادت الحجة النقلية الحاسمة حجة السلطة وليست حجة العقل، وازدادت قيمة الشعائر والطقوس التي تُعلن للناس في الخارج عن وجود الشريعة، جهاز إعلام جديد ونقاط جذب للشباب من أجل المفاصلة، مفاصلة المؤمن للكافر، فإن بدأ الاضطهاد، تتحول الحركة الإسلامية إلى حركةٍ سريةٍ لتناضل من تحت الأرض حتى تقضي على الدولة الظالمة وتقتلع الفساد في الأرض من الجذور. ولا توجد الحافظة التاريخية في الجماعات الإسلامية وحدها بل في الدولة ذاتها وفي كل القوى المعارضة وفي بنية الحياة الاجتماعية والثقافية؛ فالكل ينهل من موروثٍ ثقافي واحد. الدولة أيضًا هرمية فرعونية رئاسية كإمارة الجماعات، وأحزاب المعارضة أيضًا رئاسية إمارية سلطوية تأتمر بأمر الضابط الحر أو الباشا أو الحرس القديم، الكل نصي، الدولة من خطب الرئيس وتوجهاته وأحزاب المعارضة من أقوال رؤساء الأحزاب ومذكراتهم والجماعة الإسلامية من الكتاب والسنة وأمراء الجماعة، الكل يبغي السلطة؛ لأنه أحق بها من الآخر، الدولة والمعارضة والجماعات فكل فريقٍ يعتبر نفسه الفرقة الناجية.

ثامنًا: نفي الآخر وإثبات الأنا

وتزداد عداوة الغرب للعرب والمسلمين ليست فقط من خلال استمرار تشويه صورتهم في أجهزة الإعلام وفي كتابات المستشرقين وفي العلوم الاجتماعية خاصة الاجتماع والأنثروبولوجيا السياسية التي ورثت الاستشراق بل أيضًا بالعدوان المباشر: تدمير العراق، حصار ليبيا، مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك، احتلال الصومال، حتى استولى الغرب على منابع النفط، مصادر الثروة العربية والتحكم في أسعاره، وفرض ضريبة الكربون عليه التي تعادل سعره وحمايته للبيئة، وبيعه وهو ما زال مخزونًا في الأرض رهينة في أيدي الدول والشركات الأجنبية، ووضع عائدات النفط في البنوك الأجنبية واستثمارها في البلاد الأوروبية، وتدمير السلاح العربي في حربي الخليج الأولى والثانية.

لقد اختفت المنظومة الاشتراكية القطب الثاني في نظام العالم القديم، وورثة العرب والمسلمون يجد فيهم الغرب العدو الجديد، ويخطط لنظام شرق أوسطي جديد يكون العرب فيه القوم التبع، وتكون القيادة المحلية فيه لإسرائيل وتركيا، والقيادة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن تخلَّت مصر عن دورها القيادي في المنطقة ولم يجد العرب إلا الاستسلام.

لقد ضلَّت النظم القومية طريقها بعد الغزو العراقي للكويت، ودخول سوريا في محادثات السلام، واختفت الأحزاب الماركسية العربية باختفاء الاتحاد السوفيتي، وقضينا على الليبرالية بأنفسنا باسم القومية العربية ثم قضت هي على نفسها بمعاداتها للاشتراكية ودخولها في الانفتاح الاقتصادي، لم تبقَ إلا الجماعات الإسلامية كحركات احتجاج ما زالت ترفض وجود إسرائيل وتعادي الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وتقاوم صنوف القهر والعدوان وتستأنف المشروع القومي العربي الحديث، وتقيله من عثرته، فتنسب الناس إليها كطوق النجاح للحفاظ على ما تبقَّى من كرامةٍ دافعت عنها الأجيال الماضية.

وفي نفس الوقت الذي يتم فيه رفض الآخر يتم أيضًا إثبات الأنا، فبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران في فبراير ١٩٧٩ بالرغم مما حدث لها بعد ذلك من انفصال العلمانيين والمجاهدين عن مسيرة الثورة، ونجاح الثورة الأفغانية في ١٩٩٢ بالرغم مما حدث لها من شقاق وتقاتل بين فصائل المقاومة بدا السلاح ناجحًا في الأرض، قادرًا على قلب نظام الطغيان والقهر والتبعية للقرب مثل نظام الشاه، وقادرًا على إسقاط نظام القهر والطغيان التابع للشرق مثل نظم داود وحفيظ الله ونجيب الله وكارمل؛ فقد أعطت هذه الانتصارات ثقة للحركة الإسلامية بنفسها بإمكانية النجاح في طريق الكفاح المسلح ضد أنظمة القهر والعمالة.

وقد نجحت الحركة الإسلامية أيضًا، بصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق معها فكرًا وممارسة في السودان، بانقلاب عسكري سيطر عليه الإسلاميون، ونجحت في الجزائر بقبولها الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وحصولها على أغلبية أصوات الناخبين أولًا انقلاب الدولة عليها بدعوى الحرص على الديمقراطية ضد أعدائها. وفي حالة انتخابات حرة في تونس تأخذ الحركة الإسلامية، حزب النهضة ٧٠٪ من أصوات الناخبين، وفي مصر تأخذ ٤٠٪ في مقابل٣٠٪ للوفد، ٢٠٪ للناصريين، ١٠٪ للمستقلين، وفي الأردن، قبلت الحركة الإسلامية الدخول في المسيرة الديمقراطية ولديها ثلث الأعضاء في مجلس النواب، وانقسمت المؤسسة الدينية في شبه الجزيرة العربية على نفسها بعد التدخُّل الأمريكي في الخليج واستدعاء قوات التحالف الغربي وتدمير العراق باسم تحرير الكويت.

وقويت حركات شبه الجزيرة العربية، إسلامية أو علمانية تعطي صورة لما يمكن أن يكون عليه نظام المستقبل، ويبزغ نظام المستقبل، ويبزغ الإسلام المستنير حثيثًا في مصر وتونس والأردن معلنًا عن إمكانية إقامة الجسور بين الفريقين المتخاصمين، الإسلاميين والعلمانيين، وتكوين جبهة وطنية موحدة تحمل المشروع القومي العربي الإسلامي من جديد.

وانتشر الإسلام في أوروبا وآسيا كمًّا وكيفًا حتى أصبح يشكل في أوروبا الديانة الثانية بعد المسيحية، وفي أمريكا الديانة الثالثة بعد المسيحية واليهودية، وقامت الجمهوريات الإسلامية الجديدة في أواسط آسيا تعلن عن قدوم الإسلام الآسيوي، وتدخل في حلف واسع مع تركيا وإيران وأفغانستان وباكستان والحركات الإسلامية في العالم العربي من خلال «العرب الأفغان» على الرغم من مقاومة الأنظمة في العالم العربي لها وإيثارها لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.

إن الصحوة الإسلامية ظاهرة تاريخية بناءً على قانون تاريخي؛ فقد بدأ الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا، وقام بحضارته في عصره الذهبي في القرون السبعة الأولى، وبلغت ذروتها في القرن الرابع الهجري عصر المتنبي والبيروني، أبدعت فيها شتى العلوم العقلية والعقلية النقلية والنقلية التي تحن إليها الجماعات الإسلامية حاليًّا مثل كل حركة أصولية تعود إلى الوراء وترى تقدُّمها ونموذجها في العودة إليه، وقد أرخ ابن خلدون لهذه الفترة في مقدمته الشهيرة محاولًا معرفة سبب تقدم العرب وسبب انهيارهم في نظرية الانتقال من البدو إلى الحضر وفقدان العصبية؛ وبالتالي لا سبيل إلى التقدم من جديد إلا بالعودة من الحضر إلى البداوة، عودًا إلى الأصول وتقوم الجماعات الإسلامية بتحقيق هذا المطلب.

ثم تلت القرون السبعة الأولى قرون سبعة تالية، عصر الشروح والملخصات، لم تعد الحضارة تبدع بالعقل بل تدون بالذاكرة لحفظ التراث بعد هجمات الصليبيين من الغرب، والتتار والمغول من الشرق، وقامت مصر في العصر المملوكي بهذا الحفظ في الموسوعات الكبرى التي تقوم الجماعات بقراءتها، عصر ابن تيمية وابن القيم.

وفي آخر قرنين من هذه الفترة، بدأت الحركة الإصلاحية الحديثة تحاول تجديد الحضارة الإسلامية في عصر ذهبي ثانٍ لقرون سبعة جديدة قادمة، تعود إلى الأصول فيما سمي بالحركة السلفية المعاصرة منذ محمد بن عبد الوهاب، وبالرغم من «كبوة الإصلاح» جيلًا وراء جيل منذ الأفغاني حتى الجماعات الإسلامية لظروف خاصة، فشل العرابيون في ١٨٨٢، والثورة الكمالية في تركيا، والصدام بين الإخوان والثورة في ١٩٥٤ حتى أصبحت النهايات غير البدايات والنتائج غير المقدمات إلا أن قوة الحركة الإسلامية وشدتها يومًا بعد يوم بحيث أصبحت المحاول الأول للأنظمة السياسية القائمة تجعلها قوةً تاريخية.

فالإسلام قادم وليس غاربًا على عكس حديث الغرباء المشهور «جاء الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء من أمتي.» الإسلام منتصر وليس مهزومًا، متقدم وليس متراجعًا، في هجوم وليس في دفاع، وتلك روح مقدمة «الفريضة الغائبة» لفكر الجهاد.

تاسعًا: العنف والعنف المضاد

ليس العنف هو ما يبدو على السطح من المقهور إذا ما ألقى قنبلة أو أطلق رصاصة فهذا هو العنف المضاد، إنما العنف هو العنف الباطن من القاهر الذي يمارسه على الدوام حتى يفجر العنف المضاد؛ فالجماعة الإسلامية مطاردة مهمشة، مطالبة من قوة الأمن وأجهزة الشرطة، مستجوبة، موضع سخرية منها في لباسها وجلبهابها وذقونها وسبحها وعلاقاتها الاجتماعية، وليس لها حقٌّ في الاعتراض أو الرد في جريدة يومية أو مجلة أسبوعية أو شهرية أو برنامج تلفزيوني أو إذاعي. والمساجد محاصرة، والأئمة مراقبون، هذا العنف اللامرئي هو سبب العنف المرئي، ليس العنف هو العنف العضلي، أو استعمال القوة المادية، ولكنه قد يكون العنف الاجتماعي الذي يقضي على حرية الاختيار وعلى الوجود الإنساني ذاته؛ فالنظامان السياسي والاجتماعي مفروضان على الناس، لم يتم اختيارهما طوعًا بالرغم من مظاهر الديمقراطية والانتخابات المزورة ودخول الدولة كطرفٍ فيها ضد المعارضة لإنجاح الحزب الحاكم، النظام الاقتصادي لم يختره الناس، سياسة الأجور، الأسعار، إيجار المساكن، مصاريف المدارس، أعباء الحياة، كل ذلك مفروض قسرًا، والنظام الإعلامي لم يختره الناس، يفرض عليهم نوع الأخبار والمواقف السياسية للدولة؛ الانفتاح الاقتصادي، معاداة السودان وإيران، مخاصمة الحركة الإسلامية، الدخول مع قوى التحالف الغربي ضد العراق، الموافقة على حصار ليبيا، الاستسلام لضغوط البنك الدولي. يشعر المواطن أنه لا حرية له في اختيار النظام الذي يعيش فيه مقهورًا من الصباح حتى المساء، ولا تمتص غضبة أحزاب المعارضة الضعيفة التي نشأت بقرارٍ من الدولة وتحت رعايتها ورقابتها، فلا يجد أمامه إلا الجماعات الإسلامية كقناة للاحتجاج، يجد حريته فيها، وصدقه مع النفس بانتسابه إليها، طموحه إلى الشهادة وإثبات الذات بعد أن همشه المجتمع وجعله مجرد معدة تستهلك وليس إرادة تختار.

ويتوجَّه العنف المضاد إلى رموز الدولة؛ فليس المقصود بالاغتيالات الأشخاص، فهم أبرياء، ولكن رموز الدولة الصورية: القبعة والنجمة والبذلة والمبنى والكنيسة من أجل القضاء على هيبتها موضوعيًّا، تفريق شحنة الغضب منها والحقد عليها من نفوس الجماعات ذاتيًّا، وتشمل رموز الدولة رئيس الدولة، رئيس مجلس الشعب، مدير الأمن، كبار المسئولين، رجال الشرطة أو المتعاونين معها من مفكري السلطة وفقهاء السلطان، تهدف الجماعات إلى النيل من مواطن الضعف في الدولة، أقباط مصر، حتى تبدو الدولة عاجزة عن الدفاع عن مواطنيها، كما تهدف إلى ضرب السياحة حتى تنهار الدولة اقتصاديًّا، فدخل مصر من السياحة يكاد يقترب من دخلها من قناة السويس ومن حجم المساعدات الأمريكية لمصر، بعد جفاف تحويلات المصريين من الخارج بعد حرب الخليج.

من الطبيعي أن يظهر العنف المضاد في سلوك الجماعات باعتبارها جماعات مهمشة مطاردة بالشرطة وأجهزة الأمن، مجرحة في الصحف وأجهزة الإعلام، ولا وسيلة للدفاع عن أنفسها أو سماع أصواتها، ليست لها صحف أو مجلات، وليس لها برامجها في أجهزة الإعلام، لا سبيل أمامها إلا المساجد المحاصرة المقتحمة والمداهمة بأجهزة الأمن التي تطلق النار على المصلين الآمنين كما حدث في مسجد الرحمة في أسوان.

عنف الجماعات إذن هو عنف مضاد، عنف في مواجهة عنف، عنف المعارضة في مواجهة عنف السلطة، عنف الأهالي في مواجهة عنف الحكومة، في مجتمعٍ غاب عنه الحوار، وآثر مواجهة قضايا الفكر والسياسة والسلاح.

وهو عنف يظهر في الأحياء الشعبية حيث يسود منطق الفتوة، منطق «اللص والكلاب»، منطق «العسكر والحرامية»، كما يبدو في الصعيد حيث يسود الأخذ بالثأر، ومواجهة العائلة بالعائلة والقبيلة بالقبيلة لا دفن للجثث ولا عزاء في الموتى من كلا الطرفين حتى يتم الأخذ بالثأر طبقًا لتقاليد الصعيد؛ فالوطن هو الأسرة والقبيلة، وتتحول القضية العامة إلى قضية خاصة، دمًا بدم، وقتيلًا بقتيل، والكل ضحايا العنف والعنف المضاد، والكل شهداء الوطن.

عاشرًا: الحوار الوطني

طالما أن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الداخلية والخارجية على ما هي عليه؛ سيظل تفريخ الجماعات الإسلامية فكرًا وممارسة؛ فالجماعات مظاهر احتجاج اجتماعي ينتسب أعضاؤها إلى الطبقات الفقيرة في الأحياء العشوائية من القاهرة الهامشية الصعيد الثأري، تلتحم بالشعب وتشارك في حل مشاكله اليومية في المساجد الكبرى التي تحولت إلى عيادات طبية وخدمات اجتماعية، الإبقاء على الأحياء ودفن الأموات، ولما توقف الحراك الاجتماعي، وأصبح التسليم بالأمر الواقع هو الحجة الدائمة من أجل الاستقرار وعدم هروب رءوس الأموال الأجنبية في عصر الانفتاح، تحولت طاقات المجتمع إما إلى الخارج في الهجرة، هجرة العلماء إلى الغرب، وهجرة العمال إلى الخليج أو إلى ليبيا وإما إلى الداخل في المخدرات أو الجماعات الإسلامية حتى يتسرب الحراك الاجتماعي إلى الداخل نظرًا لسداد المنافذ الخارجية.

إن الجماعات الإسلامية كالطير الشارد، والأسد الجامح، والحصان الجانح، ولا سبيل إلى تهدئتها وترويضها إلا بغطاء الشرعية، وأن تعمل من المركز وليس من المحيط، ومن القلب وليس من الأطراف، صحيح أن الدستور لا يبيح إقامة أحزاب على أسس دينية ولكن ليس المطلوب حزبًا بل جماعة أو هيئة مثل الشبان المسلمين، وكما كانت الإخوان المسلمون من قبل، وذلك يتطلب إلغاء قرار الحل الذي صدر ضد الجماعة في ١٩٥٤، وإرجاع المركز العام في الحلمية لهم الذي تحول إلى قسم الدرب الأحمر، مركزًا لإيواء المجرمين والنشالين بعد أن كان مركزًا للهداية والرشاد ومنبرًا للحركة الوطنية المصرية، طالما رفض المجتمع الجماعات سترفض الجماعات المجتمع، وطالما أن الجماعات غير شرعية فإنها ستطعن في شرعية المجتمع، لا حل لكسر هذه الدائرة المفرغة من التكفير والتخوين المتبادلين إلا بشرعية الجماعة كتنظيم، وأن تتحوَّل من نفسية الجماعات السرية المغلقة والفقه المغلق إلى سلوك التنظيم العلني الذي يحاور من منطق الشرعية، عنترة بن شداد في حاجةٍ إلى اعتراف شرعي ببنوته قبل أن ينطلق دفاعًا عن الحمى في حب عبلة!

وبالممارسة الطبيعية للسياسة من منطق الشرعية تتغير الجماعات فكرًا وسلوكًا، نظرًا وعملًا، عقيدة وشريعة، فبعد الاطمئنان إلى شرعيتها وتأمين ظهرها من الغدر والاعتقال والحل تتوه نحو التحديات الرئيسية للمجتمع وقضاياه المصيرية: تحرير الأرض، وحرية المواطن، والعدالة الاجتماعية، ووحدة الأمة، والدفاع عن الهوية، والتنمية المستقلة، وحشد الجماهير، ويختفي ما نعيبه عليها من غياب البرنامج الاجتماعي والاقتصادي السياسي لها اكتفاء بالشعارات، وكيف تتقدم الجماعات إلى الأمام إن لم يكن ظهرها مؤمنًا محميًّا؟ وبالممارسة الطبيعية للسياسة تنشأ في الجماعات الأجنحة: وسط الجماعات، ويمين الجماعات، ويسار الجماعات، ويتم الحوار بينها أولًا قبل أن يتم الحوار بينها وبين باقي التيارات والقوى السياسية وبينها وبين المجتمع، ويتخلق فكر إسلامي مستنير قادر على الحوار والتفاعل مع الواقع والدفاع عن المصالح العامة وتنتهي قصة الأخذ بالثأر من الدولة والمجتمع، وتطوى صفحة جديدة في التاريخ، لا يحدث ذلك بين يوم وليلة؛ فالحافظة التاريخية رصيد طويل يمتد إلى ألف عام، والإصلاح الحديث تعثر وكبار، والنفوس ما زالت تئنُّ من عذاب الماضي وأحزانه، المصالحة العلنية إذن ضرورية، وأن تصبح الحركة الإسلامية مع الناصريين والليبراليين والماركسيين أحد عناصر الحركة الوطنية، وليس الماضي كله سلفيًّا، هناك الماضي العقلاني العلمي الطبيعي الإنساني الاجتماعي المستنير؛ ومن ثم لزم إبراز التعددية في التراث، وعرض كل البدائل القديمة والحديثة حتى يختار المواطن بلا قهر من القدماء أو رفض من المحدثين.

لا يمكن حل قضايا الفكر بالسلاح، لا حل إلا بالحوار الوطني، وإقامة الجسور بين الفرق المتخاصمة بين الإخوة والأعداء، عفا الله عما سلف: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، ويقوم الحوار الوطني على التعددية ثم الحوار الوطني بين فرق الأمة في إطار العروة الوثقى التي لا انفصام لها، وفرق الأمة الآن أربعة: الليبرالية والناصريون والإسلاميون والماركسيون؛ لأربعة أطر نظرية تعبر عن تاريخ الأمة المعاصر، وهي القوى الرئيسية التي تحرِّك رجل الشارع والتي تنتسب إليها الجماهير، وتتفق فيما بينها على برنامج عمل وطني موحد مع الإبقاء على تعددية الأطر النظرية، وهو ما أكَّده الفقهاء القدماء عندما تساءلوا: هل الحق واحد أم متعدد؟ وأجابوا بالإجماع: الحق النظري متعدد والحق العلمي واحد. ومن أراد أن يحرر فلسطين باسم حرية شعب فلسطين فليفعل، ومن أراد أن يحررها باسم القومية فلا يتردد، ومن أراد أن يحررها باسم الجهاد وتحرير الأراضي المقدسة فليتقدم، ومن أراد أن يحرِّرها دفاعًا عن الطبقة الكادحة من شعب فلسطين فله ما يريد، تتعدد الأطر النظرية لتحرير فلسطين ولكن الجميع يتفق على التحرير كغاية وهدف قومي، ويحدث نفس الشيء لتحقيق حرية المواطن.

باسم الليبرالية أو القومية أو لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا أو باسم تحرير الإنسان من القهر والاستغلال، وتحقيق العدالة الاجتماعية باسم الاشتراكية الديمقراطية أو الاشتراكية الإسلامية أو الاشتراكية العلمية، وتحقيق وحدة الأمة باسم وحدة العالم الحر أو الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية أو يا عُمَّال العالم اتحدوا، والدفاع عن الهوية باسم الحرية الشخصية أو تأكيدًا للشخصية العربية أو إثباتًا للهوية الإسلامية لكم دينكم ولي ديني، أو دفاعًا عن حقوق المضطهدين، والتنمية المستقلة باسم اقتصاديات السوق أو التخطيط الاقتصادي أو الاقتصاد الإسلامي أو الاقتصاد الاشتراكي، وحشد الجماهير باسم حرية الانتخابات أو بالجماهير العربية من المحيط الهادر إلى المحيط الثائر أو بالجماهير الإسلامية، الملايين في كل مكان أو باسم الطبقات الكادحة، الأغلبية الصامتة.

بهذا المعنى كلنا إسلاميون ليبراليون ناصريون ماركسيون، كلنا مع الجماهير ضد النخب الحاكمة التي تتحكم باسم الخيانة الوطنية والعمالة للأجنبي، الإسلاميون ليسوا خصومًا للماركسيين أو الليبراليين أو القوميين، فلماذا يعتبرهم الماركسيون والقوميون والليبراليون خصومًا لهم؟ لا توجد خصومة بين المواطنين، إنما الخصومة في الصراع على السلطة، والسلطة في الشعب وليست في الحكم، السلطة في الثقافة الوطنية وليست في ثقافة التغريب، المهم أن يأخذ المثقفون حذرهم من أن تستعملهم الدولة لدَرْء المخاطر عن النظام، تضرب هذا الفريق بذاك الفريق لإضعاف جميع الفرقاء حتى يبقى النظام في سلام يأمن أخطار الجميع.

هذه هي «مقاصد الفلاسفة» التي عرضها الغزالي ربما أفضل مما عرض الفلاسفة أنفسهم لمن شاء أن يكتب «تهافت الفلاسفة» لنقد الجماعات الإسلامية ثم «تهافت التهافت» لنقد نقد الجماعة الإسلامية.

١  الخبرة السياسية المصرية في مائة عام، أعمال المؤتمر السنوي الثالث عشر للبحوث السياسية، ٤–٦ ديسمبر ١٩٩٩، تقديم وتحرير د. نازلي معوض أحمد، مركز البحوث للدراسات السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤